1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 23 الى 24

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (۲۳) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (۲٤)


بعد أن ذكر سبحانه أقسام الناس بالنسبة إلى الإيمان و الكفر كما تقدم. أمر سبحانه الناس بعبادته لعلهم يصلون إلى الغاية المرجوّة لهم و هي التقوى و التي تستكمل نفوسهم بها لأنه المنعم عليهم بأنواع نعمه. و بما كان له من الربوبية العظمى في خلقه شرع في إثبات النبوة لعبده و بيان ما أنزله عليه و إزالة الشك بأن ما جاء به محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كان من عند نفسه فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله. فالآية من أدلة اثبات النبوة و يصح جعلها من أدلة اثبات اعجاز القرآن كما يصح جعلها لهما معا لمكان تلازمهما في جميع مراحل الوجود.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى‏ عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. يعني إذا حصل لكم الشك في أمر القرآن و زعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بسورة من مثله، و قد ذكر سبحانه و تعالى المنزل عليه بأحسن لفظ تشريفي يتدفق منه الحنان و العطوفة.
فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل و المنزل عليه و هما متلازمان في جميع مراحل الوجود، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» و انه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله مِمَّا أَنْزَلْنا و ذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه و نزول القرآن لا يكون إلّا بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة و الفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض و ليست النبوة إلّا الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى و لا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد و أن يرجع الضمير إلى القرآن، و يشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [سورة الطور، الآية: ۳٤]، و قال جلّ شأنه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]، و قال تعالى: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].
و قد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط و تحققه خارجا بل و مع امتناعه فعلا أيضا، و لا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم و إمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.
و لفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا و إنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف و الريب: هو الشك كما تقدم في أول السورة.
و كلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب و أنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه و أن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى و معارضة نمرود مع إبراهيم الخليل و أنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا، و منه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية و التفاسير بالنسبة إلى المعجزات‏ و خوارق العادة غير صحيح إلّا بالنسبة إلى إتمام الحجة.
و السورة هي بعض الشي‏ء و طائفة منه قلّ أو كثر، و التحدي بها يقتضي التحدي بأقصر سورة في القرآن، بل إذا كان ال (ب) للتبعيض يشمل الآية الواحدة أيضا.
ثم إنه ورد التحدي بالقرآن في ثلاثة مواضع غير هذا الموضع: قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].
و ثانيها قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة هود، الآية: 13]. و ثالثها قوله جل شأنه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]. نعم. ذكر تعالى الحديث أيضا فقال سبحانه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور، الآية: ۳٤] و لكن المراد هو القرآن فيرجع الى القسم الأول.
و لعل الوجه في اختلاف التحدي بالقرآن تارة بمثله، و أخرى بعشر سور من مثله، و ثالثة بسورة من مثله اختلاف أشخاصهم فبعض ادعى الإتيان بالمثل، و بعض ادعى الإتيان بعشر سور مثله، و بعضهم ادعى الإتيان بسورة مثله، أو لأجل اختلاف الأزمنة ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل و بعد ظهور العجز في الجملة ادعوا الإتيان بعشر سور مثله و بعد استقرار العجز تحدوا بإتيان سورة من مثله.
و ما يقال: من أنّ المتحدي (بالكسر) هو اللّه تعالى في جميع معجزات الأنبياء خصوصا معجزة خاتم الأنبياء المعجزة الدائمة الأبدية، أو أنّه النبي من قبل اللّه تعالى فيرجع إليه سبحانه أيضا و المتحدّى به في المقام إما هو القرآن أو النبي الصادر منه المعجزة و المتحدى منه هو عامة الخلق و لا بد من السنخية في الجملة بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى منه فالملك الجليل العاقل لا يتحدى مع سواد الناس في شي‏ء، و كذا لا بد منها بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى به فمن كانت لديه جوهرة نفيسة منحصرة بالفرد في العالم كله ليس‏ له أن يتحدى في ذلك من في عرض النّاس فلا موضوع للتحدي الذي أطيل القول فيه من المتكلمين و تبعهم جمع من المفسرين.
