1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ۱٦۸ الى ۱۷۱

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (۱٦۸) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (۱٦۹) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)


بعد ما بين سبحانه و تعالى في الآيات السابقة أحوال متخذي الأنداد ذكر تبارك و تعالى في هذه الآيات ما أوجب ذلك و أنه أكل الخبائث و اتباع خطوات الشيطان العدو للإنسان الذي لا يرجى منه الخير و الصلاح، و تقليد الآباء و الاعتماد على أفعالهم من غير عقل و لا هدى ثم أعقب ذلك مثلا يبين بطلان عقائدهم و سخف آرائهم، و انهم كالحيوان الذي لا يعقل ما حوله إلّا دعاء الداعي و زجره، فهؤلاء أيضا كذلك صمّ عن الحق كأنّهم لا يسمعونه و بكم لا يستجيبون لما يدعون اليه، و عميّ كأنهم لا يشاهدونه فهم لا يعقلون الحق و لا يهتدون اليه.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً.
الحلال: هو المباح في مقابل المنع و الحرام، و بينه و بين المنع نسبة العدم و الملكة، و لذا لا تتصف أفعال اللّه تعالى بالحلال و المباح، لعدم تعقل الحظر و المنع بالنسبة إليه عزّ و جل.
و الطيب ما تستلذه النفس و لم يرد فيه نهي من الشرع.
و الأمر فيه للإباحة و «من» للتبعيض أي بعض ما في الأرض إذ ليس كل ما فيها يؤكل، أو من بعض ما في الأرض مما أحله اللّه تعالى. و الجمع بينهما إما لأجل التحريض في إناقة الأطعمة بأي وجه أمكن إذا لم يكن محذور شرعي في البين. أو لأجل أدب المقام و تكريم الأكل في قوله تعالى: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [سورة النساء، الآية: ٤].
و تعميم الخطاب للنّاس أجمعين من جهة تعميم رحمته تعالى.
قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. الخطوات [بضمتين‏] جمع خطوة و هي ما بين قدمي الماشي كالشهوة و الشهوات و قرئت بضمة و سكون، و خطؤات بضمتين و همزة، و خطوات بفتحتين، و خطوات بفتح فسكون جمع الخطوة و هي المرة من الخطو. و المعروف هو الأول. و اتباع خطوات الشيطان هو الاقتداء به و اقتفاء أثره و الاستنان بسنته. و لم تستعمل كلمة الخطوات في القرآن الكريم إلّا بالنسبة إلى الشيطان الرجيم، و قد نهى سبحانه النّاس عن اتباعها في موارد متعددة.
و الشيطان سواء كان من شطن أو شطأ بمعنى المبتعد عن الحق و العدو اللدود. و لفظه عبرى الأصل.
و يعتبر في الأديان الإلهية الكبرى مبعث الشر متمثلا في شخص خاص و له أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره، و هو يغري الإنسان و يكون سببا في غوايته على نحو الاقتضاء لا الجبر و لا يعدم اختياره، فيستطيع ان يدافع معه و ذلك بتوفيق من اللّه تعالى.
و هو في الأصل كان في زمرة الملائكة صورة تمرد و تكبر على اللّه تعالى فسقطت منزلته فأظهر حقيقته على ما حكى عنه الجليل في القرآن الكريم، و قد ورد ذكره في عدة مواضع من التوراة و الإنجيل، و في القرآن الكريم و سيأتي الكلام فيه مفصلا.
و المراد من خطوات الشياطين كل ما يوجب انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و الشرع القويم لأنه لا يأمر إلّا بالسوء و الفحشاء قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ [سورة النور، الآية: 21]، فهو منشأ كل ضلال و فساد و هو المحرض على ارتكاب الجرائم و الآثام فيكون كل ما هو خارج عن الشريعة المقدسة، سواء كان في الإعتقاد او الأعمال من خطواته.
و يستفاد من الآية المباركة تعدد سبل إضلال الشيطان و اغوائه بخلاف الصراط المستقيم المقابل لخطواته و هي عبارة عن السبل التي قال تعالى فيها: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: ۱٥۳] و من أهم سبله متابعة الهوى و الشهوات النفسانية قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص، الآية: ۲٦].
