1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 26 الى 27

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (۲٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (۲۷)


بعد أن فرغ سبحانه و تعالى من ذكر بعض أحوال المؤمنين و الكفار و المنافقين، و بيان المثل للأخير ذكر تعالى وجه ضرب المثل لنفسه و بيان الحكمة في ضرب الأمثال، و أكد ذلك اهتماما منه تعالى للأمثال لكونها أوقع في النفوس كما مر.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. الحياء: هو انقباض النفس عن الشي‏ء و انزجارها عنه خوفا من اللوم، و يلازمه ترك ذلك الشي‏ء هذا في الإنسان.
و أما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية و هي الترك. فقوله تعالى: لا يَسْتَحْيِي أي لا يترك و لا يدع- و كذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك و تعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك، و لا محذور من جعل الاختلاف في الداعي، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.
و يفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح، و لذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار، و هناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.
و الضرب: يستعمل في معان كثيرة. و المراد به هنا التوصيف و التبيين فضرب الأمثال: توصيفها و بيانها.
و «ما» للإبهام و التنكير، و ما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر و الحقارة. و يقال: إن البعوضة أصغر الحيوانات و حياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت، و لكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.
و المعنى: إنّ اللّه تعالى لا يترك و لا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، و إنّما لا يستحي عن ذلك، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة، سواء أ كان كلامه في الشي‏ء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات و حيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد و أن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس، و تتم بها الحجة عليهم. و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [سورة البقرة، الآية 17].
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. هذا من باب ذكر العلة و المعلول مشعرا بالمدح و الثناء، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم و اعتقادهم بكلامه تعالى، و أنه الحق من ربهم و لم يضرب الأمثال إلّا لحكم و مصالح فلا ينظرون إلى المثل و الممثل به في الصغر و الكبر و الضعف و القوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق و العظمة و الجلال، و أن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة و الموعظة فلا يمكن أن يكون صغيرا أو حقيرا و إن كان الممثل به كذلك في بعض الجهات.
قوله تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. لأنّهم نظروا إلى نفس الممثل به و لا يلتفتون إلى عظمة الممثل [بالكسر] و لا إلى أهمية ما مثّل لأجله، لجهلهم و عنادهم فأعرضوا عن الحجة كما هو الحال في اختيارهم أصل الكفر و الضلال.
قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً. يصح أن تكون هذه الجملة مقولة من الكفار تعييرا و توبيخا للمثال، كما يصح أن يكون من قول اللّه عزّ و جل أجاب به عن سؤالهم، و على أي تقدير فالسبب في هذا القول هم الكفار، لأنهم بإنكارهم للإيمان و جهلهم للحقائق حصل لهم الريب بكل ما أنزل اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. الفسق بمعنى الخروج، و تختلف مشتقاته باختلاف موارد استعمالاته، و فسق الإنسان خروجه عن طاعة اللّه تعالى اعتقادا، أو عملا؛ لكبيرة أو صغيرة فهو يشمل الجميع بجامع الخروج عن الطاعة.
و عن بعض اللغويين أنه لم يستعمل الفاسق وصفا في كلام العرب إلّا في القرآن الكريم. و فيه بحث، هذا بحسب اللغة. و أما في اصطلاح الكتاب و السنة فيستعمل الفاسق في مقابل العادل.
و المعنى: أنّ علة إضلالهم هي الخروج عن طاعة اللّه تعالى؛ وصولا من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الفعلية بما يعرض على الإنسان فيظهر منه الغي و الضلال أو الحق و السداد، و منه يظهر الوجه في التعبير بقوله تعالى: يُضِلُّ ليبين أن ذلك أمر مركوز فيهم، و راسخ في نفوسهم. ثم إنّ هذه الآية تشتمل على أمور:
الأول: إنما قدم سبحانه الضلالة على الهداية مع تقدم الثانية على الأولى بكل جهات التقدم، لأن سببها متقدم، و هو اقتضاء ذاتهم، و كل من تقتضي ذاته شيئا يبادر به بين الأنام، و يظهر أثره في الكلام فجي‏ء بالأمثال‏ لإخراجهم من ظلمات الضلال الى نور الهداية و الإيمان.
الثاني: قد ذكر سبحانه لفظ الكثرة في الفريقين، مشعرا بأنّ المهتدين كالضالين في الكثرة، مع أنّ الطائفة الأولى هم الأقلون عددا. و الوجه في ذلك أن القلة و الكثرة إضافية فتصح الكثرة بالنسبة إلى ملاحظة شي‏ء، و القلة بالنسبة إلى شي‏ء آخر، فالمهتدون و إن قلوا عددا لكنهم أكثر نفعا و أجل فائدة.
الثالث: أثبتت الآية المباركة أنّ وراء الضلالة و الهداية الاقتضائية في الذات هداية و ضلالة تحدثان بحدوث ما يطرأ من الأسباب و تتجددان بذلك، و لذا قالوا: إنّ الضلال و الهداية يتجددان بتجدد الأسباب و الزمان.

