1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 159 الى 162

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (۱٥۹) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (۱٦۰) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (۱٦۱) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (۱٦۲)


سبق و أن ذكر سبحانه عناد أهل الكتاب و الكفار في إنكار الحق و هم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، و في هذه الآيات يبين نوعا آخر من عنادهم، و هو أنهم يكتمون ما أنزل اللّه تعالى إما بإنكار أصله او بتحريفه عن مواضعه، و هو ظلم عظيم يعرف من عظم ما أوعد عليه اللّه تعالى مما أوجب طردهم من رحمته كما طرد من رحمته كل من مات منهم على الكفر فأوجب خلودهم في النّار.
و لعل في ذكر آية الكتمان بعد ذكر آيات القبلة و بعض أعمال الحج إشارة إلى لزوم الاهتمام بالاعتناء بأحكامه و إن كان يصعب على بعض العقول درك بعض أسرارها.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏. الكتمان إخفاء الحق و ستره خصوصا مع الحاجة الى الإظهار و البيان. و قد يستعمل في إظهار الخلاف و إزالة الشي‏ء عن موضعه و وضع آخر مكانه. و البينات: هي‏ الأدلة الواضحة. و الهدى: كل ما يقع في طريق استكمال النفس أي الآيات و الحجج الواضحة الموجبة لهداية النّاس.
و عموم الآية يشمل جميع التشريعات السماوية المحكمة بالحكمة البالغة الإلهية سواء كانت في أصول الدين أم في فروعه. و جميع الأدلة العقلية المقررة بالشريعة المقدسة، فان العقل شرع إلهي داخلي كما أن الدين شرع إلهي خارجي أيد اللّه كلا منهما بالآخر؛ فهما حقيقتان متلازمتان بل حقيقة واحدة لها آثار مختلفة، و لذا ورد أنه: «لا عقل لمن لا دين له» كما يصح ان يقال: لا دين لمن لا عقل له و سيأتي إثبات هذه الملازمة بل وحدة الحقيقة فيهما بالأدلة الكثيرة.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ. المراد بالكتاب هو ما أنزله اللّه تعالى في كل عصر فيشمل التوراة و الإنجيل في كل ما لم يثبت نسخه بالقرآن، و لا فرق بين كتابه تعالى و ألسنة رسله لأنّ كلا منهما يحكي عن الآخر. و إنما ذكر سبحانه الكتاب لأنه لا تتم الحجة من اللّه على الخلق إلّا بإنزال الكتاب و بيانه.
قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. اللعن: الطرد و الابعاد على سبيل السخط. و هو من اللّه تعالى العقوبة في الآخرة، و الانقطاع عن الرحمة و التوفيق في الدنيا. و من غيره دعاء على الملعون بالإبعاد عن رحمته عزّ و جل. و هو يعمّ الإنسان و الحيوان و غيرهما عما يلهمهم اللّه تعالى، كالرحمة، اللذين هما من أسرار التكوين و يعمان جميع العوالم المرتبطة بالحي القيوم، فإن جميع حقائق الموجودات ملهمة منه عزّ و جل، كما يلهمه سائر ماله دخل في نظامهم.
و المراد من «اللاعنون» كل من يتأتّى منه اللعن، سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا و ذكرهم بالخصوص لبيان قبح هذا العمل و شناعته عند من يتعقل و يعلم به.
و حكم هذه الآية عام يشمل كل من كتم علما من العلوم التي فرض اللّه تعالى بيانها للنّاس بل يشمل كل من فعل المحرمات بعد تمامية الحجة عليه‏ و لا سيما إذا كان ممن يقتدى بفعله فلا اختصاص له بخصوص ما كتمه أهل الكتاب في شأن الإسلام و أوصاف الرسول و نحو ذلك.
ثم إن كتمان ما أنزله اللّه تعالى على أقسام:
الأول: أن يكون الكتمان مع العمد و الالتفات و وجود المقتضي للإظهار و فقد المانع عنه و لا ريب في كونه من المعاصي الكبيرة و شمول اللعن له، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، و الأخبار في ذلك كثيرة بين الفريقين و كلها مطابقة للحكم العقلي الدال على قبح كتمان الحق و حسن إظهاره.
