1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 238 الى 239

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة من الأحكام المتعلقة بشؤون الحياة الزوجية و بيّن ما يكون سببا في سعادة هذه الحياة و نبّه الإنسان إلى ابتغاء الإحسان في جميع شؤونه، و عدم تناسي الناس الفضل بينهم.
بيّن في هاتين الآيتين المباركتين ما هو من أعظم الشؤون العبودية التي لها دخل في تكميل الحقيقة الإنسانية و هي الصلاة التي دعا إليها جميع الأنبياء و بها يتشرف المصلّي بالتكلّم مع الحيّ القيوم و هي إسراء النفوس إلى الملكوت الأعلى و معراج أرواح المتعبّدين إلى قاب قوسين أو أدنى، و هي التي تنهى عن الفحشاء و المنكر، و تبعث النفوس الغافلة إلى التذكر بجلال اللّه عزّ و جل و جماله، و تذكير الإنسان إلى مكانته الحقيقية، و تجعله مراقبا لنفسه لتطهيرها من رذائل الأخلاق و تحليتها بفواضلها، و تمكنها على تحمل المصاعب و الآلام في طريق الاستكمال.
و في تعقيب تلك الأحكام بالأمر بالصلاة التي هي أكبر العبادات إشارة إلى أنّ الايتمار بأوامر اللّه سبحانه و تعالى و الانتهاء عن نواهيه إنّما يكون في‏ النفوس المستعدة و هي لا تحصل إلا بإقامة الصلاة و المحافظة عليها و أدائها بخضوع و خشوع لتنال النفس سعادتها. فهي الروح لتلك الأحكام و إنّها بدون الصلاة كالجسم الذي لا روح له.

238- قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ.
مادة (حفظ) تأتي بمعنى المواظبة على الشي‏ء و الإقبال عليه مرة بعد أخرى، و المحافظة على الصّلوات هي المواظبة عليها بإقامتها في أوقاتها بحدودها و شرائطها، و الإقبال عليها بالإخلاص و الخشوع و الخضوع، فالمحافظة أخص من مطلق الإتيان لأنّ الحفظ عبارة عن التفقد و التعهد و الرعاية.
و إنّما عبّر سبحانه و تعالى بهذا اللفظ المشعر بفعل الإثنين لبيان أنّ كلّ من حافظ على الصّلاة و أدّاها على ما هي عليه في الواقع هي أيضا تحافظ على رعايته، فهي تردعه عن الفحشاء و المنكر، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ [العنكبوت- 45]، و في السنة الشريفة من ذلك الشي‏ء الكثير.
و للصلاة أنحاء من الوجودات و المظاهر فهي في هذا العالم مركبة من جملة من الأعراض، و في عالم آخر لها وجود مستقل تمدح فاعلها و تشفع له أو تذمه و تلعنه، و في نشأة أخرى: غيب الغيوب تكون من صقع اللّه جلّ جلاله لا يعلمها إلا هو.
و الصّلوات في الإسلام من أهم العبادات التي أمر الناس بها فهي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها.
تنهى عن المنكر و الفحشاء أقصر فذاك منتهى الثّناء و أعدادها كثيرة و الواجب منها الصّلوات الخمس المعروفة بين المسلمين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و بيّنت أركانها و شروطها و آدابها و سائر جهاتها بيانا قوليا و عمليا.
قوله تعالى: وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏.
تخصيص بعد تعميم للاهتمام بها و الترغيب إليها.
و الوسطى تأنيث الأوسط و هو من الأمور الإضافية يصح إطلاقه على ما يقع وسطا بين الاثنين أو أكثر و لهذا اختلف العلماء في تعيين الوسطى من الصّلاة:
فقيل: إنّها الصبح لكونها وسطا بين فرائض الليل و فرائض النهار و القيام إليها شديد و قال به جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
و قيل: إنّها الظهر، لأنّها وسط بين العشاء و الصبح، و العصر و المغرب، و أنّها وسط النهار المبتدئ من طلوع الفجر و المنتهي بغروب الشمس، و لأنّها أول صلاة صلّيت في الإسلام، و في قراءة عائشة و حفصة «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر» بالواو و روى مالك في موطّئه، و الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: «الصلاة الوسطى: صلاة الظهر» و زاد الطيالسي «و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصليها بالهجير».