مردود أولا: بأنّ أصل التحدي إنّما هو لإتمام الحجة على الأمة لئلا يكون للناس على اللّه حجة، و كل ما تحققت هذه الجهة يصح التحدي و مع عدمه فلا موضوع له. و ثانيا: بأنه لطف و عناية منه جل شأنه مع الخلق و مما شاة معهم و إظهار لضعفهم مما يتوهمون لذلك.
قوله تعالى: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. الدعاء: النداء و الاستعانة. و الشهداء: جمع شهيد و هو من يعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل و العقد، و بعبارة أخرى أهل الخبرة بالشي‏ء. و ما دون اللّه أي ما سوى اللّه. و المراد أنه إذا كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من هذا القرآن و لو كان بمعونة ما سوى اللّه فإذا عجزوا عن ذلك يكون ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوى و هي كون القرآن معجزة إلهية أنزله لإتمام الحجة عليهم.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا. بيان لثبوت عجزهم و عدم استطاعتهم لما يدعونه، و الجملة الأولى إشارة لإيكال الموضوع الى اختيارهم، و الثانية اخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم اللّه و ما هو المتحقق في نظام الطبيعة من عدم ارتباط المحدود المقيد بها بمن هو قاهر عليها إلّا بإرادته تعالى فالنفي الأبدي إنما هو لأجل أن المدعو به يستلزم الخلف و هو محال ذاتي.
قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ. الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار. و النّاس هم الكافرون و العصاة. و الحجارة هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تستعمل للوقود بل يمكن أن يراد بها نفس النّاس الكفرة بعضهم بالنسبة إلى بعضهم و هو ما يقتضيه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية: 98] فيصير الموقود و الوقود شيئا واحدا فكل من ازداد طغيانه و تبعه قوم يكون حجارة بالنسبة إلى تابعيه مع وجود الحياة في المتبوع أيضا.
ثم إنه في المقام بحثان:
الأول: إنّ التكليف بالشي‏ء يدور مدار القدرة عقلا و شرعا فلا يصح التكليف بغير المقدور كذلك و في هذه الآية المباركة أخبر سبحانه بقوله تعالى: وَ لَنْ تَفْعَلُوا أنه من التكليف بغير المقدور الذي هو باطل. و الجواب عن ذلك بأن التكليف إن كان للامتحان- كما عرفت- أو إتماما للحجة عليهم و أخذا بإنكارهم للنبوة و المعجزة يصح و لو مع العلم بعدم إمكان الامتثال.
الثاني: إنّ العقاب مترتب على مخالفة اللّه عزّ و جل و في المقام لم تتحقق منهم مخالفة حتّى يتعلق بهم العقاب. و الجواب يظهر من الجواب السابق فإذا تمت الحجة عليهم بالنبوة و إعجاز القرآن لا بد لهم من التصديق و الاعتقاد بهما و حينئذ الريب و الشك الحاصل باختيارهم مخالفة توجب استحقاق العقاب.
قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ. ذكر اللّه تعالى إعداد النّار أو العذاب للكافرين في جملة من الآيات و إعداد الجنة للمتقين كذلك قال سبحانه: وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 131] كما قال جل شأنه: سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 133] إلى غير ذلك من الآيات، فيستفاد من الآية أمور:
الأول: أن أصل خلق النّار كان لأجل الكافرين فإذا أطلق في القرآن أنّ النار للفاسقين أو المجرمين لا بد من حملهم على الكافرين بقرينة أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أو أن نارهم غير ما أعدت للكافرين بحسب المرتبة و الدرجة.
الثاني: إنها أعدت فيستفاد من لفظ الإعداد سبق الوجود إذ لا يطلق هذا اللفظ على المقارنة الوجودية أو التأخير الوجودي إلّا بالعناية.
الثالث: سنخ هذه الآيات نحو بشارة للمؤمنين بأن النّار لم تعد لهم- كما يدل عليها بعض الأخبار على ما يأتي- و ان دخلوها لبعض معاصيهم‏ و بينهما فرق واضح. و في المقام جزاء لإنكارهم للمعجزة الأبدية التي هي القرآن باختيارهم يدخلون النّار التي أعدت لهم.
