1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 258 الى 259

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (۲٥۸) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى‏ طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى‏ حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (۲٥۹)


الآيتان و التي تليهما تبيّن توحيد اللّه تبارك و تعالى و قدرته و عنايته لعباده المؤمنين، فإنّه عزّ و جل بعد أن أثبت لنفسه التوحيد و مهام الصّفات العليا مثل القيومية المطلقة و الربوبية العظمى و الولاية على أهل الإيمان و وعدهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور ضرب في هذه الآيات أمثلة لبيان ولايته على المؤمنين و هدايته لهم و بيّن أنّ هناك هداية تحصل بالحجة و البرهان كالتي مع إبراهيم (عليه السلام) في قصته مع من آتاه اللّه الملك. و هداية بالمشاهدة و العيان كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية مملوءة من العظام البالية المبعثرة فأخذه العجب من إمكان إحيائها فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه ليرى بنفسه كيفية خلقها و نشوزها.
و لهذا كانت هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة و اللاحقة في كونها من مظاهر توحيده عز و جل و ولايته و قدرته و إثبات المعاد.

۲٥۸- قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ.
تقدم الكلام في جملة أَ لَمْ تَرَ في آية (۲٤۳) و ذكرنا أنّها تستعمل في مقام التعجب و يستفاد ذلك من بنائه اللفظي أو المعنوي.
و المحاجة: هي الجدال أي تبادل الحجة مع الخصم و مادة (حجج) تأتي بمعنى القصد، و المحاجة لقصد الغلبة على الخصم. و تطلق الحجة على ما يقصد به إثبات شي‏ء.
و المحاجة بين الحق و الباطل قديمة حدثت بحدوث أصل الخليقة، فإنّ أول ما خلق اللّه تعالى العقل- و هو خلق نوراني- و خلق في مقابله الجهل- و هو خلق ظلماني- و جعل لكلّ واحد منهما جنودا مجندة في الكمية لكنّها مختلفة في الكيفية، فكلّ ما طلع نور حق في البين يهدي إلى الرشاد يخرج سحاب ظلماني يرعد و يبرق و يغوي العباد، و هذه سنة اللّه في عباده و لن تجد لسنة اللّه تبديلا، و لا تزال كذلك حتّى يفترق الفريقان فريق في الجنة و فريق في السعير فيلحق كلّ واحد منهما بما هو مثله و نظيره و يحظى بما يلائمه فيرتفع النزاع و ينتهي الصراع.
و في الآية الشريفة الذي مع الحق هو إبراهيم (عليه السلام) و من يمثل جانب الباطل نمرود بن كنعان الملك المعروف المعاصر لإبراهيم (عليه‏ السلام) و شبه الجملة في قوله تعالى: فِي رَبِّهِ متعلّق بحاجّ و الضمير فيه يرجع إلى إبراهيم (عليه السلام).
و المعنى: ألم ينته إلى علمك أو هل رأيت غرور الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في أمر ربّه.
و وجه الصراع بينهما: أنّ نمرود ادعى الربوبية لنفسه. لفضل راه فيه كما تفضل على سائر الآلهة و الأرباب بل جعل نفسه ربّ الأرباب و موّه الأمر على ذلك المجتمع الوثني الذي كان يعبد الأصنام.
و أما إبراهيم (عليه السلام) فقد كان يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و الربوبية العظمى له عزّ و جل لم يشارك في سلطانه أحدا من مخلوقاته و احتج على الخصم: بأنّ ربّه الذي يحيي و يميت، و أراد بهما الحياة و الموت المشهودين المعروفين الحياة التي هي أصل كلّ إحساس و شعور و الموت الذي هو الفناء لذلك، فلما عارض نمرود إبراهيم بالمغالطة و التلبيس بأنّه يحيي و يميت حين قتل أحد المسجونين و أطلق الآخر و نجح هذا التلبيس على الحاضرين فصدّقوه جهلا منهم أو عنادا، و رفع هذا التلبيس إبراهيم (عليه السلام) بمحاجة أخرى واضحة جلية يذعن بها الجميع أنّها من صنع اللّه تعالى و لذلك بهت الذي كفر و لم يسع لإبراهيم (عليه السلام) يبين وجه المخالفة لعلمه بأنّ ذلك المجتمع لا يقبله منه و لا يصدّقه أحد.
هذه هي المحاجة بين إبراهيم (عليه السلام) الذي يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و نمرود الذي يعتقد بتعدد الأرباب و الالوهية لنفسه.
قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ.