و منها: إضلاله بجعل كل ما لم يكن من الدين في الدين بلا دليل معتبر عليه ففي روايات كثيرة ان الحلف على ذبح الولد، و الحلف بالطلاق و العتاق من خطوات الشيطان، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بها.
و منها: وسوسته و تزيين الحرام في نظر العبد ليرتكبه،
ففي الحديث عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): «قلت له: رجل عاقل مبتلى بالوضوء قال (عليه السلام): و أي عقل له و هو يطيع الشيطان» و غير ذلك مما هو كثير.
و يقابلها هداية الرحمن فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما و مصير كل منهما معلوم إما رضوان اللّه تعالى أو سخطه، قال تعالى: أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة آل عمران، الآية: ۱٦۲] فالإنسان واقع بين قائد شرير و هو الشيطان يدعوه‏ إلى متابعة خطواته، و سائق كذلك يرغبه إلى ذلك و هو النفس الأمارة، و هاد إلهي يهديه إلى الحق و الصراط المستقيم و هم الأنبياء و المرسلون و المبدأ في الأول هو الشر و الوسط خطوات الشيطان و المنتهى هو النار، كما أن المبدأ في الثاني هو اللّه تعالى و الوسط الأنبياء المرسلون و الصراط المستقيم و الغاية هي الجنّة.
و حقيقة الشيطان عبارة عن الجهل المركب و الظلمات المنتهية إلى الإختيار.
ثم إنّ لخطوات الشيطان مظاهر و مراتب مختلفة، فإنّ ترك كل واجب و إتيان كل محرم إلهي، بل إتيان المشتبهات يكون من خطوات الشيطان، و كذلك إتيان المكروه بالنسبة إلى كمال مرتبة الإيمان، و كذا الغفلة عنه تبارك و تعالى؛ بل اطلاق النهي يشمل القوى الباطنية من الوهم و الخيال، فإن ذلك كله مظاهر مختلفة من خطوات الشيطان أيضا، و الجميع تشترك في عدم الثبات، كما هو شأن الخطوة المتقومة بالحركة.
قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. تعليل للنهي عن متابعة الخطوات بما هو ثابت في الفطرة التي تقضي بالفرار عن العدو و الحذر منه و مخالفته بكل وجه أمكن. و عداوة الشيطان للإنسان واضحة فانه لا يدعو إلّا إلى ما يوجب الهلاك و البعد عن ساحة الرحمن، و هو لا يخفي عداوته للإنسان و أبان ذلك من حين خلق آدم (عليه السلام) و يسعى في إفساد أحوال العبد قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [سورة فاطر، الآية: ٦].
و قد أكد سبحانه و تعالى هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بل في جميع الكتب السماوية. و الوجه في كونه عدوا مبينا أنه حلف على إغواء الإنسان كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83].
و من إخباره تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان و إيكال الأمر إلى الفطرة يستفاد غاية التحذير و السعي في الابتعاد عنه.
قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ. بيان لعداوته مع الإنسان بإفساد فطرته و بصيرته بغوايته و إضلاله مما يوجب ابطال أعماله و معتقداته.
و المراد بالأمر هنا الدعوة إلى السوء و الفحشاء و تزيينهما للإنسان و إيجاد دواعيهما لديه.
و السوء كل ما يغم الإنسان في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا.
و الفحشاء ما يستعظم قبحه من الأفعال، و الأقوال و هو أعظم من السوء، فان كل فحش سوء و لا عكس.
و يستفاد من الآية المباركة أنّ كل سوء و فحشاء يقعان في العالم إنما هو من فعل الشيطان و من طرق إضلاله و غوايته فلا يرجى منه الخير و الصلاح.
قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أي: و يأمركم ان تفتروا على اللّه و تنسبوا إليه عزّ و جل ما لا تعلمون أنه من شرعه و دينه و لا يختص ذلك بخصوص الأحكام الشرعية و تحليل الحرام أو تحريم الحلال بل يشمل العقائد الباطلة و الآراء المزيفة التي لم يقم دليل على صحتها كما يشمل ما ينسب إلى أنبيائه و رسله (عليه السلام) افتراء فإن الإضافة إليهم إضافة إلى اللّه تعالى، ففي جميع ذلك افتراء على اللّه و اعتداء على حقه، و قد سئل الباقر (عليه السلام) عن حق اللّه تعالى على العباد قال (عليه السلام): «ان يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون» فيكون كل اعتقاد أو رأي في أصول الدين أو فروعه لم يمضه الشارع الأقدس داخلا في الآية الشريفة و ما في سياقها و لذلك ذكر العلماء أنّ الأصل عدم الحجية في الرأي و الاعتقاد إلّا إذا قامت الأدلة القطعية على الحجية و قد تعرضنا لذلك في علم الأصول فراجع كتابنا [تهذيب الأصول‏] و سيأتي تتمة الكلام عند قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [سورة الحاقة، الآية: ٤٦].
قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا. ألفينا بمعنى وجدنا مع اتخاذ ذلك عادة و الايتلاف به. و الضمير في «لهم» عائد إلى المشركين و المعاندين للحق.
و المراد من الآباء: الأعم من السادة و الكبراء و الآباء و المربين فانه يصح اطلاق الأب عليهم كما في الحديث: «الآباء ثلاثة: أب ولدك، و أب علّمك، و أب زوّجك»، و يشهد للتعميم قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [سورة الأحزاب، الآية: ٦۷].
و لعل في ذكر هذه الآية بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان إشارة إلى أن اتباع ما عليه الآباء يمكن أن يكون من اتباع خطوات الشيطان، و ان تقليد الآباء، و الإعراض عما أنزله اللّه من السوء، و الفحشاء و القول على اللّه بغير علم بلا فرق بين ان يكون الشيطان من شياطين الإنس أو الجن قال تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 112] و قد رد عزّ و جل عليهم و أبطل معتقداتهم.
قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ. تقبيح لهم و تفضيح لمعتقدهم و متابعتهم لآبائهم أي: أنهم يتبعون آبائهم و لو كان آباؤهم لا يعرفون شيئا من الدين و لا يهتدون إلى الحق فإذا كانوا كذلك فهم أيضا مثلهم لأنهم على غير هدى و كتاب منير. و فيه إرشاد إلى ان متابعة فرد لآخر لا بد و ان تكون مع المعرفة بأنّ المتبوع حائز على الكمال و الهداية و مع فقدهما لا يقدم العاقل على المتابعة و لا تكون إلّا الضلالة و الدليل على ذلك نفس وجدان التابعين لو تخلوا عن العناد و اللجاج و رجعوا إلى التفكر و التعقل، و ما ورد في الكتاب و السنة من ذم التقليد إرشاد إلى ذلك.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: ۱۰٤] و لعل الاختلاف في التعبير في الآيتين بحسب مراتب الجحود و العناد ففي الآية الأولى ادعوا متابعة الآباء و لم يدعوا شيئا وراء ذلك و في هذه الآية ادعوا وراء ذلك الاكتفاء بها، فعبر في الأولى بعدم التعقل و في الثانية بالجهل من هذه الجهة.
و من الآية الشريفة يستفاد تقسيم التقليد إلى قسمين: قسم يكون في الباطل و إلى الباطل، و قسم آخر يكون في الحق و بالحق كما ستعرف.
قوله تعالى: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً. المثل: الشبه، و القول في شي‏ء يشبه قولا في شي‏ء آخر يبين أحدهما الآخر. و المثال الصورة، و في الحديث: «إذا خرج المؤمن من قبره خرج معه مثال يتقدم أمامه فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول له: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا» و قد ذكرت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موردا.
و ذكر الأمثال في الكلام من أهم جهات الفصاحة و البلاغة و إنما يؤتى بها لتقريب المعاني إلى الأذهان و قد اعتنى بها اللّه تعالى في القرآن الكريم قال سبحانه: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [سورة الروم، الآية: ٥۸] و تقدم ما يتعلق بها في آية 17 من هذه السورة فراجع.
و النعيق صياح الراعي بالغنم و زجرها، و العرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل، و يستعمل النعيق، و النغيق، و النعيب في صوت الغراب أيضا بحسب اختلاف حالاته.
و الدعاء للقريب. و النداء للبعيد غالبا و قد يستعمل أحدهما في مقام الآخر أيضا.
