1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 178 الى 179

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)


ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي و الاجتماعي للإنسان، و قد لوحظ فيهما بقاء النوع و تهذيبهم بالأخلاق الفاضلة و نبذ الانتقام و العدوان، و قد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل و من يراد الاقتصاص له. و فيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع، و لذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. تقدم الكلام في مثل هذا لخطاب في آيتي ۱۰٤و ۱٥۳. و كتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف لا يدل على نفيه عن غيرهم.
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏. الأصل في مادة (كتب) هو الجمع و التثبت في جميع موارد استعمالاتها، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم اللّه تعالى، أو اللوح المحفوظ أو الكتب النازلة من السماء. أو الإيجاب على العباد- تكليفا أو وضعا- أو التحقق العيني الخارجي، فالكل كتاب، و الجميع يدل على الثبوت و الدوام، و التحفظ. و المراد به في المقام هو الفرض و الإيجاب.
و مادة (ق ص ص) تأتي بمعنى تتبع الأثر، و حيث إنّ وليّ المقتول، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله، و كذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك، يقال له القصاص.
و منه القصة و القصّاص، لأنه فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج كما أن منه القاص لأنه يتبع الآثار و الأخبار.
و المراد بالقصاص شرعا هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وليّ المقتول ذلك، و هو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية، لخروج الجناية الخطأية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى‏ أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].
و الآية تبين أصل تشريع القصاص؛ و قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ يبين حكمة هذا التشريع.
و في الآية إشعار بأنّه لا بد من التساوي بين المقتول و من يراد القصاص منه، و أنه لا بد من العدل في القصاص و ملاحظة المثلية. و في ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء و قتل الأبرياء كالاقتصاص من رئيس القبيلة و السيد في قتل العبد ظلما و عدوانا.
و القتلى: جمع القتيل بمعنى المقتول، و القتل زوال الروح إذا أضيف إلى المتعدي إليه (أي من وقع عليه القتل). و إذا أضيف إلى ذات الشخص فهو موت فلا فرق بينهما إلّا بالإضافة و الاعتبار، كما يقال: مات بالشهادة، أو مات بالقتل، و مات بالمرض. نعم يصح اعتبار التغاير بينهما بلحاظ السبب كما قال تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [سورة آل عمران، الآية: ۱٤٤].
و الجامع هو زوال الروح.
و عموم الخطاب يشمل الوضعي و التكليفي كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال ففي المقام بالأولى، و الأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.
و أما الأحكام الوضعية و هي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس و لم تكن من الخمسة التكليفية، و هي كثيرة كالضمان، و الولاية، و الطهارة، و النجاسة، و قد يجتمع الحكمان في شي‏ء واحد كاشتغال الذمة بعوض فهو وضعي و وجوب تفريغها تكليفي، و قد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا [تهذيب الأصول‏].
ثم انه ذكر سبحانه و تعالى بعض موارد المساواة و التكافؤ بين المقتول، و من يراد الاقتصاص منه.
قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. الحر: خلاف العبد لخلوصه عن الرقية، و الحر من كل شي‏ء خالصه، و أحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.
و العبد من فيه الرقّية، و في اصطلاح الكتاب و السنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية. و عند جمع من أهل العرفان: كل من كان له علاقة بغير اللّه تعالى فهو عبد له، و قالوا: إنّ عبد الشهوة و الهوى أشد رقّية من العبد المملوك للغير، و استشهدوا لذلك بأدلة عقلية و نقلية لعلنا نتعرض لذلك في محله.
و كيف كان، و المراد منه هنا المعنى الأول.
و في الآية من البلاغة ما لا يخفى و فيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالا.
قوله تعالى: وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏. كان في أهل الجاهلية بغي و حمية و كانت القبائل تتحكم بحسب القوة و المنعة، فان قتل من حي أهل منعة و عز أحد لا بد لهم من الاقتصاص و كانوا لا يكتفون من القاتل فقط، و إذا قتل منهم أنثى لا يقتصون من أنثى مثلها بل يقتصون من الذكر. و قد أنكر الشارع هذه العادة و حكم بالمساواة بين القاتل و المقتول فإذا كان القاتل أنثى فلا بد و ان يقتص منها لا من غيرها، و فيها بيان للمثلية أيضا أي الحرة بالحرة و الأمة بالأمة.
قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ. بعد ان ذكر وجوب القصاص و أنّه أساس العدل في الجنايات، و أنّه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية بيّن هنا جواز العفو بل رجحانه و هو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع و يعطي أهمية خاصة إلى التراحم و التعاطف بين أفراد البشر في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة و العادات السيئة الموروثة من الجاهلية، فكان هذا التشريع موفقا في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان و الجانب الغريزي و الشهودي فيه.
و مادة عفو تأتي بمعنى المحو و الزوال و نفي الأثر، و التجافي عن الذنب، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 199]، و قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [سورة المائدة، الآية: ۹٥]، و قال تعالى: وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [سورة الشورى، الآية: ۲٥].
و العفوّ- بالتشديد- من أسماء اللّه الحسنى، و في بعض الدعوات: «اللهم إنّي أسألك العفو و العافية و المعافاة». و الأول محو الذنب، و الثاني الصحة من الأسقام و الأمراض، و الأخير الحفظ عن أن يظلم أحدا أو أن يظلمه أحد.
و الفرق بين العفو و الغفران أنّ الثاني يختص استعماله باللّه تعالى غالبا و إن استعمل في غيره تعالى أحيانا؛ قال سبحانه: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التغابن، الآية: ۱٤]؛ بخلاف الأول فانه يستعمل في غيره عزّ و جل كثيرا، قال تعالى: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏ [سورة البقرة، الآية: 237]، و قال تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [سورة البقرة، الآية: 237]. و يقال: عفت الدار إذا انمحت آثارها.
و يمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضا، فان العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق و إن لم يكن من الذنب الشرعي كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا بخلاف الغفران.
و التعبير بالأخ ترغيب إلى العفو و المراد به ولي الدم.
و «شي‏ء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل أي بعض العفو و شي‏ء منه، و هو حق الاقتصاص أولا و يشمل البدل و المبدل أيضا.
و المعنى: و من عفا لأخيه عن جنايته و لم يرد القصاص و رضي بالدية فهو خير له.
قوله تعالى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ. المعروف: ضد المنكر، و معناه كلفظه؛ و المراد به كل ما حسن عند العقلاء و لم ينه عنه الشرع سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا. و هو يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار. و قد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم و السنة الشريفة كثيرا، قال تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 180]؛ و قال تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 228]، و قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً [سورة البقرة، الآية: ۲٦۳] إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين موردا.
و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كل معروف صدقة».
و المعنى: إن رغب في العفو عن القصاص لا بد له من إتباعه بالمعروف على الجاني بأن لا يرهقه في الدية، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة، أو الطلب منه بالرفق، أو يعفو عن بعض و نحو ذلك مما لا يستنكره‏ العرف، و ذلك مرغوب فيه لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش و الانتقام منها إلى العقل.
قوله تعالى: وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان كما أحسن اليه بالعفو و إتباعه بالمعروف.
قوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ. أي: أن تشريع القصاص و العفو عنه و الانتقال الى الدية و الاتباع بالمعروف و الأداء بالإحسان كلها تخفيف على الأولياء و الجانين و رحمة لهم، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك، فقد راعى عزّ و جل الوسط بين الإفراط، و التفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفا بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية فقد كان ذلك ثقلا كبيرا عليهم و رحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلما و عدوانا، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم و الاعتداء.
قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. أي: فمن اعتدى و انتقم من الجاني بعد العفو، أو تعدى عن الحد الذي قرره اللّه تعالى فله عذاب أليم، لأنه متعد عن القانون الإلهي و كل متعد كذلك لا بد و أن يعاقب عقلا و شرعا، فيكون مصيره إلى النار.
قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. بعد أن شرّع تعالى القصاص و حكم بأنّه لا بد من التساوي و التكافؤ بين الدماء. ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد و علته بأفصح بيان و أبلغه و أوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع و ابلغ نظم يؤديه البيان، قرن فيه بين التلطف و العتاب فما أجمل هذا الخطاب فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام و تواضع كل من يدعي الفصاحة أمام حسنه، و أعيى كل من جهد نفسه في البلاغة، و لو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام كقولهم:
(القتل أنفى للقتل) و قولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، و قولهم (أكثروا القتل ليقل القتل) لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء، و النار على المنار من حيث البلاغة و الفصاحة، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق‏ بذلك.
و المعنى: أنّ في القصاص المذكور الحياة للفرد و المجتمع، أما بالنسبة إلى المجتمع فإنّه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس، إنّ فيه حفظ النّاس عن اعتداء بعضهم على بعض، و أما بالنسبة إلى الفرد فإنّ فيه حفظ من يريد الجناية فإذا علم بالقصاص يرتدع عنه، و بذلك يحفظ نفسه و من أراد قتله و لو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يريد الإقدام على ذلك، ففي القصاص حياة الناس و الأفراد بل فيه تسلية لولي المقتول حيث يخفف عنه لوعة المصاب، فكانت الغاية من القصاص و ما يجتنى من عواقبه حميدة يعرفها كل من اعطي حق التأمل في هذا الحكم.
قوله تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ. الألباب جمع اللب، و هو العقل الخالص عن الشوائب، لأنّ لب الشي‏ء خالصه و صفوته، و لذا جعل اللّه تعالى أولي الألباب. مورد خطابه و عنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية، لأنّ ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء و موازينها، و آثارها و ما يترتب عليها. قال تعالى: وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 9]، و قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و قد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18].
و لم يرد لفظ اللب مفردا في القرآن الكريم كما لم يرد لفظ العقل كذلك. و المتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولى الألباب يعلم أنها وردت في مدحهم بخلاف العقل فإنّه ليس كذلك، قال تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ٦۷]، و قال تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة النور، الآية: ٦۱].
و لعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين الإشارة إلى أنّهما من‏ الحقائق التي لا تحصل إلّا من الاجتماع إما بعضهم مع بعض، أو مع الأنبياء و الإيمان بهم و العمل بما جاؤا به. مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة الى المجتمع لا إلى الفرد المعين.
و اللب و العقل هما من أسرار اللّه تعالى التي أودعها في الإنسان، و قد قال عزّ و جل حين خلقه كما في الحديث: «و عزتي و جلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك إياك آمر، و إياك أنهى، و بك أثيب و أعاقب»، و هو أصل الإنسان و ما سواه من القشر، و هو مبدأ الاستكمالات و اليه المنتهى، و بالعمل و التقوى و الصلاح يرتقي العقل و اللب، و منهما ينشأ الخير، فيصح أن يقال: قد اجتمعت العلة الفاعلية و الغائية فيهما.
و الحاصل: إنّ اللب و العقل و الفلاح و الصلاح و التقوى كلها مفاهيم مختلفة لمعنى واحد إذا لوحظت النشآت فانها مرتبطة بعضها مع بعض؛ فان‏ «الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) خصوصا بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة. نعم أصل هذه المزرعة و أساسها العمل و به يرتقي العقل ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضا.
و إنّما ذكرهم في المقام للتنبيه على أنّ هذا الحكم بما فيه من المصالح و الآثار لا يعلمها إلّا أولوا الألباب الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم. و لذلك فمن ينكر هذا الحكم فهو ممن ليس له لب و عقل، فكان هذا كالدليل لما تقدم.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أي لعلكم تتقون اللّه في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم الذي ينبّئ عن الحكمة و العلم، أو تتقون الظلم خوفا عن القصاص فتكفون عن سفك الدماء أو يتقي بعضكم بعضا حرصا على الحياة.
و منه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى، و سبب استكمال ذوي الألباب.

أنّ قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ أبلغ آية في القرآن الكريم و أفصحها و هي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز لما اشتملت على فنون البلاغة و الإيجاز و جمعت بين قوة الاستدلال و براعة اللفظ؛ فتحدت فرسان الفصاحة و البيان، و قد أفادت حكما لم يكن من قبل معروفا في أسلوب رصين و عذوبة في الألفاظ و تضمنت من الفوائد و الحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام، و اشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب و نحن نذكر بعضا منها:
الأول: الطباق بين القصاص و الحياة فإنّ الأول يفوّت الثاني فهو في مقابلها.