المراد بالملك: تلك الإضافة الظاهرية بالنسبة إلى ما في الدنيا تتسع و تتضيق حسب ما يشاء اللّه تعالى و يريد و تكون هذه الإضافة معرضا لحدوث الإضافات الكثيرة تفنى و تزول، و يكون المتلبّس بها في جهد أكيد شديد في جلب مقتضياتها و رفع موانعها، و في الحقيقية إنّه ليس إلا متاع الغرور. هذه حال الملك الظاهري.
أما الملك الذي آتاه اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) فهو مالكية حقايق الأمور و تسلطه على الممكنات بحيث يقلب الجوهر إلى آخر و يبدل الصورة إلى اخرى بإذن اللّه تعالى و هو باق ببقاء اللّه عزّ و جل و لا مناسبة بين الملكين الا نسبة العدم إلى الوجود.
و من العجيب أن يكون الثاني مبتلى بالأول دائما كابتلاء إبراهيم (عليه السلام) بنمرود، و موسى (عليه السلام) بفرعون، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بالطواغيت من أهل عصره و ليس ذلك الا لأجل كمال الأول و خسّة الثاني.
و جملة أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع التعليل يصح أن تكون تعليلا للمحاجّة يعني إنّما حاج نمرود إبراهيم لأنّه رأى نفسه ملكا فأورثه الكبر و الإعجاب فحمله على الغرور، و دفعه على المحاجة. و لم يعرف أنّ الذي أعطاه الملك يقدر على أن ينزعه عنه.
و يحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفران نمرود للنعمة التي أنعم اللّه تعالى عليه في الدنيا، فهو بدل أن يؤمن باللّه تعالى و يشكره عليها ادعى الربوبية لنفسه و خاصم نبيّ اللّه عزّ و جل فيها، و مثل ذلك كثير في المحاورات قال الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر و حسن فعل كما يجزي سنمّار و يصح إرجاع الضمير في قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون المراد بالملك الملك المعنوي لا الملك الظاهري الإضافي، و يدل عليه قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء- ٥۳]، و بهذا الملك أي النبوة التامة خاصم إبراهيم (عليه السلام) نمرود الملك الظاهري و حاجّه و أبهته لا أن يكون قد نازعه في ملكه الظاهري فإنّ مقام النبوة أعظم و أكبر من هذا الملك قطعا.
قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ.
إنّما قال إبراهيم (عليه السلام) رَبِّيَ لاعتراف الجميع بأنّ ربّ إبراهيم هو اللّه تعالى.
و المراد بالحياة و الموت: ما هو المدرك بالحس و الوجدان النوعيان الشاملان لجميع ما هو متصف بالحياة من النبات و الحيوان و الإنسان.
أي: قال إبراهيم (عليه السلام) في مقام المحاجّة مع نمرود إنّ ربّي من يقدر على الإحياء و الإماتة بل على إيجاد العالم و إفنائه فإنّ إعطاء الروح و أخذه إنّما يكون تحت استيلائه و في قبضته، و لكن نمرود فهم من ذلك الإحياء و الإماتة الشخصيتين للإنسان فادعى لنفسه ذلك أيضا، فأمر بإحضار شخصين من السجن فقتل أحدهما و أطلق الآخر- كما ورد في بعض الروايات- فقال أنا احيي و أميت. و لم يعلم أنّ ذلك ليس من الإحياء و الإماتة فإنّ الإطلاق من السجن و القتل بمعزل عن الاستيلاء على الروح- مطلقا- الذي هو منحصر في اللّه تعالى أو من يأذن اللّه عزّ و جل له بالتسلط عليه.
و إنّما خص إبراهيم (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة دون غيرهما من صنع اللّه تعالى، لأنّهما يختصان به تعالى و ليس لغيره عزّ و جل منهما صنع و هما مشهودان للجميع واضحان جليان و مع ذلك لم ينفع الاحتجاج بهما عليهم و ذلك لقصور تفكرهم و تعقلهم و لا يرجى أكثر من ذلك ممن أسر نفسه في المادة و أوقع نفسه في سجن الماديات لا يرقى فكره عن محيط نفسه و لا يعرف أنّه في أين و من أين و إلى أين، و مثل ذلك يجري في كلّ قوم بلغ الانحطاط الفكري فيهم إلى هذا المستوى و إن تقدّم في الماديات الرقيّ الحضاري و لا نرى هذا الانحطاط المعنوي في مجتمعنا المعاصر و المدنية الحاضرة أيضا الا لبعدهم عن المعارف المعنوية و انهماكهم في الماديات.
قوله تعالى: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ.
