1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 196 الى 203

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (۱۹٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)


بعد أن ذكر سبحانه أنّ الأهلة هي لمعرفة الأوقات و الحج فكان ذلك تمهيدا لما يأتي من أحكام الحج فذكر هنا بعضا منها فبيّن أولا وجوب إتمام الحج و العمرة للّه، ثم ذكر أحكام المحصور و عدم جواز الحلق حتى يبلغ الهدي محلّه إلا من كان معذورا في ذلك يفدي فيحلق و إذا أمن الحاج و زال الخوف، فإنّه يجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يذبح ما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج و سبعة عند الرجوع إلى الأهل.
ثم بيّن أنّ زمان الحج هو أشهر خاصة، فمن أوجب على نفسه الحج فيها يجب عليه ترك الرّفث و الفسوق و الجدال.
و قد ذكر أنّ خير الزاد الذي يتزود ليوم المعاد هو التقوى و أنّ الإنسان لا بد أن يتوخاها بما أوجبه اللّه تعالى عليه.
و بيّن أنّه يجب على الحجيج أن يفيضوا من عرفات إلى المشعر الحرام و يذكروا اللّه فيه كما هداهم و أمرهم بعد ذلك أن يفيضوا منه كما يفيض الناس.
كما أمرهم بملازمة ذكره تعالى في جميع حالاتهم و أنّ الأولى لهم أن يطلبوا من اللّه تعالى ما يرجع إليهم نفعه في الدنيا و الآخرة.
و قد أمرهم بالبقاء في منى في أيام معدودات، و أشار سبحانه و تعالى إلى أنّ جميع أعمال الحج إنّما هي صورة مصغّرة من الحشر إليه تعالى.
و هذه الآيات نزلت في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيها تشريع حج التمتع.

۱۹٦- قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ.

مادة (ت م م) تدل على انتهاء الشي‏ء إلى حد لا يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه بخلاف النقص و الناقص.

و يطلق التمام على الجواهر و الأعراض و الأمور المعنوية، و يطلق التمام على الكمال مع إمكان التفرقة بينهما في الجملة، كما يأتي.

و الحج هو شعيرة من شعائر الإسلام بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة، و قد شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان عليه العرب في الجاهلية و أقره الإسلام إلى يوم القيامة.

و هو على ثلاثة أقسام:

حج التمتع- و هو أفضل الأقسام.

و حج القرآن.

و حج الإفراد.

و واجباته: هي الإحرام، و الوقوف بعرفات، و الوقوف بالمشعر الحرام، ثم إتيان منى و رمي العقبة و التضحية بها، و رمي الجمرات الثلاث، و طواف الحج، و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة، و طواف النساء و صلاته.

و العمرة عبادة معروفة أيضا، و هي على قسمين:

عمرة مفردة.

و عمرة التمتع.

و واجباتها: هي الإحرام، و الطواف و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة.

و لكلّ واحد منهما أجزاء و شروط و آداب وردت في السنة الشريفة، و قد شرح أبو عبد اللّه جعفر الصادق (عليه السلام) خصوصيات هذين العملين بما لا مزيد عليه حتى نسب إلى أبي حنيفة أنّه قال: «لو لا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». و تضمنتها كتب الأحاديث و الفقه، و في الحج و العمرة اجتمعت أنحاء العبادات الروحية و البدنية و المالية، الفردية و الاجتماعية.

و المراد بإتمام الحج و العمرة: إتيانهما تامّين بأجزائهما و شرائطهما بحسب ما شرعه اللّه عز و جل، و شرحته السنة الشريفة.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أنّهما عبادتان يعتبر فيهما قصد التقرب للّه تعالى، فلا يتمّان إلا لوجه اللّه عزّ و جل.

و ذكر بعض المفسرين أنّ المراد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي ائتوا بهما تامّين فيكون محض أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما، ثم ذكر أنّ العمرة غير واجبة فيكون الأمر بالإتمام للوجوب و الندب، كما تقول: صم رمضان و ستة من شوال.

و يرد عليه أولا: أنّ العمرة واجبة بمقتضى الآية و الروايات، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

و ثانيا: أنّ حمل الأمر على الوجوب و الندب باطل إلا بالعناية، و قد نبّه عليه هو في تفسير آية الوضوء أيضا، فقال بأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز و التعمية.

قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضّيق و الحبس يقال: حصره العدو في منزله حبسه، و أحصره المرض منعه من السفر.

و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تناسب هذا المعنى، و في الحديث «هلك المحاصير» أي المستعجلون، لأنّ الاستعجال في الشي‏ء نحو تضييق في الجملة.

و قيل: إنّ الإحصار في المنع الظاهر عن الوصول إلى بيت اللّه تعالى، كالعدوّ، و الحصر، يقال في المنع الداخل كالمرض.

و لكن عن جمع من أهل اللغة أنّه لا فرق بين الإحصار و الحصر فإنّ كليهما يستعملان في الممنوعية عن الإتمام، سواء كان بسبب عدوّ أو مرض، إلا أنّه ورد في الأخبار المعتبرة عن الفريقين أنّ المحصور غير المصدود، فإنّ الأول هو المريض، و الثاني هو الذي يرده العدو.

و الاستيسار من اليسر يقال: يسر الأمر و استيسر، كما يقال صعب و استصعب، و هو السهولة أي: ما تيسّر كلّ فرد بحسب حاله.

و الهدي يصح أن يكون من الهدية و التحفة، و من السوق إلى الرشاد، و هو يرجع إلى الأول، لأنّ الهدية إلى اللّه عزّ و جل نحو سوق لفاعليها إلى الرشاد كلّ بحسبه، فهدايا العباد إلى اللّه جلّ جلاله سياق لهم إلى الرشاد لا سيّما إذا تشرّفت بالقبول.

و المراد به: ما يسوقه الناسك من النّعم للتضحية به في مكة أو في منى.

و المعنى: إن منعتم عن الإتمام بسبب مرض أو غيره فليرسل كلّ ناسك ما تيسّر له من الهدي كلّ بحسب حاله من الإبل و البقر و الغنم، و من موارد ما استيسر من ساق الهدي ثم أحصر فإنّه يكفيه ذلك كما هو المشهور عند الإمامية.

قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.

الحلق: استيصال الشعر، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم اغفر للمحلّقين- قالها ثلاثا-».

و المراد بهم في الحج و العمرة، و إنّما قال (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك لأنّ أكثر من حج معه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يكن معهم هدي فلما حلق من كان معه هدي، و أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من لم يكن معه هدي أن يحلق. و لكنّهم اثروا البقاء على إحرامهم، فتدارك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منهم بالدعاء لهم.

و الرأس: معروف و يكنّى به عن أعلى كلّ شي‏ء، و عن الرئيس أيضا.

و المعنى: و لا تحلّوا بالحلق فإنّ الشارع جعل الحلق أول الإحلال حتى يبلغ الهدي محلّه المقرّر شرعا، و قد حددته السنة الشريفة بأنّه منى إن كان حاجا، و إن كان معتمرا فمحلّه مكة و فناء الكعبة أو حزورة.

و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للهدي محلا معينا لا يصح أن يذبح في غيره، إلا أنّ السنة حدّدته بمنى أو مكة، كما عرفت.

قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ.

الأذى: ما يصل إلى الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته.

و كذا بالنسبة إلى مطلق الحيوان.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، فقد ورد استعمالها بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و رسوله أيضا، قال تعالى: يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [الأحزاب- ٥۳]، و قال تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ [الأحزاب- ٦۹].

و الفاء للتفريع على الحكم السابق الدّال على النهي عن حلق الرأس فيكون المراد بالمرض خصوص المرض في الرّأس الناشئ من ترك الشّعر و عدم الحلق، و من مقابلته للأذى يستفاد أنّ الأخير حاصل من غير المرض، كالهوام و غيره، ففي الحديث: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). مر على كعب بن عجرة الأنصاري و القمل يتناثر من رأسه، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ يؤذيك هوامك؟ قال: نعم- الحديث-».

و المعنى: فمن كان منكم في حال الإحرام مريضا يضرّه توفير الشّعر، أو بالرّأس ما يؤذيه كالقمل و نحوه من الهوام، فإنّه يجوز الحلق مع الفدية.

قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.

الصدقة: ما يتطوّع به في سبيل اللّه واجبا كان أم غيره. و مادة «نسك» تأتي بمعنى العبادة، و الناسك العابد، و اختصت بأعمال الحج، كما أنّ النّسيكة تختص بالذبيحة.

أي: إنّ المحرم الذي جاز له الحلق حال الإحرام يفدى بواحدة من هذه الخصال الثلاث: إما الصيام، أو الصدقة، أو النسك. و لم تبيّن الآية حدود كلّ واحدة من هذه الخصال إلا أنّه ورد في السنة المقدّسة ما يبيّن ذلك، فالصيام بثلاثة أيام، و الصدقة إطعام ستة مساكين، و النسك ذبح شاة.

قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.

الأمن: طمأنينة النفس، و زوال الخوف. و الأمن و الأمان، و الأمانة تستعمل مصدرا تارة، و اسما أخرى و يفرق بالقرائن.

و مادة (متع) تأتي بمعنى الارتفاع و الانتفاع، يقال: متع النهار و متع النبات إذا ارتفع. قال تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ [البقرة- ۳٦]، أي: انتفاع. و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و غالب استعمالاتها تشعر بالقلّة و الزوال و التحديد، و هو كذلك إذ لا نسبة بين المتناهي من كلّ جهة و غير المتناهي كذلك، و في الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

و سمي حج التمتع تمتعا، لأنّ المحرم يحلّ من إحرامه بعد تمام العمرة، فينتفع بما حرّم عليه لأجل الإحرام حتى يهلّ للحج، فهو إحلال بين إحرامين.

و هذه الآية صريحة في تشريع حج التمتع لأنّ الجملة الخبرية أصرح في التشريع من الإنشائيات، و قد أثبتوا ذلك في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا (تهذيب الأصول). و لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

و الفاء في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ للتفريع على الإحصار. كما أنّ الباء للسببية.

أي: تمتع بسبب العمرة بأن ختمها و أحل منها، فإنّه يتمتع بما كان محرما عليه حال الإحرام حتى يهلّ بالحج.

و المعنى: فإذا أمنتم بارتفاع المانع من عدوّ، و مرض و نحوهما فمن كان متمتعا بالعمرة بأن أحلّ منها إلى وقت الإهلال بالحج فعليه ما استيسر من الهدي.

قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.

أي: عليه ما استيسر من الهدي يذبحه في منى كلّ بحسب حاله من إبل أو بقر أو شاة.

و الظاهر من الآية المباركة أنّه دم نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات، كما قال به الشافعي.

قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ.

أي: فمن لم يجد الهدي لعدم التمكن من المال لشرائه أو لعدم وجدانه، فعليه صيام ثلاثة أيام من الأيام التي من شأنها أن يقع فيها الإحرام بالحج.

و في جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاد زمانهما، و ذلك لأنّ الزمان الذي يعدّ عرفا من الحج هو من زمان الإحرام إلى الحج إلى الانتهاء عنه، فتكون أيام الصيام هي يوم التروية و ما قبله و ما بعده و من فاته في ذلك فعليه الصيام بعد أيام التشريق، و لا يصح الصيام فيها، و في ذلك وردت روايات كثيرة من السنة المقدّسة، و عليه الإجماع، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ.

التفات من الغيبة إلى الحضور لبيان أنّ السبعة بعد الرجوع لا حينه.

