1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 219 الى 220

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)


ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض الأحكام الشرعية و التكاليف الإلهية التي لها دخل عظيم في تنظيم حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية كما أنّ لها تأثيرا كبيرا في تهذيب النفوس و إصلاح الأخلاق، فقد حرّم الخمر و الميسر اللذين يجلبان الشقاء و الدمار، ثم بيّن عزّ و جل أنّ الإنسان لا بد له أن يطلب في حياته العفو في جميع شؤونه. و أخيرا أمرهم بإصلاح أمر اليتامى الذين هم جزء من المجتمع الإنساني و الاعتناء بهم و تنظيم شؤونهم و المخالطة معهم و جعلهم إخوانهم فلا بد من مراعاة الأخوة معهم.

219- قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ.
تقدم الكلام في جملة يَسْئَلُونَكَ. و نزيد هنا أنّ هذه الجملة ذكرت في ستة مواضع متواليات ثلاث منها مع حرف العطف، و ثلاثة أخرى مفصولة بدونه.
و لعلّ الوجه في ذلك أنّ التي مع العطف وقع السؤال فيها دفعة واحدة، و التي بدونه وقع السؤال فيها متفرّقا و في مجالس متعددة.
و مادة (خمر) تأتي بمعنى الستر، و سمي المسكر خمرا لأنّه يستر القوة العاقلة فلا تميّز بين الخير و الشر، و الحسن و القبيح. و منها الخمار لأنّه يستر رأس المرأة. و الخمرة هي السجادة الصغيرة سميت بذلك لأنّها تستر الوجه عن الأرض، و في الحديث «كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يسجد على الخمرة».
و خمرت الإناء إذا غطيت رأسها. و الخمر: كلّ مايع مسكر، و يتخذ من أغلب الفواكه، و يختلف في درجات السكر.
و الميسر: هو القمار مشتق من اليسر، و هو وجوب الشي‏ء لصاحبه أو من اليسر لسهولة اقتناء المال من غير مشقة، و يسمّى المقامر ياسرا. و أما كيفيته فإنّ له طرقا مختلفة في كلّ عصر بحسبه، و إن كان له عند العرب كيفية مشهورة.
و قد ذكر الخمر و الميسر في موارد متعددة من القرآن الكريم مقرونين بالشيطان و الإثم.
قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ.
الإثم و الأثام: هو العقاب، و ما يمنع عن الخير و الثواب، و لا يستعمل إلا فيما يوجب الشقاء و الحرمان، و يذهب السعادة و الإيمان.
و مادة (نفع) تأتي بمعنى ما يتوصل به إلى الخير، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و تستعمل في الدنيا و الآخرة قال تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [النحل- ٥]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة- 119]، و إن كان ما يتوصل به شرّا فهو ضرّ، قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً [الفرقان- 3]، و في العرف يستعمل النفع في المنافع المحرّمة أيضا، و كذا في اصطلاح الفقهاء، و هي ليست من الخير في شي‏ء إلا أن يراد بالخير مطلق المنفعة و الانتفاع، كما هو الظاهر. فتتطابق اللغة و العرف و الاصطلاح.
و التنكير في الآية إشارة إلى هوان النفع و مجهوليته.
و قد ذكر العلماء مضار الخمر و الميسر و منافعهما، و صنفوا في ذلك كتبا كثيرة، و قد أثبتت التجارب صدق ما قاله القرآن الكريم في شأنهما.
قوله تعالى: وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما.
المراد من النفع: ما يقصده الناس و إن كان خياليا وهميا. و الآية تبيّن واقعهما بما لهما من الآثار في الدّنيا و الآخرة، لاشتمالهما على ما يضرّ الفرد و المجتمع، بل تأثيرهما في معيشة الإنسان و نسله في الدنيا و سوء العاقبة في الآخرة، فإذا كان الأمر كذلك فيهما فلا بد للمؤمن أن يترك الإثم الكبير فيهما.
و إنّما وصف سبحانه الإثم بالكبر دون الكثرة، لبيان عظمة الإثم و العقاب حتّى كأنّ النفع في مقابله يكون معدوما، و لذا أفرده عزّ و جل و لم يقل من منافعهما، لأنّ العدد لا تأثير له في الكبر.