أي: أنا الربّ الذي يحيي و يميت، و قد قصر ذلك على نفسه- و لم‏ يقل: و أنا احيي و أميت أيضا- اعتقادا لنفسه الربوبية فادعى لنفسه ما وصف به إبراهيم (عليه السلام) ربه، و صرف الكلام عن وجهه إما عنادا و لجاجا و مكابرة أو أنّه بلغ في الانحطاط الفكري إلى المستوى الذي لا يميّز بين الحياة الحقيقية و الموت كذلك و بين الإحياء و الإماتة بالمعنى الذي أراده كما ذكرنا آنفا.
قوله تعالى: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.
مقتضى السياق أنّ إبراهيم (عليه السلام) لما أيس من هدايته و سد باب المصادرة، كما فعل نمرود في الحجة الأولى و إثبات الربوبية لنفسه ذكر (عليه السلام): أنّك إذا تعتقد الربوبية و تصنع كما يصنع ربّي اللّه الذي له الالوهية و الربوبية العظمى على ما سواه فإنّه تعالى يأتي بالشمس من المشرق فتصرّف أنت فيه فائت بالشمس من المغرب.
و إنّما عدل (عليه السلام) عن الرّب إلى اسم الجلالة هنا لأنّ الربوبية قد صارت واضحة بإقامة الحجة عليها في المرة الاولى فالتفت الخليل (عليه السلام) إلى أنّه تعالى معبود الكلّ كما أنّه ربّ الكل.
و لعلّ ذكر إبراهيم (عليه السلام) الشمس لأنّها كانت من أعظم المعبودات عندهم فأراد (عليه السلام) أنّ هذا النيّر العظيم الذي تقدّسونه و تحترمونه احترام الآلهة مسخر تحت إرادة اللّه تعالى. و مما ذكرنا يظهر الوجه في تفريع هذه الحجة على الحجة الاولى.
قوله تعالى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.
البهت: هو انقطاع الحجة و عدم القدرة على إقامتها فينقطع اللجاج و المحاجة لا محالة أي: فسكت نمرود الكافر باللّه تعالى متحيّرا مدهوشا لا يقدر على الرد.
و لم يصرّح سبحانه باسمه تحقيرا، و يمكن أن يراد به كلّ من كفر سواء كان نمرود أو من حضر في مجلسه.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: إنّ اللّه تعالى لا يهدي و لا يوفق من أعرض عن الحق بعد وضوح الحجة فيتركهم إلى أنفسهم فهم ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم و اتخذوا سواء الجحيم بدلا عن الصّراط المستقيم.
و من ذكر الوصف الظَّالِمِينَ يستفاد أنّ العلة في عدم الهداية هو الظلم، و هذا مما يؤكده القرآن الكريم في موارد كثيرة لأنّه أقوى و أغلظ حجاب بين النفس الإنسانية و المعارف الربوبية كما تقدم بيانه.
259- قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها.
مادة (خوى) تأتي بمعنى الخلاء و السقوط، و ترك ما بين الشيئين خاليا، يقال: خوى بطنه عن الطعام أي خلا بطنه، و خوى النجم أي سقط، و في الحديث «كان عليّ (عليه السلام) إذا سجد يتخوّى كما يتخوّى البعير الضامر» أي يتجافى جميع أجزاء بدنه في السجود يعني لا يلصق أجزاء بدنه بعضها ببعض و لا بالأرض الا المساجد السبعة.
و العرش: كلّ مرتفع أظلّ الإنسان من سقف أو بيت، أو كرم، و التعريش جعل الخشب تحت الكرم، بل كلّ بناء عرش، و عريش مكة أبنيتها و العرش- بالضم- عرق في أصل العنق.
و هذه الجملة أي خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم، و الكلّ تكون كناية عن الخلو من الأهل.
و أما لفظ. خاوِيَةٌ في قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة- 7] فهي بمعنى ساقطة.
و الجملة تحتمل معنيين: الأول- سقوط السقوف و انهدام الحيطان عليها.
و الثاني- سقوط السقوف و بقاء الحيطان، و من يستظلّ بالحيطان دون السقوف و كلّ منهما صحيح و واقع في الخارج و مشاهد في الدور الخربة و القرى المندرسة.
و مادة (قري) تأتي بمعنى التجمع، و سميت القرية قرية لتجمع الناس فيها و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردا و تثنية و جمعا قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف- ۹٦]، و قال تعالى: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف- 31].
و «أو» حرف عطف و قد ذكر المفسرون وجوها في عطف هذه الآية و لكن الصحيح أنّها معطوفة على المعنى فإنّه لما بيّن سبحانه أنّ الاستمساك بالعروة الوثقى موجب لهداية الإنسان و الخروج من الظلمات إلى النور عقب عزّ و جلّ ذلك بجملة من الأمثلة التي تبيّن طرق الهداية و استشهد ببعض قصص الأنبياء مع أممهم للإرشاد إلى أنّهم هم العروة الوثقى التي لا بد من التمسك بهم.