الثاني: أن يكون الكتمان عن جهل و كان الجاهل مقصرا في ذلك و هو مثل الأول في شمول اللعن. و أما إذا كان قاصرا- على فرض وجوده- و كان معذورا فيه فلا يشمله اللعن قهرا.
الثالث: أن يكون الكتمان لأجل مصلحة شرعية فحينئذ يجب و لا يشمله اللعن قهرا.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا. التوبة بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف بالإساءة. و الاعتذار يكون على أقسام:
الأول: أن يقول المعتذر لم أفعل.
الثاني: أن يقول فعلت لأجل كذا و كذا.
الثالث: أن يقول فعلت و أسأت و قد اقلعت.
و الأخير هي التوبة الواردة في الكتاب و السنة، و كل اعتذار يستلزم الرجوع إلى المعتذر منه فيصح تفسير التوبة ب «الرجوع» أيضا، فهي أيضا رجوع إلى اللّه تعالى بعد الإعراض عنه بالمخالفة.
و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا بهيئات مختلفة منسوبة تارة: إلى الفاعل. و أخرى: إلى القابل، و هو اللّه تعالى قال سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 39].
و المشهور بين العلماء أنها إذا أضيفت إلى الفاعل تكون بمعنى الاعتراف بالذنب و طلب الغفران، و إذا أضيفت إلى اللّه تعالى تكون بمعنى العفو و الغفران بل تبديل السيئة بالحسنة في بعض الأحيان.
و يصح استعمال الاعتذار بالنسبة إلى غير اللّه تعالى، و أما استعمال التوبة بالنسبة إلى غيره جلت عظمته فلم أجده في الاستعمالات الفصيحة.
و المراد من «أصلحوا»: أخلصوا النية للّه تعالى، و أصلحوا ما أفسدوه من أحوال النّاس- كما أن المراد من «بينوا» أي أظهروا ما كتموه و عملوا به.
و المعنى: إلّا من تاب عن عمله و رجع إلى اللّه تعالى و أخلص النية له عزّ و جل فأصلح ما أفسده و آمن بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يكتم كتاب اللّه و عمل بما رجع إليه، فإنّ اللّه يتوب عليه و يفيض عليه رحمته و مغفرته.
و الآية الشريفة تدل على اعتبار أمرين في هذه التوبة- الأول: الإصلاح و الخلوص للّه تعالى و الإخلاص في النية.
الثاني: بيان الحق و إظهاره من بعد ما كتم و العمل به. فلا يكتفى بالتوبة الظاهرية و الرجوع بمجرد اللسان مع عدم عقد النية عليه.
و بعبارة أخرى: إنّ الموضوع اجتمع فيه حق اللّه تعالى و هو إظهار البيان و حق النّاس و هو الوقوع في الضلالة لعدم البيان و قد دلت الأدلة الكثيرة على أنّ كل مورد من موارد التوبة إذا تعلق به حق من حقوق النّاس لا تصح التوبة فيه إلّا بأداء ذلك الحق.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. أي: أولئك أخصهم بالذكر و المغفرة بعد تحقق شرائط صحة التوبة فيهم، فانه هو الذي يرجع عباده اليه بعد الإعراض عنه بالمخالفة و الإدبار عنه بالمعصية؛ و الرحيم بهم يغفر للمسي‏ء و يثيب المطيع.
و في الآية ترغيب شديد إلى التوبة، و الابتعاد عن اليأس مهما عظم الذنب.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ. ذكر سبحانه في‏ الآية السابقة حكم الكافرين الذين كتموا الحق في الدنيا و أنهم يستحقون اللعن إلّا الذين تابوا و أظهروا ما كتموه.
و في هذه الآية يبين حالهم في الآخرة إذا أصروا على الكفر و العناد على الحق و الجحود له و ماتوا على الكفر، فانه يلزمهم الذل و الهوان و الطرد عن رحمته و الخلود في العذاب.
قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ. أي: أنّ أولئك الكافرين الذين لم يتوبوا و ماتوا على الكفر أولئك عليهم لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين حتّى من أهل مذهبهم، لأن هذا الشخص أهل للعن فيستحقه من الجميع.
و لعن الملائكة و النّاس باعتبار استلهامهم التكويني اللعن الدائمي من المبدأ القيوم لكل من طرد من ساحته.
و إنما ذكر لعنهم مع أن لعن اللّه تعالى وحده يكون كافيا في خزيهم و عذابهم، لأجل بيان صلاحية أولئك الكفار للّعن و البعد عن ساحة الرحمن فيستحق اللعن من كل من امكنه الاطلاع على حالهم.
و الآية تشير إلى قضية عقلية فطرية، و هي أن من أصر على الكفر و الحجب عن منبع النور، فهو قد حجب بصره و بصيرته عما هو في غاية الجلاء و الظهور فلا محالة يكون محجوبا عن استشراق النور، و مطرودا عند كل من كان مرتبطا تكوينا او اختيارا أو كليهما معا مع منبع النور، و هم الملائكة و كل من يعتد بلعنه، و هذا معنى لعن اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين، فلا وجه للانتظار و الإمهال في حقه بعد الإصرار على الكفر و الجحود للحق و عدم رجاء الإيمان و الصلاح منه.
و لعن الملائكة و النّاس لا يلزم أن يكون مسموعا او يحس به احد فإنه لا ريب في كون الملائكة و الأنبياء و الأولياء و من يتبعهم يحبون من أحبه اللّه تعالى، و يلعنون من لعنه تعالى لانبعاثهم جميعا عن إرادة اللّه تعالى و أمره.
و اما غيرهم من مخلوقاته فإنه يمكن أن يكون لعنهم كتسبيحهم لا يفقهه‏ أحد قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: ٤٤] فإن ما سوى اللّه تعالى في جميع العوالم العلوية و السفلية يرتبط بخالقه و صانعه بأقوى الروابط و العلائق يستلهم تدبيرات شؤونه من خالقه و صانعه، كما أن الخالق و الصانع يرتبط بمصنوعاته، و بهذين الارتباطين يقوم نظام التكوين من أوج المجردات إلى حضيض الماديات و به تتم القيمومة المطلقة على الممكنات جميعا و على هذا فكل من طرده الحي القيوم عن ساحة كبريائه يستلزم الطرد من الغير أيضا لأجل تلك الإضافة اليه تعالى، و كل ما كانت الإضافة أشد كان الطرد أقوى و المبغوضية أشد، و يستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت الحياة المعنوية و التوجه إلى الخالق في جميع مخلوقاته، و للبحث تتمة تأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ مادة (خ ل د) تأتي بمعنى بقاء الشي‏ء على ما كان عليه و عدم عروض الفساد بالنسبة إليه، و أما التأبيد فلا يستفاد من ذات المعنى بل لا بد فيه من الرجوع إلى القرائن، لأن الخلود من الأمور الإضافية، فما يبقى ألف سنة- مثلا- خالد بالنسبة إلى ما لا يبقى الا سنين قليلة. و أما بالنسبة إلى بدء الحدوث فله مبدأ معلوم معين كسائر الحوادث. و قد وردت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة- مصدرا و مفردا و جمعا- و لا سيما بالنسبة إلى أصحاب الجنّة و النّار.
و الخلود و الدوام باعتبار أصل الحدوث لا فرق بينهما لما ثبت في محله من امتناع القديم بالذات الا في اللّه تعالى، و كذا باعتبار البقاء لا فرق بينهما.
نعم قد يقال: إن الدوام هو ما لم يزل و لا يزال بخلاف الخلود و هو باطل: لانحصار الأزلية و الأبدية في اللّه تعالى، فيكون من المغالطة بين المصداق و المفهوم، و لا ريب في اطلاق الدوام عليه تبارك و تعالى و من أسمائه الحسنى (يا دائم).