و قد بين سبحانه و تعالى أنّ مثل الكفار في عدم التعقل و التدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم و آخرتهم، و عدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم و نجاتهم من المفاسد و المهالك، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلّا مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شي‏ء أو زجرها عن شي‏ء آخر فهي لا تعقل شيئا مما يقول و لا تفهم منها معنى كذلك شأن الكفار في الجهل و عدم التمييز بمداليل الألفاظ و عدم درك المعاني.
قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ. أي: أنّ الكافرين صم عن الحق فلا يدركونه، و بكم عن السؤال عما يفيدهم و عمي عن العبرة و الاعتبار مما يرونه، و هذا شأن كل من غلب عليه الجهل المركب و لا يكون في مقام رفعه فليس له حظ من الكمال و لا يريد الاستكمال و قد تقدم نظير هذه الآية في آية 18 من هذه السورة.
و يمكن أن يستدل بمثل هذه الآية على أن الكفار الذين ركبهم الجهل و العناد أضل من الأنعام فانها تنزجر بزجر الراعي و تستجيب دعوته، و لذا يمثلون كل مجتمع ليس فيهم قائد بصير و لا مدبر خبير بأنهم كأغنام لا راعي لها، و هذا بخلاف الكفار فإنهم لا يرتبون أي أثر على دعوة الأنبياء و لم يعيروا لها بالا.
ثم إنّ المثل في المقام يحتمل وجوها أربعة:
الأول: أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق و اتباع آبائهم بالناعق للحيوان يعني أن التابعين كالحيوان و المتبوعين كالناعق لهم.
الثاني: أن يكون كالوجه الأول إلّا ان التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع، يعني: ان المتبوع كالحيوان و التابع كالناعق لهم.
الثالث: لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة من الأوثان و الأصنام، بل يمكن التعميم فيشمل كل ما يراد به غير وجه اللّه تعالى، فيكون المراد به أنه ليس له إلّا التعب و النصب من دعائه.
الرابع: تشبيه واعظ الكفار- و هم الأنبياء- بالراعي الذي ينعق بالحيوان، فلا يسمع الكفار منهم و لا يفهمون ما يقولون لهم. و يمكن أن يؤخذ معنى عاما يشمل جميع ذلك.

تشير الآيات الشرية إلى أمور:
الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أنّ أمر الدين مختص باللّه تعالى و أنّ في غير ما أذن فيه تعالى يكون تشريعا محرما و اتباعا لخطوات الشيطان.
الثاني: أنّ التعبير بالخطوات إشارة إلى أن إغواء الشيطان إنما يكون من الأشياء الدنيئة و الخواطر الرديئة و الأمور السفلية التي يستقبحها العقل لأنه مرجوم عن العلويات و الأمور المعنوية العقلية، فيكون إضلاله ناشئا عن الجهل و عدم التفكر و التعقل اللذين هما من جهة العلو، فلا ينبغي لأحد ان يدع وحي السماء النازل على الأنبياء و متابعة من تكون ذاته الدناءة و الخسة و البعد عن ساحة الرحمن، فيكون التعبير بالخطوات كناية عن نهاية الخسة و الدناءة.
الثالث: أنّ قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إرشاد إلى أمر فطري، و هو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه و يتبعد عنه بل هذا ارتكازي في الحيوان في الجملة، فيكون من باب بيان الموضوع لترتب الحكم الفطري عليه قهرا.
الرابع: إنّما وصف سبحانه الشيطان بأنّه «عدو مبين» إما لأجل وضوح عداوته لكل عاقل لو تبصر و تأمل في أفعاله و وساوسه حق التأمل، و يكفي في ذلك الإعتبار من حال الكفار و المنافقين، أو لأجل قسمه و حلفه على الإغواء كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83] أو لأجل إخراجه و رجمه عن قرب اللّه عزّ و جل، أو لأجل أنّ بني آدم أفضل منه، و يمكن أن يكون لاجتماع هذه الأسباب دخل في اشتداد إغوائه و إضلاله للنّاس.
الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّ للشيطان ركيزتين في إضلال الإنسان و إغوائه:
الأولى: تزيين ما ترغب إليه النفس الأمّارة من السوء و الفحشاء و الترغيب إليهما بأساليب مختلفة، و هو بذلك يبعد الإنسان عن الجانب الأهم في طبيعته أي جانب التعقل و التدبر.