و قد تفنّن عزّ و جل في بيان القصص فذكر الاولى لبيان الاحتجاج على المعاد، لمكان التلازم بين المبدإ و المعاد ثبوتا و إثباتا كما تقدم، و أكد المعاد بذكر كيفية الحشر و النشر، كما ورد في قصة إبراهيم (عليه السلام) مع الطيور الأربعة، لكثرة أهميّة المعاد و استبعاد الناس بأنّ عين البدن المحسوس في دار الغرور كيف يعاد في دار النشور، مع تراكم الاستحالات الواردة عليه فكم من بدن صار ترابا ثم صار بدنا لإنسان آخر: ربّ لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد و دفين على بقايا دفين من عهود الآباء و الأجداد صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عاد و ذلك كلّه من كمال قهاريته تعالى و علمه التام المتعلق بذرات الموجودات و جزئياتها حدوثا و بقاء، فالتمييز لدى العلم الأزلي ثابت و إن تبادلت عليها الاستحالات الكثيرة في الدنيا و الآخرة و ما يحدث في كلّ منهما الصادر عن نظام العلم الأزلي المتعلّق بالموجودات تعلّقا خارجا عن تعقل الإنسان لقصور العقول عن دركه.
و إنّما ذكر سبحانه إبراهيم في الآية السابقة و أبهم اسم الذي مر على القرية و اسمها و القوم الذين كانوا يسكنون فيها تعظيما لإبراهيم (عليه السلام) و تشريفا له فإنّ للّه عزّ و جل مع إبراهيم عنايات خاصة و له مع اللّه حالات.
و لأنّ الغرض هو بيان كيفية الهداية و الموعظة و لا يحتاج إلى ذكر الأسماء بعد استيفاء الغرض من ضرب المثل، أو لأنّ الإحياء بعد الإماتة من الأمور المستبعدة عند الناس و المستعظمة عندهم فاقتضى الحال أن يكون الكلام بلحن الاستهانة و الاستصغار، و هذا من ضروب الفصاحة و البلاغة في أنّه يؤتى بلحن الاستهانة في الموارد التي لا تخلو عن الاستعظام و الاستبعاد.
و قد اختلف المفسرون في اسم القرية فقيل: إنّها بيت المقدس لما خربها بختنصّر البابلي، و قيل: إنّها المؤتفكة، و قيل: غير ذلك، كما أنّهم اختلفوا في اسم الذي مرّ على القرية فقيل: إنّه عزير و هو المروي عن ابن عباس بعدّة طرق و المنسوب إلى عليّ (عليه السلام).
و قيل: إنّه أرميا
و قيل: إنّه عزير، و هو المروي عن الصادق (عليه السلام)
و قال به جمع من المفسرين. و قيل غير ذلك. و قال الزمخشري في الكشاف «إنّه رجل كافر» و هو مردود من جهات كما ستعرف، و قال شيخنا البلاغي: «و قد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند إليه الكشاف في دعواه».
قوله تعالى: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها.
أنّى: أداة استفهام تأتي للبحث عن الحال و المكان و تتضمن معنى (كيف).
و المعنى: كيف يحيي اللّه تعالى هذه القرية و أهلها بعد موتها، و سياق الكلام يدل على أنّ المشار إليه في (هذه) إنّما هي الأجساد البالية و العظام الرميمة و خراب القرية.
و إنّما قال ذلك استعظاما للإحياء لا استبعادا منه لقدرة اللّه تعالى و يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية المباركة: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.
و مثل هذا الكلام يصدر عن كلّ من ينظر في الأمور نظر تفحص و تمعن و يقف‏ فيها وقوف معتبر، و قد ضرب اللّه تعالى المثل في نفسه فأماته ثم أحياه كما حكى عزّ و جل.
قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.
مادة (عوم) تأتي بمعنى السباحة يقال: عامت السفينة في البحر و سمي العام عاما، لأنّ القطعات الزمانية- كالأيام و الليالي- كأنّها تسبح في الزمان، و الفرق بينه و بين السنة أنّ الأول يطلق غالبا على ما فيه الخصب و الرخاء و الثانية تطلق على ما فيه الشدة و الجدب و في حديث حليمة السعدية: «خرجنا نلتمس الرضعاء بمكة في سنة سنهاء» أي لا نبات بها و لا مطر.
و مادة (بعث) تأتي بمعنى إثارة الشي‏ء، و هي تختلف باختلاف المتعلّق، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.