الثاني: فصاحتها في تلائم الألفاظ و عذوبتها و سلامتها و رصانتها في الأسلوب، و الإيجاز في العبارة فقد جمعت بين جمال اللفظ و سموّ المعنى.
الثالث: اشتمالها على جعل الضد متضمنا لضده أي الحياة في الاماتة.
الرابع: تعريف القصاص بلام الجنس ليشمل كل أنواع القصاص من القتل و الجرح و الضرب.
الخامس: تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها، او لأجل أنّ القصاص لم يكن سببا لمطلق الحياة بل لنوع من أنواعها فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم أو لأجل التنويع.
السادس: جعل القصاص ظرفا للحياة، لبيان أنّ القصاص يحمي الحياة من الآفات، و هذا من غرائب الحكم.
السابع: تقرير أنّ الحياة هي المطلوبة و أنّ القصاص وسيلة إليها و هذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.
الثامن: الإطراد في أنّ كل قصاص حياة.
التاسع: اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول.
العاشر: اشتمالها على التخويف و الارتداع لمن تسول له نفسه الجريمة.
الحادي عشر: تحريض المجتمع- الذي تقوم به الحياة النوعية- على حفظ الأفراد.
الثاني عشر: خلوّ الآية المباركة من التعقيد و التكرار و الإبهام و غير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.
و هذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة و قد صنف بعض العلماء كتابا في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة، و هو لم يصل إلى الغاية كيف و قد صدرت ممن لا نهاية لكماله، و لهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام فإنّ فيه توطينا على تقبل هذا التشريع الجديد، و إنّ براعتها و عذوبتها لتخفف مما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس فسبحان من جلت آلاؤه و بهرت آياته و تمت حكمته.

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي:
الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أنّ الحكم الأولي في الجنايات مطلقا هو القصاص و التبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى و لفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي و الثانوي.
الثاني: إنّها مسوقة لبيان التساوي و التكافؤ بين الدماء خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية كما تقدم. و قد ذكر فيها بعض الأفراد إلّا أنّها لا تدل على الحصر فيهم، و قد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ و التساوي في القصاص، و من ذلك التفرقة بين دية الرجل و المرأة و قتل واحد لجماعة أو بالعكس، و قتل العبد للحر، فإنّ لكل واحد من هذه أحكاما خاصة مذكورة في الفقه مفصلا.
الثالث: إنّ اطلاق قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يدل على القصاص في الجناية، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح كما هو مفصل في قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية: ٤٥].
الرابع: إنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطئية و لكنها خصصت بالأولى، لقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى‏ أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].
كما أنّها خصصت بموارد:
منها: قتل الأدب لابنه و إن كان عمديا، للإجماع و النصوص.
و منها: قتل الحر للعبد، إجماعا و نصوصا.
و منها: قتل المسلم للكافر على ما هو المفصل في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام‏].

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «في رواية الحلبي في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ.
قال (عليه السلام): «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي اليه بإحسان».
و عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. قال (عليه السلام): «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ و جل».
أقول: روي مثله في عدة روايات.
في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ قال (عليه السلام): «لا يقتل الحر بعبد و لكن يضرب ضربا شديدا، و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول ان يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».
أقول: الحديث يفسر التكافؤ في الدماء و الجراحات، كما هو مفصل في الفقه.
في الإحتجاج عن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ: «لكم يا أمة محمد في القصاص حياة، لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكفّ لذلك عن القتل كان حياة للذي همّ بقتله، و حياة للجاني الذي أراد أن يقتل و حياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترءون على القتل مخافة القصاص- الحديث-».
أقول: ذكر أمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص، لأن الحكم عام للجميع.
و في تفسير القمي قال: «لو لا القصاص لقتل بعضكم بعضا».
و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى‏: «كان بين حيين من أحياء العرب قتال، و كان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم و بالمرأة الرجل فنزلت هذه الآية».