و لم يصف سبحانه الإثم بالكبر إلا في الخمر و الميسر. نعم، وصف الشرك بالعظيم، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً [النساء – ٤۸]، و لم يشك أحد في حرمة الشرك. و لعلّ ما ورد في السنة المستفيضة من جعل الخمر و الميسر من المعاصي الكبيرة مقتبس من هذه الآية الشريفة.
و من ذلك يعرف أنّ الآية الشريفة ظاهرة في التحريم، و لا ينبغي الشك في ذلك، و لو كان بضميمة قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف- 32]، فإنّ هذه الآية تدل على حرمة الإثم صريحا، و الخمر و الميسر من مصاديقه. و أما ما ذكره جمع من المفسرين من أنّ الآية لا تدل على حرمة الخمر صريحا، لأنّها تدل على أنّ فيهما الإثم و هو أعم من الحرمة، فلا يستفاد منها تشريع عام يطالب به جميع الأمة، و لذا كانت مورد اجتهاد الصحابة فترك الخمر بعضهم و لم يتركها آخرون، و كان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة- 93]. فإنّ فساده واضح، لأنّ الآية نص في أنّ في الخمر و الميسر إثما، و الإثم بمعنى العقاب كما يظهر من موارد استعمالاته، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً [النساء- ٤۸]، و مجرد مقابلته للنفع في المقام لا يدل على كونه بمعنى الضرر، كما عرفت، فصرف الآية بالاجتهاد إلى غير ما هي نص فيه اجتهاد في مقابل النص، يضاف إلى ذلك أنّ آية المائدة التي نزلت بعد هذه الآية تدل على توبيخ شديد لمن هتك الحكم و استعمل الخمر و لا يكون ذلك إلا فيما هو محرّم مؤكد في الشريعة قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة- 92- 93].
قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.
مادة- (نفق) تأتي بمعنى المضيّ و النفاذ أي المضيّ من محل إلى محل آخر، و النفاذ من موضع و الوجدان في موضع آخر، و هي كثيرة الاستعمال في‏ القرآن الكريم بالنسبة إلى اللّه تعالى، و بالنسبة إلى العباد و تنقسم إلى الواجب و غيره، كما تعم المال و غيره، كالأخلاق الفاضلة و نحوها.
و مادة (عفو) في جميع استعمالاتها الكثيرة تتضمن معنى السهولة سواء كانت خالقيا أو خلقيا، و لعلّ من أعذبها قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف- 199]، الذي هو مجمع الكمالات. و قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى- ٤۰]، و العفو من أسماء اللّه المقدّسة، لأن تدبير النظام الأحسن في الدنيا لا يتم إلا بذلك.
و المعنى: يسألونك عما يتعلّق بالإنفاق ذاتا و صفة، و صرفا، و مصرفا قل إنّه سهل عليكم، و منه الوسط لا الإفراط و لا التفريط و منه تقديم النّفس و ذوي القرابة، و منه نزاهة المنفق به عن الحرام و الشبهات، كما أن منه خلوص الإنفاق عن الرياء و المنة.
و من ذلك يعرف: أنّ جميع ما ذكره المفسرون من صغريات ما ذكرناه لا أن يكون من المعاني المتباينة، و كذا ما ورد في الأخبار على ما يأتي في البحث الروائي.
و ماذا من المبهمات، كما أثبته علماء الأدب تبعا للمحاورات، فيطلق على الذات، و الصّفات، و الحالات، و لا يختص بخصوص السؤال عن الذات لا سيّما بعد كون حسن الإنفاق بأصل الحال من الفطريات مع أنّ السائلين هم من العرب الذين تضرب بجود بعضهم الأمثال فيكون السؤال عن الجهات الخارجة عن الذات، و إنّما عبّر تعالى بهذا التعبير، لكونه أشمل و أجمع.
و قد كرر هذا السؤال في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ– الآية [البقرة- ۲۱٥]، و قد بيّن سبحانه فيه المصرف. و لعلّ الوجه في ذلك بيان أهمية الإنفاق و الإيثار على النفس، فإن له التأثير الكبير في النظام الاجتماعي، و التكافل بين الأفراد و الاتحاد بينهم لا سيّما إذا كانوا محتاجين قد داهمهم الفقر و الحاجة، فيظهر أثر الإنفاق في وحدتهم و تماسكهم و عزّتهم، و كان ذلك ظاهرا في بدء الدّعوة و أول الإسلام، و لأنّ الإنفاق يشوبه ما لا يرتضيه الرّب، و ما لا يليق بالإنفاق المحمود، فاقتضى ذلك تكراره و بيان الخصوصيات بكلمات جامعة تبيّن جميع جوانبه.
