1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 234 الى 235

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (۲۳٤) وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (۲۳٥)


بعد ما بيّن سبحانه و تعالى جملة من أحكام الطلاق و ما يتبعه كالعدة بيّن هنا حكم المتوفى عنها زوجها و عدتها و بعض ما يتعلّق بها حين العدة مثل خطبتها في أثنائها أو بعدها و أنّ مدّة عدتها أربعة أشهر و عشرا و بذلك يرفع توهم اتحاد عدّة الوفاة و الطلاق.
و يضع حدّا لما كان عليه أهل الجاهلية في المتوفّى عنها زوجها التي كانت تلقى العنت و المشقة الكثيرة.
و هو حكم اجتماعي أدبيّ يحفظ به نظام الأسرة بعد فقد قيّمها و اهتماما بحقوق الزوجية بأسلوب رفيع يخفف لوعة المصاب.
ثم بيّن سبحانه و تعالى كيفية المعاشرة و التحدث مع المعتدّة بعدة الوفاة و اعتبر أن يكون الكلام معها بالتعريض مشتملا على المعروف و الحشمة.

۲۳٤- قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً.
مادة (و في) تأتي بمعنى التمام و الإتمام في جميع استعمالاتها الكثيرة في القرآن الكريم، و الوفاة هي تمام مدة الحياة قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الآية- ٤۲]، أي يتم قضاؤه عليها في الحياة أو الموت و قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم- 37]، أي أتم عهد اللّه عليه بالكمال، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة- 1]، أي أتموها، و قال تعالى: وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ [الأنعام- ۱٥۲]، أي أتمّوهما و لا تنقصوا منهما شيئا.
و قد استعملت في القرآن بهيئات مختلفة متفاوتةو في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ليلة المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت» أي تمّت و طالت.
و يذرون أي: يتركون و الفعل مضارع ليس له ماض من لفظه و إنّ ماضيه ترك- بالفتحات الثلاث-. و تقدم في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة- 228]، ما يتعلّق بهذه العبارة الفصيحة.
و المعنى: و الذين يتمّون مدة حياتهم و يموتون و يتركون زوجات يجب‏ عليهنّ الانتظار و حبس أنفسهنّ من الازدواج و الزينة و غيرهما مدة أربعة أشهر و عشرا، و المراد بالعشر الأيام مع لياليها، و حذفت لدلالة السياق عليه، لأنّ المراد اتصال هذا المقدار من الزمان، كما في أصل العدة مطلقا.
قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ.
أي: إذا أتممن عدّتهنّ فلهنّ الاختيار و لا سبيل لأحد عليهنّ، فلا إثم عليهنّ في أن يخترن الأزواج و يفعلن ما وجب عليهنّ تركه في أثناء العدة، فيجوز لهنّ استعمال الزينة بما هو المتعارف بالنسبة إليهنّ و لا يستنكر من أمثالهنّ و كذا التعرض للخطبة، و الخروج من البيوت فإنّ جميع ذلك جائز لهنّ بالمعروف و الاستقامة و العفة.
و في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إبطال للعادات السيئة التي كانت المتوفى عنها زوجها تعانيها من أهلها و قرابة الزوج بل من المجتمع الجاهلي، كما أنّ فيه إشعارا بإلزام الأقارب بعدم التدخل في شؤون الزوجات.
و الحداد: عبارة عن إظهار الحزن على فقد عزيز بعلامات خاصة و هو من الأمور الاجتماعية التي لا تخلو عنه أمة من الأمم و التي تتفاوت في هذه العادة فبعض الأمم تشرك الذكور و الإناث فيها في حين أنّ امة أخرى تخص هذه العادات بالإناث، كما أنّ مدّة الحداد لم تكن متساوية لدى الجميع، و قد اختلطت بكثير من الأوهام و الخرافات حتّى أنّ بعض الأمم كانت تقضي بإحراق الزوجة الحية، أو دفنها مع الزوج و هي حية، أو الاغتراب من بلد الزوج، أو عدم تزويجها إلى آخر العمر، أو سنة واحدة، أو تسعة أشهر، أو من دون مدة معينة، و هذه العادات و إن كانت قاسية في بعض الحالات و يشمئز منها الضمير الإنساني إلا أنّ أصل الحداد في الجملة أمر يقبله الطبع لأنّه يرجع إلى حفظ حقوق الزوجية و احترام مشاعر أسرة البيت و رعاية الحب الذي كان متبادلا بين الزوجين.