و أما الخلود فلم يطلق عليه تعالى إلّا في بعض الدعوات: «لك الحمد حمدا خالدا بخلودك» فيصح اطلاق الدوام و الخلود بالنسبة إلى ما ليس له أول‏ و لا آخر و هو منحصر في اللّه تعالى، و بالنسبة إلى ما له أول و آخر، و بالنسبة إلى ما له أول و ليس له آخر، كنعيم أهل الجنّة و عذاب أهل النار.
و العذاب: هو الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة؛ و استعير للأمور الشاقة حتّى قيل: السفر قطعة من العذاب. و قيل: إنّه من الأضداد لاستعماله في الطّيب العذاب أيضا. و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يزيد على ثلاثمائة مورد.
و النظر: استعمال البصر و البصيرة لدرك الشي‏ء و يلزمه التأمل و الإمهال، و منه قوله تعالى: فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة الحجر، الآية: ۳٦].
و المعنى: إنّهم ماكثون في اللعنة الموجبة للعذاب و لا يخفف عنهم لفرض استقراره عليهم بموتهم على الكفر فلا يرفع عنهم العذاب و في الآية التفات من الضمير إلى الظاهر للدلالة على أن اللعنة هي العذاب.

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:
الأول: قد وصف سبحانه و تعالى ما أنزله بالبينات أي: الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين و أن كتمان ذلك و إظهار ما هو خلافه موجب للضلالة و الاختلاف و الشقاء، و هذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس، قال تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة، الآية: 213]. و يستفاد من هذه الآية أن ما أنزله اللّه هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30]. و هو يدل على أنّ سبب الاختلاف و التفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق و عدم بيانه للناس، أو تأويله و عدم حفظه، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة، و لذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.
الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا أنه لا أثر للتوبة عن كتمان الحق الا بعد إزالة الأثر الخارجي الناشئ عن كتمان الحق و إظهاره و إعلانه و العمل به و إرشاد النّاس اليه.
الثالث: يدل قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ على أن كتمان كل ماله دخل في استكمال الإنسان جناية على المجتمع، فان كل كمال للفرد يكون كمالا للمجتمع و كذا العكس، لمكان التلازم بينهما في الجملة و الإظهار حق نوعي لازم لمن قدر عليه. و تركه- و إخفاء الحق- ظلم نوعي و لذلك يلعنه كل لا عن، إذ أن كل مظلوم يلعن ظالمه بالفطرة و لو لم يكن باللسان.
الرابع: يستفاد من الآية المباركة استمرارية اللعن و دوامه بالنسبة إلى كل من يكتم الحق فلا يختص حكمها بطائفة خاصة، و يدل على ذلك أيضا أن قبح كتمان الحق من المستقلات العقلية فمهما وجد موضوعه ينطبق الحكم عليه قهرا، كما في كل قضية عقلية.
الخامس: إنّما أجمل سبحانه و تعالى اللعن في الآية الأولى و فصّله في الآية الثانية، لتعدد الجهات في الآية الثانية من الموت على الكفر و عدم التوبة من كتمان الحق، و استقرار الظلم في نفوسهم‏.

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قلت له: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ. قال (عليه السلام): نحن يعنى بها و اللّه المستعان أنّ الرجل منا إذا صارت اليه لم يكن له او لم يسعه إلّا أن‏ يبين للنّاس من يكون بعده».
أقول: مثل ذلك روايات كثيرة أخرى، و لا ريب أنها من التطبيق لكل حق لا بد أن يبين.
و في الإحتجاج في الآية المتقدمة عن علي (عليه السلام): «العلماء إذا فسدوا».
أقول: إذا فسدوا يعني لم يعملوا بعلمهم يكون ذلك كتمانا عمليا للحق الذي يقولونه للنّاس.