هذه الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر و التفويض فلا بد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن اليه. فنقول و من اللّه الاستعانة و الاستمداد:
إنّ شبهة الجبر و التفويض لم تكن حادثة في الإسلام و إنّما هي قديمة بقدم الإنسان و ترجع الى أوائل الخلقة، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع اللّه تعالى، فكل من يعتقد بمبدإ غيبي مؤثر في العالم يمكن أن تتولد فيه هذه الشبهة، و قد قال علي (عليه السّلام): «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم».
و فسخ العزيمة إنّما وقع من عهد أبينا آدم (عليه السلام) فأصل الشبهة من ذلك الحين و إنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء و شبهات أخرى و بلغت حدا بعيدا من البحث حتّى أفردت لها كتب و رسائل.
و كيف كان فالأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه:
الأول: أنّها صادرة بإرادة اللّه تعالى و اختياره فقط و ان العبد بمنزلة الآلة الجمادية و أن الإنسان و فعله مخلوقان للّه تعالى و هذا هو الجبر.
الثاني: أنّها صادرة من العبد و باختياره فقط، و لا دخل فيها للّه تبارك و تعالى، و هذا هو التفويض.
الثالث: الأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين فيكون لكل واحد منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، و هذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم السلام) ردا على المذهبين السابقين، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية و النقلية بل الوجدان، و الثاني يلزم منه التعطيل، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل، و البحث تارة يقع في الجبر و التفويض، و أخرى في الأمر بين الأمرين:

مذاهب الجبر ثلاثة: منها: مذهب الأشاعرة، و هو نفي الإرادة عن العبد مطلقا و انحصارها في اللّه تعالى، و أن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و الى العبد بالمجاز.
و منها: ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق و العبد حتّى تكون فيه الإرادة و الإختيار، و سيأتي بطلان القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.
و منها: ما ذهب اليه بعض: من أن علم اللّه تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد و ارادته في فعله أصلا.
و قد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى بالأدلة العقلية و النقلية، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور:
الأول: أن فعل العبد مقدور للّه تعالى، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى، و حينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى، و إن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.
و الجواب: أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.
الثاني: إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية و ان إرادته عين ذاته و هي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.
و الجواب: أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات، لكن‏ الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه، بل إرادته عين فعله، كما في الروايات. و سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.
الثالث: أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات و منها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله و علمه سبب تام لحصول المعلوم.
و الجواب: إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل و ليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.
ثم إن أسباب الفعل هي: العلم، و المشيئة، و الإرادة، و القدرة و القضاء، و الإمضاء و نحوها. و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أ كان هو اللّه تعالى أم العبد. و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات و ليست من العلة التامة في شي‏ء، و هذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية، و أخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب، و سيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم، منها قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: ۹٦]، و قوله تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة إبراهيم، الآية: ٤]، و قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ [سورة الأنفال، الآية: 17] و أمثال ذلك من الآيات.
و يناقش فيها بوجهين:
الأول: أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا و أصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.
الثاني: أن سياق تلك الآيات و القرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الآية السابقة- مثلا- إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل‏ المباشري الصادر منه (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.
و مجمل القول في الجبر و مذاهبه أنه لم يصادم العقل و النقل فقط، بل هو مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب و العقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم و الجور على اللّه تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.
و لو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه- كالعزة و الذلة، و الغنى و الفقر. و لأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تبارك و تعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