و في الآية روعة الأسلوب، و جمال في اللفظ و المعنى تؤثر في النفس فيرغب الإنسان عند سماعها إلى الإنفاق، و بذل المال، و اعتباره سهلا يسيرا و إن كان ما أنفق مالا كثيرا، و تحصل حالة انبساط للغني و الفقير، و الجواد و البخيل، و هي تدعو المنفق إلى إمعان النظر فيما ينفقه و المنفق عليه و أصل الإنفاق.
و سياق الآية مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج- 78]، و قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة- ۱۸٥].
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ.
الآيات جمع آية، و هي العلامة الظاهرة الملازمة لظهور شي‏ء آخر، فإذا أدركت الآية أدرك ذلك الشي‏ء أيضا. و بعبارة أخرى الآية دليل ظاهر لمدلول يظهر بها بعد إدراكها، كما هو شأن جميع العلل الإثباتية. و جميع ما في القرآن من الأحكام الإلهيّة و الآثار الوضعية علامات واضحة و أدلة قاطعة لمداليل تظهر بها بعد التأمل و التفكر. كما أنّ شعاع الشمس علامة لإثبات وجودها كذلك جميع الموجودات آيات كونية على وحدانية اللّه تعالى و حكمته و كماله.
و في كلّ شي‏ء له آية تدل على أنّه واحد و كتابه التشريعي مطابق لكتابه التكويني من هذه الجهة، فيكون جميع ما سواه من آيات جماله و جلاله و كبريائه، و العوالم في كتابه التكويني كسور القرآن في الكتاب التشريعي. و أما كتابه الأنفسي- أي الإنسان الكامل- الجامع بين كتابيه التكويني و التشريعي، ففيه من الآيات و الحكم ما لا يخفى.
و المعنى: بمثل هذا البيان و بهذا النحو من الحكمة يشرّع اللّه تعالى الأحكام و يبيّن الآيات التي تتعلّق بمصالح العباد و سعادتهم.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ.
الظرف- في الدنيا و الآخرة- متعلق بقوله تعالى: تَتَفَكَّرُونَ. أي أنّ غاية تشريع الأحكام، و الحكمة في جعلها أنّها تجعلكم تستعملون عقولكم و تتفكرون في أمر الدّنيا و الآخرة و شؤونهما، و تعملون ما فيه صلاحكم في الدّارين.
و الفكر: قوة مودعة في الإنسان توجب العلم بما يراد، و بها امتاز عن سائر المخلوقات، و التفكر إعمال تلك القوة، و قد ورد في الكتاب العزيز و السنة الشريفة الاهتمام الكبير بإعمال هذه القوة التي هي من أعظم و ودائع اللّه جلّ جلاله في هذا العالم،
ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة».
و سيأتي في الآيات المناسبة ما يتعلّق بذلك.
و في الآية حث للإنسان على البحث عن حقائق الموجودات و أسرار الطبيعة، و التفكر في أمور المبدأ و المعاد، و جميع ما هو مرتبط بمصالح الإنسان من حيث سعادته أو شقاوته و كشف المعارف و العلوم و ترغيب له في أن لا يأخذ شيئا إلا بعد التروّي و التفكر فيه.
ثم إنّه لم يرد في القرآن الكريم بالنسبة إلى الفكر المطلوب له تعالى إلا لفظ التفكر، و الغالب اقترانه بالآيات، و مثل هذا التأكيد لا ينبغي أن يكون مورده الزائل الفاني، و الحادث المتغيّر، بل يقصد القرآن من ذلك أن يستعمل الفكر فيما هو الأصلح و الأنفع للإنسان في الدنيا و الآخرة، و هو جميع العلوم و الأمور المرتبطة بالمبدأ و المعاد، فإنّ التفكر فيهما يدعو الإنسان إلى اختيار الطّريق المستقيم و ما هو سبب لنجاته من أهوال المعاد، كما يدعوه إلى اتباع رشده و الإيمان باللّه تعالى و ما أنزله على الأنبياء و المرسلين، و العمل بما هو الصّلاح له في الدّارين، و هذا هو التفكير الصحيح الذي تدعو إليه جميع‏ الكتب السّماوية و السنة الشريفة، و يأتي تفصيل هذا الإجمال بعد ذلك.
220- قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ.
الآية تتضمن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية، و هو الاهتمام بشؤون اليتامى، فأمر سبحانه بالإصلاح لهم في جميع شؤونهم فإنّه من الخير المحبوب لدى الجميع، فيشمل إصلاح نفوسهم بالتربية و الأدب، و إصلاح أموالهم بالتنمية و التكثير، و إصلاح المعاشرة معهم، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة فإنّها تشمل جميع أنحاء الإصلاح في النفوس و الأموال و الأحوال.
و التنكير فيها يدل على أنّ هذا الإصلاح لا بد أن يكون واقعيا لا مجرّد الإصلاح الظاهري الادعائي فقط، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
و سياق الآية المتضمنة لنوع من التسهيل في أمر اليتامى حيث إنّها أجازت مخالطة اليتامى، و ذكر سبحانه في ذيلها: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يكشف عن أنّ الحكم في أمر اليتامى كان شديدا، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء- 9]، و قوله تعالى: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء- 2]، و من ذلك يظهر أنّ هذه الآية نزلت بعد تلك الآيات، و هذا مما يؤكده بعض الروايات كما سيأتي في البحث الروائي.
قوله تعالى: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.
عناية أخرى بأمر اليتامى حيث أمر الناس بالمخالطة معهم، و اعتبرها كمخالطة الأخ لأخيه، و ليس من شأن الأخوة ابتعاد بعضهم عن البعض.
و الآية تشير إلى أهم ركن من أركان الاجتماع الذي به تتحقق المساواة بين الأفراد، و هو الأخوة بينهم فإنّها إن تحقّقت في أي اجتماع جلبت الخير و السعادة لهم و الإخلاص بين أفراده مع الصفاء و حسن النيّة، و تجعل الفرد يشعر بأنّه يسعى إلى مصلحة المجتمع و هذه هي الأخوة الحقيقية التي نادى‏ بها الإسلام في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات- 10]، و فيها تلغى الأنانية و ما يوجب فساد المجتمع من أنواع البغي و الظلم، كالاستعباد و الاستكبار و نحوهما، و بذلك تتحقق المعادلة بين جميع الأفراد و يعم الخير و السعادة بينهم.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
إعلام منه تعالى بأنّه لم يكل أمر اليتامى إلى الناس فقط بل جعل نفسه الأقدس مشرفا عليهم لعناية خاصة بهم، فقد بيّن عزّ و جل أنّه العالم بحقيقة الأمر و ما تضمره القلوب، و يميّز بين من قصد الإصلاح و من قصد الإفساد، فلا تفسدوا بالنسبة إلى اليتامى فإنّه يجازيكم على ذلك، و هذا من باب ذكر السبب و إرادة المسبب، و هذه الآية ترشد الناس إلى مراقبة النفس، و هي لا تتم إلا بمراقبة اللّه تعالى في الأعمال و النيات.
قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ.
مادة (عنت) تأتي بمعنى المشقة، و الهلاك، و الذلة، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة- 128]، و قال تعالى: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه- 111].
و المعنى: و لو شاء اللّه لأوقعكم في المشقة و الكلفة في أمر اليتامى و لكن ما جعل عليكم في الدّين من حرج، و هو يريد لعباده اليسر لا العسر، فلا يكلّفهم إلا بما يناسب حالهم فأباح مخالطتهم و المعاملة معهم معاملة الأخوة.
و هذه الآية تدل على أنّ في الحكم نوعا من التخفيف و التسهيل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي إنّ اللّه قويّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا راد لقضائه، حكيم في أفعاله يحكم وفق الحكمة، و يجري التكاليف على حكمة العدل و المصلحة.
و العزّة و الحكمة من صفات الذات و هي غير محدودة بحد أبدا، و هكذا الصفات الذاتية.

في تفسير العياشي عن عامر بن السمط عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: «الخمر من ستة أشياء: التمر، و الزبيب، و الحنطة، و الشعير، و العسل، و الذرة».