فهو معنى قائم بالطرفين إلا أنّه آكد في الزوجة و ألزم، فالحداد من تلك‏ الأمور الاجتماعية التي يجتمع فيه الجانب الأخلاقي و الأدبي، و يحفظ فيه حق الحاضر و المتوفّى لكن بشرط خلوه عن العادات السيئة و الأوهام و الخرافات و لا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى الوحي السماوي و الشرايع الإلهية.
و قد قبله الإسلام و عيّن له مدة محدودة و هي أربعة أشهر و عشرا و ألزم المرأة ترك الزواج و الزينة، و الخروج عن المنزل فيها إلا في موارد يدعو الإلزام و الضرورة إليها.
و لعلّ الحكمة في اعتبار هذه المدة المعينة ظاهرة فإنّ ثلاثة أشهر منها العدة الغالبية التي تجب في كلّ فراق سواء كان اختياريا- كالطلاق- أو قهريّا كالموت و الأربعون الاخرى هي مدة الحداد على الميت و احترامه كما هو المعتاد في كلّ ميت، و قد تقدم في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة- ۲۲٦]، بعض الكلام.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
أي: و اللّه عليم بالأعمال رقيب عليها، و هو مطلع عليكم اطلاع ذي الخبرة بالنسبة إلى ما يكون خبيرا فيه إلا أنّه خبير بما يؤدي إليه الظاهر، و اللّه جل شأنه خبير بالباطن و الحقيقة و السرائر.
و قد ختمت الآية المباركة بهذا الخطاب اهتماما بالموضوع لأنّ الغريزة الجنسية داعية لكل فساد إلا إذا أمسك زمامها بما يرتضيه الرحمن فإنّه الخبير بالحقائق و الأعمال و عالم بالمصالح فيحكم وفق المصلحة فيجب إطاعته و يحرم مخالفته.
۲۳٥- قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ.
مادة (جنح) تأتي بمعنى الإثم المائل عن الحق، و استعير لفظ الجناح لكلّ إثم و معنى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ: لا إثم عليكم و قد استعمل هذا اللفظ في مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقدم بعضها و يأتي الآخر منها.
و (التعريض): قسم من الكناية التي هي أبلغ من التصريح و لكنّه خلافها فالكلام إما ظاهر في المعنى المقصود، أو صريح فيه، أو تعريض به، و الجميع معتبر في المحاورات العرفية و يترتب الأثر عند المتعارف فقول: إنّي أريد أن أنكحك، صريح في المطلوب. و قول: إنّي أريد معاشرتك- مثلا- ظاهر فيه. و قول: كم راغب فيك تعريض، ففي التعريض يكون المعنى المقصود غير ما عرّض به كالمثال الأخير، و في الكناية لا يقصد من اللفظ غير المكنى عنه.
و الخطبة- بكسر الخاء- من الخطب و المخاطبة. و التخاطب بمعنى المراجعة في الكلام، و تستعمل في طلب المرأة للنكاح من هذه الجهة و يصح استعمالها في الحالة الخاصة الكلامية مطلقا، و الفارق القرائن الخاصة، فيقال: خطب الخطيب على المنبر كما يقال خطب المرأة بمهر كذا إلا أنّ في الخطبة- بالضم- يأتي الخطيب و في الخطبة- بالكسر- يأتي الخاطب.
و الإكنان من الكن- بالكسر- و هو ما يحفظ به الشي‏ء، قال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات- ٤۹]، و قال تعالى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور- ۲٤]، و ما يستر في النفس يسمّى كنّا أيضا، قال تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل- ۷٤].
و المعنى: لا إثم على الرجل في التعريض بخطبة المرأة المتوفّى عنها زوجها أي: بالإشارة التي تفيد المرأة أنّ الرجل يريدها زوجة له أو يخفي في نفسه الرغبة في الزّواج بها و لا يظهرها إلا بعد انتهاء العدة.
و ظاهر الآية الشريفة و إن كان يشمل جميع المعتدات لكن سياقها يدل على اختصاصها بعدة الوفاة.
قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ.
بيان للسبب في الحكم السابق أي: أنّ ذكركم لهنّ أمر غريزي قهري‏ و اللّه تعالى أصلح هذا الأمر الفطري بما هو صلاح لكم فإنّ الشرايع الإلهية تراعي الميول الفطرية و لا تحطمها و إنّما تضبطها و تهذبها حتى تستقيم معها الحياة السعيدة الصالحة للبشرية، فرخص لكم التعريض بهنّ و إخفاء الرغبة في نكاحهنّ دون ذكرهنّ باللسان حفظا للآداب و صونا لجرح المشاعر لأنّ الدين دين الفطرة.