أقول: تقدم وجه ذلك.

ذكرنا أنّ آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعا بينهم بأقبح الصور، فقد كانوا يقتلون لواحد جماعة و ربما قتل الحر بالعبد أو الرجل بالمرأة، و الرئيس بالمرؤوس، بل ربما وقعت حروب و غارات بسبب قتل‏ حيوان من قوم ذوي منعة و شرف، و كان المناط كله على قوة القبائل و ضعفها، و المتبع هو القتل و الانتقام، و الاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده أو قواعد تهذب تلك العادات كما هي عادة الأقوام البدائية و الشعوب الهمجية.
نزلت آية القصاص و لم يكن أحد يعرف الصلح و الوئام بدل القتل و الانتقام، و كان ذلك تشديدا منهم على أنفسهم؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة قال تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ.
و من المعلوم أنه لا ينكر أحد أنّ حب الانتقام طبيعة من طبايع الحيوان فضلا عن الإنسان، و ان دفع التعدي غريزة من غرائزه، و أنّه على ذلك مجبول و مفطور.
كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو و الرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان بها يحنو على بني نوعه، و يدفع عن أهله البلاء و يكافح في سبيلهم العيش و الرفاه.
و بحسب تلك الأسس و الغرائز نزلت آية القصاص؛ و قررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم، و أهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط، و مهدت له السبيل و أمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة.
لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه فحبّب اليه العفو بمختلف الأساليب فتارة: رغب اليه العفو بأخذ الدية و أداء اليه بإحسان. و أخرى: بالثواب في الآخرة، و رضاء اللّه تعالى، و العفو و المحبة للمحسنين، قال تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى، الآية: ٤۰]، و قال تعالى: وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۱۳٤].
و لقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع من يهمه هذا التكليف القاتل، و المقتول، و وليه، و المجتمع، و الصالح العام، فحكم بالمعادلة بين‏ القاتل و المقتول، فقال عزّ و جل: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ فحفظ بذلك التهجم على الدماء، و وقف الإسراف في القتل.
و اهتم عزّ و جل بالجانب التربوي فحبب إلى الإنسان الرحمة و العطف و رغّب النّاس على نبذ مسلك الانتقام و الوعد لمن راعى هذا الجانب بعظيم الأجر و الإحسان.
و لذلك كان هذا التشريع موفقا كل التوفيق في رفع الخصام، و حلول الصلح و الوئام الذي هو السبب في حفظ الأمن و النظام هذا بالنسبة إلى الإسلام.
أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية فإنّها تختلف بين إثبات تشريع القصاص و الإلغاء؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص و لم يسنّ للعفو و الدية أحكاما إلّا في حالات معينة راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي و العشرين، و الثاني و العشرين من سفر الخروج، و الخامس و الثلاثين من سفر العدد، كما حكى عنها القرآن الكريم، فقال تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية: ٤۸].
و أما التشريع في الدين المسيحي فلا يرى في مورد الجنايات إلّا العفو و الدية، و ليس للقتل و القصاص فيه سبيل إلّا في موارد خاصة.
و أما سائر التشريعات، سواء كانت وضعية أو غيرها فهي تختلف في هذا الحكم، و لا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية، و إن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.
و مما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل و سلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات، فحكم بالقصاص و لكن ألغى تعيينه فأجاز العفو و الدية، و لا حظ جميع جوانب هذا الحكم و أحكمه أشد الأحكام و سدّ باب الجدال و الخصام، و أبطل شبهات المعترضين.
و مع ذلك فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه فادعوا انه خلاف إنسانية الإنسان. و أنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد.
و قد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي:
الأول: ان تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية، و الأقوام البدائية.
و هذا باطل أما أولا: فلأنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة يرفض معها كل ظلم و انتقام، و لم يكن ينظر إلى تقرير عادة أو إبطالها.
و ثانيا: ذكرنا أنّ حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان و الإسلام إنّما أراد تهذيبها و كبح جماحها خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن.
و ثالثا: فائدة تشريع القصاص إنّما ترجع إلى الجماعة و الصالح العام شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية.
