1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 172 الى 173

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)


بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنّ أمر الدين و تشريع الأحكام لا بد و أن يكون منه تعالى، و في غير ذلك يكون من خطوات الشيطان، و أبطل التقليد في الدين، وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى المؤمنين لأنهم أولى من غيرهم و أباح لهم الطيبات ثم حدد لهم بعض ما يجب اجتنابه من المطاعم و لذلك لا بد لهم من الشكر الدائم له تعالى.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ. الأكل معروف، و الطيّب (بالتشديد) ما تستلذه النفس. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة إلّا انه لم يرد فيه الطيب (بالتخفيف). و هو في مقابل الخبيث و كل ما نهى عنه الشرع يكون خبيثا واقعيا و إن استلذته النفس، فما هو في معرض أكل الإنسان على أقسام ثلاثة: الطيبات، و الخبائث، و المصائب. و المحرمات و إن لم تكن من الخبائث الظاهرية عند النّاس و الحلال هو الأول فقط دون الأخيرين.
و الأمر هنا استعمل في إنشاء الطلب بداعي الترخيص و الإباحة لا بداعي الطلب الحقيقي، فلا يستفاد منه سوى الإباحة و الترخيص لا الوجوب بقرينة قوله تعالى: وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷].
و توجيه الخطاب للمؤمنين خاصة، لأنّهم هم المقصودون في تحليل الطيبات و ان الغرض الأهم إنما هو انتفاع أهل الإيمان منها، كما إذا أجرى شخص ماء ليشرب هو و أهله منه و ينتفع به في زرعه فتشرب منه الحيوانات، فالمؤمن هو الغاية و أنه أولى من غيره، و لذا تكون الطيبات خالصة لهم يوم القيامة قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]. أو أنه تعالى خصهم بالذكر تفضيلا.
قوله تعالى: وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ. الشكر إظهار نعمة المنعم على نحو من التعظيم اما بالقلب و هو تصور نعمة المنعم، أو باللسان و هو الثناء عليه، أو بالجوارح و الأركان و هو مكافآت النعمة بقدر الاستحقاق و حينئذ فان كان المنعم غير اللّه تعالى فالأمر واضح و أما إن كان هو عزّ و جل فلا أثر للشكر إلّا استكمال الشاكر قال تعالى: وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة النمل، الآية: ٤۰] فالشكر للّه أي شكر نعم اللّه التي خلقها و أباحها و سهّل الانتفاع منها فانها كلها من فضله و مننه و إحسانه.
و الشكر كما يظهر- من الآيات و الروايات- من أجلّ مقامات الإنسان‏ و أفضل درجاته، و يكفي في ذلك النداء الربوبي: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7] و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في المتفق عليه من جوامع كلماته المباركة: «الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، و المعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، و المعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع».
و هو من العبادات التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى.
و لا يحتاج فيه إلى قصد القربة لكن يضره الرياء و لا يختص بخصوص النعم الحادثة للشاكر بل هو ممدوح في نفسه و بالنسبة إلى النعمة الحادثة في المستقبل.
و الظاهر انه لم يرد تحديد خاص في الشكر بل يكفي مطلقه، فقد قال الصادق (عليه السلام): «شكر كل نعمة و ان عظمت ان تحمد اللّه عزّ و جل عليها» و عنه (عليه السلام) أيضا: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه إلّا أدّى شكرها».
و للشكر درجات و مراتب منها الشكر القلبي‏ قال الصادق (عليه السلام): «من أنعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها».
و منها الشكر بالتقوى و ترك المعاصي التي هي من أفضل مراتبه،قال الصادق (عليه السلام): «شكر النعمة اجتناب المحارم» و يظهر ذلك من قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 123] فيتحقق بالقلب و اللسان و أعمال الطاعات و اجتناب المحرمات.