و قال بهذا جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو المشهور بين الإمامية المروي في عدة أخبار كما يأتي في البحث الروائي.
و قيل: إنّها العصر، لكونها وسطا بين الظهر و المغرب، و أنّ ما قبلها صلاتان نهاريتان و هما الصبح و الظهر، و بعدهما صلاتان ليليتان و هما المغرب و العشاء، و قال بهذا جمع آخر من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و به قال الجمهور، و أخرج الترمذي عن ابن مسعود «قال رسول اللّه (صلّى اللّه‏ عليه و آله): الصلاة الوسطى صلاة العصر»، و روى مسلم و أبو داود عن عليّ (عليه السلام) مرفوعا: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» يعني يوم الأحزاب، و في رواية الشيخين أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال يوم الأحزاب: «ملأ اللّه قبورهم و بيوتهم نارا كما حبسونا و شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
و قيل: إنّها المغرب لأنّها متوسطة في عدد الركعات، و لا تقصر في السفر، و أنّها وسط بين صلاتي جهر و صلاتي إخفات.
و قيل: إنّها العشاء الآخرة لأنّها بين صلاتين لا تقصران، و لأنّها يستحب تأخيرها، و ذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها، هذا بحسب الأقوال:
و أما بحسب الأخبار فسيأتي في البحث الرّوائي ما يتعلّق بها، و لكن نفس الآية الشريفة لا تدل على شي‏ء مما ذكر و هي مجملة لا يظهر المراد منها فلا بد من ترجيح أحد الاحتمالات من الرجوع إلى السنة الشريفة و القرائن القطعية.
و مذهب أهل البيت عليهم السلام: أنّها صلاة الظهر كما يأتي في البحث الروائي بل يمكن أن يستشهد له بقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود- 115]، حيث إنّه تعالى لم يذكر صلاة الوسطى بين الطرفين و خصوصا بعد الأمر في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء- 78] المتفق بين المسلمين على أنّها صلاة الظهر المعبّر عنها في لسان عليّ (عليه السلام) بصلاة الأوّابين.
مع أنّ وقت الظهر عظيم جدّا ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن ركود الشمس فقال: يا محمد ما أصغر جئتك و أعضل مسألتك و إنّك لأهل للجواب، إنّ الشمس إذا طلعت جذبها سبعون ألف ملك بعد أن أخذ بكلّ شعاع منها خمسة آلاف من الملائكة بين جاذب و دافع حتّى إذا بلغت الجوّ و جازت الكوّ قلبها ملك النور ظهرا لبطن فصار ما يلي الأرض إلى السماء و بلغ شعاعها تخوم العرش فعند ذلك نادت الملائكة:
سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر و الحمد للّه الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له وليّ من الذل و كبّره تكبيرا فقال له: جعلت فداك أحافظ على هذا الكلام عند زوال الشمس؟
فقال: نعم حافظ عليه كما تحافظ على عينك».
و سيأتي شرح الرواية في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى. و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في الصحيح: «إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء و أبواب الجنان و استجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح».
قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.
مادة (قوم) تدل على الثبوت و العزم و الاستقامة و الرعاية و الحفظ و قد ورد جميع ذلك في الآيات الشريفة المتعدّدة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى و المراد به هنا ما يكون عن استقامة و تثبت.
و أما مادة (قنت) فقد وردت في القرآن كثيرا بهيئات مختلفة منتسبة إلى الرجال تارة و إلى النساء أخرى و إلى مخلوقاته و موجوداته ثالثة و كلّها مقرونة بالمدح و التمجيد، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل- 120]، و قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً [الزمر- 9]، و قال جل شأنه: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران- 43]، و قال تعالى: وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ [الأحزاب- 35]. و قال تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة- 116]. فإنّ جميع الموجودات تتصف بالقنوت له جلّت عظمته لأنّ كلّ مربوب قانت و خاضع لربه.