و في المجمع في الآية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو فأنزل له تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
أقول: و ذلك لأنه سكت في الدنيا عن بيان الحق و ألجمه هواه عن ذلك، فيظهر ذلك في عالم الآخرة بلجام من النار، و الروايتان تؤيدان ما ذكرناه في الكتمان، و إطلاقهما يشمل كل عالم بكل حق.
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، قال (عليه السلام): «نحن هم، و قد قالوا: هو أمّ الأرض».
أقول: لأنهم شهداء الخلق و يعرض عليهم أعمالهم فيكونون هم اللاعنون لا محالة، و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [سورة هود، الآية: 18] و اما قوله: «و قد قالوا: هو أمّ الأرض» فقد نسب ذلك إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله).
و في تفسير القمي في الآية المتقدمة قال (عليه السلام): «كل من قد لعنه اللّه فالجن و النّاس يلعنهم».
أقول: و الوجه في لعن الجن و الإنس لمن يكتم الحق و ثنائهم لمن يظهر الحق كما في بعض الروايات، أنّ جميع الموجودات ترتبط بالحق‏ الواقعي تكوينا، فيكون كتمانه مبغوضا لديهم و إعلانه محبوبا عندهم، كما تقدم في تفسير الآية.
و في الدر المنثور في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏: «نزلت في علماء أهل الكتاب و كتمانهم آية الرجم و أمر محمد (صلّى اللّه عليه و آله)».
أقول: هذا من باب التطبيق.

التوبة باب من أبواب رحمة اللّه تعالى، و هي من أعظم أنحاء لطفه بعباده؛ و من أقرب الطرق اليه عزّ و جل، و هي أول منازل السائرين إلى اللّه سبحانه، و أساس درجات السير و السلوك الإنساني و هي مفتاح التقرب اليه عزّ و جلّ، و الوصول إلى المقامات العالية بل لا تتحقق التخلية عن الصفات الرذيلة و التحلية بالصفات الحسنة إلّا بها، و يكفي في فضلها أنها من صفات الباري عزّ و جلّ فانه «التواب الرحيم»، و قد منّ على عبيده أن تقرب إليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي و الذنوب، فقال تبارك و تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: ٥٤]. و قد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة، ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».
و روي عنهم (عليهم السلام): «إنّ اللّه أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات و الأرض لنجوا بها، قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فمن أحبه اللّه لم يعذبه. و قوله عزّ و جلّ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ- الآية-. و قوله عزّ و جل: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. إلى غير ذلك من‏ الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها. و أنّ للجنّة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين، و هي من مظاهر رحمانيته و رحيميته اللتين هما من أوسع صفات اللّه تعالى العليا بل لا حد لهما أبدا، و البحث عن التوبة من جهات كثيرة:

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنبا و يعترف به عند اللّه تعالى و هي: بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف المستلزم للرجوع إليه تعالى بعد البعد عنه بسبب الذنب، و هذا هو المعنى اللغوي، كما عرفت.
و قد عرّفها علماء الكلام و الأخلاق بتعاريف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي، و نحن نذكر تعريفين منها.
الأول: ما عن بعض علماء الكلام: أنها الندم على معصية من حيث هي مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.
الثاني: ما عن بعض علماء الأخلاق: أنها الرجوع إلى اللّه تعالى بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.
و هذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم و السنّة المقدسة. و المستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب كما ورد في الأثر عنه (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».
و ذلك لأنّ الإنسان مزيج قوى متخالفة و مركب من شهوات متعددة، تجذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر كما هو المفصل في علم الأخلاق، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة و تمنعه عن الرذيلة، و القوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه، و القوى الغضبية تورده إلى المهالك و الأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل. و الإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة و الملائم بينها بالتوفيق بينها بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عيّن لها فيجلب بذلك سعادة الدارين. و هو في مسيره الاستكمالي لا يسلم من الموانع و العوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة و التدبير، و من جملة تلك الموانع المعاصي و الذنوب. فإذا اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيرا بينهما إما الفعل و ما يتعقبه من الآثار، أو الترك و ما يلزمه من راحة النفس و الفوز بالسعادة، و هذا وجداني لكل فاعل مختار، فإذا عزم على الفعل و أقدم على الارتكاب تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة و الخجل و الحياء المسمى ب (تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر، و قد اعتبر الشارع هذه الحالة هي التوبة؛ قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «التوبة الندامة» و عن الصادق (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».
