1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 228 الى 229

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)


الآيتان في بيان بعض أحكام الطلاق فإنّه لما ذكر سبحانه أنّ المولي من زوجته مكلّف بأحد أمرين: إمّا الفئة أو الطلاق عقّب عز و جل ذلك ببعض أحكام الطلاق و أقسامه، فذكر سبحانه عدة المطلقة و رجوع الزوج في العدة ثم قسم الطلاق إلى البائن و غيره خلافا لما كان عليه العرف السائد في الجاهلية في أمر الطلاق.
و تتضمن الآيات المباركة أصلا من أصول نظام الزوجية و الأحوال الشخصية في الإسلام بأحسن بيان و أجمع كلام، كما تتضمن قانونا من قوانين النظام الاجتماعي المشتمل على العدل و الإنصاف في جميع الأحوال.

228- قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
الطلاق معروف و هو بمعنى الفراق و السراح، و التخلية عن الوثاق، و في اصطلاح الشرع هو: الفراق بين الزوجين و التخلية عن وثاق الزوجية بشرائط خاصة.
و إنّما ذكر سبحانه المطلّقات لبيان تلبسهنّ بالطلاق المشروع و المراد من المطلّقات هنا بيان حكم صنف خاص منهنّ أي: خصوص المدخول بها، غير اليائسة و غير الحامل، لأنّ غير المدخول بها و اليائسة لا عدة لهما حتّى يجب عليهما التربص ثلاثة قروء. و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق- ٤].
و التربص: هو الانتظار و الإمساك. و يتربصن بأنفسهنّ أي: يمسكن بأنفسهنّ و يحبسنها عن الازدواج و التمكين و هو يفيد معنى الاعتداد.
و جملة (يتربصن) خبرية يراد بها الإنشاء لأنّها أبلغ في الطلب من غيرها كما هو مذكور في أصول الفقه.
و قروء جمع القرء و يجمع على الأقراء أيضا، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقعدي عن الصلاة أيام إقرائك» و مادة (قرء) تدل على الجمع و الاجتماع الذي يعقبه التحويل و التفرق، فتطلق على القراءة. و سمي القرآن‏ قرآنا لأجل أنّه جمع في حروفه.
و يطلق هذا اللفظ على نفس الحيض كما مرّ في قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما يطلق على حالة الانتقال من الحيض إلى الطهر بحسب الوضع كما عن جمع من اللغويين، و لا يطلق على نفس الطهر، لأنّ المرأة الطاهر التي لا ترى أثر الحيض لا يقال لها ذات قرء فهو من الأضداد.
و كيف كان فالمراد به في المقام الطهر لما ذكرنا و عليه إجماع الإمامية، و وردت فيه أحاديث كثيرة و به يقول المالكية و الشافعية و جمع كثير من الفقهاء.
و لكن عن الحنفية و الحنابلة و جمع آخرين أنّ القرء في الآية المباركة هو الحيض، لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دعي الصلاة أيام إقرائك» و بما روي عن عليّ (عليه السلام): «إنّ القرء هو الحيض».
و لكن المناقشة فيه ظاهرة لأنّ اللفظ المشترك إذا وقع في استعمال مقرونا بقرينة تدل على أحد معنييه لا يكون ذلك دليلا على أنّه كلّ ما استعمل فيه هذا المشترك- و لو بلا قرينة على التعيين- يكون المراد منه ما استعمل فيه مع القرينة، و هو خلاف المحاورات العرفية، و لا يقول به أحد في نظائر المقام.
و القرينة في الحديث المروي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أنّ المراد من الإقراء الحيض ظاهرة، و أما قول عليّ (عليه السلام) فهو- مضافا إلى كونه قاصرا سندا- إنّه معارض بغيره مما هو أقوى منه من جهات.
و دعوى: أنّه لو دار تكليف بين القصير و الطويل يكون الأول معلوما و الثاني مرفوعا لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع ما لا يعلمون» المتفق عليه بين الأمة غير صحيحة لوجود النص الخاص و البحث مذكور بالتفصيل في كتب الفقه.
و المعنى: إنّ المطلقات ينتظرن و يمسكن بأنفسهنّ عن قبول الزوج حتّى يرين ثلاثة أطهار.
قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ.
الأرحام جمع رحم، مثل كتف و الأكتاف. و الرحم في المرأة منشأ نمو النطفة و تربيتها، كما أنّ الأرض منشأ نمو البذرة و تربيتها و تسمّى القرابة رحما لانتهائهم إلى رحم واحد.
و ما خلقه اللّه في الرّحم أعم من الدم و الحمل و إن كان الأصل هو الدم لأنّه أهم مادة في تكوين الجنين، و يمكن اعتبار الأول كمادة و الثاني كصورة متبادلة استعدادية للأول، فلا فرق بين أخذ الموصول بمعنى الدم بما له من الأطوار، أو بمعنى الحمل بما له من المنشأ فالجميع واحد، و هذا مروي كما يأتي، فلا وجه لاختلاف المفسرين في ذلك.
و المعنى: لا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الحيض أو الحمل استعجالا للخروج من العدة و إضرارا بالزوج في رجوعه أو تطويلها لأجل أخذ النفقة و نحو ذلك.
و في تقييد ما في الأرحام بكونه مما خلقه اللّه للإعلام بأنّه عالم به و قادر على أن يفعل خلاف إرادتهنّ.
قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: إن كنّ مؤمنات باللّه الذي ينزل الأحكام لمصالح العباد و يفعل مقتضى الحكمة، و اليوم الآخر الذي يجازى فيه كلّ عامل، فلا يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ.