الثانية: تلبيس الحق بالباطل و اراءة الباطل حقا بحيث ينسب ما ليس من الدين إلى الدين فيجتهد في ذلك و يريد بذلك طمس الفطرة الإنسانية، فان الإنسان بفطرته يميل إلى الحق و التدين بالدين الإلهي.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ عدم الاستقامة و الإستواء كما هو الشأن في الخطوات فانها لا تكون بمستوى واحد و الا لكان التعبير بالصراط و نحوه.

أدوات الاستفهام كثيرة و الأصل فيها «الهمزة» و الباقي من المتفرعات و الشؤون و الحالات؛ و لذا اختصت همزة الاستفهام بأحكام خاصة في المحاورات لا تجري في غيرها من سائر الأدوات.
منها: أنّ ورودها لطلب التصور تارة و لطلب التصديق أخرى، و سائر الأدوات تختص بالأول إلا «هل» فإنّها تختص لطلب التصديق فقط.
و منها: تمام التصدير فتتقدم على حرف العطف، لأصالتها في الصدارة مطلقا. و لذلك أمثلة في القرآن الكريم قال تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: ۱۰٤] و قال تعالى: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة يونس، الآية: ٥۱] و قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: ٤٦] و أما بقية أدوات الاستفهام فتتأخر عن العطف قال تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ [سورة آل عمران، الآية: 101] و قال تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير، الآية: ۲٦]، و قال تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [سورة غافر، الآية: ٦۲] و قال تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ [سورة الأحقاف، الآية: ۳٥] و قال تعالى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [سورة الأنعام، الآية: 81].
ثم إنّهم قد ذكروا معاني كثيرة للهمزة منها: التهكم، و التعجب و الأمر، و نحوها و جعلوها من متعدد المعنى، و الظاهر انه من الخلط بين دواعي الاستعمال و المستعمل فيه، و كم لهم من مثل هذا الخلط في الألفاظ.

في التهذيب عن منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه السلام): «ان‏ طارق النخاس قال: إني هالك خلعت بالطلاق و العتاق و النذر فقال له (عليه السّلام): يا طارق إنّ هذه من خطوات الشيطان».
و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قال (عليه السلام): «كل يمين بغير اللّه فهي من خطوات الشيطان».
و فيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل حلف ان ينحر ولده فقال (عليه السلام) ذلك من خطوات الشيطان».
أقول: الروايات في أن الحلف بالطلاق أو الحلف على شي‏ء مرجوح شرعا من خطوات الشيطان جميع ذلك من باب ذكر بعض المصاديق و إلّا فكل ما لم يرد به وجه اللّه تعالى و لم يكن مطابقا لرضائه جل جلاله فهو من خطوات الشيطان سواء كان من الأعمال و الأفعال أو المعتقدات.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إياك و خصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم».
أقول: هذا محمول على ما إذا لم تكن حجة معتبرة في البين و إلّا فان كان مطابقا للموازين الشرعية فهو محبوب للّه تعالى و مرغوب اليه في السنة المقدسة.
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً» قال (عليه السلام): «أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت».
أقول: تقدم ما يتعلق بها.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً: انها نزلت في ثقيف و خزاعة و عامر بن صعصعة حرّموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام».
أقول: لو صح السند فهو بيان لبعض مصاديق العام.

استدل الفقهاء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً و جملة أخرى من الآيات الكريمة على إباحة الأشياء و حليتها إلّا ما قام الدليل المعتبر على الحظر و الحرمة من الكتاب العزيز و السنة المقدسة، و الإجماع المعتبر، فان هذه الآية الشريفة صريحة في الإذن بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعي.
و لكن عن جمع آخرين عكس ذلك و قالوا بحرمة الانتفاع بالأشياء مطلقا و ان الأصل في الأشياء الحظر إلّا ما دل الدليل على الإباحة، و استدلوا بأدلة قابلة للمناقشة تعرضنا لتفصيلها في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا [تهذيب الأصول‏].
ثم إنّه قد يستدل بمثل هذه الآيات على بطلان التقليد مطلقا في فروع الدين فضلا عن أصوله، لأنه تعالى إنما ذم الكفار باتباعهم لآبائهم.
