1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 208 الى 212

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)


الآيات الشريفة تشتمل على مضامين عالية، و معارف إلهية، و أحكام اجتماعية. و هي ترشد الإنسان إلى اتباع الحق، و تحذره عن الباطل، و تبيّن له طريق السعادة، و ترغّبه إلى الإنسانية الكاملة، و تأمره بالابتعاد عما يوجب الانحراف عنها.
و الآية الأولى مع إيجازها تتضمّن جميع المعارف الإسلامية، و الكمالات الإنسانية المقرّرة في الشرايع السماوية. و تنهى عن اتباع جميع القبائح العقلية و الشرعية.
و اشتملت الآيات على كلّ ما يوجب تثبيت ما ورد فيها من الأحكام و المعارف من الوعد و الوعيد، و الاعتبار من أحوال الماضين. و مضامينها من‏ المستقلات العقلية التي تحكم بها فطرة العقول. و لأجل ذكر فرق الناس و أصنافهم و اختلاف أحوالهم في الآيات السابقة أمرهم سبحانه و تعالى بأحكام اجتماعية ترشدهم إلى نبذ الاختلاف، و التفرّق و عدم تبديل نعم اللّه بما يوجب سخطه في هذه الآيات.

208- قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
الخطاب مدني- كما مرّ- و الإضافة تشريفية لا اختصاصية و التعبير- ب ادْخُلُوا لكمال الأهمية كما يأتي.
و مادة (سلم) تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات، سواء كانت ظاهرية أم باطنية في الدّنيا أو الآخرة.
و هي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و منها الإسلام، و السلام، و السلامة. و لعلّ أعذب استعمالاتها قوله تعالى في وصف المتقين: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان- ٦۳]، و قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال- ٦۱].
و هذه المادة في جميع هيئاتها محبوبة عند الناس، قد أطلقها اللّه تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى، قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر- 23]، فهو تعالى سلام فوق ما نتعقله من معنى السلام، و سبيله تعالى سبيل السلام و عباده الصالحين سلام من سلام، و داره دار السلام الذي هو مظهر غيبي و صورة حقيقية لهذه الآية، فهما متحدتان في الذات و مختلفتان بالاعتبار، إحداهما جوهر قائم بالذات و هو عالم الآخرة و الأخرى عرض قائم بالغير.
تكون و تبدل العرض بالجوهر و بالعكس سهل في نظام التكوين فضلا عن قدرة العزيز الحكيم، و الجميع عبارة عن الصراط المستقيم الذي له أطوار من الظهور في عالم البقاء و دار الغرور، و لكنّ الحقيقة واحدة التي هي عبارة عن العبودية الواقعية، فهو من أعظم تجلّيات اللّه تعالى لبني آدم و أعظم عناياته على خلقه، لأن يخرجه من الظلمات إلى النور.
و كافّة هنا بمعنى الجمع و الجميع حال من ضمير الجمع في قوله تعالى ادْخُلُوا جي‏ء به ليشمل جميع الأفراد للإعلام بأنّ الأمر متعلّق بالأمة بقدر ما هو متعلّق بالأفراد، فإنّ الجهات الاجتماعية الإسلامية يتقوّم المجتمع بها كما ينتفع الفرد منها لا محالة، بقرينة ذكر فرق الناس قبل ذلك.
و يحتمل أن تكون كَافَّةً تأكيدا للسّلم فتشمل جميع التكاليف الفردية و الاجتماعية، و الكمال الفردي و النوعي.
و الأولى أن يكون قوله تعالى: كَافَّةً تأكيدا لجميع ما سبق ليشمل جميع ما ذكرناه، بل بينهما ملازمة في الجملة.
و الخطاب للمؤمنين- كما ذكرنا- لكونهم أفضل الأفراد، و أقرب إلى الرشاد، و لتكميل الإيمان باللّه تعالى بالتسليم له سبحانه و الإخلاص له عزّ و جل، و البقاء عليه، فيكون أمرا بالثبات و الدّوام كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء- ۱۳٦] فعبّر بالدخول للإشارة إلى أنّ المطلوب في الكمالات المعنوية و المعارف الإلهية إنّما هو الإدامة و البقاء لا مجرّد الحدوث فقط، بل كلّ فضل و كمال شأنه كذلك، فإنّ المطلوب فيه هو الاستقامة و الدّوام، لأنّ المعارف الإلهية الحاصلة للنفس بالاختيار إنّما تؤثر في ذات الإنسان بواسطة الملكات الحاصلة منها حتّى تصير النّفس بالمواظبة عليها و ممارستها شعاعا من أشعة عالم الغيب على النفس فتنبعث عن الذات الأفعال الخيرية، فتصبح الذات من الذوات المقدّسة.
فيكون المعنى: يا أيّها الّذين آمنوا اثبتوا على الطاعة و التسليم لأمر اللّه‏ تعالى و لا تختلفوا و تتفرّقوا و لا تتبعوا الهوى، فإنّ في ذلك هلاككم و ذهاب سعادتكم.