قوله تعالى: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا.
السر معروف و هو مقابل الإعلان أو الجهر قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل- 23]، و إنّه من صفات ذات الإضافة و له مراتب كثيرة حتّى إنّه يمكن أن يكون شي‏ء واحد سرّا من جهة و جهرا من جهة أخرى.
و هو عام يشمل الجماع و الزواج، و قيل: إنّ المراد به الجماع و استشهد بقول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني كبرت و أن لا يشهد السر أمثالي‏ و قول الأعشى: و لا تقربن جارة إنّ سرها عليك حرام فانكحن أو تأبدا و لكن تقدم مرارا أنّ غالب هذه الإطلاقات، بل جميعها من باب اشتباه المصداق بالمفهوم و ليس من متكثر المعنى في شي‏ء.
و المعنى: لا تواعدوهنّ على الزواج أو الرّفث و ما يرجع إليهما وعدا صريحا في السّر، فإنّ ذلك خلاف الحشمة، و مظنة للفتنة بخلاف التعريض بالخطبة فإنّه لا بأس به.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً.
أي: إلّا أن يكون ما وعدتموهنّ في السّر موافقا للمعروف و الحياء و الحشمة و الأدب بحيث لو كان ذلك في العلن لما كان فيه عيب و لا يستحيى منه.
و الآية المباركة بمجموعها تدل على كيفية المعاشرة مع المرأة المعتدة بعدة الوفاة و التحدث معها في أمر الزواج فاعتبر الشارع أن يكون التحدث معها موافقا مع الحشمة و الحياء و لا ينافي الآداب العامة و يخدشها، فرخص التعريض و كريم الخطاب، فإنّ المرأة في هذه الحالة لم تكن مسلوبة الحقوق و الأحكام سوى أنّها تعمل ببعض الواجبات احتراما للزوج المتوفّى.
و في الآية الشريفة رد لعادات كانت سائدة في عصر النزول من منع التحدث معهنّ و اعتباره من الأمور المستهجنة جدّا لا سيّما إذا كان في أمر الزواج. و من المؤسف جدّا أنّ بعض تلك العادات السيئة الجاهلية متبعة عند بعض المجتمعات الإسلامية، و لا بد من الرجوع إلى تعاليم الإسلام فإنّ فيها الهداية و السعادة.
و هذه الآية و ما بعدها قرينة على أنّ موردها هو المعتدات بعدة الوفاة لا مطلق العدة فتكون اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ للعهد دون جنس العدة، كما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ.
العزم و العزيمة بمعنى عقد القلب على إمضاء الشي‏ء و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران- ۱٥۹]، و قال تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان- 17]، و قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف- ۳٥]، أي الذين لهم قدم ثابت و راسخ في هذا المقام الذي تزل فيه الأقدام حتّى من الأنبياء العظام.
و في السنة المقدسة: «خير الأمور عوازمها» أي ما وكدت نفسك عليه في مرضاة اللّه تعالى.
و العقدة من العقد بمعنى الشدّ و هما و العهد بمعنى واحد، و في الآية استعارة بليغة حيث شبه عقد النّكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر، و جعلها أمرا قلبيا لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع.
و المعنى: لا توقعوا عقد النكاح بالإرادة الجدية بحيث يترتب عليه الأثر حتى تنقضي مدّة العدة، فمن أوجد العقد عليها في العدة مع العلم بها يكون العقد باطلا و تحرم عليه المرأة أبدا كما فصل في السنة المقدسة.
قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ.
ربط بين ما شرعه سبحانه و تعالى و الخشية منه لأنّه العالم بالسرائر و تأكيد بليغ لسوق الناس إلى إتيان أوامره جلّت عظمته و التحذير عن مخالفته.
و إنّما ذكر تعالى: وَ اعْلَمُوا لأنّه آكد في الترغيب و التحذير و يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ إحاطته الفعلية بضمائر القلوب و سرائرها، و لبيان أنّ مخالفته تعالى فيما ذكر في الآية الشريفة و ارتكابه من المهلكات، و لكن باب التوبة في جميع الخطايا مفتوح و لذا عقبه ب: قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
ترغيب في التوبة و الرجوع إليه تعالى و أنّه لا يعجّل بالعقوبة.
و «حليم» من أسماء اللّه الحسنى و جميع أسمائه المقدّسة حسنى و التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيا.