أقول: الخمر: ما يخمر العقل و يصح إطلاقها بهذا المعنى على كلّ ما له هذا الأثر، فيكون الحصر في الحديث إضافيا و قد تقدّم أنّ الخمر تؤخذ من أغلب الفواكه.
في الكافي عن الباقر (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه تعالى أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما و إنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين».
أقول: يستفاد منه أنّ تشريع القوانين إنّما هو بالتدرج و التأني بحسب مقتضيات الظروف و الاستعدادات. و أنّ الخمر حرام في جميع الأديان الإلهية بل حرمتها عقلية كما ذكرنا مرارا.
في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: «سأل المهدي أبا الحسن (عليه‏ السلام) عن الخمر قال: هل هي محرمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النّهي عنها و لا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرّمة في كتاب اللّه فقال: في أي موضع محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ يا أبا الحسن؟ فقال (عليه السلام): قول اللّه عزّ و جل: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فأما قوله ما ظَهَرَ مِنْها: يعني الزنا المعلن، و نصب الرايات التي كانت تعرفها الفواجر للفواحش في الجاهلية.
و أما قوله تعالى: وَ ما بَطَنَ. يعني: ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إذا كان للرجل زوجة و مات منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرّم اللّه عزّ و جل ذلك.
و أما الإثم فإنّها الخمر بعينها، و قد قال اللّه عزّ و جل في موضع آخر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فأما الإثم في كتاب اللّه عزّ و جل فهي الخمرة و الميسر و إثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى فقال المهدي: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشمية فقلت له: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال: فو اللّه ما صبر المهدي- الى أن قال لي-: صدقت يا رافضي».
أقول: هذه الرواية مطابقة لما قلناه.
و في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ الخمر رأس كل إثم».
أقول: يشهد له الاعتبار و العقل و كنيتها بأم الخبائث كما في النصوص.
و في الكافي أيضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمول إليه، و بايعها، و مشتريها، و آكل ثمنها».
و في الخصال قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر».
أقول: إطلاقه يشمل ما إذا كان الخمر بصورته المتعارفة أو في ضمن شي‏ء آخر.
و في الكافي عن إسماعيل قال: «أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إمام أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه ببعضكم فسأله فأتاه شاب منهم فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه السلام): شرب الخمر».
أقول: يمكن أن يكون المراد من قوله: «أكبر الكبائر» بالإضافة إلى سائر المحرّمات فإنّ الكبائر متفاوتة في الإثم و يستفاد من بعض الأخبار أنّ الشرك باللّه تعالى أكبر الكبائر فلا منافاة بين الرّوايات لأنّ الأكبرية من الأمور الإضافية شدّة و ضعفا و يأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.
و في الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما نزل قول اللّه عزّ و جل على رسوله (صلّى اللّه عليه و آله): إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): كل ما تقامر به حتى الكعاب و الجوز».
أقول: الميسر موضوع للحكم باعتبار معناه اللغوي، فيشمل مطلق القمار.
و في تفسير العياشي عن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) عن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فما المنفعة جعلت فداك؟ فكتب (عليه السلام): كل ما قومر به فهو الميسر، و كل مسكر حرام.
أقول: هذا إعراض عن تفصيل الجواب لمصلحة و تقدّم ما يدل على ذلك.
في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ قال (عليه السلام): «العفو: الكفاف».
و في رواية أخرى عن أبي بصير قال: «العفو القصد».
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «العفو ما فضل عن قوت السنة».
و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام)، «العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار».
أقول: كلّ ما ذكر من المعاني في العفو مطابق لما ذكرناه في التفسير و الروايات متقاربة في المعنى.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ عن ابن عباس: إنّ نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه أتوا النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقالوا: لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل اللّه تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ و كان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به و لا مالا يأكل حتّى يتصدّق عليه».
أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏- الآية- عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّه لما نزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أخرج كل من كان عنده يتيم، و سألوا رسول اللّه في إخراجهم فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ.
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «لما نزلت: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».
أقول: يستفاد من الحديث أنّهم زعموا أنّ التجنب عن الأيتام من حسن المعاشرة معهم فنهى اللّه عن ذلك و أمر بالإصلاح.