أي: و سبعة بعد الرجوع إلى أهله و وطنه، فلا يكفي إرادة الرجوع، أو حينه.

قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ.

إجمال بعد تفصيل أي: أنّ تلك الأيام الثلاثة في أيام الحج، و السبعة بعد الرجوع إلى الأهل عشرة كاملة في النسك.

و يستفاد من هذه الآية أمور:

منها: أنّ تلك الأيام العشرة تعد نسكا واحدا عند اللّه تعالى لا يضرّ الفصل فيها و إن بلغ ما بلغ.

و منها: أنّه لا يضر إتيان السبعة في غير أيام الحج، بل في غير أشهره.

و منها: أنّه لا يفسدها الصوم في السفر.

و منها: أنّ كلّ واحدة من الثلاثة أو السبعة عمل خاص و تام في حدّ نفسه، و له حكمه و إنّما الأخيرة مكملة للأولى.

و منها: دفع توهم الإباحة و الاستغناء بإحديهما.

و منها: الاهتمام بالعشرة و التأكيد على إتيانها كاملة من دون نقص و لا إغفالها بوجه.

و منها: إفادة أنّ البدل يقع مقام المبدل منه كاملا و أنّه كامل ككمال الهدي و الاضحية.

قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.

ذلك: إشارة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، و الأهل يقال: لمن يختص بشي‏ء، سواء كان ذلك الشي‏ء إنسانا أم غيره. يقال: أهل الرجل، و أهل الدار، و أهل الذكر. و الآل لا يقال إلا فيما إذا كان للمختص به شرف، سواء كان دنيويا، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر- ٤٦]، أم‏ معنويّا كآل موسى و هارون. أم هما معا كآل محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

و حاضري من الحضر- بفتحتين- و الحضور خلاف البعد، و الغيبة، و البدو. و المراد به: المقيم عند المسجد الحرام، و ليس المراد منه مقابل السفر.

و المستفاد من الآية: أنّ المدار صدق الحضور عليه مقابل النائي فيدخل فيه من كان مقيما في الحرم، و قد حدّدته السنة الشريفة بما إذا كان بينه و بين المسجد الحرام بما يعادل أقل من ثمانية و ثمانين كيلو مترا و النائي من يكون أكثر من ذلك.

و حج التمتع وظيفة الآفاقي الذي يأتي من آفاق الأرض، و لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقد أمر بالإهلال من المسجد الحرام أو غيره بعد الإحلال من إحرام العمرة و جواز التمتع بما كان محرما عليه بسبب الإحرام، ذلك تخفيف من ربّه عليه لتحمّله مشقة السفر و مقاساته لعنائه، و في العبارة من اللطف و العناية ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ.

أي: اتقوا اللّه بطاعته و امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه أنّ الحكمة في جعل الأحكام الإلهيّة إنّما هي التقوى، كما في قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ [الحج- 37].

كما يستفاد من الأمر بالتقوى في المقام أنّ هناك مخالفة تصدر و عصيان على هذا الحكم، فأمرهم بملازمة التقوى، و إتيان الأحكام الشرعية على وجهها المطلوب من دون تعيير و تبديل.

قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.

حذرهم من المخالفة و هتك الحرمات، و أوعد عليها لما يعلمه تعالى من عبث الأهواء في هذا الأمر، فإنّ الحج من الأمور التي كانت سائدة عند العرب من عصر إبراهيم (عليه السلام) و قد دخلته عادات و تقاليد لم يمضها الإسلام، فلم يكن التغيير أمرا سهلا على نفوس اعتادت بعض الأمور، و لذا فقد قابلوا الوضع الجديد بالإنكار و المخالفة فكان ذلك هو الموجب لهذا التشديد و التوعيد على المخالفة، و لذلك كلّه تعهّد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هذا التشريع الجديد بوجوه من الكلام في خطبته المباركة تضمّنت كثيرا من أحكام الحج. و أكّد عليه بأنحاء التأكيدات، فأمر (صلّى اللّه عليه و آله) بأنّه حكم أبدي لا يدخله أي تغيير و عام لا يستثنى منه أحد.

197- قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ.

أي: إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات، و معروفات عند الناس، و هي: شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، كما تدل عليه السنة المقدسة، فلا يقع شي‏ء منه في غيرها و إن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج، و كذلك عمرة التمتع لأنها من الحج، و يدل عليه‏ الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

فما ذكره بعض الفقهاء من أنّه يجوز تقديم الإحرام في غيرها لأنّه شرط للحج، كالطّهارة للصلاة فيجوز التقديم على وقت الأداء. غير صحيح كبرى و صغرى كما هو مذكور في كتب الفقه.

و المراد من الآية: أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ، و عدّ جزء من العمل منزلة تمامه، يقال رأيته يوم الجمعة و إنّما رآه في بعضه دون الجميع و كذا اجتمعت معه سنة كذا، و غير ذلك.

و يستفاد من قوله تعالى: مَعْلُوماتٌ أنّه لا يجوز تأخيرها و إنساؤها إلى شهر آخر، كما كان المشركون يفعلونه.

قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ.

مادة (فرض) تأتي بمعنى قطع الشي‏ء الصّلب، و التأثير فيه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء- 7]، أي: مقطوعا معلوما، و تستعمل في فرائض اللّه تعالى لأنّها تقطع الأوهام و الشكوك و المحتملات بالنسبة إلى موردها.

و يطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضا لأنّها تقطع و تقسم من مال الميت، و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم».

و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة».

و فرائض اللّه تعالى هي: الأحكام التي أوجبها على العباد، و الفرق بين الفرض و الوجوب من وجوه:

الأول: أنّ الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى فقط بخلاف الوجوب فإنّه أعم، يقال: وجوب عقلي، و لا يقال: فريضة عقلية.

الثاني: الوجوب يطلق و لو على مرتبة الإنشاء، و الفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.

الثالث: يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزمه اللّه تعالى، بخلاف الوجوب فإنّه أعمّ من السنة و ما فرض اللّه جلّ شأنه.

و المعنى: فمن أوجب على نفسه الحج فيهنّ و ذلك بالشروع فيه بعقد الإحرام إمّا بالتلبية أو الإشعار بالهدي أو التقليد.

قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ.

نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة و هو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ.

أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.

و تقدم الكلام في الرّفث في آية 187 من هذه السورة، و يراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث‏ بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له.

و مادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشي‏ء من الشي‏ء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، و هو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم، و في المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. و يقال للفأرة: الفويسقة، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقتلوا الفويسقة فإنّها توهي السقاء و تضرم البيت على أهله»، و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «خمس فواسق تقتل في الحل و الحرم: الغراب، و الحداءة، و الكلب، و الحية، و الفأرة» و شرح هذا الحديث يطلب من كتب الفقه في مسائل تروك الإحرام.

و المراد بالفسوق هنا: مطلق ارتكاب المناهي، و ما يوجب الخروج عن طاعة اللّه عزّ و جل، و هو و إن كان حراما في غير الحج أيضا و لكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه و بعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع و الانفصال في مثل هذا الحال.

و الجدال: المفاوضة على نحو المنازعة و المغالبة، و المراء بالكلام، و هو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد، أو باللسان.

و الأخير يسمى جدالا، و ما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، و ما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، و ما كان لتثبيته و إيضاحه فهو أحسن.

و قد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا و اللّه، و بلى و اللّه».

و الظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في‏ زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل و كان يجري فيها، التنابز بالألقاب و الخصام و المراء، و غير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، و لا تناسب بين ما كان كذلك و بين ما هو من شأنه البعد و الفرقة و الانفصال.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.

التفات من الغيبة إلى الخطاب و التكلّم لبيان كمال العطف و الاهتمام و الاقتراب إلى المتعبدين، و فيه من الترغيب إلى فعل الخير، كما أنّ في الآية من التذكير بأنّ أعمال العباد لا تغيب عنه عزّ و جل، فإنّ ما يفعله الإنسان من الخير سواء في الحج أو في غيره يعلمه اللّه و يجازي عليه، و هو الذي لا يضيع أجر المحسنين و لا يهمله عز و جل.

و ذكر الخير بالخصوص مع أنّه تعالى عالم بالخير و الشر، ظاهرهما و باطنهما كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة- ۲۸٤]، و قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [النور- 29]، إنّما هو للترغيب إلى الخير و حث الناس عليه، فتكون إرشادا إلى مطلوبيته له تعالى، مع أنّ ظاهر الحال و المكان يقتضي ذكر الخير و لو فرض وجود شرّ من المعاصي في البين فهو مضمحل في جنب ذلك الخير العظيم لغلبته عليه في تلك المشاعر العظام.

و التصريح باسم الجلالة ليكون إثبات الشي‏ء ببرهان.

و فيه من التنبيه إلى أنّ الإنسان لا بد أن لا يفقد روح العمل، و هي الحضور لديه عزّ و جلّ في جميع أفعاله، و أنّه لا بد من التطابق بين العلم و العمل فإنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له في نظر القرآن.

قوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏.

الزاد: ما يتهيّأ للسفر، و هو يختلف كمية و كيفية باختلاف حالات السفر، و السفر على قسمين: سفر في الدنيا، و سفر من الدنيا. و في كلّ منهما لا بد من الزاد و زاد الأول هو: الطعام و الشراب و المركب و نحوه، و زاد الثاني: هو معرفة اللّه تعالى و الطاعة، و الاستعداد للآخرة.

و قد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى، أي فعل الطاعات و ترك المعاصي، و ترك ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة و الجنان العالية، و هي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا و الآخرة.

و ذكرها في المقام لبيان أنّ الحاج إذا كان في سفره القصير لا بد له من الزاد و إلا هلك، فكيف بالسفر الطويل البعيد المحفوف بالمخاطر العظام، فيكون احتياجه إلى الزاد أهم و أعظم.

و من تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به، و لا يدخله الشك، و أنّ الحكم على التحقيق كذلك.

و الآية تنحل إلى برهان قويم، و ترجع إلى قول: تزودوا بخير الزاد، و خير الزاد التقوى، فتزودوا بالتقوى، و الكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.

ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات و الأزمنة و الأمكنة و إنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى اللّه تعالى.

و أما ما عن ابن عباس أنّه قال: «كان أهل اليمن يحجون و لا يتزوّدون و يقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي، و يمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.

قوله تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.

اللب: هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و أنّه لا بد من قطع النظر عن كلّ شي‏ء سواه، و هذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص و العقل السليم.

و هذا الخطاب جذب لأولياء اللّه تعالى إلى عالم لا نهاية لعظمته و كبريائه و لا غاية لكماله و تقريب لهم إلى صور لا حدّ لجمالها و دلالها كيف فإنّ التقوى مفتاح بركات السماء و الأرض، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الأعراف- ۹٦]، و هي أساس الفلاح، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة- 100]، و هي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.

و هذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل و التجنب عن الرذائل، و التشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه، و استكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن و الكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.

198- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.

مادة (ج ن ح) تستعمل في الإثم المائل عن الحق، و يسمّى كلّ إثم جناحا، و قد ورد لفظ جناح في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا منفيّا بليس، أو لا، و لكن لم يرد مثبتا فيه و إن ورد بهيئاته الأخرى، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال- ٦۱].

و المراد به في المقام: نفي الحرج و الإثم، أي: لا بأس في ابتغاء الفضل من ربّكم، و المراد من ابتغاء الفضل هو طلب الرزق بالكسب و التجارة، نظير قوله تعالى: وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل- ٤۰]، و قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة – 10]. و قد ورد في السنة الشريفة أنّ الابتغاء من الفضل هو الرزق، فالآية المباركة تدل على إباحة البيع و زيادة الرزق بالتجارة.