مذاهب الجبر ثلاثة: منها: مذهب الأشاعرة، و هو نفي الإرادة عن العبد مطلقا و انحصارها في اللّه تعالى، و أن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و الى العبد بالمجاز.
و منها: ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق و العبد حتّى تكون فيه الإرادة و الإختيار، و سيأتي بطلان القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.
و منها: ما ذهب اليه بعض: من أن علم اللّه تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد و ارادته في فعله أصلا.
و قد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى بالأدلة العقلية و النقلية، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور:
الأول: أن فعل العبد مقدور للّه تعالى، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى، و حينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى، و إن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.
و الجواب: أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.
الثاني: إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية و ان إرادته عين ذاته و هي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.
و الجواب: أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات، لكن‏ الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه، بل إرادته عين فعله، كما في الروايات. و سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.
الثالث: أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات و منها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله و علمه سبب تام لحصول المعلوم.
و الجواب: إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل و ليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.
ثم إن أسباب الفعل هي: العلم، و المشيئة، و الإرادة، و القدرة و القضاء، و الإمضاء و نحوها. و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أ كان هو اللّه تعالى أم العبد. و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات و ليست من العلة التامة في شي‏ء، و هذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية، و أخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب، و سيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم، منها قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: ۹٦]، و قوله تعالى: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة إبراهيم، الآية:٤]، و قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ [سورة الأنفال، الآية:17] و أمثال ذلك من الآيات.
و يناقش فيها بوجهين:
الأول: أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا و أصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.
الثاني: أن سياق تلك الآيات و القرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الآية السابقة- مثلا- إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل‏ المباشري الصادر منه (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.
و مجمل القول في الجبر و مذاهبه أنه لم يصادم العقل و النقل فقط، بل هو مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب و العقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم و الجور على اللّه تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.
و لو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه- كالعزة و الذلة، و الغنى و الفقر. و لأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تبارك و تعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

مما تفردت به الإمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين‏ فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام اللّه عليهم) أنه «لا جبر و لا تفويض، بل أمر بين أمرين»
و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان.
و المراد ب (الأمر بين الأمرين) أن اللّه تبارك و تعالى أودع القدرة في عباده و بها بعد وجود الدواعي يصدر الفعل من الفاعل و ينسب الفعل إليه مباشرة، فهو غير مجبور، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معا. هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في (الأمر بين الأمرين)، و لا بد من توضيح ذلك بشي‏ء من التفصيل.
بيان ذلك: إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام: فهي إما من الحسنات، أو من السيئات، أو من المباحات. و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوم بالانتساب اليه تعالى، و الى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء، و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها و التأكيد في إتيانها و الثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى، و يسمى ذلك بالانتساب الاقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء و الاضطرار. و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها صح انتسابه اليه تعالى اقتضاء كما هو الحال في الحسنات، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه و قضاؤه تعالى إليها.
و من خلقه تعالى للنفس الأمارة و الشيطان صح نسبة السيئات اليه تعالى، لا بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في السيئات، و يجري هذا الوجه في الحسنات و المباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.
و أما نسبة الفعل إلى الفاعل فإنّ اللّه تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا مع نهيه تعالى و إظهار سخطه و توعيده عليها و قد فعلها العبد بسوء اختياره، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي و التوعيد، و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا، و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].
و بعبارة أخرى: إنّ في الحسنات و المباحات تتعدد جهة الانتساب اليه تعالى من الرضاء و القضاء، و الاذن و الترغيب، أو خلق الذات القادرة المختارة، و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة و القضاء الاقتضائي مع النهي و التوعيد، كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل. و من ذلك يعلم أن الهداية و الضلالة، بل السعادة و الشقاوة ليستا من ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها، و لا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة و إلّا لما كانت قابلة للتغيير و التبديل، و لبطل التكليف و الثواب و العقاب و نحو ذلك من المحاذير، بل هي من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال و التغيير و التي للاختيار فيها دخل مع توفيق و هداية منه تبارك و تعالى.
و مما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم، و يرفع التعارض بين الآيات و الروايات، و لعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى فراجع، و سيأتي في البحث الآتي مزيد بيان.

عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام) قالا: «إن اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها. و اللّه أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».
و سئلا (عليهما السلام) «هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء و الأرض».
و عن الوشا قال: «سألت الرضا (عليه السّلام) اللّه فوض الأمر إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): اللّه اعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: اللّه أعدل و أحكم من ذلك، ثم قال (عليه السّلام) قال اللّه تعالى: يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».
أقول: هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفا.
و عن الصادق (عليه السّلام) قال له رجل: «جعلت فداك أجبر اللّه تعالى العباد على المعاصي؟ قال (عليه السّلام): اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له: جعلت فداك ففوض اللّه إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر و النهي. فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: نعم أوسع ما بين السماء و الأرض».
أقول: (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو، و بيان الجزاء عليه كافيا في نفي الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين. و هذه عادتهم (عليهم السلام) في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف و الجزاء.
و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد و العدل: «التوحيد أن لا تتوهمه، و العدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم، و القائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب اليه القبيح، و القائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده و ان كل أعمالهم بإرادتهم و لا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».
أقول: الأول عبارة عن الجبر، و الثاني من لوازم التفويض و ترتب اللازمين عليهما واضح.
و عن الرضا (عليه السّلام): «ألا أعطيكم في ذلك أصلا لا تختلفون فيه و لا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه؟ إن اللّه عزّ و جل لم يطع بالإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه فهو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن عنها صادرا، و لا منها مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و ان لم يحل و فعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».
أقول: المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشي‏ء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه و هذه هي المنزلة بين المنزلتين.
و عن الصادق (عليه السّلام): «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين الأمرين».
أقول: تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.
و عن الرضا (عليه السّلام): «القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، و المراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا، و ترك ما نهوا عنه، و الإرادة و المشية من اللّه تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها و الرضا لها، و بالنسبة إلى المعاصي النهي عنها، و السخط لها و الخذلان عليها، و ما من فعل يفعله العباد من خير، أو شر إلّا و للّه فيه قضاء، و القضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة».
أقول: أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى اللّه تعالى الظلم، و مع ذلك يعاقب العبد عليه. و أما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة اللّه تعالى. و أما ما ذكره (عليه السّلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، و إلّا فهو عام لجميع الأفعال.
قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض: هو الفت و الفك و الفسخ، و لا يستعمل غالبا إلّا فيما فيه القوة و استعداد البقاء، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [سورة النحل، الآية: 92]، و يتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [سورة المائدة، الآية: 13].
و العهد: حفظ الشي‏ء و مراعاته حالا بعد حال، و هذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد الالتزام، و الثبات، و العزيمة.
و المراد بالميثاق: ما يوثق به الشي‏ء، كالميقات لما يتحقق به الوقت.
و يجوز أن يضاف الميثاق إلى اللّه تعالى، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به اللّه تعالى عباده، كما يجوز أن يضاف إلى العباد و هم الذين قبلوا عهد اللّه تعالى ظاهرا ثم نقضوه، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. و يصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.
و المعنى: إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه و تعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة: هي نقض العهد، و قطع ما يجب أن يوصل، و الإفساد في الأرض. و المراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف و الشرايع الراجعة إلى تربية العباد، و هو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج و البراهين.
و يصح ان يراد به الأعم من ذلك و من العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج اللّه تعالى، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا، أو عملا، أو اعتقادا كما هو وجداني.
قوله تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
صلة كل شي‏ء بحسبه. و المراد بالأمر الأعم من التكويني و التشريعي فصلة العقيدة باللّه و رسله جعلها راسخة في النفس، و صلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها و المواظبة على إتيانها، و صلة النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الاهتداء بهديه، و العمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف و التودد معه، و كذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها، و مضارها، و نتائجها المترتبة عليها. و تشمل الآية الشريفة جميع ذلك؛ و التفرقة- و لو في الجملة- نقض لعهد اللّه تعالى و ميثاقه، و قطع للصلة، فمن أنكر اللّه أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل، و من أنكر النبوة و ما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.
قوله تعالى: وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. الفساد خلاف الصّلاح و هو أعم من الفردي و الاجتماعي.، و ذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير.
و الإفساد في الأرض هو إضلال الناس، مثل الظلم، و الغيبة، و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا، و عذاب الآخرة، و هذا هو الخسران المبين، إذ لا معنى لنقض العهد، أو قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، أو الفساد إلّا الخسران المبين.

عن ابن عباس: «لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ قالوا «إنّ اللّه أجل و أعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
و في رواية أخرى عنه أيضا: «إنّه لما ذكر اللّه تعالى آلهة المشركين فقال؛ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و ذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أ رأيت حيث ذكر اللّه الذباب و العنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شي‏ء يصنع؟ و ضحكت اليهود، و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية».
أقول: قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"