و أصلها ينبئ عن خضوع خاص يكون مظهرا للعبودية، و ما ذكره المفسرون و اللغويون من الدعاء، و العبادة، و الخشوع، و الصلاة، و السكوت، و طول القيام كلّ ذلك من المصاديق لا أن تكون معاني مستقلة في حدّ نفسها، فلا يكون من مشترك اللفظ أو المعنى.
و قد اطلق على السكوت، كما في حديث زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتّى نزلت: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمسكنا عن الكلام». و لكنّه سكوت خاص بقرينة قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ هذه الصلاة لا يصح فيها شي‏ء من كلام الآدميين إنّما هي قرآن و تسبيح».
و القنوت من أفضل مقامات العبودية و له مراتب كثيرة شدة و ضعفا.
و المراد به في المقام: الخضوع و الخشوع الخاص، كما يأتي في البحث العرفاني.
و المعنى: اشتغلوا بطاعة اللّه عزّ و جل طاعة خضوع و خشوع مخلصين له لا تغلبكم زخارف الدنيا و زبرجها.
و لا يختص القيام للّه تعالى و القنوت له جلّت عظمته بحالة دون أخرى بل يجريان في جميع الحالات لا سيّما في العبادات فإنّهما روحها و لا ينال العبد سرّ التوحيد إلّا إذا كانت جميع أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة بل تمام حركاته للّه تعالى، فيكون مسيره من الحق إلى الحق، و يخرج عن الفقر إلى الغنى المطلق، و يتنزه عن كلّ ما يوجب البعد عنه تعالى حتّى يكون جل شأنه سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به، كما ورد في الحديث، لأنّه قام في الحق بالحق للحق.
239- قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً.
الخوف: توقع المكروه، و رجال جمع راجل كقيام جمع قائم و أصحاب جمع صاحب، و هو الكائن على رجليه في مقابل الركبان الذي هو جمع الراكب كفرسان جمع فارس، و كل شي‏ء علا شيئا آخر فقد ركبه.
و الآية الشريفة عطف على الآية السابقة و هي بمنزلة الشرط لها أي: حافظوا على الصّلوات إن لم يكن هناك خوف و الا فتتقدر المحافظة بقدر الخوف، فأدّوا الصّلاة حينئذ رجالا أو ركبانا.
و هذه الآية المباركة تكشف عن الأهمّية البالغة التي ينظر بها سبحانه و تعالى إلى الصّلاة و المحافظة عليها و لا تسقط حتّى في ساعة الخوف‏ و الشدة، فإنّ كلّ موضوع كثر الاهتمام به ازداد ابداله و أطواره و شؤونه، و لا يوجد موضوع شرعي و لا قانون إلهي أفضل و أجل من هذه العبادة الخاصة أي الصلاة فإنّ فيها جذب العبد إلى عالم الأحدية و السعادة الأبدية فأيّ قانون يتصوّر أفضل منها، و لأجل ذلك أرسل الفقهاء قاعدة «أنّ الصّلاة لا تسقط بحال» ، و قد وردت في السنة المقدسة قواعد تسهيلية امتنانية في الصلاة لم نرد في غيرها من العبادات.
و يستفاد من هذه الآية الشريفة: إجزاء الصلاة في حالة الخوف بأي نحو اقتضاه الخوف، و لا تحتاج إلى الإعادة أو القضاء بعد الأمن لعدم الإشارة إلى ذلك، و هذا هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.
و لم يحدد سبحانه و تعالى الخوف الموجب لتبدل التكليف بل أوكله إلى نفس الإنسان بعد مراعاة جانب عقله، قال تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة- 14]، فيكون المناط تحقق الخوف العقلائي لدى المكلّف من أي مصدر تحقّق سواء كان في القتال المأذون فيه شرعا أو كان في الدّفاع عن النفس و العرض و المال، أو الحاصل من السبع و الحرق أو الغرق و نحو ذلك. و يتقدّر التكليف بقدره فيترك كلّ ما ينافي الحذر و يبقى ما لا ينافيه على حاله، و يجب تحرّي المقدور مهما أمكن فيسقط جملة من شرائط الصّلاة الاختيارية عند عروض الخوف كالاستقرار، و القبلة، و الطمأنينة بل قد يوجب سقوط الركوع و السجود و التعويض عنهما و الإيماء لهما لأنّه الميسور له، و قد ذكر سبحانه و تعالى كيفية صلاة الخوف في القتال في سورة النساء.