و عليه فتكون الآية المباركة في مقام الاستدراك عما يتوهّم و ينسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى، و من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية من الكسب و التجارة و عقد الأسواق في الموسم لها، و لأجل ذلك كان بعض المسلمين في أول الإسلام يتأثّمون من ذلك فأزال تعالى هذا الوهم، و أعلمنا بأنّه لا بأس بالكسب و التجارة و أنّ ذلك من فضل اللّه تعالى بل يستفاد من قوله تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ أنّه داخل في العبادة، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الكاسب حبيب اللّه».

فتكون الآية المباركة صريحة في عدم المنافاة بين الحج و طلب المال.

و لكن يمكن أن نقول: إنّ المراد من الابتغاء بالفضل هو الأعم من طلب الرزق بالتجارة و من طلب المغفرة كما ورد في بعض الروايات فإنّها المطلوب الأهم للإنسان، فتكون ترغيبا إلى ازدياد الخير بعد الترغيب بالتقوى، و الحث عليها، و إشارة إلى عدم الاعتماد على مجرد التقوى بل الاعتماد كلّه على فضل اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ.

مادة (فيض) تأتي بمعنى سيلان الماء مع الكثرة، و تستعمل في كلّ دفع مع كثرة كما في المقام، و الاستفاضة هي الشيوع و الكثرة و الانتشار.

و عرفة هي بمعنى الإصابة يقال: عرفه أي أصاب عرفه- أي رائحته- أو خدّه. و عرفات علم للمكان المخصوص المعروف، و هي في معنى الجمع و ليس بجمع شي‏ء، و ما

في بعض الأخبار: «الحج عرفة» إنّما هو باعتبار الزمان لا باعتبار كون عرفة مفرد عرفات، و تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكن.

و سمي الزمان و المكان بها لتحقق تعرف في البين إما لأجل أنّ خليل الرحمن (عليه السلام) عرف صدق رؤياه، أو لأجل أنّ جبرائيل عرفه مشاعر الحرام في هذا المكان، أو لأنّ اللّه عز و جل يتجلّى لأهل عرفات، أو لأجل أنّ في هذا المكان يعرف العباد أنفسهم إلى اللّه تعالى بالدعاء و الثناء، أو لأجل أنّ الناس في هذا المكان يعرف بعضهم بعضا، أو لأجل ارتفاع المحلّ ارتفاعا ظاهريا أو معنويا من عرف الدّيك.

و الآية تدل على الوقوف في عرفات بالملازمة فإنّ الإفاضة من محلّ يستلزم الكون فيه لا محالة. مع أنّ الكون فيها كان معهودا في الجاهلية و قرره الإسلام، و إنّما يراد بيان بقية أعمال الحج، فالموضوع مفروض الوجود عند بيان اللواحق و الأحكام.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.

و هو المزدلفة، و جمع. و سمي مشعرا لأنّه معلم لشعائر اللّه تعالى و عبادته، و هو المكان المعروف. و المراد بالذّكر هو الصلاة، و التهليل، و التسبيح، و الدّعاء، و هو ما يعلم الواجب و المستحب.

و الآية المباركة تدل على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام و لو بالمسمّى الذي هو الكون لدلالة الذّكر عليه و إن كان بالملازمة.

قوله تعالى: وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.

تأكيد للجملة السابقة و ترغيب إلى ذكره تعالى و الحث على الإقبال إليه و إرشاد للإنسان إلى أنّه ينبغي أن يكون على ذكره تعالى دائما أي: و اذكروه بالثناء و الشكر على هدايته إيّاكم و أنّكم كنتم من قبل الهدى لمن الضالين.

و ال (واو) للحال و (ان) مخففة من الثقيلة لدلالة اللام عليه، و هي تفيد التأكيد.

و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ ذكر المنعم و شكره لا بد أن يكون لأجل نعمته، و لا نعمة أولى و أحسن و أتم و أكمل من الهداية إلى الإيمان و ترك الكفر و الضلال.

199- قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.

حيث للمكان المبهم يفسره ما بعده، و يمكن أن يطلق على المكان المبهم باعتبار حالة من يحلّ فيه من الوقار و السكينة و الذكر و نحو ذلك.

و المراد من الناس من يصلح للاقتداء و الايتمام به و العالمين بحدود الحج و أحكامه العاملين بها، و هم منحصرون في خليل الرحمن و ذريته القائمين مقامه العاملين بشريعته، فهو (عليه السلام) أول هذه السلسلة و أئمة الحق من ذريته آخرها، و العلماء العاملون الذين يتلونهم علما و عملا حفظة هذه التشريعات.

و إنّما ذكر لفظ الناس ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثا و بقاء و حفظا و إبقاء.

و معنى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي على الحالة التي أفاض الناس المعهودون في هذا المكان. و يستفاد من قوله تعالى أمرهم بالإفاضة التي يريدها اللّه جلّ شأنه و نبذ الحركة الهمجية في هذه الحالة التي ينبغي فيها ملاحظة الخضوع و الخشوع للّه تعالى.

و ظاهر الآية الشريفة: أنّه إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس، و بعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى بعد الوقوف في المزدلفة.

فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين أحدهما بالصراحة و هو الوقوف بعرفات و الإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و الآخر بالملازمة و هو الوقوف في المشعر الحرام و الإفاضة منه إلى منى فتكون (ثم) على الحقيقة لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.

و في ذلك خلاف ما كانت عليه قريش و حلفاؤها الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفعا بل بالمزدلفة، و كانوا يقولون نحن أهل حرم اللّه لا نفارق الحرم و كانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة، فأثبت سبحانه إفاضتين و وقوفين لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف و لو بمقدار الذكر، و يدل على ما ذكرنا بعض الأخبار كما يأتي في البحث الروائي.

و قيل- و عليه أكثر المفسرين- أنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان‏ عليه دأب الناس فأمر اللّه تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. و بذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات و أنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و تكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي و الخطاب مع قريش فقط.

و لكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى و هو لا يليق بكلامه تعالى، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء و وقار بلا تهجم، و للإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

تحريض على طلب المغفرة و دعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان و المكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما، فكما أنّ الوقوف بعرفات و المشعر و أيام منى يوجب تخفيف الذنوب و التقرّب إلى المحبوب و أنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين و يرفع درجات المخلصين، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال و يصير اللسان و المكان جميعا فيضان الرحمة و إفاضة النعمة، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم و يزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه و هذا هو أعظم أنواع الهدايا و أشرف أنحاء العطايا منه للعباد.

و في الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية و لا أثر له في هذه العطية و لا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لجميع الناس و في جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي كثير الغفران و وسيع الرحمة.

و قد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد و التثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» و مقرون بالرّحيم و الحليم.

و في حال التلبس بأفعال الحج يشملهم استغفار الملائكة أيضا و النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعظمة الموقف.

و قد كررت هذه الآية في [سورة المزمل- 20]، و قد رغّبت السنة المقدسة في التوبة و الاستغفار مما لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها و لعلّ هذا بعض معاني‏

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».

200- قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ.

مادة (قضى) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بالنسبة إلى الخالق، و الخلق، و القول، و الفعل، و الدنيا و الآخرة و إنّها بمعنى فصل الأمر قولا كان أو فعلا، و يلزمه الإتمام و الفراغ.

و المناسك جمع منسك مصدر نسك و هو: العبادة، و الناسك: العابد، و اختص بأعمال الحج. و تأتي اسم مكان و هي: مواقيت النسك و أعمالها، و النسيكة مختصة بالذبيحة المتقرب بها إلى اللّه تعالى.

و المعنى: إذا فرغتم من أفعال الحج.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.

تحريض إلى ذكر اللّه تعالى و الإكثار منه و المبالغة فيه و عدم الغفلة عنه كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه لا كما اعتادوا عليه من ذكر الآباء و الاكتفاء بهم. و (أو) للإضراب. و (أشد) غير منصرف لوزن الفعل و الوصفية، و الشدة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية و الكثرة في الكمية. أي إنّ ذكركم للّه تعالى إمّا أن يكون كذكر آبائكم أو أشد و أكثر و أعلى.

و الذكر: هو حضور المذكور في القلب و اللسان. و تقدم ما يتعلق به في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة- ۱٥۲]، و المراد به في المقام مطلق الذكر في تلك المواطن.

و في الخطاب كمال العناية و اللطف و التآلف حيث أمرهم بالذكر كذكرهم لآبائهم لئلا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ثم قال: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتقريب أنّ نعم اللّه عليهم و على ءابائهم أكثر و أجل و أعلى من كل نعمة فلا بد و أن يكون الذّكر بما يناسب جلال اللّه و نعمائه.

قوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا.

تفريع على ما تقدّم. و هو بيان لبعض أحوال الناس المختلفة، فإنّهم بالنسبة إلى السؤال من اللّه تعالى على أقسام:

فمنهم: من يطلب منه تعالى الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.

و منهم: من يطلب الدنيا من حيث كونها طريقا لتحصيل الآخرة.

و منهم: من يطلبهما معا.

و منهم: من يطلب الآخرة فقط. و الثاني يرجع إلى الثالث في الواقع.

كما أنّ الأخير يرجع إليه أيضا لأنّ طلب الدنيا إذا كان للظفر بالآخرة يكون من طلب الآخرة و بقي قسمان قسم يدعو لدنياه فقط و هو الذي ذكره تعالى بأنّه ليس له في الآخرة من خلاق و قسم يدعو لدنياه و آخرته و هو الذي مدحه تعالى، و هذا التقسيم حقيقي واقعي.

و المراد من الناس: مطلق أفراد الإنسان الأعم من المؤمن و غيره فإنّه من يطلب الدنيا و لا يبغيها إلا لأجل المفاخرة.

كما أنّ المراد من القول الأعم من السؤال بالمقال و الطلب بلسان الحال.

و إنّما أجمل سبحانه و تعالى المتعلّق في قوله تعالى: آتِنا فِي الدُّنْيا لاختلاف مراد الناس و لأنّه كالمعلوم و لبيان أنّ الدنيا أكبر همه و هو يريدها بأي وجه كان.

و المعنى: إنّ من الناس من يطلب من اللّه تعالى الدنيا مع الغفلة عن الآخرة.

قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.

مادة (خلق) تأتي بمعنى التقدير المستقيم سواء كان من شي‏ء كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل- ٤]، و قوله تعالى: خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن- ۱٥]، أو من غير شي‏ء و لا مادة بل إبداعا كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ [إبراهيم- 32]، بانضمام قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ [البقرة- 117] و الثاني مختص به تعالى، بل الأول أيضا إذ لم يطلق في القرآن إلا بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [المائدة- 110]، و لكنّه مقيّد في جميع ذلك بكونه من إذنه تعالى.

و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى بالنسبة إلى الجواهر و الأعراض، و النبات و الحيوان و الإنسان و الدنيا و الآخرة.