و مقتضى إطلاق الآية الشريفة خصوصا بعد التأكيد بقوله تعالى: كَافَّةً بناء على كونه تأكيدا للسلم شمولها لجميع ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة الإسلامية بأصولها و فروعها، فإنّ جميع ذلك سلم حقيقي للإنسان صدر عن سلام مهيمن على الكلّ.
و إرشاد إلى الدعوة إلى العقل المقرّر بالشريعة، و الشريعة المتممة للعقل، إذ لا فرق بينهما في الواقع.
و على هذا يشمل جميع ما ذكر في معنى الآية، فإنّ عنوان السّلم للحق الواقعي ينطبق على ذلك كلّه، كما ينطبق على الإنسانية الكاملة و القرآن، و الخلافة الإلهية لتلازمها مع السّلم للحق الواقعي.
و المراد بالسّلم: السّلم الواقعي لا الادعائي، و هو يتحقق بعد الإيمان باللّه تعالى و الاعتقاد بأصول الشريعة اعتقادا تاما و العمل بما اعتقده، و جميع ما ورد في الروايات في تفسير هذه الآية الكريمة و ما ذكره المفسرون ليس إلا من بيان التطبيق و المصداق، و عمومها يشمل السّلم الشخصي و النوعي، و الدّنيوي و الاخروي لانطواء الكلّ في السّلم الذي يدعو إليه عزّ و جلّ.
و تشمل الآية الحدوث و البقاء، و الثاني أشدّ من الأول بمراتب و يعلم من ذلك كلّه كثرة ما عليه الناس من المخالفة لمثل هذه الآية.
و مفهومها الالتزامي يدل على أنّ مخالفة السّلم للحق المطلق لا يكون إلا باطلا، فيكون ذيل الآية بيانا للمفهوم الالتزامي المستفاد من صدر الآية المباركة.
و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى ب «السّلم» دون الإسلام لمحبوبية السّلم حتّى عند المنافقين أيضا، فيكون مفاد الآية نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ [النساء- ۱۳٦].
و هذه الآية من الآيات التي تدل على ثبوت مراتب للإيمان، لأنّه عزّ و جلّ جعل موضوع الحكم الَّذِينَ آمَنُوا و أمرهم بالدّخول في السّلم.
قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.
الخطوات جمع خطوة: و هي تتبع الأثر، و خطوات الشيطان عبارة عن جميع ما يدعو إلى الباطل و الضلال، و جميع مصائده و مكائده في سبيل الانحراف عن الصراط المستقيم، و ما يدعو إليه الرّب الرّحيم.
و ذكره في المقام بيان للمفهوم الالتزامي لصدر الآية الشريفة و قد تقدم ما يتعلق بهذه الآية في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة- ۱٦۸].
قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
بيان للسبب في النّهي عن اتباع خطوات الشيطان، و هذا التعليل علّة عقلية له، فإنّ العاقل، بل كلّ ذي شعور لا يتبع عدوّه المبين في العداوة، و قد ذكرت عداوة الشيطان للإنسان في آيات كثيرة من القرآن، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف- ٥]، و في بعض الآيات المباركة عدوّ مضل مبين قال تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص- ۱٥]، و في بعضها: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر- ۳٥]، و قد اهتم القرآن بل جميع الكتب السماوية ببيان عداوته بطرق مختلفة، لأنّه أساس أنحاء الكفر و النفاق، و الفساد، و سلب السعادة عن الإنسان، و قد أقسم بعزّة اللّه تعالى لإغواء العباد فقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص- 82].
و تنشأ هذه العداوة من أسباب عديدة:
أولا: إنّها ذاتية حيث قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف- 12]، و لا أثر للنار إلا إزالة الطّين و تفريقه.
و ثانيا: إنّها إرادية إذ لا إرادة له إلا الفساد و الضّلال بخلاف المؤمنين‏ فإنّهم لا يريدون إلا ما أراده الحق تعالى.
و ثالثا: دركه لكرامة الإنسان و فضيلته عليه، قال تعالى: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء- 70]، و قال تعالى حكاية عن الشيطان: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء- ٦۲].
و رابعا: طرده لخبث ذاته عن عالم النّور إلى مهوى الغرور، قال تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف- 13].
و خامسا: شعوره بأنّه لا حظّ له في دار النّعيم بل انحطاطه إلى أسفل درك من الجحيم بخلاف الإنسان فإنّه يدرك في الجملة أنّ له مقامات عالية إن أطاع ربّه الكريم، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدخان- ٥۱].
و سادسا: اللعن و الطّرد و الرجم من اللّه تعالى و الإنسان في كلّ حين و آن، قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ [ص- 78]، و قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ [الحجر- ۳٥].