الثاني: إنّ القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقا، و ترفض إجراءها بين البشر معتمدين في ذلك على أنّ القتل مما ينفر عنه الطبع و يستهجنه وجدان كل إنسان.
و أنّ القتل على القتل يكون فقدا على فقد.
و أنّ القتل بالقصاص فيه من القسوة و الانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني و لا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة و عقاب القاتل بما هو أدون كالسجن و الأعمال الشاقة.
الثالث: إنّ المجرم إنّما يكون مجرما و أقدم على الجريمة لأجل عذر له إما للجهل أو عدم التربية الصالحة، أو لمرض عقلي فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة أو معالجة مرضه.
و إنّ إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه لأنّ في إبقائه منفعة للمجتمع و لا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد فيعاقب الجاني بما يعادل القتل، و في‏ نفس الوقت نستفيد منه فيكون توفيقا بين حق المجتمع و حق أولياء الدم، و غير ذلك من الوجوه. و لأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص و القتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة أشدها عقوبة الحبس؛ سواء كان محدودا بوقت أو غير محدود به مع الأشغال الشاقة مثلا.
و لكن كل ذلك باطل أما أولا: فلأنّ في تشريع القصاص تهذيبا للطبيعة الإنسانية في حب الوجود و ملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف، بل جميع تكاليف الإسلام و قوانينه إنما وضعت لأجل ذلك، و لذلك حث على العفو، و لم يكن الإسلام ليمنع من رفع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة و إعداد الأفراد في صالح المجتمع، و نبذ التخاصم و الانتقام، و الأمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد و تنفير القتل بينهم، و هذا شي‏ء حسن لم ينكره أحد، و هو مما يريده الإسلام كما تشير اليه نفس الآية الشريفة.
و ثانيا: فلأنّ الإسلام إنّما لا حظ في هذا التشريع الصالح العام و مصالح النوع كما هو شأن كل قانون، سواء كان إليها أو وضعيا، و يعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء، على الأمة، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [سورة المائدة، الآية: 32]، و لا ريب أن الدفاع عن الأمة و الجماعة أمر غريزي، و لذا نرى أن الأمة تهبّ في دفع الأعداء و من يريد إهلاكهم فلا يتوقفون عن الدفاع عن أمتهم فكيف يمكن القول بالرأفة في هذه الحالة فهل تقبل الطبيعة الإنسانية مثل هذه الرأفة في هذه الحالة؟! بل لا تكون الرأفة إلّا إبادة للأمة و اختلالا للنظام.
و ثالثا: فلأنّ ما ذكروه في تبرير قتل القاتل إنّما هو في الحقيقة تبرير لتطبيق قانون العقوبة، لا أنّه عيب في نفس القانون كم فرق بينهما؛ مع أنّ الإسلام قد لاحظ جميع الخصوصيات في القتل، كما هو مفصل في الفقه، فلا يبقى عذر بعد ملاحظة ذلك، مع أنّ ذلك تلقين للمجرم، و إعطاء السلاح بيد المجرم كما يقال.
و أخيرا إنّ تبديل هذه العقوبة إلى عقوبة أخرى أنفع للمجتمع و للفرد، فإنّه يسأل منهم هل كانت هذه العقوبات ناجحة في ذلك؟! و هل رفعت الفساد الأخلاقي؟!! و هل كان الحبس مطلقا ناجحا في رفع المشكلات و تقويض الجنايات؟! مع أنّ الملاحظ يعترف أنّه قد أدى تطبيق هذه العقوبة إلى نتائج خطيرة و جلبت مشاكل دقيقة:
منها: قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين، و أنّها سببت زيادة في سلطان المجرمين و إفسادا للمسجونين، و أوجبت انعدام قوة الردع إلى غير ذلك من المشاكل، و بعد ذلك كله فهل يمكن الاستفادة من المجرمين؟! و لعمري انه لا يمكن تفضيل أي قانون على القانون الإسلامي لما عرفت من أنه يراعى فيه جميع جوانب الحياة، و ما أورد عليه يكون من قبيل الشبهة في البديهيات، قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج، الآية: ٤٦].

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"