و هيئة (خلاق) لم تستعمل في القرآن إلا في موارد ثلاثة كلّها مضافة إلى الآخرة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة- 102]، و الثالث قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران- 77]، و هو بمعنى النصيب و تقدير الخير، و يأتي بيان ما يتعلق بسائر هيئات هذه المادة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و المعنى: إنّه ليس لهذه الطائفة الذين يطلبون من اللّه تعالى الدنيا فقط نصيب في الآخرة، لأنّهم أعرضوا عن الآخرة و لم يعملوا لها فقد استولى على قلوبهم حبّ الدنيا و لم يعملوا إلا لأجلها و حليت الدنيا في أعينهم فكانت هي الحسنة عندهم فقط دون غيرها فلم يرجوا غيرها و لم يدعوا اللّه تعالى إلا إيتاءها و لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها.

و في الخطاب كمال المعاتبة و التوبيخ في أنّهم سألوا ما هو المتفاني و الزائل و طلبوا أدون المطالب و أعرضوا عن الحياة الباقية و النعيم الدائم‏ و العيش الهني‏ء.

201- قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً.

أي: و من الذاكرين من يطلب خير الدنيا و الآخرة جميعا. و المراد من الحسنة أنواعها و ليس المراد جنسها، إذ الجنس لا تحقق له بدون الأنواع، و حيث إنّها مختلفة بحسب اختلاف الدواعي و الأغراض في الدنيا و الآخرة، إذ الحسنات المطلوبة لأهل المعرفة الذين أفنوا جميع شؤونهم في اللّه تعالى فحازوا مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به جلّت عظمته غير الحسنات المطلوبة لغيرهم و لذلك أتى باللفظ مجملا ليشمل الجميع.

و إنّما أورد لفظ الحسنة في هذه الطائفة دون الطائفة الأولى، لأنّهم آمنوا بأنّ في الدنيا حسنة و سيئة و في الآخرة كذلك و لم يسألوا من اللّه تعالى إلا الحسنة.

قوله تعالى: وَ قِنا عَذابَ النَّارِ.

بالعفو و المغفرة و احفظنا مما يؤدّي إليها من الذنوب و المعاصي.

202- قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.

النصيب: الحظ المنصوب، أي المعنّى و قد ذكرت المادة في موارد من القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود- 109]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص- 77].

و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام- ۱٥۸]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام- 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر- ٤٥]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.

و الاكتساب يختص بما أخذه لنفسه فكلّ اكتساب كسب و لا عكس، و يستفاد من قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الكسب يستعمل في الأمور التكوينية إذا كان بعض مباديها اختياريا قال (صلّى اللّه عليه و آله): «أطيب ما يأكله الرجل من كسبه و إنّ ولده من كسبه».

و المعنى: إنّ أولئك الذين يطلبون حسنة الدّارين لهم ما يريدون و يعطون ما يدعون. و سمي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال.

و يستفاد من هذه الآية مع مقابلتها للآية السابقة أنّ أعمال الطائفة الأولى باطلة لا وزن لها عند اللّه تعالى، قال عز و جل: يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ [الأحقاف- 20]، و نظير هذه الآيات المباركة قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى- 20].

قوله تعالى: وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.

السرعة خلاف البطء، و تستعمل في الأجسام و الأفعال و فعل اللّه تعالى، و ترجع في فعله عزّ و جلّ إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل- ٤۰]

و في السنة المقدّسة: «إنّ حساب جميع العباد عنده تعالى على قدر حلب شاة» و هذا من باب ضيق التعبير و إلا فهو أقلّ من ذلك فإنّ جميع الزمان و الدّهر و السّرمد عنده تعالى أقلّ من آن و لمحة البصر و إنّ جميع الممكنات- بجواهرها و أعراضها و روحانيّاتها و مجرّداتها- أقلّ من ذرة ملقاة في فلاة لا حدّ لها فهو أسرع الحاسبين مع هذه الإحاطة و الاقتدار و القهارية.

و سريع الحساب من أسماء اللّه الحسنى، و هو من صفات فعله لرجوعه إلى إرادته التي هي من صفات فعله تعالى أيضا، فيصح تصوير سريع‏ الحساب في مرتبتي القضاء و القدر أيضا لأنّهما من صفات الفعل أيضا، و إن رجعا إلى العلم و الحكمة فيكونان من صفات الذات لكون العلم و الحكمة من صفات الذات، و لا بأس بأن تكون بعض الصفات برزخا بينهما باعتبار منشأ انتزاعهما.

و الأولى جعله من صفات الذات لكونه من أجلى مظاهر علمه التام الكامل جلّ شأنه، و يدل عليه ما عن بعض الأعاظم من المحدّثين و الفلاسفة بل نسب إلى الرواية أيضا: «من أنّ كلّ صفة لا يصح إطلاق خلافها عليه تكون من صفات الذات و ما صح إطلاق خلافها عليه عزّ و جل في الجملة فهي من صفات الفعل» و عليه لا يصح إطلاق خلاف سريع الحساب عليه فهو صفة الذات.

و قد ذكر ذلك في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران- 19]، و المراد به جميع ما يتعلق بيوم القيامة من الجزاء و مقدماته و هو يرجع إلى قهاريته.

و إطلاقه يشمل سرعة مجازاة العباد على أعمالهم في الدنيا و العقبى فهو تعالى يسرع في الحساب و يجازي الصنفين من عباده و لا اختصاص لحسابه بخصوص جزاء أعمال عباده بطائفة دون أخرى أو بعالم دون آخر، بل شؤون جميع الممكنات حدوثا و بقاء داخلة تحت تربيته العظمى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء بل عمّت قهّاريّته من أول حدوث العالم إلى آخر ما يتصوّر من الخلود و هذا هو مقتضى الملازمة بين المبدأ و المعاد.

و إنّما عبّر عن الجزاء بالحساب لأنّ الجزاء كفاء العمل فهو حساب له.

و لعلّ ذكره في المقام لأجل دفع ما يتوهّم من عدم إمكان الإحاطة بحوائج كلّ واحد من أهل هذا المجمع الذي هو الحشر الأصغر كما في بعض الروايات فأزال سبحانه و تعالى هذا الوهم بقوله جلّ شأنه إنّه سَرِيعُ الْحِسابِ يحيط بهم و بأعمالهم و يجازيهم على إيمانهم.

و في الآية تحريض على الدّعاء و ترغيب إليه، و طلب الحوائج في المواطن الشريفة، و ترهيب عن المعاصي و أنّه تعالى يحاسب العباد في أسرع ما يمكن و يجازيهم على ما كسبوا، و في عالمنا هذا كلّما كانت أجهزة الضبط و الحساب أدقّ كانت النتائج أسرع كما نراه و قد ثبت ذلك في العلم الحديث هذا بالنسبة إلى عالم الماديات فكيف بما إذا كان الحساب و الجزاء بنفس الإرادة أي من إذا قال لشي‏ء كُنْ فَيَكُونُ [يس- 82].

203- قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ.

مادة (عدد) تأتي بمعنى ترتب الآحاد أو آحاد مركبة. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في مواضع كثيرة يأتي التعرّض لها في محالّها.

و لفظ «معدودات» ورد في القرآن في موارد ثلاثة تقدم مورد منها في آية 184 البقرة و هذا هو الثاني. و يكنّى به عن القلّة- كما هو الشأن في الجمع بالألف و التاء غالبا- و هي في المقام أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من ذي الحجة و تسمّى أيام النّحر أيضا و هو المستفاد من الآية الشريفة أيضا فإنّه تعالى بعد أن أمر بذكره جلّ شأنه في المشعر الحرام و أمر بذكره تعالى بعد تمام المناسك و أعمال الحج أمر بذكره جلّت عظمته بعد الفراغ من ذلك فيكون بعد العشرة الأولى من ذي الحجة في منى.

كما أنّ كونها ثلاثة يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ إذ التعجيل في يومين لا بد و أن يكون مع ثالث ينفر فيه و هي كانت معهودة في زمان الجاهلية. و على ذلك وردت روايات كثيرة من الفريقين.

و المراد بذكره تعالى: هو التكبير في أيام التشريق من بعد صلاة الظهر من النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و يأتي صورته و عدده في البحث الروائي، و الأمر محمول على الاستحباب لدلالة السنة عليه كما يأتي.

قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.

العجلة: طلب الشي‏ء و تحرّيه قبل أوانه، و هي مذمومة في عامة آيات القرآن الكريم، و لذا ورد: «إنّ العجلة من الشيطان و التأنّي من الرّحمن». نعم ورد مدحها في جملة من الموارد مذكورة في السنّة المقدّسة يأتي بيانها في محلّها إن شاء اللّه تعالى، و قوله عز و جل في شأن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة- ۱٦]، يمكن أن يكون من العجلة الممدوحة، و مع ذلك أدّبه اللّه تعالى بأدب نفسه ترغيبا إلى التّأنّي مهما أمكن و يأتي الفرق بين العجلة و المسارعة في قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آل عمران- ۱۱٤].

و الإثم و الآثام: اسم للأفعال المبعدة عن الثّواب و الخير، و يطلق على العقوبة أيضا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و «لا» لنفي الجنس في الموضعين أي: لا إثم على الحاج و قد غفرت ذنوبه بما كان من حجته المبرورة.

و المعنى: فمن تعجّل النّفر من منى في يومين و هما يوم النفر و الذي بعده و من تأخر في النّفر إلى اليوم الثالث عشر لا إثم عليه في الحالتين لأنّه مغفور له سواء استعجل أو تأخر.

و الآية تبيّن أمرين:

الأول نفي الإثم مطلقا عن المتنسّك فإنّه قد غفرت ذنوبه.

و الثاني التخيير في النّفر فإنّ الاستعجال في النفر و التأخير سواء فهو مغفور له على أي حال، و ذلك لدفع توهّم أنّ في التعجيل إثما، فيكون الكلام من باب المزاوجة التي تعد من أنحاء الفصاحة و إلا فإنّ التأخير فضيلة. كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن و إن أسررتها فحسن أيضا و إن كان الإسرار أحسن و أفضل و لذلك نظائر كثيرة في كلمات الفصحاء.

قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى‏.

أي: لمن اتصف بصفة التّقوى التي هي من أجلّ المقامات فيكون بالنسبة إليه كلّ واحد من النفر الأول و الثاني على حدّ سواء، و يشمل ذلك التجنب عن محرّمات الإحرام كالصيد و نحوه فمقام المتقين أوجب التوسعة و التخيير لهم في النفر فيكون قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى‏ قيدا لتمام الجملة التي قبله، و يدل عليه بعض الأحاديث أيضا.

و قد يقال: إنّ المراد بقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى‏ الاجتناب عن المحرّمات في الإحرام و يكون على هذا قيدا لخصوص فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني أنّ من اجتنب المحرّمات في إحرامه لا بأس عليه أن ينفر في النفر الأول، و يشهد عليه سياق الآيات الواردة في الحج بعد ملاحظة مجموعها كما تدل عليه جملة من الأحاديث.

و يمكن إرجاع هذا الوجه إلى الأول بعد القول بأنّ إطلاق التّقوى نص في المورد.

قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

أمر بالتّقوى بفعل الطّاعات و الاجتناب عن المعاصي، و الحث عليها و تذكير بالحشر و الحساب فإنّ أمر التّقوى لا يتمّ إلا مع ذكر الحشر و الحساب و الجزاء، فيكون ذلك داعيا إلى العمل و باعثا على ملازمة التّقوى قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [ص- ۲٦]، و قال جل شأنه: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر- 19]، و إطلاق هذه الآية المباركة يشمل نسيان المبدأ و المعاد فأنساهم أنفسهم.

و في الآية ترغيب إلى ملازمة التّقوى في جميع الحالات و إرشاد إلى عدم الاتكال على الطّاعات التي صدرت منه و عدم الاغترار بما فعل من الحسنات.