و البعث تارة يكون بمعنى إيجاد الشي‏ء بعد العدم المحض و هو مختص باللّه تعالى. و اخرى: بمعنى إحياء الموتى، و هو أيضا مختص به عزّ و جل، لأنّ الأرواح إيجادا و إفناء، تحت سلطة اللّه تعالى و قد يهب عزّ و جل ذلك لمن يشاء من خلقه، كما سلّط عزرائيل على قبض الأرواح، و عيسى على إحياء بعض الأموات و بعثه.
و المراد من الموت: هو المعنى الحقيقي منه أي: توفاه بإزهاق الرّوح من الجسد.
و المعنى: أماته و توفاه مائة عام ثم بعثه برد الرّوح إليه.
و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالإماتة هو فقد الحس و الحركة دون مفارقة الروح البدن أي السبات ثم أعاده إلى ما كان عليه أولا مثل رقود أصحاب الكهف ثلاثمائة و تسع سنين، و قال: إنّ السبات في هذه المدة أمر غير مألوف و خارق للعادة و برجوع الحس و الحركة بعد السبات يتحقق الاحتجاج على إمكان الحياة بعد الموت و لو في سنين عديدة.
و ما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة صدرا و ذيلا، مع أنّه لا استحالة في الإحياء بعد الموت في هذه الدنيا حتّى يتكلّف بالتصرف في معنى الآية المباركة. و قياس هذه القصة على قصة أصحاب الكهف أمر غير معقول حتّى عند القائلين بالقياس فإنّ دلالة الألفاظ لا يمكن أن تكون مورد القياس.
قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
اللبث و المكث بمعنى واحد أي: قال اللّه تعالى بعد بعثه و إحيائه بعد الموت: كم لبثت في موتك هذا؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. و الترديد باعتبار اختلاف وقت الموت و وقت الإحياء فظنّ تخلل الليلة بينهما. أو هو كناية عن عدم الإحساس بالمدة الطويلة.
قوله تعالى: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ.
أي: قال اللّه تعالى له: ما لبثت ذلك المقدار بل لبثت مائة عام.
و الغرض من السؤال إظهار عجزه و بيان المشية الإلهية التي تعلّقت بجعله مورد القدرة على إحياء الموتى.
و السؤال و الجواب يدل على أدب القرآن المشتمل على مخاطبة اللّه تعالى مع خلقه و هي تدل على كمال العناية و الرأفة، و فيها تظهر العبودية مع المعبود الحقيقي على نحو ما يشاء المعبود، و هي اللذة التي لا منتهى لها شدة و عدة و مدة.
قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى‏ طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ.
أي: لم يتغيّر بتغير السنين و مرّ الأزمان. يعني لم يتغيّر الطعام و الشراب في مائة سنة مع كونهما في معرض التغيير و الاستحالة في عدة أيام.
و إنّما أمر بالنظر لاستبانة طول المدة و دفع ما يخطر بالبال من قصرها.
قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلى‏ حِمارِكَ.
بأن صار رميما تفرّقت عظامه و تقطعت أوصاله و بادت أجزاؤه كيف يحييه اللّه تعالى صحيحا سويا يصلح للركوب عليه. و في تكرار الأمر بالنظر إيماء بانتقال الكلام إلى برهان آخر لتثبيت طول المدة.
قوله تعالى: وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ.
أي: إنّ ما جعلناه فيك من الموت و الإحياء كلّ ذلك ليستدلّوا بها على ثبوت المعاد.
و يستفاد من سياق الكلام- أي عطف الغاية- أنّ الغاية من هذا الفعل لم تكن منحصرة في إظهار الآية لهذا الشخص فقط و إزالة التعجب عنه الذي أظهره في إحياء الموتى بل الغاية أيضا هي جعله علامة للناس يستدلّون بها على ثبوت المعاد و إظهار القدرة الأزلية الحاكمة على كلّ شي‏ء فإنّ الذي يقدر على إحياء الموتى في هذه المدة لقادر على إحيائها بعد مدة أطول منها فلا تختص قدرته بزمان دون آخر.
قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً.
النشز: البروز و الظهور، و الإذاعة، و الارتفاع و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو الظهور و إنّما الاختلاف في المتعلّق.
أي: انظر إلى العظام كيف ترتفع و يجتمع بعضها مع بعض بالتركيب ثم نكسوها لحما لتصبح خلقا جديدا سويا.
و الأمر بالنظر هنا لاستبانة ما قد يتوهم من استحالة عود الأجزاء إلى الصورة الأصلية بعد التغيّرات و التحوّلات الكثيرة و لذلك كان مورد النظر خاصا له من هذه الجهة و عاما من جهة أنّ إحياء الموتى و البعث يكون كذلك.
و الظاهر أنّ المراد من العظام هي: عظام الموتى المجاورين له و عظام الحمار، و لا ينافي ذلك جعله آية للناس و لم يجعل إحياء موتى أهل القرية آية، فإنّ الظاهر أنّ اللّه تعالى جعله محور إثبات ذكر هذه الحكاية بلا فرق بين عظام موتى أهل القرية أو عظام خصوص الراكب و المركوب.
قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.
اعتراف منه بالعلم الثابت في نفسه قبل قوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها و إنّما قال ذلك استعظاما في نفسه و قد جعله اللّه آية للناس لإثبات‏ المعاد و إظهار القدرة التامة.
و يمكن أن يكون المراد بالعلم هنا الوصول من مرتبة حق اليقين إلى عين اليقين‏.

ذكر الأدباء أنّ من المبهمات الموصولات لعدم تبيّن معناها إلا بالصلة و هذه هي جهة بنائها لكن الإبهام فيها مختلف شدّة و ضعفا فإنّ بعضها متوغلة في الإبهام مثل (من) و (ما) و (ذي) و بعضها دون ذلك مثل (الذي) و (التي) و نحوهما.
و إنّما ذكر تعالى (الذي) في قوله تعالى: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ للدلالة على المعهود و معروفية صلته بخلاف (من) الموصولة فإنّها تدل على الإبهام.
كما أنّ في إتيان المضارع «يحيي و يميت» دلالة على استمرار الإحياء له تعالى و تجدده و بيان أنّ هذا شأنه دائما.
و (أنا) أي الاسم الضمير في قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ هو ضمير المتكلّم وحده و الألف الأخيرة تحذف في الأصل، و هو مبنيّ على الفتح فرقا بينه و بين (أن) التي هي حرف ناصب للفعل و الألف الأخيرة إنّما هي لبيان الحركة في الوقف فإن توسطت الكلام سقطت.
و الكاف في قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي قيل: إنّها بمعنى مثل جي‏ء بها للتنبيه على تعدد الشواهد، فهي في موضع نصب معطوفة. و قيل: إنّها زائدة.
و لكنّه مردود لما أثبتناه من عدم الزيادة في القرآن الكريم.
قوله تعالى: وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها جملة حالية، و على عروشها إما خبر بعد خبر أو متعلق بخاوية و ذلك للاختلاف في معناه.
و مائة في قوله تعالى: مِائَةَ عامٍ منصوبة على الظرفية.
و (كم) في قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ يسأل بها عن مقدار الزمان و هي في موضع نصب على أنّها ظرف زمان.
و قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله يتسننن بثلاث نونات أبدلت الثالثة ألفا لتكرار الأمثال ثم حذفت الألف للجزم فصار يتسنّن وجي‏ء بالهاء لبيان حركة النون في الوقف.
و قرئ «ننشرها» أي نحييها، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس- 22]. و قرئ «ننشرها» بفتح النون و ضم الشين مأخوذ من النشر بعد الطّي.
و لكن القراءة المشهورة ما سبق نُنْشِزُها و تقدم وجهه.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: إنّما ذكر اللّه تعالى قصّة خليله بعد آية الكرسي للإشارة إلى أنّ مثل الخليل هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها و بواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلّمات إلى النور، و أنّ نمرود و أمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.
الثاني: يستفاد من الآيات الشريفة أدب المحاجة مع الخصم و هي و إن كانت مذمومة و لعلّه لذلك نسب المحاجة إلى نمرود تجليلا لمقام الخليل عن نسبة المرجوح إليه، و لكن إذا اشتملت على إحقاق الحق و إبطال الباطل فلا ريب في رجحانها بل قد تجب، و محاجة الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم من هذا القبيل.
و قد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا و ذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون و الفساد و عالم التغيّر و التبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك، و يستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية- 17]، فمن كان مأنوسا بركوب البعير و سوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه، و لكن يقول عزّ و جل لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ [فصلت- ٥۳].
الثالث: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أنّ هذه المحاجة وقعت بعد أن رباه اللّه تعالى و أوصله إلى مقام حق اليقين و عين اليقين فكانت بعد اصطفائه (عليه السلام) لمقام الخلة و بعد كسر الأصنام و إراءته ملكوت السّموات و الأرض و كان في بهت هذا الجبار بمثل هذا القول المختصر المختار سرّ ملكوتيّ إلهيّ و شروق نور غيبيّ إلى قلب أصفى من اللّجين و أحب الأنبياء من قرة عين.
و لعلّ الوجه أيضا في اختصاص الرب بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى و الصّفات العليا أنّ المحاجة إنّما كانت في تدبير العالم و تربيته فكان نمرود يدعي ذلك لنفسه و إبراهيم (عليه السلام) يثبته للّه تعالى و ينفيه عن غيره، و لذلك استشهد ببعض الحوادث مثل إحياء الموتى و شروق الشمس.