و العجب من الإنسان مع أنّه يلعن الشيطان لا ينفك عن اقتفاء أثره و تتبع خطواته، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها أجلّ دعوة بأعذب لفظ و أحسن أسلوب للإنسانية الكاملة و التحذير عن المخالفة مع التضمّن للدّليل و البرهان، خصوصا بعد ملاحظة الآيات اللاحقة.
209- قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ.
الزلة: هي العثرة و الاسترسال من غير تعمّد و قصد. أي: فإن أعرضتم عن الدخول في السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات من تشريعاته المباركة و أحكامه المقدّسة، و بعد ما تبيّن لكم عداوة الشيطان و شقاوته و ضلاله و إفساده فلا عذر لكم في الميل عن الحق و الإعراض عن الصراط المستقيم.
و التعبير بالزلة و هي ما يصدر من غير عمد و التفات، للإعلام بأنّ التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العدم. و فيها كناية عن أنّه لا ينبغي أن يصدر من العاقل ذلك، و الكناية أبلغ من التّصريح في المحاورات.
و لم يذكر عزّ و جلّ العقاب مع الزلة لأنّها كالعثرة تكون بلا قصد، فلا وجه لثبوت العقاب في ما لا قصد فيه و لا اختيار، نعم، توعدهم على ذلك.
قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
العزيز: القدير الذي لا يغلب و هو من أسمائه الحسنى، و قد اطلق عليه تعالى في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانين موردا مع تعقبه غالبا بالحكيم أو الرّحيم أو العليم أو الحميد أو الكريم و غيرها.
و لعل وجه إتباعه بهذه الأسماء الحسنى المقدّسة أنّه يطلق مجرّدا على غيره تعالى كقوله سبحانه: حكاية عن بني يعقوب يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ [يوسف- 90]، و قال تعالى حكاية عن أخوة يوسف: قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف- 80]، و قد استعمل في غيره تعالى موصوفا أيضا، كقوله عز و جل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان- ٤۹]، لكنّه للتهكم.
و الحكيم هو الذي يفعل بمقتضى الحكمة.
و المعنى: فإن زللتم عن السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان فاعلموا أنّ اللّه تعالى مقتدر غير مغلوب في إنفاذ أمره يفعل فيكم بمقتضى حكمته المتعالية بلا إلجاء.
و في إتيان حكمته المطلقة المتعالية مع قدرته و عزته للإعلام بأنّ قدرته عزّته مقهورتان تحت حكمته التامة التي هي تنظيم الأشياء على وفق النظام الأحسن الرباني، و ليست هي مرسلة من كلّ جهة حتّى و لو حصل محذور في البين.
و فيه إرشاد للناس بأن لا يعملوا عزتهم و قدرتهم كيف ما شاؤا و أرادوا من دون فكر و روية، بل لا بد من تطبيقها على النظام العقلي و الشرعي، و إلا فقد يكون وبالا على العزيز القادر، و قد وردت في السنة الشريفة أحاديث كثيرة في ذلك.
و قد ذكر تبارك و تعالى العزة و الحكمة في المقام للإشارة إلى مكان العفو و الغفران، إذ القدرة على الانتقام شي‏ء، و الانتقام الفعلي المنجز شي‏ء آخر كما هو معلوم لكلّ من تدبر.
و من ذلك يعلم أنّ في الآية روعة الأسلوب في بيان المعنى المقصود و تقدم الوجه في أمثال قوله تعالى: فَاعْلَمُوا و ذكرنا أنّ هذا التعبير أشد في التذكير و العتاب.
210- قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ.
بيان لقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ المتضمّن للتوعيد فيكون احتجاجا آخر لعلّ الناس يرتدعون به عن العناد و اللجاج و يتركون متابعة الشيطان، و يدخلون في الصّراط المستقيم بأحسن أسلوب في بيان الحجة.
و قد تغيّر فيه الخطاب من الناس إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كما أنّه اختلف فيه الأسلوب ففيه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيهام بأنّ من يزل عن الصراط المستقيم غير لائق بالخطاب و للإعلام بأنّ الأمة قد يتغيّر حالهم و يزلّون عن الطريق المستقيم و يقع فيهم الاختلاف و التفرّق، فيشملهم ما أوعده اللّه تعالى في هذه الآية المباركة.
و الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.
و مادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشي‏ء، و هو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر، أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار و الإمهال، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشي‏ء بعد ذلك. نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ كما في قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ‏ الْقِيامَةِ [آل عمران- 77]، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة و رفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.
و في المقام يكون بمعنى الانتظار، أي ينتظرون هذا الأمر و قضاءه فيهم.
و الظّلل جمع ظلة: و هي ما يتستّر به، و سمي السحاب و الغمام بذلك.
و لم يرد لفظ «ظلل» في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع و جميعها كناية عن التهويل و العظمة، كما هو المستفاد في استعمال هذا اللفظ في المحاورات.
و الغمام: السحاب الأبيض الرّقيق سمّي به لأنّه يغمّ أي يستر، و المشهور بين المفسرين القول بالمجاز و الحذف في مثل الآية فإما أن يكون المحذوف (العذاب) بقرينة قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يونس- ٥۰]، و حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة.
أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه: أَتى‏ أَمْرُ اللَّهِ [النحل- 1]، و قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل- 33]، و غير ذلك مما يصح إضماره، و لا بد من المصير إلى ذلك- كما هو كثير في القرآن الكريم- فيما لا تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس. و الكلّ يرجع إلى إرادته المقدّسة.
و الملائكة عطف على اسم الجلالة أي: تأتي الملائكة الموكلة بقضائه.
و لعلّ الحذف و إسناد الفعل إلى الذات إنّما هو لأجل أن يعمّ الجميع و ليذهب المخاطب إلى أيّ مذهب ممكن و لزيادة التوعيد و التخويف.
و يمكن أن تكون الآية المباركة على المعنى الحقيقي من دون إضمار شي‏ء في الموردين، أي يأتي اللّه تعالى و تأتي الملائكة. و يكون المراد من الظّلل من الغمام الحجب‏ كما ورد في الحديث: «إنّ للّه تعالى سبعين ألف حجاب من نور و سبعين ألف حجاب من ظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه بصره»
فيكون مفاد مثل هذه الآية المباركة عبارة عن‏ بعض أفراد التجلّي له جلّت عظمته. و لعلّ اللّه تعالى يوفقنا لبيان معنى الحجب و كشف بعض أسرارها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و لا يستفاد من قوله تعالى: يَأْتِيَهُمُ في المقام و غيره أنّه قد نسب إليه صفة من صفات الأجسام فإنّه تعالى منزّه عنها بالأدلة القطعية الضرورية، بل المراد به بعض مراتب التجلّي، أو الإحاطة أو غيرهما مما يليق بالذات الربوبي لا الإتيان الظاهري، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يرتبط بالمقام.
و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ما يكون بمنزلة الجنود لبيان الأهمية، و إلا فإنّ جنود ربّك كثيرة، قال تعالى: وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [الفتح- 7]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب- 9].
و لعلّ إنزال القهر و العذاب في الغمام عند إرادة التعذيب و الانتقام يكون أشد، و القهارية أظهر، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف- ۲٤]، و هذه سنته تعالى في عباده فيبلي العصاة و الظالمين بما يراد فيه النفع، و ينتفع أولياؤه بما يئسوا من نفعه، و تنحصر هممهم في الانتفاع من النافع العظيم و الملك البار القديم.
و كيف كان فالآية الشريفة متضمنة لتوعيد آخر و فيها بيان لبعض آثار متابعة خطوات الشيطان.
يعني: ما ينتظر من يتبع خطوات الشيطان إلا نزول عذاب اللّه تعالى الذي له طرق كثيرة تختلف حسب اختلاف الجهات و الخصوصيات فقد ينزل العذاب على الإنسان و تحيط به النقمة، كإحاطة الغمام بالأرض فيسترها عن الشمس، كذلك يستره عن رحمة اللّه تعالى.
و هذه الجملة المباركة تشير إلى أمرين: أحدهما: السّتر عن الحقائق الواقعية، و عدم الوصول إليها، و أنّ متابعة خطوات الشيطان تستر شمس الحقيقة عن البصائر كما تستر الشمس عن الأبصار بالغمام.
الثاني: أنّه تحيط به المكاره و المتاعب كإحاطة ظلل الغمام بما أظلّت عليه، و إن كان الإنسان لا يدرك ذلك ما دام متابعا لخطوات الشيطان، و الوجه في ذلك معلوم فإنّ التابع إنّما يتبع المتبوع في ما يدعو إليه حتّى يصير مثله و تسري فيه غريزته و طبيعته، فإذا كان المتبوع من أهل الضّلال و الفساد تسري في التابع هذه الغرائز فيصير نسخة أخرى من المتبوع فإذا اشتدت و قويت هذه الغرائز في الناس و استفحل الأمر و لم تنفعه النصائح و النذر لا بد من نزول العذاب في ظلل كالغمام لتحسم به مادة الفساد و تنقلع أسباب الضلال.
و الحاصل: إنّ ما ورد في الآية الشريفة يبين الحكم الوضعي لمتابعة الشيطان و الزلل عن الدخول في السّلم، و يستفاد منها سنخية العذاب مع المعصية و ملائمته مع الإثم.
و فيها إشارة إلى بعض كيفيات عذاب الاستقبال و عذاب الآخرة فيرجع تحصّل معنى الآية الشريفة: هل ينتظر هؤلاء علامات قيام الساعة، و انقضاء الأمر بالنسبة إلى أهل الجنة و أهل النار و حينئذ فلا تنتفع كلّ نفس بإيمان لم تكن آمنت به من قبل.
ففي الآية تهويل عظيم و توعيد شديد لأمر متوقع الحصول في هذه الدنيا، فتكون مرآة لما يقع في الآخرة.