و في التقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر حث و ترغيب إلى مطاوعة الحكم، و لبيان أنّها من لوازم الإيمان بهما، فالكتمان ليس من فعل أهل الإيمان، و فيه من التوعيد الشديد و التهديد ما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
البعولة جمع البعل مثل الفحولة و الفحل: و هو الذكر من الزوجين سمي به لاستعلائه على المرأة، و لأجل ذلك استعمل هذا اللفظ في كلّ ما فيه هذا المعنى فسمي الصنم بعلا قال تعالى: أَ تَدْعُونَ بَعْلًا [الصّافات- ۱۲٥] أي ربا.
و البعال مباشرة النساء قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أيام العيد: «إنّها أيام أكل و بعال» و لعلّ الوجه في التعبير به دون غيره ليترتب عليه أحقية الزوج برد الزوجة المطلقة أو لإخراج غير المدخول بها.
و الضمير في بعولتهنّ يرجع إلى بعض المطلقات على سبيل الاستخدام هنّ الرجعيات دون جميع المطلقات.
و المعنى: إنّ بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى الزوجية في العدة إن قصد الإصلاح و المعاشرة بالمعروف في رجوعه أما إذا كان قصده الإضرار و المضارة و منعها من التزويج كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة- 231] فهو آثم.
و لفظ «أحق» أفعل التفضيل جي‏ء به تأكيدا لثبوت الحق للزوج في الرجوع في العدة فتكون الآية المباركة مثل قوله تعالى: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة- 13]، فالتعبير بصيغة أفعل التفضيل للمبالغة و الاهتمام لاستيناف الحياة الزوجية و إعادتها ما دامت في العدة و هذه الأحقية تتحقق برد الزوج لها و الرجوع بها إلى العصمة الأولى. و هذا الحكم مختص بالرجعيات فقط دون غيرها من المطلقات و ليس للمرأة حق المعارضة في ظرف العدة.
و إنّما ثبتت هذه الأحقية للزوج باعتبار كونه معاشرا لها قبل الطلاق و قد أفضى بعضهم إلى بعض، و في هذا التعبير تحريض للزوج على المراجعة.
قوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
تتضمن هذه الآية الشريفة أتقن القوانين المتكفّلة لأهم ما يناط به النظام الاجتماعي بالنسبة إلى الفرد و النوع بأحسن بيان و أعذب أسلوب و أجمع كلام.
تبتهج له النفوس، و تطمئن إليه القلوب و يشعر الإنسان عند سماعه بلذة العدل و الإنصاف في جميع الأحوال و يسعد الزوجان به في حياتهما الزوجية، و ترغب كلّ فتاة خلية بالزواج كرغبتها بلبس الحرير و الدّيباج.
و تتجلّى من هذه الكلمة أهمية النظام العائلي في الإسلام و هي تنص على مساواة الرجل مع المرأة في الحقوق و المماثلة في الوظائف إلا ما اختص‏ أحدهما بما ورد في الشريعة به و لا يمكن ابتغاء ما كتب في هذه الحياة المشتركة إلا باحترام كلّ واحد من الزوجين حقوق الآخر. و بقدر إتيان الوظائف تتم السعادة و الرخاء.
فالآية المباركة ميزان الحق و العدل في جميع الشؤون و الأحوال و بذلك امتاز الإسلام عن سائر الأديان الإلهية في شأن النساء و القوانين الوضعية التي لم تصل إلى ما تدعيه في مساواة النساء و احترامهنّ إلا بعد قرون عديدة و هي مع ذلك لم تبلغ إلى ما تريده بل جلبت الشقاء و الفساد لهنّ.
و المعنى: إنّ لهنّ من الحقوق فيما تعارف بين الناس على الرجال مثل ما للرجال عليهنّ.
و لم يذكر سبحانه و تعالى ما هو الثابت على كلّ واحد منهما و إنّما أوكله إلى ما تعارف عليه الناس ليشمل جميع ما يتعلّق بحسن المعاشرة و الخلق الحسن و ما ورد في الشرع و ما يحكم به العقل فإنّ جميع ذلك من المعروف.
و قد كرر سبحانه و تعالى هذا اللفظ في الآيات المتعلقة بالنكاح و الطلاق اثنتي عشرة مرة لبيان أنّ جميع ذلك من سنن الفطرة و شؤون المجتمع الإنساني و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و المجتمعات.
قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
الدرجة: المنزلة و المراد بها الفضل و التفوّق و القيام بالمصالح الشرعية.
و الإسلام مع أنّه سوّى بين النساء و الرجال قد أعطى للرجال درجة عليهنّ.
و قد بيّن سبحانه و تعالى تلك الدرجة في آية أخرى فقال عزّ شأنه: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء- ۳٤]، و إعطاء هذه الدرجة للرجال من الأمور الفطرية التي بنى الإسلام عليها أحكامه، فإنّ المجتمع يحتاج إلى من يعتمد عليه فيما يطرأ عليه من المخاطر و الاختلاف و من يحميه عنها و يقدر على تنفيذ ما يراه من المصلحة و الإنفاق عليه، و الحياة الزوجية لا تخرج عن هذه السنة بل احتياجها إلى الرجل أشد فهو الذي يتحمل الصعاب في تحصيل النفقة و المطالب بحماية المرأة و الأولاد، و لذا أمر الشارع المرأة بتنفيذ أوامره إلا ما حرّم حلالا أو حلّل حراما و إذا خرجت من هذه الطاعة تعتبر ناشزة فذاك موضوع آخر له أحكام خاصة تأتي في الآيات اللاحقة و من ذلك يعرف سر التعبير ب «الرجال» في المقام دون الأزواج، و فيه من الإشارة إلى وجه التفوق و المنزلة.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: و اللّه قويّ لا منازع له و لا معترض عليه. حكيم في أفعاله يفعل وفق المصلحة.