الرابع: إنّما خص الشمس بالذكر لأجل أنّها كانت من جملة المعبودات عندهم كما يظهر من قصته (عليه السلام) مع قومه في الرجوع إلى القمر و الشمس، و لبعد هذه الحجة عن التمويه و المغالطة كما فعل نمرود في الحجة الأولى، و لأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يعلم أنّ نمرود لا يسعه إنكار هذه الحجة و الادعاء بأنّ ذلك من شأن الطبيعة العمياء و أن يقول بأنّ من يدعي الربوبية لنفسه لقادر على أن يتصرّف في الطبيعة فبهت في أول وهلة.
الخامس: يظهر من قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أنّه ليس من المحالات الذاتية و الا لما طلبه إبراهيم (عليه السلام) لإمكان أن يدعي الخصم أنّه من المحال الذاتي و يدل عليه أيضا ما ورد في السنة المقدّسة في علائم ظهور رجل من ذرية خليل الرّحمن الذي يلف لواء ختم الوصاية و ينشر لواء القسط و الهداية أنّ الشمس تطلع من مغربها.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أنّ سبب طغيانه و دعواه أن رأى لنفسه الملك و السلطة و النفوذ الذي أنعمه اللّه عليه و الا فليس له من دونه شأن يذكر، و لذا لم يذكر اللّه تعالى اسمه تحقيرا له. هذا إذا رجع‏ الضمير في آتاهُ إلى نمرود.
و أما إذا رجع الضمير في آتاهُ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون السبب في المحاجة و الطغيان أن رأى ما وهبه اللّه تعالى لإبراهيم من الملك و الحكمة.
السابع: يدل قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ على أنّ العلة في عدم الهداية هي الظلم، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
و يصح أن يكون قوله تعالى: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يعني: أنّ من جحد الحق بعد ظهوره لديه و وضوحه عنده و صيرورته مبهوتا لا يكون قابلا للهداية و له نظائر كثيرة في القرآن الكريم فيكون مثل قول القائل: «ليس للظلمة ضياء و نور».
الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها أنّ المار على هذه القرية قد أبدى إعجابه عن كمال قدرته جلّت عظمته و نهاية اقتداره فيكون اعترافا بالحيرة و عدم الإحاطة بالخصوصيات و الجهات إلا للّه تعالى فقط كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرّعد- ٥]، و تعجب الأنبياء و أولياء اللّه تعالى من هذا القسم و ليس هو من التعجب الإنكاري الشايع بين الناس، و يدل على ما ذكرناه في ذيل الآية الشريفة: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.
التاسع: إنّما أبهم سبحانه و تعالى اسم القرية و اسم النبيّ الذي مرّ عليها بل و زمان القصّة لأنّ المراد إظهار القدرة التامة و أنّها غير مختصة بوقت دون آخر أو بمكان دون آخر و الأسلوب البلاغي يقتضي عدم ذكر جهات القصة غير الدخيلة بالمقام استعظاما له و استضعافا لغيره.
و ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالقرية أهل القرية كقوله تعالى: وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف- 82]، و لكنه مردود بما ذكرناه.
العاشر: يحتمل أن يكون قوله تعالى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بيانا لقصر المدة التي لبث فيها بعد أن رأى الآيات أو إشارة إلى عظم الآيات التي‏ رآها من اللّه تعالى فتكون المدة الطويلة بالنسبة إليها قصيرة كما في قوله تعالى في أحوال المحشر: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون- 113].
الحادي عشر: أنّ الوجه في تكرار كلمة انْظُرْ في الآية الشريفة: أنّ في كلّ واحد من الموارد الثلاثة غرضا خاصا و برهانا معينا لا يكون في غيره، فالأول لبيان دفع ما يتوهم من قصر المدة لما شاهده من عدم تغيّر الحال فأمره بالنظر إلى الطعام و الشراب. و الثاني لبيان طول المدة و استبانتها فأمره بالنظر إلى الحمار، و الثالث لبيان كيفية البعث و النشور فأمره بالنظر إلى نشر العظام و بعثها.
الثاني عشر: يدل قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها على كمال قدرته على الموجودات و أنّ قدرته على إيجاد الروح تستلزم قدرته على جميع ما دون ذلك كما يظهر من قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون- ۱٤]، فيكون السّير التكاملي منطويا تحت الغاية و هي مقهورة تحت إرادته الكاملة فيكون الكلّ له و منه و إليه لانطواء المشروط على الشرائط و الكلّ على الأجزاء.
و الآية تدل على وقوع الاستحالات و التبدلات على العظام فإنّه يظهر منها أنّ الجمع كان بعد الاندراس، و التجدد بعد الانعدام و الانطماس.