و السر في ذلك: أنّ هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل و القوى الخيرة على الجانب الآخر، و هي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل و الارتداع عن المعصية، و لذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه»، و تتكرر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتكاب للمعصية ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتكاب الذنوب و اقتراف الآثام فيستولي عليه الفساد بالإصرار و يقسو قلبه، و هذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان كما ورد في القرآن الكريم، و قد أشار تعالى إليها بقوله عزّ و جل: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: ۱٤]. و تزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة و مزاولة الطاعات و تقوية النفس بالحسنات و ترويضها بالأخلاق الفاضلة.
و من ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات، و اما تعريفها بالرجوع و الارتداع عن المعصية في المستقبل فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم.
و إذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم فلا بد و ان يكون منبعثا عن حرقة القلب و الشعور بالحياء منه عزّ و جل و الخجل عن ما صدر منه كما في بعض الروايات «إن الرجل يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه اللّه فيدخله الجنّة».
و أما إذا كان الندم حاصلا من اطلاع الغير عليه، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه، أو سقوط منزلته عند النّاس فلا أثر له، بل لا بد من ان تسوءه‏ سيئته كما ورد في الخبر.

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة:
الأول: الكتاب الكريم، و تدل عليه آيات كريمة، منها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية: 31]، و منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة التحريم، الآية: 8] إلى غير ذلك من الآيات، و تدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات بضميمة قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: ۱۱٤]، و من أجلّ الحسنات الفرائض.
الثاني: السنة الشريفة، و الأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة:
ففي الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ، قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه؛ و لا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار».
و في مهج الدعوات عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «اعترفوا بنعم اللّه ربكم و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم، فان اللّه يحب الشاكرين من عباده».
و في الكافي أيضا عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنا استزاد اللّه، و إن عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب اليه».
و في الكافي عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام): «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت: و أيّنا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إن اللّه يحب من عباده المفتن التواب».
الثالث: الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة، و هو مما لا ريب فيه.
الرابع: دليل العقل: فإن حدوث المخالفة و البقاء عليها قبيح عقلا، و ترك كل قبيح عقلي واجب عقلا و شرعا، و لا يتحقق ذلك إلّا بالتوبة.
و بتقريب آخر: إنّ المعاصي من المهلكات، و إنّها تجلب الضرر على العاصي؛ و لا ريب في وجوب دفع الضرر عقلا.

بعد ما ثبت أصل وجوبها يكون هذا الوجوب فوريا، و تدل عليه أمور:
الأول: ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي.
الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 17].
الثالث: إنّ بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية و الفطرة تحكم بفورية إزالتها.
الرابع: الإجماع القائم على الفورية.
الخامس: الأخبار الكثيرة الدالة عليها منها:
رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر اللّه» ، و في وصية النبي لأبي ذر قال (صلّى اللّه عليه و آله): «اتق اللّه حيثما كنت و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها» ، و في وصية لقمان لابنه «يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».
و منها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات، فقد ورد في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال: استغفر اللّه الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم و أتوب إليه، ثلاث مرات لم تكتب عليه».
و يستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات و من الأمور العبادية.

قد ذكر العلماء للتوبة شروطا كثيرة، و هي على قسمين: شروط لصحة التوبة، فلا تصح إلّا إذا اجتمعت فيها تلك الشروط. و شروط لكمالها و مع فقدها لا تكون كاملة و لا مقبولة.

أما القسم الأول فهي ثلاثة:
الأول: الندم و قد ذكرنا سابقا أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، و يدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار، و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «كفارة الذنب الندامة»، و ما رواه في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار.