و فيه من التوعيد و التهديد للمعترض على أحكامه و المخالف لما أنزله اللّه تعالى ما لا يخفى.
قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
المرة من المرور بمعنى الاجتياز و المضي. و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردة و تثنية و جمعا، قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى‏ ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس- 12]، و قال تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة- 101]، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان- 72].
و المراد بها في المقام: التكرار و الوقوع مرة بعد أخرى.
و مادة (مسك) تأتى بمعنى التعلق و الحفظ و الاعتصام قال تعالى: وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج- ٦٥]، و قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف- ٤۳]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل- 79]، و قال تعالى: وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ [الأعراف- 170].
و المسك- بالفتح- الإهاب لأنّه يمسك البدن، و المسك- بفتحتين- الأسوار لاستمساكها باليد، و المسك- بالكسر- دم الغزال- و هو عطر مخصوص- سمّي به لمساك عطره و بقائه مدة كثيرة، و في الحديث: «لخلوق فم الصائم أحب عند اللّه من ريح المسك».
و مادة (سرح) تأتي بمعنى الإطلاق و الإرسال قال تعالى: وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب- ٤۹]، و قال تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ [النحل- 6].
و الطلاق إذا وقع مستجمعا للشرائط المعتبرة و كان طلاقا صحيحا يوجب ارتفاع الزوجية و انقطاع العلقة بين الزّوجين و زوال العصمة بينهما فلا ترجع تلك العلقة إلا بالرجوع إليها في العدة أو بعقد جديد بعد انقضائها فقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يدل على الأول. و قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يدل على الثاني. و على هذا فيكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة- 230]، بيانا للطلاق الثالث.
و قيل: إنّ الآية المباركة في مقام بيان الطلاق الرجعي و الطلاق البائن، فإنّ الأول هو الذي يجوز فيه الإمساك بالمعروف و الثاني هو التطليقة الثالثة، و يدل عليه التفريع في قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ‏
و حديث أبي رزين الأسدي أنّه سأل النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «سمعت اللّه تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتانِ. فأين الثالثة؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
و على هذا فيكون قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا تفصيليا بعد البيان الإجمالي. و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.
ثم إنّ تقييد الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان لبيان أنّ النكاح و المعاشرة و الطلاق إنّما هي أمور عرفية فطرية فلا يجوز أن يتأتّى منها الإضرار أو المنكر أو الانتقام، فالرد إلى الزوجية الذي يجوّزه الشرع المبين إنّما هو فيما إذا كان بقصد الالتثام و الأنس و سكون النفس الذي كتبه اللّه تعالى في الحياة الزوجية.
و كذا التسريح الذي شرّعه اللّه تعالى إنّما يكون معتبرا فيما إذا لم يكن عن انتقام و سخط بل لا بد أن يكون مما تعارف عليه الناس و حسن المعاملة و أداء النفقة و هذا هو المراد من قوله تعالى في الآية الشريفة فَإِمْساكٌ‏ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
و من ذلك يعرف أنّ في هذين القيدين كمال العناية و اللطف.
قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
بعد ما ذكر سبحانه و تعالى من أنّ التسريح لا بد أن يكون بإحسان حرّم في المقام أن يأخذ الزوج من الزوجة شيئا مما آتاها، فإنّه من الظلم و الغصب و هو خلاف الإحسان المأمور به، بل الإحسان إليهنّ أن يمتعهنّ بشي‏ء كما قال تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب- ٤۹]، ليكون قد تدارك بذلك ما فات عن المرأة من مزايا الحياة الزوجية.
و المراد من مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ هو المهر أو ما ملّكها إياه.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ.
أي: الوظائف المجعولة لهما. و الخوف توقع وقوع المحذور ظنا أو علما، كما أنّ الرجاء توقع المطلوب كذلك أي: أن لا يقيما أحكام اللّه تعالى فيخافا أن يقعا في المعصية بارتكاب المخالفة.
و المراد خوف الزوج و إنّما ذكر خوف الزوجة معه للاقتران بينهما في ذلك و تأكد تحقق الخوف و عدم كونه من مجرد دعواه فقط فجعل اللّه تعالى ذلك الحق لها إشفاقا عليها لعلّها ترجع عما يوجب الفرقة.
أو لبيان أنّ إقامة حق اللّه تعالى أهمّ من كلّ شي‏ء بالنسبة إلى كلّ واحد من الزوجين بل بالنسبة إلى كلّ أحد.
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
العدول من التثنية إلى الجمع إما لأجل الإرشاد إلى حسن الاجتماع في الإصلاح و السعي في ذلك.
أو لبيان أنّ المدار على الخوف أن يكون معلوما يعرفه العرف لا أن‏ يكون من مجرد التوهم و الوسوسة و نحو ذلك.