و من ذلك يعلم أنّ العذاب لا يختص بالدنيا فقط أو الآخرة كذلك بل تكون وعيدا لما سيقع في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: وَ قُضِيَ الْأَمْرُ.
جملة حالية، أي: حضر زمان القضاء و فصل الأمر فيقضي بالحق و لا رادّ لقضائه، و حذف الفاعل المعلوم في المقام للتهويل و إظهار الكبرياء كما هو كثير في المحاورات الفصيحة.
قوله تعالى: وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
بيان لصدر الآية المباركة فإنّ من ترجع إليه الأمور بجميع جزئياتها و كليّاتها لا بد و أن يكون مبدأ لجميع تلك الأمور، لما أثبتناه سابقا من تلازم المبدأ و المرجع.
و في الآية الشريفة من التهديد و تهويل الأمر ما لا يخفى و إعلام بأنّ من كان يتوجه إليه في الجملة لا بد و أن يعدّ نفسه للرجوع إليه تعالى.
211- قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ.
تثبيت و تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة و قد أورد عزّ و جل من أحوال بني إسرائيل بعد ما ذكر من الوعيد للاعتبار من أحوال الماضين، و للإعلام بأنّه يجري في المخاطبين ما جرى في الأمم السابقة إن هم استمروا في العناد و اللجاج و أعرضوا عن الدّخول في السّلم و زلّوا عما جاءهم من البينات.
و الاعتبار بأحوال الماضين أمر تربوي له أهميته الكبرى في تهذيب النفوس و التأثير العظيم في إصلاحها. و قد اعتنى به عزّ و جل في القرآن الكريم بذكره تعالى أحوال الأمم السابقة و ما جرى عليهم و فيه من الفوائد الكثيرة، بل هو أمر فطري في الجملة حتى لقد ارتكز في النفوس: «أنّ التاريخ يعيد نفسه» و لعلّنا نتعرّض للبحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و كيف كان ففي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله). و إنّها تشير إلى أنّ الجحود و اللجاج طبيعة واحدة و إن تعددت مظاهرهما في الأمم المختلفة كقوم إبراهيم، و قوم لوط و قوم موسى، و مشركي العرب، و كلّ ذلك ينشأ من الصّراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم، هو الصّراع بين العقل و الجهل.
و قد ذكر سبحانه بني إسرائيل لأنّهم كانوا وثيقوا الصلة بالعرب، و كانوا مجاورين لهم يعرفون من أخبارهم و يتتبعون آثارهم فهم بمرأى منهم و منظر.
و المعنى: إنّ هؤلاء بني إسرائيل قد آتاهم اللّه الآيات البينات التي تهديهم إلى الحق، و توضح لهم طريق السعادة، و ترشدهم إلى سبيل الرشاد.
فاسألهم أيّها الرسول الكريم كم آتيناهم من آية بينة فأنكروها و كذّبوها فعاقبهم اللّه تعالى أشد العقاب و عذّبهم بسوء العذاب، فاعتبروا بحالهم و ما آل إليه أمرهم من سوء العاقبة و ذهاب الملك و النبوة عنهم.
و في السؤال تقريع و توبيخ لهم بما صدر عنهم من الطغيان و الكفران بعد ما أنعم اللّه عليهم بأنواع النّعم و الإحسان.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
بيان لسنة اللّه تعالى في خلقه و تطبيق للكلّي أي و من يغيّر نعمة اللّه تعالى بالكفران و الجحود و يضعها غير موضعها بعد ما جاءته من الآيات البينات التي أرسلها اللّه لتكون سببا في سعادته فإنّ اللّه تعالى يعاقبه بأشد العذاب، و اللّه شديد العقاب، لأنّه يرجع إلى وجوب شكر المنعم الذي هو أصل جميع الكمالات الإنسانية و درك المعارف الربوبية، فشدة العقاب إنّما هي أمر وضعي يترتب على من رضي بالذّل و الهوان، و الهمّ و الخسران، و قد عاقب نفسه بنفسه فحصلت له الندامة العظمى، قال تعالى: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل- 118].
و في الآية الشريفة تهديد و توعيد لمن يتعدّى حدود ما أنزله اللّه تعالى، و بيان لسنته الجارية في خلقه، و تقدم في الآيات السابقة نظير هذه الآية.
و قد نسب سبحانه العقاب إلى نفسه في المقام و غيره مع أنّ الفعل منسوب إلى العبد بسبب سوء أعماله، و لكن نسبته إلى العبد بنسبة العلة الفاعلية، و أما جزاء الفعل فإنّه منسوب إليه بنسبة العلّة الغائية و ليس من اللّه تعالى إلا جعل القانون و بيان الجزاء على الموافقة و المخالفة و هو داخل في باب الإرشاد، و قد رجحنا في أصول الفقه تبعا للمحققين أنّ الأوامر و النّواهي في التشريعيات إنّما هي إرشاد إلى المصالح اللازمة الدرك أو المفاسد اللازمة الدفع، و بعد ذلك يحكم العقل باللزوم.
فالآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام المستقلّة العقلية، و هو وجوب شكر المنعم، و قد ابتنى الفلاسفة جملة من المسائل العلمية عليه.
212- قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا.
الزينة معروفة، و هي إما نفسانية كالعلوم و المعارف الحقة، أو بدنية كالجمال و نحوه. أو خارجية كالمال و الجاه و نحوهما. و القسم الأول إمّا دنيوية أو دنيوية و اخروية معا، كالمعارف الحقة و الاعتقادات الحسنة و الأخلاق الفاضلة. و بالجملة الزينة إما واقعية حقيقية، أو وهمية خيالية التي هي ما سوى ما ينفع في الآخرة.
ثم إنّ الزينة المستعملة في القرآن الكريم تارة: تنسب إلى اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات- 7]، و أخرى: إلى الشيطان قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام- ٤۲]، و ثالثة: تستعمل من دون أن تنسب إلى أحد قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ [الرعد- 33].
و الآية في موضع التعليل لما تقدم في الآيات، و ذلك أنّ السبب في الزّلل و عدم الدّخول في السّلم و تغيير نعم اللّه تعالى و الجحود بآياته عزّ و جلّ إنّما هو تزيين الحياة الدّنيا و حبها هو الذي رأس كلّ خطيئة كما في الحديث و هذه قضية وجدانية، و ذلك لأنّ كلّ إنسان محفوف بالشهوات الكامنة فيه التي خلقها اللّه تعالى لحفظ النظام الأحسن فإذا كان معتقدا بالمبدأ و المعاد يكون مانعا من أن يتابع شهوات النفس و يعمل بها، و كلّ ما قوي هذا الاعتقاد يضعف المقتضي عن الفعلية حتّى يصل إلى مرتبة ينعدم الرادع و المانع فيصير المقتضي علّة تامة للغواية، و كذا بالعكس و حينئذ يكون حب الدنيا و زينتها سببا في صرف النفس عما يوجب كمالها، و الإعراض عما يؤثر في إصلاحها و تهذيبها فلا يعمل إلا ما ترتضيه نفسه و هواه و لا يكون همه إلا إعمال شهواته، و تكون الدنيا أكبر همّه فلا تنفع فيه النذر و الزواجر، و لا يؤثر فيه ما أنزله اللّه‏ من الآيات البينات.
و من ذلك يعلم أنّ الأمر لا يختص بالكافرين، بل يشمل كل من جرى فيه ما ذكرناه، فتشمل الآية الشريفة كل من بدّل النعيم الأبدي و السعادة الدائمة بالزخرف العاجل الفاني من المسلمين و غيرهم الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم بل ربما كان العقاب فيهم أشد لتمامية الحجة عليهم بعد الاعتقاد بالإسلام و معارفه.
و تزيين الدنيا إمّا أن يكون من الشيطان و ميل النفس الأمّارة إليها كما في قوله تعالى: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال- ٤۸]، و قوله جل شأنه: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل- ٦۲]، و قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل- ۲٤]، أو يكون قد زينها اللّه تعالى للناس لأجل الامتحان و ابتلائهم كما في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف- 7]، و في هذه الصورة إن وقعت الدّنيا و زينتها في طريق اكتساب المعارف الإلهية و الكمالات الإنسانية و تهذيب النفس و إصلاحها فهي ممدوحة من كلّ جهة، بل هي الآخرة بنفسها. و أما إذا لم تكن كذلك بل كانت صارفة عنها و مضيّعة لها فهي الدّنيا المذمومة، و بذلك يجمع ما ورد في السنة المقدّسة من ذم الدنيا و ما ورد في مدحها فتحمل الذامة على الثانية و المادحة على الأولى.
قوله تعالى: وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
مادة (سخر) تستعمل لإعمال الغرض المقصود قهرا فإن كان استخفافا بالطّرف و استهزاء بالنسبة إليه تسمّى سخرية، و إن كان لغرض آخر من الأغراض الصحيحة تسمّى تسخيرا. و لهذه المادة استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات‏ – 11]، و قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف- 42]، و قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [الجاثية- 13].
و المعنى: و يسخر الكافرون من الذين آمنوا. و الأسباب لذلك كثيرة فإما أن يكون لأجل الزهد في الدنيا و الإعراض عن ملاذها و فقرهم فيها، أو لأجل تحملهم الشدائد و المصائب في جنب اللّه تعالى، أو لأجل إيمانهم، أو غير ذلك. و سخرية من زيّن له شي‏ء و رآه حسنا ممن ليس على طريقته أمر فطري في الجملة فأهل الدنيا يسخرون من أهل الآخرة، قال تعالى: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود- 38].