ثم إنّ الإعداد من الأمور الإضافية و له مراتب متفاوتة كثيرة يقول القائل: أعددت هذه الحنطة لطعامي مثلا أو هذا القماش للباسي أو هذه الأرض لمسكني إلى غير ذلك من الأمثلة و مقتضى ما ورد من الآيات المباركة و الأخبار المستفيضة من الطرفين- على ما يأتي في محله- أنّ الإعداد حاصل من الأعمال و الأفعال، كقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة» لا أنّ اللّه تعالى أعد ذلك بذاته الأقدس أولا و بالذات بلا فرق بين درجات المتقين و دركات الكافرين و المنافقين فترجع موجبات الإعداد الى نفس الطائفتين فالمعد (بالكسر) إنما هو نفس المكلف و الإعداد يحصل من عمله، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
و حيث إنّ هذه الآية مفتتح آيات التحدي إلى المعجزة لا بد و ان نشير إليها في الجملة.

الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان على أقسام:
(الأول): أن لا يستند إلى سبب و هو محال، لما ثبت بالأدلة العقلية من أنّ حدوث الفعل الاختياري بلا سبب فاعلي محال.
(الثاني): أن يستند إلى سبب من الأسباب الطبيعية الشايعة و هذا القسم معلوم لكل أحد.
(الثالث): أن يكون سببه من الأسباب الطبيعية النادرة بحيث لو أمكن الاجتهاد في تحصيلها لظفر بها بلا دخالة خصوصية شخص فيها بل كل من تعلّم الأسباب و أحاط بها أمكن صدور تلك الأفعال منه جريا لقانون السببية و المسببية الجاري في جميع الممكنات. و جميع الأفعال النادرة، و الفنون العجيبة، بل السحر و الشعبذة و نحوهما من هذا القبيل. نعم يختص السحر و نحوه بأنّ لإيحاء بعض النفوس الشريرة دخلا في تحققه في الجملة على ما يأتي تفصيله في قوله تعالى: إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].
(الرابع): أن يكون سببه من الأسباب الغيبية الإلهية فكما أن نظم طبيعي العالم بمجرداته و أعراضه و جميع مادياته لا بد و أن يكون مورد إرادته المطلقة و تحت قيّوميته التامة كذلك تكون تلك الإفاضات المفاضة على الحيوانات- التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها- بجلب منافعها و دفع مضارها و توليد المثل، بل صدور بعض الأفعال الجميلة كما قال تعالى: وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: ٦۸] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، و كذا في النباتات من إيحاء جلب المنفعة و دفع المضرة و إيجاد المثل. و الإعجاز بنفسه أيضا يكون من هذا القسم فهو من فعله تعالى في أفراد خاصة من الإنسان إقامة للحجة على الجميع و ارتباطا لعالم الشهادة بعالم الغيب، فكما أنّ اللّه تعالى إذا أراد شيئا يقول له: كُنْ فَيَكُونُ بلا سبب في البين أصلا إلّا الإرادة التامة المقدسة، جعل سبحانه لأنبيائه المعجزات و لأوليائه خوارق العادات بهذا المعنى لمصالح كثيرة.
و الفرق بين ما أراده لنفسه و ما جعله لغيره من جهات:
الأولى: أنّ الأول لنفسه من نفسه، و الثاني من غيره لغيره.
الثانية: أنّ الأول غير محدود بحد خاص أبدا، و الثاني محدود بخصوص الحد المفاض إليه فقط.
الثالثة: الأول واجب نظامي صدر عن الواجب بالذات، و الثاني واجب نظامي صدر عن الممكن بالذات فعلا و ذاتا. و حينئذ يكون قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ [سورة الأنفال، الآية: 17] لا يختص بخصوص الرمي فقط بل هو جار في جميع معجزات الأنبياء و خوارق عادات الأولياء لأنّ إبراز المعجزة و خارق العادة على أيديهم له دخل في نظام التكوين، كما أنّ التشريع كذلك بل هو غاية نظام التكوين.