أو للإرشاد إلى أنّ ذلك من المصالح العامة فيطالب به المجتمع و الأمة فيلزمهم مراعاة حال الزوجين و مساعدتهما في هذه الحالة، و لأجل ذلك عدل عن الإضمار إلى التصريح فقال تعالى: أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فإذا خافا عدم إقامة حدود اللّه فلا جناح على المرأة أن تبذل شيئا و تجعله فداء لها من الزوج. كما لا جناح على الزوج أخذ ما افتدت به الزوجة فيتوافقان على الطلاق بالفدية و هذا هو طلاق الخلع و لا يدخل في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ لأنّ ذلك كان لأجل عدم رضاء الزوجة و الإضرار بها و أما في المقام فقد تراضيا على ذلك و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها.
أي: إنّ تلك الأحكام المتقدّمة من الحدود التي يلزم مراعاتها لتتم السعادة بين الزوجين، و يرتفع التنافر و الظلم و يسود العدل و الإنصاف. و هذه الأحكام كما أنّها تشتمل على فروع فقهية تشتمل أيضا على أصول المعارف و الأخلاق الفاضلة.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: و من يتجاوز أحكام اللّه بأن يخالفها و لا يهتم بمراعاتها فإنّ في ذلك إماتة للدين و هدما للسعادة و تخريبا للعمران و إبطالا لما أراده اللّه تعالى في إنزال الأحكام من المصالح.

قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ جملة خبرية في مقام الإنشاء و مثل هذا التعبير مألوف في القرآن الكريم، و إنّما يستعمل في مقام التأكيد و الاهتمام بالمراد.
و هو أبلغ من الإنشاء في الطلب و الإيجاب، لظهوره في وقوع المطلوب حتّى صار من شؤون المطلوب منه و ليس في صيغة الأمر ما يفيد ذلك.
و في كلمة بِأَنْفُسِهِنَّ من البلاغة و الإبداع ما لا يخفى، فإنّها بإيجازها تشتمل على معان دقيقة بالإشارة و التلويح فإنّ فيها ترك التصريح إلى ما تتشوق النساء إليه و الاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، و عدم إيئاسهنّ مع اجتناب إخجالهن و توقي تنفيرهنّ أو التنفير منهنّ فإنّ الكلام في المطلّقات و هنّ معرّضات للزواج و خلوهنّ عن الأزواج و لا بد من ضبط النفس و منعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة.
و لو لا هذه الكلمة لما أفادت الجملة تلك اللطائف الدقيقة. و لا يبلغ إلى هذا الإعجاز سواه تبارك و تعالى.
مضافا إلى اشتمال الجملة على وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم‏ و هو التحفظ عن اختلاط المياه و فساد الأنساب.
و التاء في بُعُولَتُهُنَّ زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة و هو شاذ لا يقاس عليه و يعتبر فيه السماع.
و قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ منصوب على أنّه مفعول به على تقدير مضيّ ثلاثة قروء، و على أنّه مفعول فيه على تقدير مدة ثلاثة قروء.
و إنّما ذكر العدد مؤنثا «ثلاثة» باعتبار لفظ القرء المذكور سواء أريد به الطهر أو الحيض.
و القرء من الأضداد و يصح أن نقول: إنّه إذا كانت حقيقة واحدة ذات حالات مختلفة يصح وضع ألفاظ متعدّدة باعتبار تلك الحالات، فدم الحيض حقيقة نوعية واحدة من حالاتها الاستعداد في عروق الرحم و الجريان منه، فتسمّى حيضا باعتبار الجمع و الجريان أو هما معا، و من حالاتها تبادلها مع الطهر و الانتهاء إليه أو البدء منه فتسمّى قرءا، و باعتبار الافتضاض فتسمى طمثا قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن- ٥٦]، و بانبساط الرحم تسمى ضحكا كما في قوله تعالى:- إن أريد به الحيض- وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود- 71]. أي: حاضت. و أما إذا أريد منه التعجب بقرينة قوله تعالى: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود- 73]، فلا ربط له بالمقام. و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و لغة العرب.
و لنا أن نجعل المقام من متحد المعنى و تلك الحالات من دواعي الاستعمال لا من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه و هذا هو المتيقّن و الأخيران مشكوكان و إثباتهما يحتاج إلى دليل و هو مفقود.
و في قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ نوع من الاستخدام الذي هو من المحسنات الكلامية و هو عبارة عن أن تكون الكلمة لها معنيان فيذكر أحدهما ثم يراد بالضمير الراجع إليها معناه الآخر.
ففي المقام يراد من المطلّقات العموم- الأعم من البائن و الرجعي- و من الضمير الراجع إليها قسم خاص منها. و هو من الأساليب المعهودة في كلام العرب و وارد في القرآن الكريم كثيرا.
و اختصاص الضمير بالبعض لا فرق فيه بين أن يكون لقرينة داخلية كما قيل في المقام من أنّ الأحقية إنّما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، أو لأجل أخبار خاصة أو نحو ذلك فالضمير في جميع الحالات يرجع إلى بعض المطلّقات دون العموم.
و إنّما جي‏ء بلفظ (إن) في قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً لذكر الحالة التي يتحقق بها الرد و إرادته كما في قوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور- 33].
ثم إنّ قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ التفات عن خطاب الجمع الوارد في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ و قوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها إلى خطاب المفرد بقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ثم إلى الجمع بقوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها ثم إلى المفرد في قوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ كلّ ذلك لتنبيه المخاطب و رفع الكسل في الإصغاء و تتشيط الذهن ليستعد لسماع الحكم من غير ملل.
و في قوله تعالى: أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التفات من الخطاب إلى الغيبة تكريما و استبعادا للمخاطب عن الوقوع في المخالفة و عدم إقامة حدود اللّه.