و إنّما قدم الراجل على الراكب لاشتداد الأمر بالنسبة إليهم، و لأنّ الغالب في عصر النزول كانوا راجلين، و ذكرهما بالخصوص لبيان وجوب المحافظة على الصّلاة على كلّ حال يمكن من المشي و الركوب و عدم سقوطها بحال، و لا يجب تأخيرها عن وقتها في هذه الحالة، كما يراه بعض الفقهاء، و الآية مجملة في كيفية صلاة الخوف، و لكن شرحتها السنة الشريفة و ذكرها الفقهاء في كتب الفقه.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.
تفريع على المحافظة على الصّلاة أي: إذا زال الخوف و اطمأنت النفس فاذكروا اللّه ذكرا مثل ما علّمكم في كيفية عباداته و شرايع دينه. و إطلاق الآية المباركة يدل على مطلق الذكر كمّا و كيفا، و يمكن الاختلاف باختلاف الحالات و الخصوصيات، و ربما تجب الصلاة بالكيفية المعهودة في حال الاختيار و الأمن.
و لعل الوجه في وجوب ذكر اللّه تعالى في هذه الحالة لأنّ الناس غالبا بعد زوال الخوف يذكرون الأشخاص و يفتخرون بالألقاب و الأعمال، فأمرهم عزّ و جل بذكر اللّه تعالى لأنّه المنعم الحقيقي و السبب الواقعي في زوال الخوف، و قد أنعم الأمن و الأمان و الخير و الإحسان فيجب شكره على ما علّمكم معالم دينكم.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: أنّ الإجمال في الصلاة الوسطى و عدم تعيينها بالخصوص لأجل أهمية شأن الصّلوات فإنّ المحافظة عليها كلّها توجب الإصابة بالوسطى منها قهرا، فيكون كالإجمال في الاسم الأعظم، و ليلة القدر، و ساعة الاستجابة في يوم الجمعة فيهتم الإنسان بجميع أسمائه تعالى حتّى يصيبه و كذا في ليالي شهر رمضان أو ساعات يوم الجمعة.
الثاني: إنّما خص اللّه تعالى الصّلاة الوسطى زائدا على سائر الصّلوات بالفضل، لأنّ المحافظة بالوسطى تستلزم المحافظة على طرفيها أو باعتبار وقتها لأنّ وقت الظهر- كما في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)- له أهمية كبرى كما مر.
الثالث: أنّ التعبير بالقيام في قوله تعالى: قُومُوا لِلَّهِ يدل على لزوم نصب العبد نفسه للعبادة للّه تعالى و الخضوع له و الاستقامة في ذلك و الرعاية فيها حق الرعاية بلا اختصاص لها بحالة دون أخرى.
الرابع: أنّ اللام في قوله تعالى: قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ للغاية حتّى يكون‏ القيام- أي: مطلق الحركات و السكنات في كلّ عمل- له جل شأنه فهو الغاية القصوى صلاة كانت أو غيرها بناء على ظاهر السياق، و هذا هو معنى قصد القربة المعتبر في كلّ عمل عبادي على ما فصّله الفقهاء في العبادات و غيرها.
الخامس: يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ توقيفية العبادات و توقيفية أسمائه المقدسة، لأنّ ذكره تعالى لا بد أن يكون باسمه و صفاته عزّ و جل فقط.
السادس: يدل قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ على أنّ تكليف الصّلاة مطلقا يدور مدار وسع المكلّف و عدم العسر و الحرج و أنّ تغيير التكليف بحسب الحالات يكون بيد من كان أصل التشريع بيده كما ثبت ذلك في علمي الفلسفة و الكلام.

في تفسير العياشي عن زرارة و محمد بن مسلم أنّهما سألا أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ قال (عليه السلام): «صلوة الظهر و فيها فرض اللّه الجمعة و فيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه اللّه إياه».