و من تكرار الأمر بالتّقوى و الذّكر يستفاد أنّه لا بد من ملازمتهما و تمكين النّفس منهما و عدم الغفلة عنهما بحال. و أنّ قبول الأعمال إنّما يكون بهما.

تدلّ الآيات الكريمة على أمور:
الأول: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ يدل على ثبوت حج التمتع و أنّ قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يدل على أنّه وظيفة الآفاقي دون الحاضر المقيم.
الثاني: أنّ الإتيان بضمير الجمع في قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يدل على أنّ المناط رجوع الأصحاب إلى الأهل فلو أقام بمكة يقدر له زمان رجوع أصحابه إلى بلده، فيجوز له حينئذ أن يصوم السبعة.
الثالث: أنّ قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يدلّ على أنّ هذه العشرة كاملة في النّسك تقوم مقام المبدل عنه في الحكم، و قد تقدّم بعض الكلام في هذا التعبير فراجع.
الرابع: أنّ في قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كمال اللطف و العناية. و فيه إشارة إلى حكمة هذا التشريع فإنّ الإنسان في السفر يحتاج إلى الأهل ليخفف عنه ما قاساه من أهوال السّفر و أتعابه فيطمئنّ إليهم و يستريح عندهم و الإحلال من إحرام العمرة و التمتع بما حرّمه اللّه عليه بسبب إحرامه و عدم احتياج الإهلال بالحج إلى الذّهاب إلى الميقات مرة أخرى، فيهلّ بالحج من المسجد الحرام أو غيره من أرض مكة كلّ ذلك مما يخفّف عنه ثقل ذلك عن النائي إذ لم يكن له أهل عند المسجد الحرام و لذا عبّر عنه بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
الخامس: المنساق من قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أنّ الأيام في الثلاثة و في السبعة تكون متوالية.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّ أشهر الحج كانت معلومة عند العرب في الجاهلية و معروفة قبل الإسلام و قد قرّرت الشريعة المقدّسة ذلك و لم تغيّرها.
السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أنّ للحج تحريما و تحليلا فمن شرع فيه يجب عليه إتمامه و التحلّل منه.
الثامن: إنّما ذكر سبحانه: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازا عن الوقوع فيما يوجب العقاب و العذاب، و لأنّ العالم لا يخالف أمر اللّه تعالى، لأنّ علمه يمنعه و يرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفا في التقوى للعالم به.
التاسع: من بلاغة القرآن أنّه تعالى صرّح في مقام الإضمار، فذكر الحج ثلاث مرات و المراد من الأول: زمان الحج، و الثاني: الحج نفسه، و الثالث: ما يعم زمانه و مكانه. و لأنّ اللّه تعالى أراد من ذكره بالخصوص لبيان أنّ عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض فيهنّ الحج بل هو مطلوب للشارع بنفسه و أنّ الحج بطبعه ينافر ذلك فلو قال تعالى: وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ لأوهم أنّه تكليف لمن فرض فيه الحج كذلك، فيكون تكليفا خاصّا به لا من حيث طبيعة الحج.
العاشر: أنّ في قوله تعالى: وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ الاهتمام بنفي الجدال أشد من نفي الرّفث و الفسوق، لأنّ الجدال أهمّ و أعمّ، و لذلك اهتم الجليل به و ذكر الحج عقيبه.
الحادي عشر: أنّ في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ إشارة إلى تحقيق المساواة، و ترك التفاخر، و لزوم الجماعة، و للإعلام بأنّ الإفاضة شرع قديم و إرشاد إلى اختيار الإفاضة المشروعة المبنية على السكينة و الوقار دون غيرها.
الثاني عشر: يستفاد من تكرار الأمر بالذّكر خمس مرّات شدة عناية اللّه بخلقه، و ذلك بالحضّ و الترغيب بفعل الأصلح، و إرشادهم إلى القيام بما هو كثير الفائدة و الجزاء لهم فأمرهم بالذّكر في هذه المواطن الكريمة و الأزمنة الشريفة.
الثالث عشر: إنّما شبّه ذكره تبارك و تعالى بذكر الآباء، لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء و التفاخر بهم، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال، و لم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية إلا ذكر الآباء و الأنساب و التفاخر بها فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن و الأصلح، و هو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم و الأجر الجزيل. و الترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التّقوى و تفاوتها في مراتب الذّكر، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء، و منهم من يكون أشد.
الرابع عشر: أنّ في قوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لطفا ظاهرا و إعلاما بأنّ اجتماع الحجيج في المواطن الشريفة و إفاضتهم منها إنّما هي حشر مصغر لا بد أن يتذكر منه الحشر الأكبر، و هو حشر الناس إلى اللّه تعالى.

في الكافي و التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال: «هما مفروضان».
أقول: تمسك (عليه السلام) بظاهر الأمر الوارد في الآية المباركة بناء على أنّ وجوب الإتمام في هذا العمل يستلزم أصل الوجوب. و الوجوب بالنسبة إلى حجة الإسلام من ضروريات الدّين، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران- 97]، و أما بالنسبة إلى العمرة فإنّ العمرة التمتعية واجبة و يكفي في صدق الفرض ذات الطبيعة و لو في الجملة.
و في العلل عن الصادق (عليه السلام): «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع، لأنّ اللّه يقول: و أتمّوا الحج و العمرة للّه. قيل: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أ يجزي ذلك عنه؟ قال (عليه السلام): نعم».
أقول: تقدم بيانه و لا وجه للإعادة مرّة أخرى.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «العمرة واجبة بمنزلة الحج لأنّ اللّه يقول: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ هي واجبة مثل الحج، و من تمتّع أجزأته، و العمرة في أشهر الحج متعة».
أقول: صدر الرواية مرّ بيانه. و أما ذيلها فلأنّ الإحلال بعد الإحرام متعة يتمتع بها المحلّ بما حرّم عليه بالإحرام.
في تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ قالا: «فإنّ تمام الحج أن لا يرفث، و لا يفسق، و لا يجادل».
أقول: هذا بيان لأهم تروك الإحرام، و أنّ ذلك من باب ذكر بعض أفراد التروك لا الحصر، و قريب منه ما في الكافي و الخصال و العيون.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال (عليه السلام): «يعني بتمامهما أداؤهما و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما».
في الكافي أيضا عنه (عليه السلام) قال: «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه، و ذكر اللّه كثيرا و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ.
أقول: هذا يبيّن ما قلناه في معنى الإتمام.
و في المجمع عن أمير المؤمنين و السجاد (عليهما السلام): «يعني أقيموهما إلى آخر ما فيهما».
أقول: هذه الرواية تبيّن ما سبق من الروايات، و تقدّم ما يدل على ذلك.
في الكافي و التهذيب عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «المحصور غير المصدود، و قال (عليه السلام): المحصور هو المريض، و المصدود هو الذي يرده المشركون، كما ردوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنّه ليس من مرض، و المصدود يحلّ له النساء و المحصور لا يحل له النساء».
أقول: نسب ذلك إلى المشهور بين الفقهاء أيضا.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال: «يجزيه شاة و البدنة، و البقرة أفضل».
أقول: يكون المراد بالاستيسار الاستيسار بالنسبة إلى النّوع.
و في العيون عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ قال (عليه السلام): «يعني شاة وضع على أدنى القوم قوة ليسع القويّ و الضعيف».
أقول: هذا بيان لبعض حكم التشريع.
في التهذيب عنه (عليه السلام): «في رجل أحصر في الحج قال (عليه السلام): فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه و محلّه أن يبلغ الهدي محلّه و محلّه منى يوم النحر إذا كان في الحج، و إن كان في عمرة نحر بمكة، و إنّما عليه أن يعدهم لذلك يوما فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى، و إن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء اللّه تعالى».
أقول: المسألة مذكورة في الفقه و من شاء فليراجع كتاب الحج من (مهذب الأحكام).
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أحصر الرجل بعث بهديه فإن أذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنّه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم، أو يتصدّق، و الصّوم ثلاثة أيام، و الصّدقة على ستة مساكين نصف صاع لكلّ مسكين».
أقول: يصير مدّين أي: كيلو و نصف تقريبا من الطعام أو من كلّ ما يؤكل.
في التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «مرّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على كعب بن عجرة و القمل يتناثر من رأسه، و هو محرم فقال (صلّى اللّه عليه و آله) له: أ يؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فأمره رسول اللّه‏ (صلّى اللّه عليه و آله) أن يحلق رأسه، و جعل الصيام ثلاثة أيام و الصدقة على ستة مساكين، مدّين لكلّ مسكين. و النسك: شاة. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) و كلّ شي‏ء في القرآن أَوْ فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، و كلّ شي‏ء في القرآن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ كذا، فعليه كذا. فالأول بالخيار.
أقول: قوله (عليه السلام) مطابق للمحاورات العرفية، كما ذكرنا في علم الأصول.
و في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: «كعب بن عجرة فيّ أنزلت هذه الآية قال أتيته (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: أدنه فدنوت مرّتين أو ثلاثا. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أ يؤذيك هوامك؟- قال ابن عود و أظنه- قال نعم، فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسّر».
أقول: المراد بالتيسر أي كلّ ما أمكن.