تدل الآيات الشريفة على أمور:
الأول: يدل قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ على وجوب الاعتداد على المطلّقة و وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم و إن كانت الحكمة لا تطّرد و لا تنعكس.
الثاني: تدل جملة يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ على أنّ الأمر الذي لا بد منه في مدة التربص هو حفظ النساء أنفسهنّ فيمسكنها عما تقتضيه طبائعهنّ من الطموح إلى الزّواج.
و فيها دلالة على وجوب أن لا يخرجن من رعاية الزوج و حيطته.
و هذه الجملة من روائع الأسلوب في الدّلالة و الفصاحة بإيجاز كما ذكرنا.
الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ بالملازمة على اعتبار قولهنّ إذا أخبرن بما في أرحامهنّ من الحيض، و الطهر، و الحمل.
و لعلّ‏ ما ورد في الأحاديث: «إنّ اللّه فوض إلى النساء ثلاثة أشياء: الحيض، و الطهر، و الحمل» مستفاد من هذه الآية الشريفة.
و قد سيق ذلك مساق القاعدة الكلية، و أجمع الفقهاء على اعتبار قولهنّ‏ في هذه الثلاثة ما لم يعلم الكذب و هو موافق للقاعدة النظامية المذكورة في الفقه من أنّ «كلّ من استولى على شي‏ء فقوله معتبر فيما استولى عليه» و لهذه القاعدة موارد كثيرة في فقه المسلمين.
الرابع: قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يدل على أنّ الحكم و هو وجوب حفظ أنفسهنّ في العدة و حرمة كتمانهنّ لما في الأرحام من لوازم الإيمان فلا استغناء عنه و فيه الزجر الشديد.
و يستفاد منه الردع الأكيد عن عادة كانت متبعة بينهنّ قبل نزول الآية الشريفة و أنّها مخالفة للإيمان.
الخامس: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على كمال عطفه و شدة اهتمامه عزّ و جل ببقاء العصمة الأولى حيث عبّر تعالى. «بردهن» دون غيره، فجعل للزوج حق الرد باعتبار الحالة التي قبل الطلاق فكأنّها لم تقطع، و لا حق للمرأة في المعارضة و لا منافاة في ذلك مع القول بأنّ للزوج حق في المطلقة و لسائر الخطاب حق أيضا و لكن الرد لا يتحقق إلا مع الزوج الأول في العدة.
و يستفاد من هذه الآية الشريفة رجحان المراجعة و حسنها، و يدل عليه العدول عن التعبير بالزوج إلى البعولة لإخراج غير المدخول بها و للترغيب في المراجعة و تذكر الحالة السابقة و العصمة الأولى.
السادس: يستفاد من تعقيب الآية المتقدمة بقوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أنّ رد الرجل امرأته إلى حبالته و عصمته على ما يريده اللّه تعالى إنّما يتحقق بإرادة الإصلاح و هي القيام بحقوقها و يلازم ذلك قيام المرأة بحقوق الزّوج فذكر سبحانه و تعالى حقّ كلّ واحد منهما على الآخر و أجمل في ذلك بعبارة فصيحة و هي بإيجازها تشتمل على جميع ما ينبغي ذكره في هذه الحالة ثم أرجع ذلك إلى العرف المتداول في كلّ مجتمع.
السابع: يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات المباركة- فقد ذكر فيها اثنتا عشر مرّة- حجية العرف كما عليه المحققون من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم).
الثامن: إنّما ذكر سبحانه و تعالى لفظ الرجال في قوله: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ للإشارة إلى وجه التفوق و أنّه كمال الرجولية و فضل قيامه بأمورها و رعايتها كما فسرت هذه الدرجة في آية أخرى على ما ذكرنا في التفسير فراجع.
التاسع: يدل قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ على مرجوحية الطلاق و الفرقة يعني: أنّ أصل الطلاق مرجوح و لو أريد العمل بهذا المرجوح فمرّتان و الا فسيرى أثر عمله في الدنيا و الآخرة التي تظهر فيها منويات العبد فإنّها عالم الظهور و الشهود، و قد ذكر العلماء آثارا خطيرة على الطلاق حيث إنّه يوجب فساد الأخلاق بين الزوجين، و سوء تربية الأولاد و يوجب الأمراض النفسية إلى غير ذلك، فهذا الأمر من الأمور التي تترتب عليه آثار كثيرة و متعددة الجوانب منها الصحية و الأخلاقية و التربوية الفردية و الاجتماعية، و لذا لا بد من تقييده بقيود توجب الإقلال منه و حصره في موارد كما سنذكرها في بحث آخر.
العاشر: أنّ قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يلهم الزوجين بأعذب أسلوب و ألطف بيان و بعناية خاصة نبذ الفرقة و الاختلاف و يلقي بينهما الايتلاف و الانس و سكون النفس الذي جعله اللّه تعالى بين الرجل و المرأة، و لذا اعتبر أن يكون الإمساك بمعروف و ألغى الإمساك الواقع عن مضارّة و إضرار و هكذا التسريح.
الحادي عشر: إنّما قيّد سبحانه و تعالى الإمساك بمعروف، لنفي الإمساك المضار كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة- 231]، و قيد التسريح بالإحسان ليترتب عليه قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً لأنّه قد ينافي أخذ شي‏ء من المرأة العرف الدائر بين الناس، و لأنّ من الإحسان هو أداء النفقة و الإسكان و حسن المعاشرة حتى تنقضي العدة و هذه مزية في الإحسان لم تكن في المعروف، و لذا اختلف القيد في الموردين.
الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أنّه لا بد من كراهة الزوجة لأنّ الافتداء إنّما يستعمل فيما إذا كان إكراه أو أسر في البين و هذه الكراهة و النفرة هي التي توجب الخوف بأن لا يقيما حدود اللّه. و هذا هو طلاق الخلع الذي هو قسم من الطلاق و تجري عليه نفس الأحكام التي تترتب على مطلق الطلاق إلا ما استثني.

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة في قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال (عليه السلام):
«الأقراء: هي الأطهار».
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ عن زرارة قال: «سمعت ربيعة الرأي يقول: إنّ من رأيي أنّ الأقراء التي سمى اللّه تعالى في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليس بالحيض قال: فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال (عليه السلام): كذب و لم يقل برأيه إنّما بلغه عن عليّ (عليه السلام) فقلت: أصلحك اللّه أ كان عليّ (عليه السلام) يقول ذلك؟! قال: نعم، كان يقول: إنّما القرء: الطهر، تقرأ بما فيه الدم فيجمعه فإذا حاضت قذفته قلت: أصلحك اللّه رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج- الحديث».
أقول: الروايات في كون القرء هو الطهر كثيرة و هو المشهور بين الفقهاء.
و قول أبي جعفر (عليه السلام): «نعم كان يقول: إنّما القرء الطهر» رد على‏ ما نسب إلى عليّ (عليه السلام) من أنّه يقول إنّ القرء: هو الحيض.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «لا يحل للمرأة أن تكتم حملها أو حيضها، أو طهرها و قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر، و الحيض، و الحبل».
أقول: ما ذكر في الحديث بيان لإطلاق ما ورد في الآية الشريفة و تقدم سابقا ما يتعلّق بذلك.
و في المجمع عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «الحيض و الحبل».
أقول: ليس ذلك في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.
و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الآية المباركة: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت و هي حبلى، و الزوج لا يعلم بالحمل فلا يحلّ لها أن تكتم حملها و هو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع».
أقول: مرّ في الرواية السابقة أنّها ليست في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال (عليه السلام): «حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال».
أقول: إنّ الفضيلة لا تنافي أصل التساوي في الجملة.
و في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قال (عليه السلام): «التطليقة الثالثة التسريح بإحسان».
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ‏ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».
و في الفقيه عن الحسن بن فضال قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أذن في الطلاق مرّتين فقال عزّ و جل: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يعني في التطليقة الثالثة و لدخوله فيما كره اللّه عزّ و جل من الطلاق الثالث حرّمها عليه فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق و لا يضاروا النساء».
أقول: لا ريب في أنّ التطليقة الثالثة من التسريح بإحسان لعدم تحقق التلاعب و الاستخفاف بالمرأة في طلاقها.
و أما أنّ هذه الآية الشريفة تدل على وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد أو في مجلس واحد ففيه منع و مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على خلاف ذلك و قد حرّرنا الكلام في الفقه فمن شاء فليراجع (مهذب الأحكام).
في أسباب النزول عن عروة عن أبيه: «كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له و إن طلّقها الف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها، و قال: و اللّه لا آويك إليّ و لا تحلّين أبدا، فأنزل اللّه عزّ و جل: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ عن الصادق (عليه السلام) قال: «الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها: «لا ابرّ لك قسما و لأخرجنّ بغير إذنك، و لأوطئنّ فراشك غيرك، و لا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها و كلّ ما قدر عليه مما تعطيه من مالها فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على‏ طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، و هو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوّجته نفسها و إن شاءت لم تفعل فإن تزوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين و ينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإن ارتجعت في شي‏ء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، و قال (عليه السلام): لا خلع و لا مباراة و لا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، و المختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلّقها يحلّ للأول أن يتزوّج بها و قال: لا رجعة للزوج على المختلعة و لا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها».
أقول: قد حرّرنا تفصيل طلاق الخلع في الفقه فمن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).
و في الفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا قالت المرأة لزوجها جملة لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حلّ له ما يأخذ منها و ليس له عليها رجعة».
أقول: المراد بالمفسرة التصريح بالمقصود جملة و غير المفسرة الكناية و غيرها.
في الدر المنثور أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة قال: «كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته و كان رجلا دميما فجاءت و قالت يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إنّي لا أراه فلو لا مخافة اللّه لبزقت في وجهه، فقال لها: أ تردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته و فرق بينهما فكان ذلك أول خلع في الإسلام».
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تبارك و تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها فقال: إنّ اللّه غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى اللّه منه بري‏ء فذلك قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها.
أقول: يريد (عليه السلام) بذلك الوقوف عند ما عينه اللّه تعالى في أحكامه المقدسة وضعية كانت أو غيرها فكلّ من تعدّى عنها فقد تعدّى عن حدّه تعالى و الشرع منه بري‏ء.

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الشرعية الفقهية التالية:
الأول: يدل قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أنّ مدة العدة ثلاثة أطهار كما هو الحق و عليه جمع كثير من الجمهور- منهم المالكية و الشافعية و في الدر المنثور عن ابن شهاب أنّه قال: «سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا و هو يقول هذا أي أنّ القرء بمعنى الطهر» فيكفي في الطهر الأول مسماه و لو لحظة فلو طلقها و قد بقيت من الطهر لحظة يحسب ذلك طهرا واحدا، فإذا رأت طهرين آخرين بينهما حيضة واحدة انقضت أيام التربص (العدة).