و مورد الشكر ليس هو النعم الدنيوية فقط بل الأخروية أيضا كالتوفيق للإيمان و إتيان الطاعات و العبادات و السعي في قضاء حوائج النّاس، الواردة من اللّه تعالى فإنها توجب رفع الدرجات و تكفير السيئات و هي مما يوجب الشكر عليها.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. احتجاج على وجوب الشكر بأحسن بيان؛ يعني: إذا كنتم إياه تعبدون، لأنه إلهكم و معبودكم فاشكروه لأنه المنعم عليكم؛ أو إن كنتم تدعون عبادته فاشكروا للّه، لأن منشأ كونه أهلا للعبادة عين منشأ كونه أهلا للشكر لعدم تعدد الحيثيات و الجهات في ذاته الأقدس، فكما انه إله الجميع بالاستحقاق الذاتي كذلك يكون مشكور الكل أيضا، لانتهاء جميع النعم إليه عزّ و جل، فالشكر على نعمائه ملازم لعبادته و هي متوقفة على معرفة المعبود و لو إجمالا، و من أهم مقدمات المعرفة وجوب شكر المنعم بل هو أساس العبادة و غاية العبودية؛ و لذا قدم عزّ و جل الشكر على العبادة في المقام، و في قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ [سورة النساء، الآية: ۱٤۷] فالشكر يكون داعيا للعبادة بل هي نفسه في نفوس الأولياء كما قال سيدهم: «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» و هذا من أدق مباني الفلسفة حيث اجتمع فيه العلة الفاعلية و العلة الغائية و المادية و الصورية.
قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ. مادة (ح ر م) تأتي بمعنى المنع، سواء كان تكليفيا أم غير تكليفي تكوينيا أم قهريا، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [سورة المائدة، الآية: 72] و هو من المنع التكويني لكونه من الجمع بين المتنافيين فلا يجتمع الخبيث من كل جهة مع الطيّب كذلك، و من المنع القهري قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة المائدة، الآية: ۲٦] و المقام من المنع التكليفي الشرعي.
و الحرمة من احدى الأحكام الخمسة التكليفية: و هي الوجوب، و الحرمة، و الإباحة، و الندب، و الكراهة، و هي ثانية في جمع الشرايع الإلهية على اختلافها بل هي دائرة في الأحكام الوضعية و لو كانت غير سماوية.
و الميتة: من الحيوانات ما مات حتف أنفه، و عن الفقهاء تعميمها إلى كل ما زال روحه بغير تذكية شرعية.
و الدم: معروف و به يحيا الحيوان و تنتظم شؤونه و وظائفه: أو المراد به هنا الدم المسفوح لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [سورة الأنعام، الآية:۱٤٥].
و تأتي مادة (لحم) بمعنى اللزوم، و سمي اللحم لحما للزوم بعضه مع بعض.
و الخنزير: حيوان معروف و هو من المسوخات التي يأتي المراد منها في قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [سورة يس، الآية: ٦۷] و قد نهى سبحانه عن أكل لحم الخنزير في مواضع متعددة من الكتاب الكريم قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة، الآية: 3] و قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام، الآية: ۱٤٥] و قال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ [سورة النحل، الآية: ۱۱٥] مضافا إلى السنّة المتواترة و إجماع المسلمين.
و ضرر هذا اللحم بيّن دلت عليه التجربة، و قد كشف العلم الحديث عن بعض مفاسده. و لا فرق في الحرمة بين البري منه و البحري و ان كان الأول يزيد عن الأخير في انه نجس عينا و أعظم خبثا.
و إنّما ذكر اللحم كناية عن جميع اجزائه لأنه أهمها.
و قد حرّم اللّه هذه الثلاثة لخباثتها و لما لا يؤمن الضرر منها و قذارتها و اشمئزاز النفس منها، و قد كشف العلم الحديث ما يترتب عليها من المفاسد و المضار.
قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في أول كل صوت يرفع، و منه استهل الصبي، و الإهلال بالحج، و الإهلال بالذبح أي التقرب بالذبائح إلى الأصنام و الأوثان و غيرها مما يعبد من دون اللّه تعالى، أو ذكر الوثن و الصنم عند الذبح فإنّ ذلك كله من عادات المشركين و الوثنيين و هو شرك باللّه تعالى، و قد اعتبر الشارع هذه الذبائح من الميتة التي لا يجوز أكلها، و إنما ذكرها بالخصوص للاهتمام به في ترك العادة التي جرت عليها قرون عديدة من الإهلال لغير اللّه تعالى.