و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: «لما أنزل اللّه وَ لا تَقْرَبُوا مالَ‏ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏- الآية- انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشي‏ء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم».
أقول: الجسّ هو التتبع و مرّ ما يتعلق بالحديث.

يستفاد من الآيات الشريفة أحكام شرعية و هي:
الأول: يستفاد من قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ حرمة الخمر و الميسر بل الحرمة فيهما من ضروريات الدّين و لا ينكرها أحد، و الخمر لا تختص بصنف خاص، بل كل مسكر خمر و كلّ خمر حرام بإجماع أئمة الحقّ و المسلمين و نصوص سيد المرسلين و أئمة الدّين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و منه الفقاع فإنّه خمر استصغره الناس كما في الحديث.
كما أنّه لا يختص الميسر بصنف خاص من القمار بل يشمل كلّ ما يسمّى قمارا و إن لم يكن مثل ما كان شايعا في عصر التنزيل.
الثاني: يستفاد من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ محبوبية الإنفاق و الصّدقات مطلقا و لا يختص بخصوص قسم خاص من الإنفاق بل يشمل جميع أقسام الإنفاق من الواجب و المندوب و لكن للإنفاق مطلقا آدابا و شروطا مذكورة في كتب الفقه.
الثالث: إنّ حفظ اليتيم و مراعاته و القيام بشؤونه من التكاليف النظامية و قد يصير تكليفا عينيا لأجل أمور كما هو مفصّل في الفقه و قد اهتم الشرع بهذا الموضوع و ورد في فضله روايات كثيرة ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في‏ الجنة» و جمع بين إصبعيه السبابة و الوسطى، و يتضاعف الثواب لأجل عروض عناوين خاصة كما إذا انطبق عنوان القرابة و الرحمية كما يتضاعف إذا كان أنثى و نحو ذلك.
و اليتيم كل صبيّ انقطع عن أبيه و هو محجور عن التصرف في أمواله و يرتفع حجره إذا بلغ رشيدا و انقطع يتمه بعد بلوغه، لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في جوامع كلماته المباركة التي اختص بها: «لا يتم بعد احتلام، و لا رضاع بعد فطام».
و لا يجوز لأحد التصرّف في أموال اليتامى و نفوسهم إلا مع وجود المصلحة، و قيل يكفي عدم المفسدة، و قد ذكرنا التفصيل في الفقه في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).
الرابع: لا يختص اليتيم بمن علم انتسابه إلى أب معلوم مات بعد ولادة اليتيم، بل يشمل اللقيط في بلاد الإسلام و علم بموت والده و لو بالقرائن.
الخامس: يجوز للمتصدي لأمور اليتيم بالوجه الشرعي أن يأخذ أجرة مثل عمله من مال اليتيم إذا لم يقصد المجانية، لأصالة احترام العمل إلا ما خرج بالدّليل، و لو لم يكن لليتيم مال يجرى عليه من بيت المال، و المتصدّي لذلك الحاكم الشرعي أو من يكون مأذونا من قبله.
السادس: أطلق سبحانه إصلاح اليتامى و لم يقيّده بقيد و هو من الأمور العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، فالمناط كلّه عرف المتشرعة و لكن لا بد من الاهتمام بالتربية الدينية لهم لأنها أكبر إصلاح لهم و أهم، و من فقد العلم و الآداب فهو أشد يتما و إن كان في حياة والده و سيأتي في الآيات المناسبة ذكر بقية أحكام اليتامى.

من الأمور التي اهتم الإسلام بها و اعتنى بها اعتناء بليغا و شدّد النكير على ارتكابها. و نهى عنها بأساليب مختلفة و وصفها بأوصاف متعدّدة تنبئ عن أنّها من شرّ الرذائل و أخبث الأمور، الخمر و الميسر فقد ذكرهما في مواضع متعددة من القرآن الكريم و وصفهما بأنّهما من خطوات الشيطان الذي يريد أن يوقع بهما بين أفراد الإنسان العداوة و البغضاء، و أثبت فيهما الإثم الكبير، كما اعتبرهما من الرّجس الذي يجب الاجتناب عنه و أصرّ الإسلام على ذمهما و الاستهانة بهما ففي السنة الشريفة من ذلك الشي‏ء الكثير، و يكفي في خستهما أنّهما من أفعال أهل الجاهلية فقد كانا منتشرين قبل الإسلام، و نزل القرآن ينهى عنهما على سبيل التدرج، فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فذكر فيه الإثم و المنفعة و رجح الإثم عليها و كان ذلك كافيا في الرّدع ثم نزل قوله تعالى في الخمر: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ [النساء- ٤۳]، و أخيرا ورد الأمر بتركهما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة- 91].