و إذا كان المراد من القرء الحيض فإنّ أقل الحيض ثلاثة أيام و لا يكون أقل منها، و أكثره عشرة أيام لا يكون أكثر منها، و أقل الطهر عشرة أيام لا يكون أقل منها و أكثره لا حدّ له و التفصيل يطلب من (مهذب الأحكام) أحكام العدد.
الثاني: إنّ المراد من قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ هو الصنف الخاص منهنّ، أي: المدخول بها و غير اليائسة، و غيرهما لا تشملهنّ الآية الشريفة فإنّ غير المدخول بها لا عدّة لها حتى يجب عليها التربص ثلاثة قروء.
و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق- ٤].
الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ على قبول قولهنّ في إخبارهنّ بما في أرحامهنّ من الحمل، و الحيض، و الطهر. و لا يختص الحكم بخصوص الحمل كما ذكره بعض الفقهاء لأنّ هذا الزجر الشديد يناسب أن يكون على كتمان الحمل و لكن إطلاق اللفظ يشمل جميع ما ذكر.
الرابع: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أنّ الزوج إذا طلب الرجوع لا حق للمرأة في معارضة البعل في ردها.
الخامس: يستفاد من قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أنّ طبيعي الطلاق على نوعين نوع يجوز للزّوج المراجعة في العدة ورد الزوجة إلى العصمة الأولى، و النوع الآخر لا يجوز للزوج رد الزوجة حتى تنقضي العدة فلا بد من عقد جديد حينئذ.
السادس: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً عدم جواز استرداد المهر من الزوجة لأنّها تملك صداقها بمجرد العقد الصحيح الجامع للشرائط و إن استقرت ملكية التمام بالدخول.
و بالجملة: إنّ التصرف في صداقها بدون رضاها يكون تصرفا في حق الغير بدون الإذن و هو حرام بالأدلة الأربعة كما قرّرناه في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و أما مع الرضا و طيب النفس فلا بأس به لكونه حلالا كما في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء- ٤].
السابع: يدل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ على مشروعية طلاق الخلع و يفترق عن غيره من أقسام الطلاق بأنّ الأول إنّما يشرع إذا كان نفرة من الزوجة للزوج و بذلها الفداء عوضا عن الطلاق، و يدل على كلا الأمرين قوله تعالى: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ و يصح الفداء بكلّ ما يتموّل قليلا كان أو كثيرا، كان بقدر المهر أو أنقص أو أزيد.
و طلاق الخلع بائن لا يصح فيه الرجوع من الزوج ما لم ترجع المرأة فيما بذلت، و لها الرجوع في الفدية ما دامت في العدة فإذا رجعت كان له الرجوع.
و لو طلّقها مع عدم الكراهة و كون الأخلاق ملتئمة لم يملك العوض و حرم عليه التصرف و لكن يصح أصل الطلاق و إن بطل الخلع.
الثامن: لا بد في الكراهة الموجبة لجواز الخلع من الزوجة أن تكون بحيث يخاف منها الوقوع في المعصية، و عدم إقامة حدود اللّه و هي أحكامه المقدسة.

الآيات المباركة المتقدمة تدل على مشروعية الطلاق في الإسلام و هي من جملة المؤاخذات التي أخذها أعداء الإسلام عليه باعتبار أنّ الطلاق تفريق بين الزوجين و إلغاء العصمة بينهما.
و الزواج حاجة إنسانية شرّعه اللّه تعالى لمصلحة الفرد و المجتمع، و بقاء النوع الإنساني كما قلنا ذلك سابقا.
و الطلاق إبطال لهذه المصلحة فإنّه سبب للفراق الذي هو مبغوض لكل ذي شعور و هو يجلب جملة من المفاسد التي هي أساس كلّ محظور، و لذا حرمته بعض الشرائع السماوية كشريعة عيسى (عليه السلام) و بعض القوانين الوضعية.
و الجواب عن ذلك: أنّ الإسلام دين الرحمة و الألفة و التعاطف، و قد حث على الاجتماع و التواصل و الاتحاد بين الأفراد و حرّم كلّ ما يوجب الفرقة و الاختلاف، و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة المقدسة، و من مظاهر ذلك: الزواج، فإنّه حرض عليه في مواضع متعددة من القرآن الكريم بأساليب مختلفة قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [الروم- 21]، و يستفاد منه كمال العناية بهذه الحياة التي جعلها سبحانه حياة سكن و راحة و فيها المودة و الرحمة التي‏ هي سبب السعادة في الحياة.
و اهتم الإسلام بجميع جوانب هذه الحياة و بيّن كلّ ما يرتبط بسعادتها و شقاوتها شرحا وافيا قلّما يوجد في أمر من الأمور مثل ذلك و من مجموع ما ورد في ذلك يستفاد أنّ الزواج هو المحبوب لدى الشارع الأقدس و الطلاق مرغوب عنه فإنّه حاجة موقتة يرجع إليه فيما إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهدّد كيانها و هذا مما أكد عليه الإسلام في مواضع متعددة من القرآن الكريم و السنة الشريفة ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطلاق» و في حديث آخر: «أبغض الأشياء إلى اللّه تعالى الطلاق».
و يمكن استفادة ما ذكرناه من أمور:
الأول: أنّه لم يرد في القرآن الكريم الأمر بالطلاق بخلاف الزواج و المعاشرة الزوجية قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء- 3] و قال تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [النور- 32]، فقد حث عليه الإسلام بأساليب مختلفة كما ذكرنا و هو يكشف عن أنّ الطلاق أمر ثانوي يرجع إليه في حالات خاصة.