و ربما يتوهم من أن ما ذكر صحيح لا إشكال فيه و لكنه مخالف للقاعدة التي تسالموا عليها في الفلسفة من أنه لا بد و أن تكون علة الطبيعي طبيعية، و المعجزة و خارق العادة في عالم الطبيعة و منها، فلا بد و أن تحصل بالعلة الطبيعية. و لهذا التجأ بعض المفسرين إلى القول بأن علتها طبيعية لكن لا يعرفها إلّا من جرت على يده.
نقول: إنّ أصل القاعدة موردها العلل الطبيعية لا الفاعل المختار الذي هو محيط بكل شي‏ء و يفعل ما يشاء، مع أن جعل المعجزة و خارق العادة من عالم الطبيعة ممنوع بل هما من عالم آخر تظهران في ظلمات الأرض، و لم يقم دليل على أن كل ما يظهر في عالم الطبيعة- من العالم الآخر- لا بد أن يكون من الطبيعة، بل الدليل على خلافه كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
و ليس ما ذكرناه في معنى المعجزة مبنيا على الحلول و لا على وحدة الوجود و الموجود، لما سيأتي من إثبات بطلان ذلك كله إن شاء اللّه تعالى، بل المعجزة و خارق العادة من إيجاد اللّه تعالى القدرة الخلّاقية- في الجملة- في من شاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك. و لا فرق بين المعجزة و خارق العادة من هذه الجهة إلّا أنّ الأولى لا بد و أن تقترن بالتحدي أي: الدعوة إلى المبارزة و المنازعة في الإتيان بمثلها في الناس، بخلاف الثاني فإنّه قد يصدر عن عبد خمول في فلاة من الأرض لا يعرف و لا يعرفه أحد كالخضر.
فحقيقة الإعجاز قدرة النفس الإنسانية على إيجاد ما يخرق به الطبيعة و العادة و التصرف في هذا العالم بما هو خارج عنه كل ذلك بإقدار من اللّه تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيها الظروف. هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المعجزة، و للقوم فيها تفاصيل في كتب الكلام و التفسير.

التحدي هو نداء الناس جميعا إما للإتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز و القصور فتثبت أصل الدعوى لا محالة باعتراف الخصم، و هو من أحسن الطرق لإثبات المطلوب و إقامة الحجة عليه. و هو شايع في المحاورات و المخاصمات العرفية من قديم الأعصار خصوصا في الجاهلية، و تشهد لذلك معلقاتهم على باب الكعبة فإنها كانت للتحدي لإظهار ما يفتخرون به في الفصاحة و البلاغة فجاء القرآن و أبطل ذلك و أتم الحجة عليهم بما كان شايعا لديهم.
فمعنى التحدي دعوة الخصم إلى الإتيان بما أتى به المدعي و بعد ثبوت عجزه باعترافه ثبتت دعوى المدعي لا محالة. فما نسب إلى بعض من أن اللّه تعالى أعجزهم عن ذلك و صرفهم عن التأمل حوله. مردود: بما عرفت سابقا و لا ريب في عجز ما سواه تعالى عن الإتيان بالقرآن و إنما جي‏ء بالجمل الشرطية لإظهار العجز و التوبيخ و إتمام الحجة و غير ذلك من الدواعي.

وجوه إعجاز القرآن كثيرة و متعددة بل هو من جميع الجهات لأن قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الاسراء، الآية: 88] خطاب عام لجميع أفراد الإنس و الجن بما فيهم من العلماء و ارباب علوم شتى و فنون كثيرة فلا بد و ان يعم الجميع بما هم كاملون و مخترعون فيه. و بعبارة أخرى: أن دعوة المبارزة و التحدي بالإتيان بالمثل دعوة إلى العقل الإمكاني من حيث هو كذلك و قد ثبت عجزه عن الإتيان بمثله.