و هو بمعنى عدم العجلة في عقوبة العصاة. كما أنّ «صابر» من أسمائه الحسنى يرجع إليه أيضا، و قد علّل ذلك في بعض الآثار «و إنّما يعجل من يخاف الفوت، و إنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف و قد تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا». و هذا مطابق للأدلة العقلية فإنّ قهاريته على جميع ما سواه، و حكمته المتعالية على الإطلاق كيف يعقل فيهما العجلة، فيصح أن يجعل الحليم من شؤون حكمته تعالى فيرجع معناه إلى الحكيم بتوسعة في معناه في الجملة، فيكون الإمهال و ترك التعجيل على الأخذ بالمعاصي من شؤون العلم و الحكمة علما إحاطيا مطلقا بما مضى و ما يأتي، و حكمته بالغة يراعى فيها كليات الأمور و جزئياتها.
ثم إنّ الغفور من الأسماء الحسنى الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا مقرونا باسم آخر كالرّحيم و الحليم و نحو ذلك، كما مرّ في آية (۲۲٦) ما يرتبط بالمقام.

الفاعل للوفاة في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ هو اللّه تعالى أي: و الذين يأخذهم اللّه تعالى وافين و يستوفون مدة حياتهم.
وَ الَّذِينَ مرفوع بالابتداء و جملة: يَتَرَبَّصْنَ خبره و جملة: يُتَوَفَّوْنَ صلة و جملة: يَذَرُونَ عطف عليها.
ثم إنّه إذا جعلنا المبتدأ قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و الخبر جملة:
يَتَرَبَّصْنَ تكون المطابقة بين المبتدإ و الخبر خفية و قد قيل في ذلك وجوه منها ما قاله الكسائي و الأخفش أنّ الرابط بينهما هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلّقات المبتدإ.
و هذا من الموارد التي لا بد من التكلف فيها لتطابق قول النحويين.
و الصحيح أن يقال: إنّه يراعى في الأخبار صحة المعنى سواء تطابق المبتدأ و الخبر أم لا، و المعنى في المقام واضح و جلي بل المستفاد من هذه الجملة الاتحاد بين الزوجين و كمال التقارب بينهما بحيث يعدان في نظر الإسلام واحدا، و تدل عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة- 187].
و يَذَرُونَ مثل (يدعون) لفظا و معنى، و لا ماضي لهما من مادتهما و ماضيهما (ترك).
و اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ للعهد دون الجنس كما تقدم.

في التهذيب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا».
أقول: يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة أيضا.
في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً جئن النساء يخاصمن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قلن لا نصبر فقال لهن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتتتها ثم اكتحلت بها ثم تزوجت فوضع اللّه تعالى عنكنّ ثمانية أشهر».
أقول: لعل ترك ذكر عشرة أيام أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان في مقام بيان تعداد الشهور لا مطلق زمان العدة.
في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، و عدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرا؟ فقال (عليه السلام): أما عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد. و أما عدة المتوفّى عنها زوجها فإنّ اللّه عزّ و جلّ شرط للنساء شرطا و شرط عليهنّ شرطا فلم يجابهن فيما شرط لهنّ و لم يجر فيما اشترط عليهنّ. شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول اللّه عزّ و جلّ: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك و تعالى أنّه غاية صبر المرأة من الرجل. و أما ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا فأخذ منها له عند موته ما أخذ منه لها في حياته عند الإيلاء قال اللّه تعالى: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» و لم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلا مع الأربعة أشهر و علم أنّ غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثم أوجبه عليها و لها».
أقول: روي قريب من ذلك في تفسير العياشي و غيره عن الباقر و الرضا (عليهما السلام) و ما ورد فيها من بيان وجه الحكمة في تشريع هذه العدة و تقدم في التفسير ما يتعلّق بها أيضا.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ- الآية- قال (عليه السلام): «المرأة في عدّتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، و لا تقول: إنّي أصنع كذ، أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع و كلّ أمر قبيح».
أقول: ما ذكره (عليه السلام) مقتضى الأدب المعاشري أيضا.
و في رواية أخرى: «تقول لها و هي في عدّتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرّك و لو قد مضى عدّتك لا تفوتيني إن شاء اللّه و لا تستبقي بنفسك و هذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة النكاح».
و في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قال (عليه السلام): «هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها أوعدك بيت آل فلان؟ ليعرّض لها بالخطبة، و يعني بقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً: التعريض بالخطبة و لا يعزم عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله».
أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"