الثالث عشر: يصح أن يكون المراد من العظام في قوله تعالى: وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ جنس العظام الشامل لعظام الموتى و عظام الحمار و عظام نفسه فيكون تعلّق الرّوح ببدنه متدرجا و ليس ذلك من قدرة اللّه جلّت عظمته ببعيد.
كما كان عدم تغيّر الطعام و الشراب من قدرته تعالى فليس ذلك من المحال الذاتي حتّى تقتضي حكمته تعالى أن لا تتعلّق به قدرته عزّ و جل.
الرابع عشر: أنّ هذه الآية المباركة و التي بعدها تصوير خارجي لحقيقة المعاد التي صعب على الأفهام قبولها و أتعبت الأمم أنبياءها في الإذعان بها و ستأتي آيات أخرى دالة على المعاد الجسماني إن شاء اللّه تعالى.
الخامس عشر: تدل هذه الآية الشريفة و أمثالها على صحة الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت و يدل عليه ما يدل على صحة المعاد و قد ورد في السنة المقدّسة ما يدل على صحة الرجعة أيضا.
و يصح الاستدلال بدليل عقلي واضح و هو أنّ أصل وجود هذا النحو من الحياة- أي الرجعة في العالم- خير محض و تعطيل الخير المحض قبيح و هو محال على اللّه تعالى لكن الأمور مرهونة بأوقاتها و أنّ العالم لم يبلغ بعد إلى مرتبة الكمال المطلوب حتّى يليق بهذه العناية الخاصة من ذي الجلال.
السادس عشر: يصح أن يستدل بهذه الآية المباركة الدالة على تجدد القرية و بعث أهلها على صحة القاعدة العقلية التي أذعن بها الكلّ من أنّ «حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد» فجرى ذلك بالنسبة إلى كلّ قرية في هذه الدنيا و كذا بالنسبة إلى الآخرة.
السابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ استمرار علمه من أول الأمر بقدرة اللّه تعالى، و لكن تأكد علمه بما شاهده من الحوادث.

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «خالف إبراهيم قومه و عاب آلهتهم حتّى ادخل على نمرود فخاصمهم- الحديث».
و في الدر المنثور في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «الذي حاج إبراهيم في ربه و هو نمرود بن كنعان».
أقول: اتفقت الروايات على أنّ الذي حاج إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان و هو و إن كان علما شخصيا لأول جبار ادعى الربوبية و لكن يصح لحاظه وصفا نوعيا لكلّ من تجبّر على اللّه سبحانه و تعالى بادعاء الربوبية.
و في المجمع: «اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل: عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار كما عن مقاتل. و قيل: بعد إلقائه في النار و جعلها بردا و سلاما عن الصادق (عليه السلام).
أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و ذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ المحاجة كانت بعد تشرف الخليل بمقام الخلة و كسر الأصنام و إراءته ملكوت السموات و الأرض فتكون بعد إلقائه في النار و الشواهد العقلية تؤيد ذلك.
في تفسير القمي عن هارون بن خارجة عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: «فخرج أرميا على حماره و معه تين قد تزوده و شي‏ء من عصير فنظر إلى سباع الطير و سباع البحر و سباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه ساعة ثم قال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها و قد أكلتهم السباع؟ فأماته اللّه مكانه، و هو قول اللّه تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه- الحديث-».
أقول: و روى قريبا منه العياشي و غيره.
و في تفسير العياشي «أنّ ابن الكوا قال لعليّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال (عليه السلام): نعم أولئك ولد عزير حيث مرّ على قرية خربة و قد جاء من ضيعة له، تحته حمار و معه شنة فيها تين و كوز فيه عصير فمرّ على قرية خربة فقال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟! فأماته اللّه مائة عام فتوالد ولده و تناسلوا ثم بعث اللّه إليه فأحياه في المولد الذي أماته فأولئك ولده أكبر من أبيهم».
و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل و له خمسون سنة فأماته اللّه مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين و له ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات اللّه».
قال الطبرسي في المجمع: «الذي مرّ على قرية هو عزير و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)- إلى أن قال- و قيل: هو أرميا و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و قال: و روى سعد بن عبد اللّه القمي في بصائر الدّرجات عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ الآية في عزير و عزره».
أقول: و عن ابن عباس أنّه عزير و لكن لا جدوى في تعيين النبي الذي مر على القرية أنّه عزير أو أرميا و لعلّ إهماله تبارك و تعالى ذكره لأنّ المقصود تحقق أصل الموضوع ليستدل به على كلية المعاد، كما لا جدوى في تعيين القرية هل أنّها إيليا (بيت المقدس) أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت على ما تقدم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"