و أما الإشكال بأنه لا وجه للتحدي بهذا التعميم، ثم لا وجه للتحدي من كل شي‏ء. فهو مردود: بأن في القرآن آيات كثيرة دالة على كماله من جميع الجهات قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: ٥۹]، ثم قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سورة سبأ، الآية: 28] فلا بد و أن يكون التحدي عاما من جميع الجهات و من كل جهة يشمل المتحدى به على الدعوة من تلك الجهة و إلّا لما تمت الحجة كما هو معلوم، فكل شي‏ء فيه جهة حسن و كمال للفرد أو المجتمع في الدنيا أو النشآت الأخرى يكون القرآن معجزة فيه من حيث بيانه و الاستكمال‏ فيه، فهو معجزة للفصيح و البليغ في فصاحته و بلاغته، و للعالم في علمه، و للفلسفي في فلسفته إلى غير ذلك، فإذا كانت وجوه الإعجاز كثيرة فنحن نشير إلى المهم منها على سبيل الاختصار إن شاء اللّه تعالى.

ليس المراد من الحياة في القرآن هي الحياة المعروفة في الحيوان- التي هي عبارة عن الحركة الإرادية التي تكون في معرض الزوال و الفناء- بل المراد منها هي الحياة الحقيقية الواقعية لأن قوام حياة الفرد و المجتمع إنما هو بالكمالات المعنوية الحاصلة لهما و القرآن هو الذي يفيد الكمال الفردي و الاجتماعي سواء أ كان في هذا العالم أم في عالم آخر.
و بعبارة أخرى: هو الكمال للكل بكل معنى الكمال و هذا هو معنى الحياة التي وردت في قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سورة النحل، الآية: 97]، و قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال، الآية: ۲٤]، و قال جل شأنه: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سورة الشورى، الآية: ٥۲] فإذا كان القرآن روحا بذاته و كان من عالم الأمر يكون منشأ حياة الغير لا محالة، كما سيأتي تفصيل ذلك.
و الحياة لها أقسام: حياة العقول المجردة على ما أثبتها جمع من الفلاسفة، حياة الملائكة- كما هي المنساق من الكتاب و السنة و سائر الأدلة على ما يأتي تفصيلها- على أنواعهم التي لا يحيط بها إلّا اللّه تعالى منها سادات الملائكة- مثل جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل- و منها حملة العرش الكروبيون، و منها روح القدس الذي يظهر من الأخبار أنه غير جبرائيل. و حياة القرآن المقدس أفضل، لأن جميع ما تقدم له حياة من جهة و للقرآن حياة من جميع الجهات، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

يشتمل القرآن على كثير من العقائد الدينية و العلوم الإلهية و المعارف الربوبية فهو السابق في جميع هذه العلوم و قد شهد بذلك جميع الأئمة الهداة الذين هم أحد الثقلين و جميع علماء المسلمين بل و غيرهم فقد تحدى الناس في التوحيد الفعلي قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت، الآية: ٥۳]، و قال تعالى: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [سورة إبراهيم، الآية: 10]، و قال جل شأنه: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [سورة الحشر، الآية: ٥۹]، و قال تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ [سورة الزمر، الآية: ٦۲] إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي يستدل بها من المجعول لإثبات الجاعل، و ليس في البراهين التي أقامها الفلاسفة أظهر و أبين و أتم من هذا البرهان المسمى عندهم ب (البرهان اللمّي) أي العلم من المعلول بالعلة فهو معجزة في إثبات التوحيد الفعلي.
كما أنه معجزة في التوحيد الذاتي الذي هو من أهم مقاصد الفلاسفة و قد كتبوا في ذلك كتبا، و صنفوا رسائل و لم يأتوا في ذلك شيئا جديدا و ما ذكروه إنما أخذوه من القرآن الكريم، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [سورة الحج، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و أما توحيد صفاته فقد تعرض الفلاسفة و العرفاء له أيضا و جميعهم اقتبسوا من نور هذا الكتاب العظيم قال تعالى: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [سورة يوسف، الآية: 30] بناء على ما ثبت في محله من أن الذات ذات جامع لجميع صفات الكمال فنفي الهوية عما سواه إثبات لحصر جميع صفات الكمال بالنسبة إليه، و سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و أما المعاد و خصوصيات الحشر و النشر فيغنيك مراجعة الآيات المباركة الواردة فيهما عن تفصيل البيان في ذلك.
و أما النبوءات السماوية فقد ذكرت فيه بجميع جوانبها من معجزاتهم و قصصهم و كيفية معاشرة أممهم معهم. إلى غير ذلك من المعارف التي تأتي الإشارة إليها، و لا مجال للتعرض لجميعها في المقام.