في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة فصلّى بها، ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها و أهلّ بالحج و ساق مائة بدنة و أحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة و لا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مكة طاف بالبيت و طاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام و استلم الحجر، ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): أبدأ بما بدأ اللّه عز و جلّ به.
فأتى الصفا فبدأ بها، ثم طاف بين الصفا و المروة سبعا فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا و أمرهم أن يحلّوا و يجعلوها عمرة و هو شي‏ء أمر اللّه عزّ و جلّ به فأحلّ الناس و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، و لم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الذي كان معه إنّ اللّه عز و جل يقول: لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
فقال سراقة بن جشعم الكناني: يا رسول اللّه علّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم. أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا بل للأبد، و إنّ رجلا قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجاجا و رؤوسنا تقطر!! فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّك لن تؤمن بهذا أبدا قال (صلّى اللّه عليه و آله): و أقبل عليّ (عليه السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلّت، و وجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مستفتيا، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يا علي بأيّ شي‏ء أهللت؟ فقال (عليه السلام) أهللت بما أهلّ به النبيّ. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): لا تحلّ أنت فأشركه في الهدي و جعل له سبعا و ثلاثين، و نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ثلاثا و ستين فنحرها بيده. ثم أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد، ثم أمر به فطبخ فأكل منه و حسا من المرق، و قال (صلّى اللّه عليه و آله): قد أكلنا منها الآن جميعا، و المتعة خير من القارن السائق، و خير من الحاج المفرد. قال: و سألته (عليه السلام) أ ليلا أحرم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أم نهارا؟ فقال (عليه السلام): نهارا فقلت: أي ساعة؟ قال (عليه السلام): صلاة الظهر».
أقول: روي قريب من هذا المعنى في عدة روايات.
و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لأنّ اللّه يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فليس لأحد إلا أن يتمتع، لأنّ اللّه أنزل ذلك في كتابه، و جرت به السنة من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
أقول: تقدّم ما يدل في الروايات السابقة.
و في الدر المنثور عن البخاري و مسلم عن ابن عمر قال: «تمتع رسول اللّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج و أهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، و بدأ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج فتمتع الناس مع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، و منهم من لم يهد، فلما قدم النبيّ (صلّى اللّه عليه‏ و آله) مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فليطف بالبيت، و بالصّفا و المروة، و ليقصّر و ليحلّ، ثم ليهلّ بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله».
أقول: قد كثرت الرّوايات في ذلك عن العامة بعدة طرق.
و في صحيح البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: «قدمت على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو بالبطحاء- فقال (صلّى اللّه عليه و آله) أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال (صلّى اللّه عليه و آله) هل سقت من هدي؟ قلت: لا. قال (صلّى اللّه عليه و آله): طف بالبيت و بالصفا و المروة، ثم حلّ، فطفت بالبيت و بالصفا و المروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي و غسلت رأسي، فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر و إمارة عمر، فإنّي لقائم بالموسم، إذ جاءني رجل، فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت: أيّها الناس من كنا أفتيناه بشي‏ء فليبتد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم، قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب اللّه فإنّ اللّه قال: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ و أن نأخذ بسنّة نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله) لم يحل حتى نحر الهدي».
و في مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال: «هي سنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)- يعني المتعة- و لكن أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثم يروحوا بهنّ حجاجا.
و في صحيح الترمذي و زاد المعاد: «سئل عبد اللّه بن عمر عن متعة الحج قال: هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أ رأيت إن كان أبي نهى و صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ أمر أبي تتبع، أم أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)؟!! فقال الرجل: بل أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: لقد صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
و في سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر قال: «قلت: إنّ‏ ابن الزبير ينهى عن المتعة و ابن عباس يأمر بها قال: على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و مع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هذا الرسول، و القرآن، هذا القرآن و إنّهما كانتا متعتين على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة، و الأخرى متعة الحج».
أقول: الروايات في مضامين هذه الأخبار كثيرة مروية في صحاحهم تدلّ جميعها على تشريع المتعتين عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و عمل الصحابة بهما، فإن كان نهي الخليفة في مقابل النبي الأعظم و ردا له (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ أحدا من المسلمين لا يرتضي بذلك، و لذا اعترض بعض الصحابة في عصره عليه، و إن كان لأجل مصلحة الوقت التي رآها الخليفة باجتهاده فهو إنّما ينفع للوقت الخاص و للأشخاص المخصوصين كما أثبتوا ذلك في أصولهم و لا ينفع ذلك للحكم الأبدي.
مع أنّ الاستدلال عليه بأنّه يوجب التمتع بالنساء و الرّواح تحت الأراك و التعريس بهنّ فهو مجمل لا يمكن أن يكون سببا للتحريم بعد حلية النبي الأعظم له، و اجتهاد في مقابل النص الذي اتفق المسلمون على بطلانه.
مع أنّه يجري في من حج التمتع ابتداء الذي اتفق جميع الفقهاء على صحته، فيكون هذا القول مخالفا للنص و إجماع الفقهاء.
و في الدر المنثور أخرج مسلم عن عبد اللّه بن شفيق قال: «كان عثمان ينهى عن المتعة و كان عليّ يأمر بها، فقال: عثمان لعليّ كلمة. فقال عليّ (عليه السلام): لقد علمت أنّا تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أجل و لكنّا كنّا خائفين».
أقول: هذا أحد الإشكالات التي أوردوها على حج التمتع.
و فيه مضافا إلى قصور السند قصور الدلالة فإنّه كيف يمكن أن يكونوا خائفين مع كونهم مع النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و في منعة و قوة عظيمة إذ أنّ تشريع حج التمتع إنّما كان في حجة الوداع و المسلمون في منعة و شوكة.
و إن أراد بذلك قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فهو مردود لأنّ الآية تبيّن كليّ الحكم لا أنّ أصحاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) في خوف في حجة الوداع، أو أنّه شرط في هذا الحكم.
و في الدر المنثور أخرج مسلم عن أبي ذر قال: «لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني: متعة النساء و متعة الحج».
أقول: هذا هو الإشكال الثاني.
و فيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي ذر: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) خاصة».
أقول: هذا مخالف للروايات الصحيحة الدالة على أنّهما مشروعان إلى الأبد، و لعلّ مراده «لنا خاصة» أي لمن يعلم خصوصيات الموردين فيعمّ كلّ مسلم عالم بالحكم و شرائطه.
و يأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بحج التمتع أيضا.
في الكافي و التهذيب في قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عن الصادق (عليه السلام): «شاة».
أقول: إنّه محمول على أقلّ ما يجزي بقرينة التفصيل التي تقدّمت في الروايات السابقة.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «في المتمتع لا يجد الهدي؟ قال: يصوم قبل يوم التروية بيوم، و يوم التروية، و يوم عرفة. قلت: فإنّه قدم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق قلت: لم يقم عليه جماله؟ قال (عليه السلام) يصوم الحصبة و بعده يومين قلت و ما الحصبة؟ قال (عليه السلام): يوم نفره، قلت: يصوم و هو مسافر؟ قال (عليه السلام): نعم، أ ليس هو يوم عرفة مسافر إنا أهل بيت نقول ذلك لقول اللّه عز و جل فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ نقول في ذي الحجة».
أقول: هذا تخصيص لما دلّ على عدم جواز الصوم للمسافر.
و في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: «كنت قائما أصلّي و أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قاعد قدامي، و أنا لا أعلم به فجاءه عباد البصري فسلّم عليه و جلس فقال له: يا أبا الحسن ما تقول في رجل تمتع و لم يكن له هدي؟ قال (عليه السلام): يصوم الأيام التي قال اللّه.
قال: فجعلت اصغي إليهما، فقال له عباد: و أيّ أيام هي؟ قال (عليه السلام): قبل التروية، و يوم التروية، و يوم عرفة، قال: فإن فاته ذلك؟ قال (عليه السلام): يصوم صبيحة الحصبة و يومين بعده. قال: أ فلا تقول كما قال عبد اللّه بن الحسن؟ قال (عليه السلام): و أيّ شي‏ء قال؟ قال: يصوم أيام التشريق. قال (عليه السلام): إنّ جعفرا (عليه السلام) كان يقول: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أمر بلالا ينادي أنّ هذه أيام أكل و شرب فلا يصومنّ أحد. فقال: يا أبا الحسن إنّ اللّه قال: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ. قال (عليه السلام): كان جعفر (عليه السلام) يقول: ذو الحجة كلّه من أشهر الحج».
أقول: في سياقه وردت روايات كثيرة من الخاصة و العامة.
في الكافي عنهم (عليهم السلام) في قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ: «إن بدا له الإقامة بمكة نظر مقدم أهل بلاده فإذا ظنّ أنّهم قد دخلوا فليصم السبعة».
أقول: استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ و قد مرّ في التفسير فراجع.
و في تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن صوم ثلاثة أيام في الحج و السبعة أ يصومها متوالية أم يفرّق بينها؟ قال (عليه السلام): يصوم الثلاثة و السبعة لا يفرّق بينها، و لا يجمع الثلاثة و السبعة جميعا».
أقول: يستفاد ذلك من ظاهر الآية المباركة.
و في التهذيب في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قال الصادق (عليه السلام): «كمالها كمال الاضحية سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية».
أقول: تقدم أنّه يستفاد من الآية ذلك.
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قال: «من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل (مر) و أشباهها».
أقول: الروايات في التحديد مختلفة تجمعها هذه الرواية و أمثالها.
و مر: موضع بقرب مكة من جهة الشام على قدر مرحلة.
و في التهذيب عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى قال: «يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية و أربعين مثلا ذات عرق، و عسفان يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و كلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة».
و في التهذيب أيضا عن الصادق (عليه السلام): «ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام و ليس لهم متعة».
أقول: لا بد و أن تحمل هذه الرواية على ما مرّ بعد رد بعضها إلى بعض.
و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: «شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن».
أقول: قد ورد في ذلك عدة روايات و في بعضها «و من أحرم بالحج في‏ غير أشهر الحج فلا حج له».
و في الكافي و تفسير العياشي في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال الصادق (عليه السلام): «و الفرض التلبية و الإشعار و التقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض فيهنّ الحج».
و في الكافي في قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ قال الصادق (عليه السلام): «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه و ذكر اللّه كثيرا، و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال اللّه عز و جل: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ و الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السباب، و الجدال: قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه- الحديث-».
أقول: يأتي ما يتعلق بهذه الرواية في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قال الصادق (عليه السلام): «يعني الرّزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه، و قضى نسكه فليشتر و ليبع في الموسم».
أقول: تدلّ عليه العمومات و الإطلاقات و أنّ الآية المباركة نزلت لرفع توهم الحظر كما يدل عليه الحديث الآتي.
و روى في المجمع عن جابر عن الباقر (عليه السلام): «ليس عليكم جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم».
أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و ما تقدّم من الروايات لأنّ الرزق أعم من المعنوي و الظاهري.
و في الدر المنثور: «كان ذو المجاز و عكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية».
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حج النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ثم غدا و الناس معه- إلى أن قال- و كانت قريش تفيض من المزدلفة – و هي جمع- و يمنعون الناس أن يفيضوا فأنزل اللّه عزّ و جل عليه ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يعني إبراهيم، و إسماعيل، و إسحاق في إفاضتهم منها و من كان بعدهم».
أقول: يستفاد من الحديث أنّ المراد بالناس خصوص من كان ملتفتا إلى أحكام الإفاضة، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قال: «يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و من بعدهم من أفاض من عرفات».
و في رواية عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ قريشا كانت تفيض من جمع، و مضر، و ربيعة من عرفات».
أقول: إنّ الآية المباركة نزلت في رفع هذه العادة السيئة.
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كانت قريش و حلفاؤهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات، و لا يفيضون منها، و يقولون: نحن أهل حرم اللّه تعالى فلا نخرج من الحرم، فيقفون بالمشعر و يفيضون منه فأمرهم اللّه تعالى أن يقفوا بعرفات و يفيضوا منه».
أقول: قد روي قريب منه في الدر المنثور، في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً قال: «رضوان اللّه و الجنة في الآخرة، و المعاش، و حسن الخلق في الدنيا».
و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) أيضا: «رضوان اللّه و التوسعة في المعيشة، و حسن الصحبة، و في الآخرة الجنة».
و عن عليّ (عليه السلام): «في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار المرأة السوء».
أقول: لا منافاة بينها لأنّ ذلك من بيان بعض المصاديق.
و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ قال: «إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة».
في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله اللّه عز و جل: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «قال عليّ (عليه السلام): التكبير في أيام التشريق في دبر الصلوات».
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و في الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات».
أقول: يأتي ما يتعلّق بذلك في البحث الفقهي.
في الفقيه في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفورا له لا ذنب له».
أقول: قريب منه في تفسير العياشي‏ و المراد منه أنّه ليس على التخيير مطلقا.
و في الفقيه أيضا في قوله تعالى: لِمَنِ اتَّقى‏ قال الصادق (عليه السلام): «يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى».
و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى منهم الصيد، و اتقى الرّفث، و الفسوق، و الجدال، و ما حرّم اللّه عليه في إحرامه».
و عن الصادق (عليه السلام): «لمن اتقى الكبائر».
و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى اللّه عزّ و جل».
أقول: كلّ ذلك صحيح و لكنّ الظاهر المنساق من الآية اتقاء ما حرّم في الإحرام.