و لا ريب في بطلان الاستدلال أما أولا: فلأنّ الآيات الشريفة ظاهرة في التقليد في أصول الدين و انما ذم تعالى الكفار باتباعهم الآباء في الباطل و الدعوة إلى الأوثان و الأصنام و لم يقل أحد من المسلمين بجواز التقليد كذلك.
و أما ثانيا: فلأن التقليد في الحق و متابعة من يحكم عن السنة المقدسة المنتهية إلى اللّه تعالى متابعة له عزّ و جل، و التقليد كذلك أصل من أصول الدين، و ملجأ يلجأ إليه الجاهل الذي لا يمكنه النظر و الاستدلال.
و التقليد و المتابعة في أمور الدين مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بوجه من الوجوه؛ و البحث محرر في الفقه و الأصول فراجع كتابنا [مهذب الأحكام‏].
ثم إنّ التقليد المبحوث عنه في المقام هو التقليد في أمور الدين، و قد ذكرنا أنّه لا يجوز في أصول الدين و أما في فروعه فهو فرض العامي الذي لا يتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، و أما التقليد و المتابعة في غير ذلك من أمور المعاش كلها- كالصنايع و الحرف و غيرهما- مما ليس فيه منع شرعي فهو صحيح بل قد يجب ان كان من الواجبات النظامية و لم يرد نهي شرعي عنه، كما انه ليس من متابعة خطوات الشيطان.

المتابعة و التقليد هو العمل بما شرعه المتبوع و جعله سواء كان التابع قد قصد المتابعة أو لا. و بعبارة أخرى: المتابعة انطباقية لا أن تكون قصدية، و هي سنة من سنن الاجتماع الإنساني بل هي من غرائز الإنسان لا سيما في المراحل الأولى من حياته، و لعلماء الاجتماع في ذلك كلام طويل بل يظهر من بعضهم أنها من أسباب رقي الفرد أو الأمة، و لم يصل أحد إلى مرتبة الكمال إلّا بفضل المتابعة و التقليد و المحاكاة.
و الظاهر أنّ القرآن الكريم لم ينه عن التقليد على النحو الكلي و إنما اعتبر في التقليد الذي يمكن أن يحقق الفائدة للفرد أو المجتمع أمرين.
الأول: أن يكون التقليد عن حق و في حق فلا يكون إلّا ممن له الكمال و الهداية و الصلاح قال تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‏ فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [سورة يونس، الآية: ۳٥] فإنّ تبعية شخص لشخص آخر لا بد و أن يرى في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل بلا فرق بين ان تكون هذه التبعية شخصية أو نوعية دينية أو دنيوية و يدل على ذلك قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ فجعل المناط في أمر التقليد عقل الآباء و اهتداؤهم و قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة يونس، الآية: 89] فتكون التبعية حينئذ تبعية العقل و الكمال و بالأخرة ترجع إلى تبعية رضوان اللّه تعالى و الأمر الإلهي قال تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷] و في غير ذلك لا تكون إلّا متابعة للنفس الأمارة و متابعة الهوى التي لا يجتنى منها إلّا الفساد و الضلال و يكون مآلها إلى النار ،قال تعالى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً [سورة نوح، الآية: 21] و الداعي إلى هذا التقليد هو الشيطان لأنه من طرق غوايته و إضلاله قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى‏ عَذابِ السَّعِيرِ [سورة لقمان، الآية: 21].
الثاني: أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان قال تعالى: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة التوبة، الآية: 100]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [سورة غافر، الآية: 38] و يستفاد ذلك مما ورد في قصة موسى و الخضر قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى‏ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [سورة الكهف، الآية: 18] و قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18] و الآيات في ذلك كثيرة منطوقا و مفهوما.
و بالجملة: إنّ ذم التقليد و التشنيع على من يقلد الآباء ليس لأجل نفس التقليد و المتابعة بل لأجل عدم توفر الشروط التي حددها القرآن الكريم فيه، فيرجع إلى متابعة الشيطان و النفس الأمارة و متابعة الهوى التي هي من أهم أسباب الضلال و الابتعاد عن الحق.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"