أقول: المأثور عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في روايات كثيرة أنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة الظهر، و ادعى شيخ الطائفة الإجماع عليه، و قوله (عليه السلام): «فيها» أي في صلاة الظهر لأنّ الجمعة و الظهر واحدة حقيقة و إنّما سقطت ركعتا الجمعة، لمكان الخطبتين فليستا حقيقتين مختلفتين.
و في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «عما فرض اللّه عزّ و جل من الصّلاة فقال (عليه السلام): خمس صلوات في الليل و النهار.
فقلت: فهل سماهنّ و بينهنّ في كتابه؟ قال: نعم قال اللّه تبارك و تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله): أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ و دلوكها زوالها ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سماهنّ و بينهنّ و وقتهنّ و غسق الليل هو انتصافه، ثم قال: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فهذه الخامسة، و قال اللّه تعالى في ذلك: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فطرفاه المغرب و الغداة و زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ و هي صلاة العشاء الآخرة، و قال اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ و هي‏ صلاة الظهر، و هي أول صلاة صلّاها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة و صلاة العصر. و في بعض القراءات «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين» قال: و نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في سفره فقنت فيها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): و تركها على حالها في السفر و الحضر، و أضاف للمقيم ركعتين و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام».
أقول: قوله (عليه السلام) «في بعض القراءات» لا بد أن يكون المراد قراءة غيرهم (عليهم السلام) و إنّما ذكر ذلك لبيان أنّ كون الوسطى صلاة الظهر منقولا عن غيرهم أيضا، و لكن في نفس القراءة أيضا بحث لأنّه يمكن أن يكون محاذرة من الوقت و أهله فيكون الحكم الأول هو المتبع.
في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قرأ «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين».
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قريب منه، و لكن فيه «و كذلك كان يقرأها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)».
أقول: إنّه يحتمل أن يكون قوله «صلاة العصر» من القرآن فتكون صلاة الوسطى الظهر، و يستفاد أهمية صلاة العصر أيضا، كما يحتمل أن يكون تفسيرا للصلاة. لا أن يكون قراءة للقرآن، و يدل عليه أنّ الجمهور نقلوا في مجامعهم «صلاة الوسطى: صلاة العصر» و مع تعارض القراءتين و عدم ترجيح في البين فالحكم هو التخيير لو لم نقل بكون الوسطى هي الظهر أرجح من جهات كثيرة.
و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن المنيع، و النسائي، و ابن جرير و غيرهم من طريق الزبرقان: «أنّ رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت و هم‏ مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف و الصفان، و الناس في قائلتهم و تجارتهم فأنزل اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لينتهينّ رجال أو لأحرقنّ بيوتهم».
أقول: تقدم في التفسير ما يدل عليه أيضا، و لكن بإزاء ذلك روايات مختلفة مروية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من طرق الجمهور. منها ما يدل على أنّها صلاة العصر، و منها ما يدل على أنّها صلاة الصبح و منها غير ذلك.
و مع التعارض لا يصح الأخذ بأحدها بالخصوص، و لكن تقدّم أنّ الترجيح مع ما يدل على أنّها صلاة الظهر.
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قال (عليه السلام): «إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها و لا يشغله شي‏ء».
أقول: تقدّم في التفسير أنّ من معاني القنوت الرعاية، و ما ورد في الرواية يكون من باب التطبيق.
و في المجمع في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قال: «هو الدعاء في الصّلاة حال القيام، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام)».
أقول: إنّ ذلك من باب التطبيق فلا تعارض في البين أصلا.
و في الكافي عن عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً قال: «كيف يصلّي؟ و ما يقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلّي؟ قال (عليه السلام): يكبّر و يومي إيماء برأسه.
أقول: يدل على ذلك الإجماع و نصوص أخرى و هي تدل على تبدل‏ الصلاة إلى الأبدال الاضطرارية حسب ما تقتضيه الظروف.
في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا قال: «تكبّر و تهلّل، تقول: اللّه أكبر، يقول اللّه: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً.
أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.
و في الفقيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصّا أو سبعا فصلّ الفريضة و أنت على دابتك».
أقول: المسألة محرّرة في الكتب الفقهية فلا مجال لذكرها هنا.

يستفاد من هذه الآية الكريمة و أمثالها كمال العناية بشأن الصلاة لأنّ فيها إضافة إلى عالم لا نهاية له في الجلال و الجمال و الإفضال إضافة اختيارية يظهر أثرها على أفعال الجوارح و الجوانح توجب عظمة المضاف و ارتفاع درجاته و مقاماته المعنوية الأبدية لا سيّما إذا كان المضاف إليه داعيا لإيجاد تلك الإضافة و مرغبا إليها فإنّه من سنخ تعلق المحبوب بحبيبه. ففي الصّلاة هذا السّر المعنوي الذي تدركه العقول بحقائق الإيمان لا الحواس الظاهرة التي في الإنسان.
فالصّلاة هي العمود النوري المتصل بين الحيّ القيوم و العبد الذي هو في معرض الحوادث و الآلام، و لذا أمرنا بالاستعانة بها إذا أهمنا أمر. قال تعالى: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة- 45]، و كانت الأنبياء (عليهم السلام) إذا دهمهم أمر استعانوا بالصلاة.
و الصّلاة علامة الإيمان باللّه تعالى و بها و بقرينتها الزكاة تتحقق الأخوة الدينية، قال تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة- 11].
و إنّ تاركها من الكافرين، فعن نبينا الأعظم: «بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة».
و إنّ تركها يوجب الحسرة العظمى في الدار العقبى، قال‏ تعالى حكاية عن أهل سقر: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر- 44]، و إنّ إهمالها و تضييعها و قطع تلك الرابطة التي بين العبد و الباري يوجب ارتكاب المعاصي و اتباع الشهوات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم- 59].
و الصّلاة هي آية الإنسانية الكاملة لأنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر فتتحقق بها التخلية عن الرّذائل و تتجلّى فيها الفضائل فيكون المصلّي المحافظ عليها هو الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه جميع الصّفات الحسنة.
و الصلاة هي الرادع الباطني في الإنسان تمنعه عن ارتكاب الجرائم و الآثام، و توقظ الضمير الإنساني فيردعه عن ركوب الشهوات و تضييع الحقوق فيعظم الحق و يكبر عليه تركه إلى غير ذلك من الصفات الحميدة و الآثار الرفيعة التي لو أردنا ذكرها لما وسعه المقام.
و قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ على إيجازها تكفي في الاهتداء إلى عالم النور العالم الذي يرى فيه الإنسان آثار أعماله بل يجد فيه حقيقة نفسه و فطرته، و يلتذ بما يشاهد من مقامه الرفيع.
و هو يعم جميع أوامر اللّه جل جلاله و أحكامه المقدسة و يرشد إلى ترك نواهيه حتّى يصير الفرد من اللّه و إلى اللّه، و تنهدم فيه الأهواء النفسانية و لا يبقى في نفسه سوى حبه جلّ شأنه و هذا الإطلاق موافق لإطلاق قول نبينا الأعظم «إنّما الأعمال بالنيّات» و تقتضيه أذواق المتألهين و العرفاء الشامخين، و لعل أولياء اللّه تعالى و أحبّاءه اقتبسوا من هذه الآية الشريفة ما أبرزته قلوبهم عند مناجاتهم لخالقهم منها
ما نسب إلى الحسين بن عليّ (عليهما السّلام): «إلهي أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبوا سواك و لم يلجؤا إلى غيرك، و أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، و أنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك و ما الذي فقد من وجدك».
و ما ذكره (عليه السلام) من أهم آثار القيام للّه من كل جهة قانتا له‏ و خاضعا لربوبيته، فالقيام بامتثال أوامر اللّه تعالى و ترك نواهيه و الاستقامة فيه غاية آمال المخلصين و العارفين به تعالى.
و هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تحن إليها قلوب ذوي البصائر و الأحلام، و تزل دون الوصول إليها الأقدام إلا من عصمه العليم العلام.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"