تضمنت الآيات الشريفة كثيرا من أحكام الحج و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و قد ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية. و نحن نذكر المهمّ المستفاد من هذه الآيات في المقام و هي:
الأول: دلّت الآية الشريفة وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ. على أنّ الحج و العمرة من العبادات المتوقفة على قصد القربة، كما تدلّ على وجوب إتيانهما تامّين جامعين للأجزاء و الشرائط، و على وجوب إتمامهما بعد الشروع فلا يجوز الإحلال إلا بعد تمام أفعال الحج و العمرة، فمن أفسد حجه أو عمرته لجهة من الجهات لا يبطلان و يجب عليه المضي فيه و الإتمام ثم الإحلال، و حينئذ فإن كان فيه القضاء وجب و إلا فلا. و تفصيل ذلك يطلب من الفقه.
كما تدل على وجوب العمرة و أنّها بمنزلة الحج، و تدلّ عليه روايات كثيرة مروية من الفريقين ذكرنا بعضها في البحث الروائي.
و الآية المباركة لا تدل على أنّ الحج و العمرة واجبان فلا بد من إثبات الوجوب لهما من دليل آخر:
أما الحج: فقد دلّت الآية الشريفة وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران- 97] و النصوص المتواترة بين الفريقين بل الضرورة الدّينيّة على وجوب حجة الإسلام مع استجماع الشرائط.
و أما العمرة: فقد دلّت على وجوبها السنة كما ذكرناها في الفقه، و تكفي عمرة التمتع عن العمرة الواجبة و يكون كلّ منهما مندوبا بالذات و يجبان بالعارض من نذر و نحوه.
الثاني: أنّ قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يدل على أنّ مطلق المنع من إتمام الحج و الوصول إلى بيت اللّه الحرام لأداء المناسك سواء كان السّبب عدوّا أم مرضا أم غير ذلك يوجب تبدل الحكم بالنسبة إلى المحصور مطلقا و أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ لا تكون قرينة على أنّ المراد هو الحصر من العدوّ بل هو عام يشمل الأمن من رفع المانع، و لكن تكرّر في الروايات أنّ المحصور غير المصدود فالأول هو المريض و الثاني هو الذي يرده المشركون كما صدوا النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) عن الحج عام الحديبية.
و الظاهر: أنّ الحصر متعلّق بالحج و العمرة كليهما فلا اختصاص له بالأول فقط لأنّه ذكر عقيبهما فيرجع إليهما معا.
الثالث: يدل قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أنّ للهدي محلّا معيّنا لا يجوز ذبحه في غيره، و لكنّه تعالى أجمل ذلك و قد حدّدته السنة المقدّسة بمكة المكرمة أو منى، و نظيره قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح- ۲٥].
و يستفاد من الآية الشريفة: أنّه لا يجوز الحلق و التحلّل من الإحرام حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ سواء ذبح أم لا و يدلّ عليه‏ صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن رجل أحصر فبعث الهدي قال: يواعد أصحابه ميعادا إن كان في الحج فمحلّ الهدي يوم النّحر فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه و لا يجب عليه الحلق حتى تنقضي مناسكه و إن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة و الساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصّر و أحلّ»
و عليه فلو ظهر خلاف المواعدة و أنّ أصحابه لم يكونوا قد ذبحوا عنه أصلا أو ذبحوه بعد تحلّله فإنّه لا شي‏ء عليه، و يدلّ على ذلك‏ صحيحة معاوية بن عمار أيضا عن الصادق (عليه السلام): «فإن‏ ردوا الدّراهم عليه و لم يجدوا هديا ينحرونه و قد أحلّ لم يكن عليه شي‏ء و لكن يبعث من قابل و يمسك أيضا» أي يمسك عن النساء إذا بعث هذا في المحصور.
و أما المصدود: فإنّه يذبح في مكانه حلا كان أو حرما و قد نطقت بذلك جملة من الرّوايات، و قد نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هديه بعد أن صدّه المشركون في الحديبية و أحلّ من الإحرام و التفصيل يطلب من كتاب الحج من الفقه.
الرابع: أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ يدل على تشريع حج التمتع الذي هو أحد الأقسام الثلاثة في الحج و القسمان الآخران هما حج الإفراد، و حج القران. و الفرق بين الأول و الأخيرين هو: 1- أنّ الأول وظيفة من لم يكن مقيما و حاضرا عند المسجد الحرام و يدل عليه قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة- ۱۹٦]، و هو الآفاقي الذي يبعد عن المسجد الحرام بما يعادل 88 كيلومترا كما حدّدته السنة الشريفة.
2- أنّ الأول مركب من عملين: هما العمرة و الحج، و لا يقع الثاني بدون الأول، و أما الأخيران فلا يكونان كذلك بل هما عمل واحد و هو الحج إلا أنّ حج القران يساق فيه الهدي مع عقد الإحرام بخلاف حج الإفراد.
3- أنّ وجوب الهدي يختص بالتمتع بخلاف القسمين الأخيرين و هناك فروق أخرى مذكورة في كتب الفقه.
و لا خلاف و لا إشكال في أصل تشريع حج التمتع بإجماع الأمة و أئمة الحق (عليهم السلام) و النصوص المتواترة بين الفريقين، و هو أفضل أنواع الحج مطلقا لنصوص معتبرة كثيرة منها: ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لو حججت ألفا و ألفا لتمتّعت» و هو يتحقق على نحوين:
الأول: أن يحرم أولا بعمرة التمتع ثم بعد قضاء مناسكها و الانتهاء منها يحلّ و يحرم بالحج، و هذا مما لا نزاع في مشروعيته من أحد من المسلمين‏
و لا تختص مشروعيته بأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يدلّ عليه قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ و النصوص المتواترة بين الفريقين منها ما عن أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»،
و روي عن جابر أنّ سراقة بن مالك قال: «يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به- يعني الإحلال بعد العمرة إلى الحج- لعامنا هذا أم إلى الأبد فقال (صلّى اللّه عليه و آله): بل إلى الأبد إلى يوم القيامة» و رواهما الجمهور في مجامعهم.
و أخرج البخاري و أحمد و النّسائي و غيرهم عن عليّ (عليه السلام) قال: «إنّ المتعة سنّة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلا يدعها لقول أحد من الناس»، و ادعى الإجماع على ذلك.
و لهذا القسم شروط مذكورة في كتب الفقه.
الثاني: أن يحرم بالحج حتّى إذا دخل مكة محرما بحج الإفراد يعدل عن حجه إلى عمرة التمتع و يتم حج التمتع، و قد وقع النزاع بين الفقهاء فيه.
أما عند الخاصة: فالمشهور جوازه حتى في فرض العين، و منهم من منعه في فرض العين و جوّزه في الندب و الفرض غير المتعين.
و أما عند العامة: فمنعه جمهورهم و هو الذي توعّد عليه الخليفة الثاني فقال: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أما أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحج». و قد وردت في صحته و مشروعيته الأخبار الكثيرة عن الفريقين:
ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام): «لما فرغ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من سعيه بين الصفا و المروة أتاه جبرئيل عند فراغه من السعي فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على الناس بوجهه فقال: «أيّها الناس هذا جبرئيل،- و أشار بيده إلى خلفه- يأمرني عن اللّه عزّ و جل أن آمر الناس بأن يحلّوا إلا من ساق الهدي» فأمرهم بما أمرهم اللّه تعالى.
فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه نخرج من منى و رؤوسنا تقطر من النساء؟! و قال آخرون: يأمرنا بشي‏ء و يصنع هو غيره.
فقال: «أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس، و لكن سقت الهدي فلا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه». فقصّر الناس و أحلّوا و جعلوها عمرة.
و قام إليه سراقة بن مالك المدلجي فقال: يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «بل للأبد إلى يوم القيامة- و شبك بين أصابعه-» و أنزل اللّه بذلك قرآنا: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
و قريب منه: ما رواه مسلم، و أبو داود، و النسائي، و ابن ماجة في جوامعهم و أحمد في مسنده و غيرهم عن الصادق و عن الباقر عن جابر و قد ذكرت في مجامعهم روايات كثيرة بمضامين مختلفة.
قال القرطبي: «قد تواردت الآثار عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيه- أي في مشروعية هذا القسم- أنّه أمر أصحابه في حجة من لم يكن معه هدي و لم يسقه و قد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة، و قد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يدفعوا شيئا منها إلا أنّهم اختلفوا في القول بها و العمل لعلل» ثم ذكر بعض تلك العلل و هي موهونة لمن تدبر فيها و لذلك لم يعمل بها كثير من علمائهم.
و أما قول الخليفة فهو مردود من جهات و قد ذكرت في الكتب الكلامية، و سيأتي في الموضع المناسب في هذا التفسير إثبات أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع حكما إلهيّا نطق به القرآن الكريم أو جاء به الرّسول الأمين (صلّى اللّه عليه و آله).
الخامس: إطلاق قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يقتضي إجزاء ما صدق عليه الهدي من النّعم الثلاثة إلا أنّ الفقهاء قيّدوه و اشترطوا في الهدي شروطا كثيرة لأدلة خاصة و هي مذكورة في كتب الفقه فراجع.
كما أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه لا بد و أن يكون الهدي كاملا و عن واحد فلا يجزي بعض الهدي.
السادس: ظاهر قوله تعالى: ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ إجزاء الصيام في تمام ذي الحجة و أفضله السابع و الثامن و التاسع كما في روايات كثيرة منها ما
في صحيح رفاعة عن الصادق (عليه السلام) «عن المتمتع لا يجد الهدي قال: يصوم قبل التروية بيوم و يوم التروية و يوم عرفة، قلت: فإن قدّم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق- الحديث-».
و لا يجوز له صوم أيام التشريق إذا فاته ذلك و تدل عليه روايات كثيرة و إجماع الإمامية منها ما في‏ صحيح ابن سنان: «أنّ الصادق (عليه السلام) استشهد بأنّ بديل بن ورقاء أمره رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ينادي بمنى في الناس: أن لا يصوموا» و غيره من الأخبار المروية عن الفريقين.
السابع: الانتقال إلى الصّوم هو في زمان تعذر ثمن الهدي في محلّ وجوبه على تفصيل مذكور في كتاب الحج من (مهذب الأحكام).
الثامن: الظاهر من قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أن يكون الرجوع إلى الأهل كما تدل عليه الرّوايات و لكنّ الرّجوع على قسمين حقيقي و هو أن يرجع بنفسه إلى الأهل أو حكمي فيما إذا رجع أصحابه و أقام بمكة فإنّ عليه الانتظار مدّة وصول أصحابه إلى الأهل و ذكرنا أنّ ذلك ربما يستفاد من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ.
التاسع: ذكرنا أنّ ظاهر قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أنّ الحضور مقابل النائي و هو من لم يكن من أهل مكة و قراها، و هو مطلق و لكنّ السنّة حدّدت الحضور و قيدته بما إذا كان بينه و بين مكة ما يساوي ثمانية و ثمانون كيلومترا، لأدلة خاصة ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام) قسم الحج منه.
العاشر: ظاهر قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّها أشهر معلومة عند العرب و قد أقرّها الإسلام. و يستفاد منه أنّ ذا الحجة من أشهر الحج يصح إيقاع بعض الأعمال التي يعتبر أن تكون في الحج فيه كما في ثلاثة أيام الصّوم و يدل عليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج.
كما يستفاد منه أنّه لا يجوز الإحرام بالحج في غير الأشهر الثلاثة كما لا يصح إحرام عمرة التمتع في غيرها لأنّها داخلة في الحج كما عرفت.
الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أنّه يجوز إيقاع إحرام الحج في أيّ وقت من هذه الأشهر الثلاثة إذ أنّ فرض الحج يتحقق بالإحرام فيهنّ. كما أنّ ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ أنّه يجب إتمامه لأنّه جعله فرضا على نفسه.
الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وجوب الوقوف فيها و أنّ له وقتا محدودا يجتمع الناس فيها و يفيضون فإنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد الكون كما يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وجوب الوقوف و لو بقدر الذكر عند المشعر الحرام.
و المراد من الذكر: مطلق التسبيح و التهليل و الدعاء، و قد ورد في رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «يكفيه اليسير من الدعاء».
الثالث عشر: المستفاد من سياق قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أنّه الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى لأنّه تعالى ذكر الوقوف بعرفات و الإفاضة منها فيكون كلاما مستأنفا لا أن يكون تأكيدا للإفاضة من عرفات و التأسيس خير من التأكيد لكثرة الفوائد فيه.
الرابع عشر: إنّ قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ مطلق من حيث الكيفية و الكمية إلا أنّ السنة حدّدته بخمسة عشرة تكبيرة من بعد كلّ فريضة من صلاة الظهر يوم النّحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر.
و صورته المتفق عليها بين المسلمين: «اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر اللّه أكبر و للّه الحمد». و قد زاد أصحابنا تبعا للمأثور عن الأئمة الهداة
(عليهم السلام): «اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا و رزقنا من بهيمة الأنعام» و يدل على كلتي صورتيه عدة روايات من الخاصة و العامة.
الخامس عشر: المستفاد من سياق الآية الشريفة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى‏ أنّه راجع للعموم المستفاد من حكم ما قبله أي: الاتقاء عما يحرم على المحرم و قد فسرت في الروايات بخصوص الصيد و النساء و هذا هو المشهور عند الإمامية.
ثم إنّ أعمال الحج الواردة في القرآن الكريم المشروحة في السنة المقدّسة هي:
الأول- الإحرام: قال تعالى: وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة- ۹٦]. و قال تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة- ۹٥] و غيرهما.
الثاني- الطواف: قال تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج- 29]، و قال جل شأنه: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ.
الثالث- صلاة الطواف: قال تعالى: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة- ۱۲٥].
الرابع- السعي بين الصفا و المروة: قال تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة- ۱٥۸].
الخامس- الوقوف بعرفات: قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة- 200].
السادس- الوقوف بالمشعر الحرام: قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة- 200].
السابع- الإفاضة إلى منى و الكون فيها: قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة- 201].
الثامن- الهدي: قال جل شأنه: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج- 38].
التاسع- الإحلال و التقصير: قال تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة- 2]، و قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة- ۱۹٦].
العاشر- أيام منى: قال تعالى: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة- ۲۰٥].
الحادي عشر- قضاء المناسك: قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة- 200]، و لم يذكر سبحانه في القرآن رمي الجمرات و لا العيد و لعلّ السرّ في ذلك أنّه بعد ذكر الرّجم الكبير المذكور في قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص- 77]، يكون جميع أنحاء الرّجم من المؤمنين قولا و عملا من صغريات ذلك الرّجم، و أما عدم ذكر العيد فيمكن أن يكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة- 201] إشارة إليه.