و سخرية أهل الباطل لأهل الحق من مظاهر الصراع القديم بين الحق و الباطل، و الآية في مقام ذم سخرية المؤمنين و قد أجمل سبحانه الذمّ كما أجمل مدح فوقية المتقين على الكافرين ليشمل جميع مراتب المدح و الذم، لأنّ لكلّ منهما مراتب بل مراتب الفوقية غير متناهية.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
بيان لحال المؤمنين في نعيم الآخرة و أنّهم فوق الكافرين يوم القيامة جزاء لاستعلاء الكافرين عليهم في الدنيا و السخرية منهم.
و لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء سخرية الكفار في الدنيا و اكتفى جلّت عظمته بأنّهم فوقهم يوم القيامة لأجل تعليم أهل الإيمان بأنّ خسة الطرف تمنع عن مجازاة المؤمن له، بل ينبغي له أن يكون ممن مدحه اللّه تعالى بقوله جلّت عظمته: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان- 72]، و قوله تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان- ٦۳].
و إنّما عبّر سبحانه ب الَّذِينَ اتَّقَوْا و أثبت الفوقية لهم دون سائر المؤمنين لبيان أنّ التقوى هي الأصل في الوصول إلى الدرجات العالية، و إشارة إلى أنّ المقصود من الإيمان إنّما هو التّقوى لا مجرّد القول باللسان بلا عمل من الجوارح و الأركان.
و يمكن أن يكون المراد من التّقوى في المقام الإيمان في مقابل الكفر، فيكون ذكر التّقوى للإشادة بفضلها و عظم منزلتها.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
أي: إنّه تعالى يرزق من يشاء من عباده كلّا حسب الأهلية و الاستحقاق بغير حساب، لأنّ الذات و الفضل فيه جلّت عظمته غير متناهيين و اللّه ذو الفضل العظيم.
و إنّما ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذه الآية ليعلم الناس أنّ الدنيا أيضا بجميع جهاتها و شؤونها تحت إرادته الربوبية القيومية و أنّ لإرادته عزّ و جل دخلا في الأسباب الظاهرية التي يؤتى بها لتحصيل الرّزق، كما لها دخل في تنظيم النظام الأحسن الربوبي بل رزق مخلوقاته داخل في هذا النظام الربوبي فلا يدور رزق عبد مدار صلاحه أو عدم صلاحه فإنّا نرى كثيرا من الفجار أغنياء و كثيرا من الأبرار فقراء، بل الأمر يدور مدار الأمور التكوينية و المصالح الواقعية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، و في الحديث: «إنّما وسع اللّه أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء أنّ الدنيا لا تنال بمكر و حيلة».

تقدّم أنّ المراد من قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ و ما في سياقه من الآيات المباركة هو التجلّي الأعظم لإقامة الحقّ في النّوع. و المستفاد من مجموع ما وصل من الكتاب المبين و السنة الشريفة أنّه ثلاثة:
الأول: ليلة إسراء نبينا الأعظم سيد الأنبياء و خاتمهم حيث به ختمت التشريعات السماوية، كما أنّ به فتحت أبواب العلوم الربانية فوضع فخر الكائنات الدنيا تحت قدميه، و شرّف العرش بغبار نعليه، فأوحى اللّه جلّت عظمته إلى عبده ما أوحى، و قد أخذ (صلّى اللّه عليه و آله) الحق من الحق بالحق، و هو يوم تشريع القوانين الإلهية،
و قد ورد في بعض الدّعوات المعتبرة في البعثة و الإسراء «اللهم إنّي أسئلك بالتجلّي الأعظم».
الثاني: يوم كمال عقل جميع الناس واقعا و عملا، و هو يوم ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه) و هو أعظم أيام التجلّي الربوبي، و قد أجمعت الأنبياء على أنّه سيأتي هذا اليوم، و أثبتته القواعد الفلسفية المتقنة، و في الحديث «إذا ظهر الحجة وضع اللّه يده على رؤوس العباد فتمّت بها عقولهم، و كملت بها أحلامهم»
و قد روى الفريقان بأسانيد متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يظهر رجل من ولدي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا».
الثالث: يوم الجزاء الأكبر، و هو يوم الجزاء على القوانين السماوية، يوم ظهور الحق و العدل الإلهي. هذا ما يمكن القول في هذه الموضوعات الثلاثة بإيجاز، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل كلّ واحد منها.
و يصح أن يراد بهذه الآية المباركة جميع هذه الموارد الثلاثة، إذ الحقيقة واحدة و إن اختلفت بالاعتبار، و قد ورد تفسير الآية بكلّ واحد منها: فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قال: «هو يوم القيامة». و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة «ظهور المهدي (عليه السلام)» كما ورد تفسيرها بالرجعة، كما رواه الصّدوق عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).
هذه هي تجلّيات اللّه تعالى الكبرى، و هي أهم بمراتب كثيرة من تجلّيه لموسى بن عمران (عليه السلام) و الاختلاف بينهما بالكلية و الجزئية.
و من عجائب الأمر أنّ هذه التجلّيات الثلاثة غاية خلق العالم مع أنّها من مبادئه.

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً قال: «في ولايتنا».
و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله عز و جل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً قال: «أمروا بمعرفتنا».