و لعل من أسرار قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ التمهيد لما يأتي و إعلام الناس بأنهم أجلّ مخلوقاته عزّ و جلّ، و انه‏ تعالى خلق ما في الأرض له ليرفع نفسه عن درجات البهيمية الى الدرجات العالية و يتنزه عن ما ينافي مقام العبودية فلا يعبد غيره تعالى فان الجميع مخلوق و مربوب له عزّ و جل.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. قد ذكر الاضطرار إلى الأكل في موارد خمسة من الكتاب الكريم أحدها في هذه الآية و الثاني في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة، الآية: 3]. و الثالث في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية:۱٤٥]. و الرابع في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: ۱۱٥]. و الخامس في قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [سورة الأنعام، الآية: 119].
و كلمة «غير» منصوبة على الحالية و قبل على الاستثناء، و التمييز بينهما هو انه إذا صلح في موضعها لفظ (في) أو ما يفهم معنى الظرفية و الحالية، فهي حال و إذا صلح لفظ (الا) فهي استثناء.
و الاضطرار معلوم و المراد به الإلجاء إلى أكل شي‏ء من المذكورات و مادة (بغي) تأتي بمعنى الميل، و له مراتب كثيرة و من بعض مراتبه الطلب، و منه‏ قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا إن اللّه يحب بغاة العلم» أي طالبي العلم.
و هي إما أن تكون متعدية أو لا تكون كذلك بل تتعدى بلفظ (على). و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ربما تزيد على عشرين موردا، و جامعها الميل من الحق إلى الباطل، و قد تستعمل في الميل إلى الحق أيضا كمن أتى بالفرائض و بغى إتيان النوافل.
فالأقسام أربعة: الميل من الحق إلى الحق، و الميل من الباطل إلى‏ الحق، و الميل من الحق إلى الباطل، و منه البغي بمعنى الظلم، و البغاء أي الزنا، و الخروج على خليفة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قد روى الفريقان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) قال لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية».
و القسم الرابع الميل من الباطل إلى الباطل، و القسمان الأخيران مذمومان، و الغالب في استعمالات البغي إنّما هو في الميل من الحق إلى الباطل.
و العادي: المتعدي عن الحق إلى الباطل، فيشمل كلا طرفي الإفراط و التفريط لأن كلا منهما باطل بالنسبة إلى الحد الوسط.
و قد اختلف العلماء في المراد منهما فقيل: المراد من الباغي الظلم. و قيل الاعتداء، و قيل الحسد، و قيل الفساد من بغى الجرح إذا فسد و قيل مجاوزة الحد عن الحق أو عن القصد. و الحق ما ذكرناه في بيان اللفظين، فيكون المراد منهما مطلق المعصية و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، و ما ذكروه في بيان اللفظين من باب التطبيق و تفسير المعنى الكلي بالفرد، و هذه عادة جارية بين اللغويين و المفسرين كما نبهنا عليها مرارا.
و المعنى: إنّه بعد أن أباح سبحانه و تعالى للمؤمنين أكل الطيّبات بيّن حرمة بعض الأشياء لخباثتها و فسادها و أضرارها، أو لإزالة الشرك و خلع الأنداد و إثبات التوحيد في جميع القربات و هي أربعة: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما أهل لغير اللّه تعالى. و رخص سبحانه الأكل منها في حالة الاضطرار إليها بشروط خاصة مذكورة في كتب الفقه إلّا أن يكون المضطر باغيا أو عاديا بأن يكون مائلا إلى الباطل و حينئذ يحرم الأكل عليهما.