الثاني: أنّ الإسلام جعل أمر الطلاق بيد شخص واحد و هو الزوج و تحت سلطته الخاصة ففي الحديث المتواتر بين المسلمين «الطلاق بيد من أخذ بالساق» بخلاف الزواج فإنّ لكلّ واحد من الطرفين السلطة فيه. و هذا هو تحديد آخر في الطلاق يخرجه عن تلاعب الأهواء و العواطف و يبعده عن النزوات الشخصية.
الثالث: أنّه جعل في الطلاق حدودا و قيودا لم يكن مثلها في الزواج مما يقلل أفراده في الخارج.
الرابع: يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الطلاق في هذه السورة و غيرها أنّ الطلاق آخر ما يمكن الرجوع إليه، فقد جعل سبحانه و تعالى لحلّ‏ ما يطرأ من المشكلات على الحياة الزوجية طرقا متعددة منها الرجوع إلى العرف، أو التحكيم، أو أهل الزوجين، أو الهجر في المضاجع، أو الضرب بحدود و قيود و غير ذلك، فلو كان الطلاق هو الحل الوحيد في نظر الإسلام لما كان لهذه الطرق المختلفة وجه معتبر فهو آخر الطرق و مع ذلك هو أبغض الحلال إلى اللّه تعالى.
و هو الطريق الأمثل لحل المشكلات إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهددها، فإنّ الحل الذي يمكن تصوره في هذه الحالة إما وجوب التحفظ على الحياة الزوجية مهما بلغ الأمر و لو رجع إلى الفرقة إلى آخر عمر الزوجين كما يقول به بعض مذاهب النصارى. و هذا تعطيل لحقوق الأفراد و تحديد في حريتهما من دون مبرّر و إبقاء للمشكلات من دون حلّ لها. مع أنّه يرجع إلى الفرقة العملية بينهما و هو من أعقد المشاكل و أصعبها.
و إما الرجوع إلى قطع العلاقة بين الزوجين بعد استنفاذ جميع الحلول الملائمة فتنتهي الحياة الزوجية بالطلاق و التفرقة بين الزوجين لئلا يقعا في الحرام و تخرج الحياة الزوجية عن الكمال المطلوب منها فتجلب الشقاء للزوجين و الأولاد و هذا أمر لا يرتضيه أحد، فالطلاق هو آخر ما يتصوّر في حلّ المشكلات و إرجاع كلّ واحد من الزوجين إلى حياته الخاصة.
و من ذلك يعلم: أنّ الطلاق إنّما يصح إذا استجمع جميع الشروط المقررة في الشرع و منها أن لا يكون اقتراحيا من قبل الزوج من دون أيّ موجب مع كمال الملائمة بين الزوجين فإنّ صحة مثل هذا الطلاق موضع بحث لدى الفقهاء.

تقدم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته و هو أمر مبغوض عند الخالق و المخلوق. و هناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية و أهم طرق السّير و السلوك إلى اللّه تعالى و تتجلّى أهميته في اجتماع التخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل، و التجلية بصفات الباري عزّ و جل فيه، و هو طلاق الدنيا و ما سوى اللّه جلّت عظمته و هو أيضا مرتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و إنّ له درجات:
الأولى: ما إذا كانت الدنيا سببا للانغمار في عالم الغرور و حجابا عن عالم النور. فترتع النفس في الجهالات و الظلمات فلا يفيدها منع مانع و لا ترتدع بأيّ رادع. و طلاق مثل هذه الحالة واجب على كلّ نفس تريد الاستكمال و الترفع عن دار الوهم و الخيال و الارتقاء إلى عالم الحقائق التي لم تزل و لا تزال.
الثانية: ما إذا أمسك نفسه عن الانغمار في عالم الغرور طلبا للاستكمال، فتشرق على النفس من عالم الأنوار فترفض الدنيا و ما يبعدها عن ساحة قدسه تعالى، و لا ريب في حسن هذا الطلاق بالشرائط المقرّرة في الشريعة المقدّسة و بعد ذلك تصل النوبة إلى الإمساك بالمعروف فيعمل بما يرتضيه الرّحمن و يرتقي بذلك إلى درجات الجنان.
الثالثة: و هي آخر المراتب و أعلاها و هي قطع العلاقة و الإضافة القلبية مطلقا عملا بما يقال: «إنّ التوحيد إسقاط الإضافات» و هذا هو التسريح بالإحسان.
و طلاق الدنيا في أيّ مرتبة حصل لا ينافي بقاء الدنيا تحت سلطته و إرادته كما في طلاق أولياء اللّه تعالى للدنيا فقد تمثلت الدنيا في صورة خارجية- و هي صورة أجمل النساء- لسيد الأنبياء في ليلة المعراج، و في صورة بثينة التي كانت أجمل نساء عصرها لعليّ (عليه السلام) فقال لها: «غرّي غيري لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها» فطلاق الدنيا بالشرائط المقرّرة في الشرع من أفضل الدّرجات و أعلى المقامات واجب عند المخلصين و الصدّيقين المتفانين في حبّ اللّه تعالى.
و هو أول منزل من منازل السّير إلى ربّ العالمين، و من جهة الاستقامة و البقاء عليه تجتمع فيه سائر المقامات من التخلية و التحلية و التجلية بل الفناء، و الثبات عليه ثبات في الرحمة الواسعة التي لم تزل و لا تزال و يشتد مقام التوحيد فيعبد اللّه جلّت عظمته حبّا له لا لشوق الوعد و لا خوف الوعيد.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"