تقدّم في أحد المباحث السابقة أنّ الطاعات و العبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهيّة لتكميل النّفوس المستعدّة و الوصول إلى الغاية المتوخاة من خلق الإنسان، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية التي هي مجمع الكمالات الإنسانية و بها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقية، و بها يتقرب العبد إلى خالقه و يصل إلى ساحة قدسه، و بها تتخلّى النفس من الرّذائل و تتحلّى بالفضائل و تتخلّق بالأخلاق الإلهيّة لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب و تفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب و بها ينال العبد مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به عزّ و جلّ. كلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب.
و من العبادات في الإسلام الحج الذي هو السّفر إلى اللّه تعالى للوقوف بين يدي عظمته و الدخول في ضيافته في بيته و حرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين.
و هو سفر يتضمّن كثيرا من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار و دخل في حريم كبرياء الجبار.
و هو السّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة التي تكون للسّلّاك من العرفاء و لا ينال العبد ما في هذا السّفر و لا يصل إلى الوجه المطلوب إلا إذا كان ملتفتا إلى سفره: مبدئه و غايته، و متوجها إلى كلّ جليل و دقيق في‏ الحركات و الأفعال بل حتى الخطرات، فإنّ المقام جليل و المطلب خطير و لا يناله إلا من كان بانيا على التكميل، لأنّ أصل تشريع هذا السّفر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبية و الانتقال منها إلى المنازل المعنوية و التوجه فيها إلى المعارف الإلهية، و تحلّي النفس بأخلاق اللّه تعالى فتصير الدّنيا و الآخرة عنده كمرآتين متقابلتين تحكي إحداهما عن الاخرى على نحو النقص و التمام اللذين هما من خصوصيات الذات و الزمان لا من جهات أخرى.
و في هذا السّفر منازل و مقامات لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها و الخروج منها على الوجه المطلوب و نبذ ما هو المعتاد و المألوف فإنّ الشيطان حريص على الغواية و التضليل.
و أول تلك المنازل حمل الزاد و تهيئة المركب كما في سائر الأسفار الدنيوية فإنّ أول ما يفعله المسافر حمل الزاد و معرفة أمن الطريق و توثيق الصلة مع أرباب النّواحي و تثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد و مديره ليأمن كيدهم، و كلّ ما عظم السفر اشتدت الحاجة إلى الزاد.
و السّفر إلى الحج سفر إلى اللّه تعالى فلا بد من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد و قد أخبرنا اللّه عزّ و جلّ أنّ التقوى هي خير الزاد فإنّها من أعظم السبل في توثيق الصلة و الارتباط مع مالك الملك و مدبّر الأمور و هي مالكية أزمة الآخرة و يتبعها مالكية أزمة الدنيا فإنّها تبع الآخرة فإنّ للدنيا جهتين: الأصالة.
لكونها محلّ العمل، فلو لا الدنيا لما كان عمل و لا عامل و لا تكليف و لا جزاء.
و جهة التبعية لكونها مزرعة الآخرة. فلو لا الآخرة لما خلقت الدّنيا، فبالتقوى ينال محبة اللّه تعالى و بها يمتطي ضهوة النّفس الأمارة و يأخذ لزمامها. و هي مفتاح كلّ خير و صلاح.
و من منازل هذا السّفر الخطير الإعراض عما سواه عزّ و جل و الابتعاد عن الأغيار، لأنّه السّفر إلى اللّه و السّير إلى حريم كبريائه عزّ و جل فلا بد أن يكون حجه و عمرته للّه ربّ العالمين.
و من منازله أيضا البناء و العزم على إتيان العمل جامعا للشرائط و أن لا يقدم عليه إلا و هو مطمئنّ النفس على إتمامها فإنّ قطع العمل و الرجوع عن السّير بعد التلبّس به مما لا يليق بمقام العبودية بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان.
ثم يحرم عند الوصول إلى الميقات و هو أول المقامات فيحرم النفس عن المشتهيات و يوقفها عن كافة الشهوات و يطرح عنها كلّ مشتبه و حرام عند خلعه الثياب عن الأبدان.
و يتهيّأ للدخول في الحرم الإلهي و الورود في ضيافة الرّحمن و لا بدّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي، و هو من أهمّ ما يبتغيه أهل السّير و السلوك في اللّه تعالى فيجب أن يكون السّعي و العمل متفقين مع الإرادة القلبية و كلاهما للّه تعالى فترتفع الأغيار و تزول الحجب و الأستار.
ثم الطواف بالبيت رمز العشق باللّه عزّ و جل و هو جذب روحي و إظهار للعبودية فلا بد و أن يكثر من ذلك كالمحب الذي تيّمه الحب و ذلله و هو يطوف حول بيت الحبيب و قد علا صوته بالبكاء و النحيب لعلّه يلقاه أو يجيب، و في الطّواف حكم و إشارات منها التردد في محالّ القدس و الإعلام بأنّ الطالب للحبيب لا بد له من الفناء فيه ليفوز بلقياه و نيل إفاضاته.
و الصلاة في المقام إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن في تركه طاعة الشيطان.
و في السّعي بين الصّفا و المروة انقطاع إلى ربّ الخلائق و إبراز التحيّر في ذاته المقدّسة و اظهار العشق له و نبذ كلّ صنم و وثن و معبود سواه.
و الوقوف بالمشاعر العظام إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي اللّه تعالى في عرصات يوم القيامة و إبراز الخضوع و الخشوع لعظمته تعالى و إظهار التذلّل و العبودية لساحة قدسه فلا بد و أن يكون على سكينة و وقار طالبا مغفرته و رضوانه، فإنّ تلك المشاعر العظام ليست إلا من مظاهر التوحيد و إلقاء الشرك و الكفر. و الوقوف فيها مع ما فيها من الزحام إراءة نموذج ما يكون في طريق‏ المصير إليه تعالى و ظهور الحق و فناء التكثّرات فيه.
و الإفاضة منها مع ضجيج الحجيج و النّداء و العجيج، و هم يفيضون من كلّ حدب و صوب قد تخلّوا عن الأهل و الأوطان و هم ضيوف جنابه يريدون ساحة قدسه قد تلقّاهم الرّبّ الرّحيم بكلّ حنان و رأفة و عناية و رحمة و هو الرّبّ الرّحيم قد وعدهم أن يزيل عنهم كلّ أهوال المحشر فكان هو المبدأ و المنتهى و تجلّت الإفاضة منه و إليه.
و في رمي الجمرات استعداد الإنسان للابتعاد عن الشيطان و الإعراض عن الخطيئات و السيئات.
و في إفناء حياة الهدي بالذبح إشارة إلى إفناء النّفس الأمّارة بعد الإهلال و إظهار التقصير و العجز، و كناية عن طرح كلّ رذيلة عن النّفس و المجاهدة معها في كلّ حقير و كبير.
و الرجوع من الحرم إلى الأهل يعتبر رجوعا لتكميل معارف الدّين و أحكام شريعة سيد المرسلين فيتجلّى في هذا السّفر كلّ ما يبتغيه أهل العرفان.
و لا بد أن يكون في جميع الأحوال مولعا بذكر الحبيب طالبا منه مغفرته و رضوانه فإنّ الحبيب لا ينفك عن البكاء و النحيب إذا صد عن حبيبه و طرد عن بابه.
ملأت به سمعي و قلبي و ناظري و كلّي و أجزائي فأين يغيب‏ هذه نبذة يسيرة ممّا لا بد أن يعمله السائر في هذا الطريق فإنّ في الحج قد اجتمعت قواعد السّير و السلوك المتبعة في تهذيب النفس.
و في الحج تتجلّى المشارقات الربوبية على الرّوح الإنساني، فكم من عناية إلهيّة تفاض على أهل عرفات؟!! و كم من شروق غيبيّ يشرق على النفوس المستعدّة في المشعر الحرام؟!!.
و كم من تجلّيات ربوبية تظهر للذوات القابلة في الرّكن و المقام!!
و كم من نفس تلوثت بالذنوب و الآثام تطهر عند إراقة الدّماء في منى!! و كم من ذنوب يحطّمها الرّبّ العظيم عند الحطيم!!.
و كم من خطايا يغفرها الرّبّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم و المستجار!!.
و كم من نفس تصل إلى مناها عند الوصول إلى منى!!.
و كم من عناية و لطف تظهران لعبده عند استلام الرّكن الذي هو يمين اللّه في الأرض يصافح بها عباده!!.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"