مما تحدّى به القرآن الكريم هو تشريعه للأحكام المدنية النظامية الفردية و الاجتماعية التي لم تكن أفهام البشر تصل الى ما وصل إليه القرآن في ذلك و ان طال عليه الزمن و تأتي أهمية هذه القوانين المجعولة وفاؤها لجميع حاجات الإنسان و شمولها لكل جوانب الحياة و عدم تغييرها و تبديلها.
و القول بأنّ حاجات الإنسان تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار فلا بد أن تكون القوانين المجعولة التشريعية تختلف و تتغير فلا موضوع للتحدي في ما يتغير و يتبدل. (مردود): بأنّ التغير و التبدل ليس في الكليات و أصل القوانين، كوجوب عبادة اللّه تعالى، و حرمة أكل مال الغير، و وجوب رد الأمانة، و حرمة الخيانة و غير ذلك من أصول القوانين التشريعية التي ضبطها الفقهاء في الكتب الفقهية، و لكن الجزئيات قد تختلف حسب اختلاف الحالات و الخصوصيات و هو مما لا بد منه في جعل القوانين فأصل القوانين التشريعية المجعولة من اللّه تعالى يكون مثل القوانين المسلّمة العقلية كحسن الإحسان، و قبح الظلم و نظائر ذلك مما لا يتغير و لا يتبدل.

يشتمل القرآن الكريم على كثير من العلوم التي تكون في طريق استكمال الإنسان- الفردية و النوعية- قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام الآية: ٥۹] فهو يحتوي من المعارف أجلاها و أرقاها، و من العلوم العملية أتقنها و أسناها، و من تشريع القوانين أرفعها و أدقها سواء أ كان في‏ العلوم الاجتماعية أم الاقتصادية و الإنسانية و مطلق العلوم التكاملية. و كيف لا يكون كذلك فإن علم القرآن بجميع جهاته ينتهي إلى علمه تعالى و هو راجع الى ذاته الأقدس غير المتناهية من كل جهة، فمن تصور القرآن بهذا النحو من التصور يجزي نفس تصوره عن التحدي بالنسبة إليه فهذا الموضوع من الموضوعات التي يكفي الالتفات في الجملة لمقام ثبوته عن إقامة الدليل على إثباته، و سيأتي تفصيل المقال في مبحث علمه تعالى إن شاء اللّه تعالى.
إن قلت: إنّ جملة كثيرة من العلوم و الاكتشافات العصرية مما لم يشر إليها في القرآن العظيم مع أنها من أهم مفاخر الإنسان (فإنّه يقال): إن الذكر و الإشارة أعم من أن يكون على نحو الكلية و الإجمال أو الجزئية و التفصيل، و جميع ذلك مما اكتشف مذكور في القرآن بنحو الكلية و إن لم يلتفت إليها إلّا بعد مدة و إن كان العلم بها مخزونا عند أهله. فيستفاد الحركة الجوهرية- التي اكتشفوها- من قوله تعالى: وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ [سورة النمل، الآية: 88]. كما أنهم اكتشفوا التلقيح بالرياح، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]. و اكتشاف حركة الأرض من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [سورة طه، الآية: ٥۳] و وجود موجودات في السماء من قوله تعالى: وَ السَّماءَ بِناءً [سورة البقرة، الآية: 22] إلى غير ذلك من العلوم مما لا يسع المقام ذكرها.

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب فهو المخبر عما جرى على الأمم الماضية في عالم الفناء بأصدق بيان قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: 102] كما أخبر عن أمور لم تكن في عصر التنزيل و ما يحدث في عالم الدنيا، و يخبر أيضا عما يجري و يحدث في عالم البقاء، لأنه من مظاهر علمه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات و الأرض. فالقرآن من الغيب، لأنه من اللّه عزّ و جل‏ العالم غيب السموات. و للغيب، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. و في الغيب، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات و إن أحاطت بظواهرها عقولهم و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء اللّه تعالى.

قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن و لا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم و لا يقربهم في هذه الخصلة رهط، و كان ذلك من أهم مفاخرهم، و أشرف مآثرهم و كانت محافلهم تعج بالخطباء و الشعراء، و تعقد الأسواق لذلك، و قد ضبطت الكتب فروع كلماتهم و دقائق جملاتهم و مع ذلك لم ينقل إلينا إلّا شي‏ء قليل، و كل من تأمل في هذه اللغة و رأى فيها من الأسرار و الدقائق و ما عليها من الجمال و البهاء يعترف بالعجز و التحير، و حينئذ لا بد و أن تكون هذه الصفة- أي صفة البلاغة و الفصاحة- التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) في إعجاز ما ينزل من اللّه تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلّا بما تميز به قومه، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته و فصاحته و أمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك و اعترفوا بالقصور. و قد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة هود، الآية: ٤٤] أخذتهم الدهشة و التحير و أمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد و الأشعار.
و ربما يقال: إنّ البلاغة و الفصاحة كالجمال و الملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.
و لكنه فاسد أولا: بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة و البلاغة من غريزته، و مع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم و أعظم. و ثانيا: إنّها و إن كانت من الغرائز في الجملة و لكن للاختيار في أصلها و سائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.

قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء، الآية: 82] و في سياقه آيات كثيرة تدل على أنه محفوظ و انه في كتاب مكنون. لم يسلم كتاب من وجود الاختلاف فيه فربما يكون واضحا و قد يكون خفيا لا يدركه إلّا من كان له حظ من العلم إلّا أن القرآن الكريم سلم من وجود الاختلاف فيه و الآيات الشريفة تشير إلى برهان قويم و هو أنه قد ثبت بالأدلة العقلية و النقلية أن اللّه تعالى واحد ذاتا و صفة و فعلا فالوحدة الحقة الحقيقية تامة بالنسبة إليه عزّ و جل، و كلامه واحد من عند واحد لأن عالم المعنى و الحقيقة لا تكثر فيه و التكثر إنما يكون في المضاف إليه دون المضاف، بل لا تكثر في ذات الإضافة أيضا و قد يقرب ذلك بالتمثيل بالشمس في مرتبة الإشراق و الإشعاع فيكون المستشرق متعددا لا الإشراق الفعلي الإضافي. فالاختلاف في عالم الحقيقة- و لا سيما الحقيقة الحقة الواقعية- خلف، لفرض الوحدة في جميع جهاته، و كلامه عزّ و جل من فعله و فعله واحد كوحدة ذاته، إذ لا حول و لا قوة إلّا باللّه العظيم كما اثبتوا ذلك بالبراهين العقلية.
هذا مضافا إلى أنّ كلامه نزل على الفطرة المستقيمة و الفطرة واحدة، فالقرآن واحد لا اختلاف فيه، هذا بالنسبة إليه عزّ و جل. و أما بالنسبة إلى غيره فليس فيه إلّا مثار الكثرة، و منشأ التغير و الاختلاف فيكون فرض الوحدة فيه خلفا.
ثم إنّه قد يعترض أحد بأنّ النسخ الواقع في القرآن، و ما أخذه جمع من متناقضات القرآن هو من الاختلاف فيه.
و لكن نجيب عنه: بأنّ النسخ ليس من الاختلاف بشي‏ء بل هو من شؤون جعل القانون و حدوده، لأنّ جعل القانون و تشريع الأحكام إنما يكون على طبق المصالح و المقتضيات و هي تختلف في نشأة الكون و الفساد، و ليس النسخ إلّا هذا، على ما يأتي تفصيله.
و أما أخذ المتناقضات فلأنّها إنّما كانت حسب و هم نفس الآخذين لها و إدراكهم الناقص و ليس من النقض الواقعي على القرآن، كما هو واضح، فإذا راجعنا ما ذكروه نرى أنّ ما يتخيلونه نقضا إما أن يكون بين عام و خاص، أو مطلق و مقيد، أو بين أمرين مختلفين زمانا أو مكانا و غير ذلك مما لا يعد من التناقض و الاختلاف. هذا بعض ما يتعلق بالتحدي و لو أردنا بيان التمام لطال الكلام، و يأتي جملة ما يتعلق به في الآيات المباركة المناسبة لها.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"