و قد ذكر سبحانه كلمة جامعة تكشف عن جميع ما يتعلّق بهما و ما ينطوي فيهما من الأضرار و المخاطر، فقال عز و جل: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و إذا ألقي هذا الخطاب الكريم إلى‏ العاقل يستفيد أنّه تعالى نفى عنهما جميع المنافع لما أثبت الإثم الكبير فيهما، فإنّ المنافع إما دنيوية أو أخروية، و لا وجه لثبوت الأخيرة مع وجود الإثم الكبير بل لا يمكن اجتماعهما في مورد.
و أما المنافع الدنيوية فهي إنّما يرغب إليها الإنسان إذا جلبت له الخير أو دفعت عنه الضّرر و هما منفيان في الخمر و الميسر سوى ما يتخيل من المنفعة اليسيرة الوهمية و لا يقدم عليها عاقل. و من ذلك يستفاد أنّ الخمر و الميسر يخلوان من الخير مطلقا.
و قد تصدّى العلماء في مختلف العلوم لذكر أضرارهما و مفاسدهما الفردية و الاجتماعية، فذكر الأطباء تأثير الخمر على صحة الإنسان و ما تجلبه من الأسقام و الآلام، و اعتبر علماء النفس الخمر من أشد الأشياء تأثيرا على النفس لأنّها تسبب الأمراض النفسية التي تعاود صاحبها حتّى الممات، و قد بحث عنهما علماء الدّين من حيث تأثيرهما في سعادة الإنسان و شقاوته في الدنيا و الآخرة.
و أما أضرارهما الاقتصادية فهي غير خفية على أحد حتّى اعتبرهما علماء الاقتصاد من الأسباب التي تعيق الكمال الاقتصادي في المجتمعات و لا أظنّ أنّ موضوعا كان له هذه الأهمية و التأثير من جوانب متعددة في حياة الإنسان المادية و المعنوية و الصحية النفسية و العقلية الفردية و الاجتماعية، و لأجل ذلك‏
ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ الخمر رأس كلّ إثم».
و عن الباقر و الصّادق (عليهما السلام): «إنّ اللّه جعل المعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا و جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر»، و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ الخمر أم الخبائث و رأس كلّ شر».
و عن الباقر (عليه السلام): «أفاعيل الخمر تعلو على كلّ ذنب كما تعلو شجرتها على كلّ شجرة».
و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «إنّ اللّه جعل للشر أقفالا و جعل‏ مفاتيح تلك الأقفال الشراب».
و قد ألف العلماء في كلّ واحد من الخمر و الميسر كتبا مستقلة تشتمل على فوائد جليلة من شاء فليرجع إليها.
و تحريمهما لا يختص بهذه الشريعة بل حرّمتهما جميع الأديان الإلهية ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما، إنّ الدّين إنّما يحوّل من خصلة إلى أخرى، فلو كان ذلك جملة قطع بهم (بالناس) دون الدّين».
و نحن نتكلّم في هذا البحث عن الجانب الخلقي للخمر و تأثيرها في الصفات الخلقية للإنسان إجمالا.
من المعلوم أنّه لم يخلق اللّه جلّ جلاله خلقا أعزّ و أشرف لديه من العقل الذي جعله مدار إنسانية الإنسان، و به امتاز عن سائر المخلوقات و فاق به عليها، و هو مناط التكليف، و عليه يدور الثواب و العقاب، كما أنّ به يقوم الجزاء في يوم الحساب. و تدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية و النقلية فكلّ ما يضاد العقل و ينافيه، أو يسلبه و يعاديه يكون من أبغض الأشياء لدى اللّه و جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة أجمعين، و الخمر لا أثر لها إلا ذلك، فهي أم الخبائث كما كنّاها به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و قد لعن شاربها: فعن الصادق (عليه السلام): «من شرب جرعة من خمر لعنه اللّه و ملائكته و رسله و المؤمنون».