أقول: حيث إنّ معرفتهم و الدخول في ولايتهم يشتمل على معرفة اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة، فيكون من باب التطبيق لا محالة.
و في التوحيد و المعاني عن ابن فضال قال: «سألت الرضا (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ. قال (عليه السلام): «يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه بالملائكة في ظلل من الغمام و هكذا نزلت. و عن قول اللّه عز و جل: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب، تعالى عن الانتقال و إنّما يعني بذلك: و جاء أمر ربّك و الملك صفّا صفّا».
أقول: ما ورد في الحديث بيان حسن جدّا للآية الشريفة كما هو شأنه (عليه السلام) في بيان الآيات المتشابهات. و المراد بقوله (عليه السلام): «هكذا نزلت» هو النزول البياني و التفسيري على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ قال: «ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل».
أقول: المراد من قوله «ينزل» أي القائم بقرينة سائر الروايات الواردة في ظهور المهدي، مثل‏ ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا أبا حمزة كأنّي بقائم أهل بيتي- إلى أن قال- إنّه نازل في حباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».
و في روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «أيام اللّه ثلاثة: يوم الظهور، و يوم الكرّة، و يوم القيامة». و في بعضها: «أيام اللّه ثلاثة: يوم الموت، و يوم الكرّة، و يوم القيامة».
أقول: المراد من الظهور التجلّي، كما مرّ. و إنّ الحصر فيهما إضافيّ و ليس حقيقيّا. و قد تقدّم في البحث الدّلالي ما يرتبط بهذه الرّوايات.

لقد ثبت في علمي الفلسفة و الكلام بالأدلة القطعية أنّ اللّه تعالى منزّه عن الجسم و صفات الأجسام، و لذا ذكر العلماء أنّ ما ورد في الكتاب و السنة مما ينسب إليه تعالى صفة من صفات الأجسام لا بد من تأويله بما يليق بذاته المقدّسة.
و ذلك: لأنّ ما أثبته محققوا الفلاسفة قديما و حديثا في درك حقائق الأشياء إنّما هو كشف الآثار و الخواص بحسب القدرة و الطاقة. و أما كشف حقائقها و الوصول إلى كنهها فإنّه يصعب جدّا لو لم يكن مستحيلا، فمثلا أقرب الأشياء إلى الإنسان إنّما هو النفس الناطقة التي تحيط بالبدن كإحاطة المدبّر الآمر بالمأمور المطيع المنقاد، و قد اجتهد العلماء منذ القدم في الفوز بحقيقتها و كشف النقاب عن هذا السّر المكنون و لكنّهم لم يظفروا باللّقيا، و اعترفوا بالعجز و القصور و لم يصلوا إلى حقيقة هذا الغيب المحجوب هذا بالنسبة إلى الممكن المخلوق الضعيف و مثله كثير.
أما بالنسبة إلى الخالق العظيم اللطيف فلا يمكن الإحاطة بذاته و كنه صفاته، و لا حقيقة أفعاله، و مع ذلك هو داخل في مخلوقاته لا دخول صفة.
و خارج عنها لا خروج عزلة، فسبحان من لا يتناهى جلاله، و لا يدرك جماله، و لا يعلم أفعاله.
و في جملة من الدّعوات الشريفة المأثورة: «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو إلا هو» فإذا كانت الذات هكذا فكلّما ينسب إليها أيضا لا بد أن يكون كذلك.
و لم يقتصر وضع الألفاظ للمعاني بعالم خاص، بل هي موضوعة للمعاني العامة في جميع العوالم من مادياتها و مجرداتها و غيبها و شهودها فإنّ العلم مثلا بالنسبة إلى عالم عرض قائم بالموضوع، و في عالم جوهر في المحلّ، و في عالم ثالث عين ذات الواجب الأقدس، و مع ذلك العلم علم بمفهوم واحد لا يتعدّد و لا يتغيّر و لا يتبدّل.
و مثال آخر تقول: رأيت زيدا في المنام جاءني و قال لي كذا. مع أنّه ليس في الخارج من ذلك شي‏ء. و يأتي ما ذكرناه في الألفاظ المنسوبة إليه عزّ و جل مثل المقام: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ. و قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر- 22]، و قوله تعالى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر- 2]، و قوله جل شأنه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر- ٤۲]، فإنّها مستعملة في المعنى الحقيقي، و لكنّ العوالم مختلفة لا أن يكون المعنى متعدّدا، فقولك: جاءني زيد يشمل مجيئه راجلا و راكبا على الدابة أو في المراكب الحديثة كالسيارة و الطائرة و غيرهما، و المجي‏ء بالخلع و اللبس في عالم المعنى. و في الجميع يصدق مجي‏ء زيد حقيقة، فيكون إتيان اللّه تعالى عبارة عن قربه إلى خلقه و الإحاطة به لا بمعنى فراغ مكان و إشغال مكان آخر. و سيأتي في نظائر المقام مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"