و إنّما ذكر سبحانه «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» بعد الاضطرار للتنبيه على أنه ليس لأحد تحديد الاضطرار و تفسيره من قبله و الا كان من أحدهما و يأتي في البحث الفقهي زيادة إيضاح.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أي: إنّ اللّه يغفر المعاصي رحيم بالعباد، إذ أباح لهم الطيبات و حرّم عليهم الخبائث و رخص لهم ما لم يقدروا عليهما. و ذكر الغفران في المقام مع انه لا معصية في مورد الاضطرار، للاعلام بانه إذا كان لا يؤاخذ على المعاصي ففي موارد الرخصة أولى أن لا يؤاخذ، أو لأنّ تقدير الضرورة إنّما هو موكول إلى الناس و قليل منهم يقتصرون على قدر الضرورة فلا غناء عن غفران اللّه تعالى.

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:
الأول: إنّ الحصر في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ حقيقي إذا لوحظت الحرمة بالنسبة إلى خطوات الشيطان و ما افتعلوه من المحرمات، و إضافي بالنسبة إلى الحيوانات بقرينة قوله تعالى: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷].
الثاني: إنّما أتى سبحانه و تعالى ب الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ في المقام معرفا و في غير المقام منكرا كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: ۱٤٥] للإشارة إلى حرمتها بجميع المراتب و الشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكون شائعا، و بحسب الوجود الساري في غير ذلك، و بحسب نفس وجوداتها و تركيباتها مع ما هو حلال.
الثالث: إنّما ذكر سبحانه في هذه الآية المباركة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و ترك ذلك في غيرها من الآيات في سائر الموارد، لأن عدم الإثم في ظرف الاضطرار موافق للقانون العقلي، فتكفي الإشارة في موضع واحد، مع أنّ في قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: ۱۱٥] و في [سورة المائدة، الآية: 3] إشارة إلى ذلك.
الرابع: ذكر سبحانه في المقام: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ و في غير المقام أخّر الجار و المجرور، و لعل الاختلاف في التعبير لأجل اختلاف‏ عاداتهم، فان بعضهم يقدمون ذكر آلهتهم ثم يذبحون لها و البعض الآخر يذبحون الذبائح ثم يقربونها إلى الإلهية، و ثالث يقصدون التقرب إليهم مطلقا قبل الفعل و حينه و بعده.
الخامس: لا فرق في قوله تعالى: مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بين كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف، أو من قبيل قيام الصفة به بعد الالتفات إلى أن الخطاب إلى خصوص المؤمنين لأنهم هم الذين يعرفون الرازق و يشكرونه فهم الأصل في الرزق و لغيرهم التبعية فيه.

في الفقيه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الذي يخرج على الإمام، و العادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة».
و في تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الخارج على الامام و العادي اللص».
أقول: روى مثله في الدر المنثور عن ابن عباس.
و في المجمع عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ: «غير باغ على امام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحققين».
أقول: إنّ ذلك كله من باب بيان المصاديق، و قد ذكرنا المتحصل من الأخبار الواردة في المقام في الفقه في كتاب الصيد و الذباحة من كتاب [مهذب الأحكام‏].
في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي باغي الصيد، و العادي السارق و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين، و ليس لهما ان يقصرا في الصّلاة».
أقول: روي مثل ذلك في تفسير العياشي و التهذيب.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «الباغي الظالم، و العادي الغاصب».
و في الفقيه في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عن الصادق (عليه السلام): «من اضطر إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر».
أقول: الوجه في كونه كافرا مخالفة اللّه تعالى حيث انه تعالى أمر بالأكل حينئذ و لم يفعل، فالكفر كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم أقسامه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: ٦].

تدل الآية الشريفة على جملة من الأحكام الشرعية:
منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يشمل جميع التقلبات و التصرفات في الميتة أكلا و انتفاعا و غيرهما. و تدل عليه الأخبار الكثيرة الشارحة للآية المباركة ففي الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعوا من الميتة بشي‏ء» و في حديث عبد اللّه بن حكيم عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعون بإهاب و لا عصب» و عن الصادق (عليه السلام): «لا ينتفع بشي‏ء منها و لو بشسع منها» هذا بالنسبة إلى الانتفاعات التي يشترط فيها الطهارة، و أما في غيرها مثل التسميد و الزرع و نحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة فلا دليل على الحرمة.
و منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: الْمَيْتَةَ يشمل جميع أنواع الميتة سواء كانت برية أو بحرية ميتة ما له نفس سائل- أي الدم الخارج عن العروق حين الذبح- و ميتة ما ليس له نفس سائل و ان كانت الأخيرة غير محكومة بالنجاسة.
كما تشمل القطعة المبانة من الحيوان الحي، و في ذلك روايات كثيرة من الفريقين، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما قطع من البهيمة و هي حية يكون ميتة».
كما أنّ إطلاق الآية المباركة يشمل حرمة جميع أجزاء الميتة. و عن بعض علماء العامة جواز الانتفاع بجلد الميتة، بل طهارته بالدبغ و استدل‏ بالحديث المروي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) حين مر على شاة ميمونة فقال: «هلا أخذتم إهابها» و لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أيما إهاب دبغ فقد طهر» و قد ناقشنا ذلك في الفقه مفصلا، و كذا قول علي (عليه السلام) في البحر: «الحل ميتته»
محمول على الطهارة لا حلية الأكل.
و منها: إطلاق قوله تعالى: وَ الدَّمَ يشمل القليل و الكثير و حرمة جميع التقلبات و التصرفات و الانتفاعات منه؛ كما يشمل جميع أنواع الدماء.
و منها: المراد من قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ان يكون الذبح لغيره تعالى سواء ذكر غير اسم اللّه تعالى كما يفعله الوثنيون و المشركون، أو ذبح للأصنام و الأوثان من دون ذكر اسم عليه أبدا.
و المناط في حلية الذبيحة ذكر اسم اللّه عليها، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] فالإهلال بالذبيحة لغير اللّه شي‏ء كما ان الإهلال بها للّه تعالى شي‏ء آخر، ففي القسم الأخير لو أهل بالذبيحة للّه تعالى و تصدق بلحمها على فقراء مشهد أو مزار رغب الشارع في زيارته فهو حلال لا إشكال فيه.
فما عن بعض انه لا يحل تمسكا بقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] أو أنه إهلال لغير اللّه تعالى خلط بين موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر. فان الذبح كان للّه تعالى و مصرفه كان للمنذور له أو الفقراء، و بعبارة أخرى: إنّ ذلك كان على نحو الطريقية إلى اللّه تعالى و التقرب إليه عزّ و جل لا الموضوعية للمنذور له أو الفقراء.
و منها: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أنّ الاضطرار يرفع الحكم التكليفي، لأن التكليف محدود بالقدرة و لا تكليف في ما لا قدرة للمكلف عليه، و الاضطرار إلى الفعل الحرام أو ترك‏ الواجب ينافي القدرة، لأن المضطر لا يقدر على الترك في الأول كما لا يقدر على الفعل في الثاني.
و المناط في القدرة: القدرة العرفية التي يعتمد عليها النّاس في أمور معاشهم و جميع أغراضهم نعم قد يتبدل الحكم في صورة الاضطرار إلى حكم آخر و لكنه يحتاج إلى دليل بالخصوص.
و الاضطرار الحاصل للإنسان المبيح لتناول المحرّم على قسمين:
الأول: ما لا ينتهي إلى اختياره، الثاني: ما ينتهي إلى اختياره، و لا ريب في انه لا تكليف و لا عقاب في الأول. و أما الثاني فلا ريب في أنّ العقل يحكم باختيار أقل القبيحين، لأن الأمر يدور بين إهلاك النفس و أكل الميتة مثلا، و لا إشكال في كون إهلاك النفس القبح من أكل الميتة، و أما الخطاب فهو باق على ملاكه، لبقاء العقاب لفرض الانتهاء إلى الإختيار، فمن ذهب إلى سفك دم معصوم أو هتك عرض محترم أو غصب مال كذلك فاضطر حينئذ إلى أكل الحرام يعاقب على الأكل، فيكون حكم القرآن الكريم موافقا للعقل السليم.
و من ذلك يعلم أنّ الاضطرار المبيح لأكل المحرمات- كالميتة و الدم و نحوهما- محدود في الشريعة المقدسة بحد خوف التلف على النفس في ترك الأكل، ثم الأكل بقدر سد الرمق من دون تعد عنه. و في المقام فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في كتب الفقه.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"