و من غير المعقول أن يرتكب عاقل ملتفت أم الخبائث، و ما يزيل النظم و الانتظام عما يصدر منه من أعمال جوارحيّة و أفكار جوانحيّة، فعدّ شرب الخمر من المقبّحات العقلية أولى من عدّه من المحرّمات الشرعية، مع أنّهما متلازمان كما ثبت في محلّه، و يدل على ذلك‏ قول الأئمة الهداة: «إنّ اللّه حرّم الخمر لفعلها و فسادها».
فمن الآثار الخلقية المترتبة على شرب الخمر: أنّها تسلب لبّ شاربها و تجعل زمام عقله بيد الأهواء و النفس الأمارة، فعن الصادق (عليه السلام): «السّكران زمامه بيد الشيطان إن أمره أن يسجد للأوثان سجد و ينقاد حيثما قاده».
و من الآثار أنها تذهب الإيمان، ففي الحديث عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «يا يونس أبلغ عطيّة عنّي أنّه من شرب الخمر حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، و ركّبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة».
و في حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أيضا قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): مدمن الخمر يلقى اللّه يوم يلقاه كافرا» و في كثير من الروايات: «أنّ مدمن الخمر يلقى اللّه كعابد وثن».
و من الآثار: أنّ الخمر تذهب بنور شاربها فتستولي على قلبه الحجب الظلمانية فلا يعرف ربّه فيكون في حيرة و ضلالة فيجسر على ارتكاب المحرّمات و تهون عليه المعاصي و الآثام، فعن ابن يسار عن الصادق (عليه السلام): «إنّ شارب الخمر يصير في حال لا يعرف معها ربّه».
و عن الصادقين (عليهما السلام): «ما عصي اللّه بشي‏ء أشدّ من شرب المسكر إنّ أحدهم يدع الصّلاة الفريضة و يثب على أمه و بنته و أخته و هو لا يعقل».
و في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قيل له: إنّك تزعم أنّ شرب الخمر أشدّ من الزنا و السرقة؟ قال (عليه السلام): نعم، إنّ صاحب الزنا لعلّه لا يعدو إلى غيره، و إنّ شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا، و سرق، و قتل النفس الّتي حرّم اللّه، و ترك الصلاة» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
و من الآثار: أنّها تورث الندامة و تأنيب الضمير، ففي الحديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «أنّه قال لأم خالد العبدية: لا تذوقي منه- النبيذ- قطرة، لا و اللّه لا آذن لك في قطرة منه، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك‏ هاهنا- و أومى بيده إلى منحره- يقولها ثلاثا».
و من الآثار: أنّه تجعل الإنسان مضطرب البال غير مستقرّ النفس تحدّثه نفسه بارتكاب الجناية، لم يكن للآخرين عنده منزلة و كرامة، فهو في عداوة دائمة مع غيره، قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ [المائدة- 91].
و من الآثار: أنّها توجب الصّد عن ذكر اللّه تعالى الذي هو أقوى رادع عن ارتكاب المعاصي، فلا يراقب اللّه في أقواله و أفعاله قال تعالى: وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائد- 91].
و من الآثار: أنّها تورث سوء العاقبة، فعن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «يجي‏ء مدمن الخمر المسكر يوم القيامة مزرقّة عيناه، مسودّا وجهه، مائلا شدقه، يسيل لعابه، مشدودا ناصيته إلى إبهام قدميه، خارجا يده من صلبه، فيفزع منه أهل الجمع إذا رأوه مقبلا إلى الحساب».
و عن الباقر (عليه السلام): «من شرب المسكر و مات و في جوفه منه شي‏ء لم يتب منه بعث من قبره مخبّلا مائلا شدقه، سائلا لعابه، يدعو بالويل و الثبور» إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على سنخية العقاب مع المعصية و تناسب الجزاء مع العمل كما هو واضح.
إلى غير ذلك من الآثار التي تترتب على شرب الخمر و يشترك الميسر في كثير من تلك الآثار و هي وجدانية يعرفها كلّ مرتكب لهذه المعصية فجدير بالإنسان أن يترك هذا الإثم الكبير كما وصفه الجليل في كتابه الكريم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"