الثاني: أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلّا بذلك، كما تقدم، و تدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي، و المعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله، و أما الذنب الذي لم يسبق صدوره منه فنية تركه لا تكون من التوبة، بل هي من التقوى.
ثم إنّ العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها فعلا إن كان كاشفا عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة فلا ريب في اعتباره، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي كما عرفت. و أما إذا تحقق الندم فعلا و لم يتحقق العزم على الترك لعدم التوجه إليه فلا دليل على اعتباره حينئذ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه، فقد روى الكليني فى الكافي عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام) هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا.
قلت: و أينا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إنّ اللّه يحب من عباده المفتن التواب» و المراد بالمفتن من يذنب و يتوب. ثم يعود. و نحوه غيره من‏ الأخبار.
الثالث: أداء الحقوق وردها إلى أهلها، و في الحديث: «لا توبة حتّى تؤدي إلى كل ذي حق حقه» ، و في حديث آخر: «الظلم الذي لا يدعه اللّه فالمداينة بين العباد» إلى غير ذلك من الأخبار.

و أما القسم الثاني، و هي شروط الكمال‏ فقد جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) المهم منها في قوله: «الاستغفار درجة العليين؛ و هو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، و الثاني العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّه عزّ و جل أملس ليس عليك تبعة، و الرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، و الخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر اللّه» و لا يخفى انه (عليه السلام) جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط.
و من شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية لا لأجل شي‏ء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك، بل تركها لأجل نقص في عضو او عدم الإمكان لا يسمى توبة. و هذا ظاهر.

إذا تحققت التوبة من العبد و كانت مستجمعة للشرائط تكون مقبولة لا محالة، و يدل على ذلك أمور:
الأول: قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: ٥٤]، و يستفاد من هذه الآية قاعدة كلية و هي أن كل ما هو من صغريات الرحمة بينة عزّ و جل و بين عباده يكون واجبا عليه عزّ و جل لأنه كتب على نفسه ذلك فقبول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه اللّه على نفسه، فيستغنى بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام.
و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110].
الثاني: الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة، ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) انه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»، و في الخبر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أما و اللّه إنها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت: فان عاد بعد التوبة و الاستغفار من الذنوب و عاد في التوبة؟ قال (عليه السلام): يا محمد ابن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه و يستغفر منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟!! قلت: فانه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب و يستغفر، فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة و إنّ اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».
و روى ابن بابويه في ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أوحى اللّه إلى داود النبي (عليه السلام): يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع و تاب من ذلك الذنب و استحيا منّي عند ذكره، غفرت له، و أنسيته الحفظة، و أبدلته الحسنة و لا أبالي و أنا ارحم الراحمين» و الروايات في ذلك كثيرة.
الثالث: يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا و هو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي الذي هو أشرف موجودات هذا العالم بل لم يخلق العالم إلّا لأجله و مع ذلك فهو ضعيف كما قال تعالى: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [سورة النساء، الآية: 28]، قرين النفس الأمارة و محاط بالشهوات المادية، و الشيطان يحوط به إحاطة العروق بالدم و جميع ذلك له دخل في نظام التكوين و التشريع كما ثبت بالبراهين القطيعة في الفلسفة العملية. و حينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعا دائميا عن إفاضة المبدإ القيوم فيضه عليه لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له، و هو قبيح و القبيح محال بالنسبة اليه عزّ و جلّ، فيحسن قبول التوبة منه تعالى، و يرشد إلى ذلك ما في بعض القدسيات: «بمعصية ابن آدم عمرت العالم» و منه يظهر سر ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط، كما يظهر شرح‏ قوله (عليه السلام): «إن اللّه يحب المفتن التواب».
فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة، و لو عصى العبد مرات عديدة، لأنه يأس من رحمة اللّه تعالى، و هو من المعاصي الكبيرة،
و عن علي (عليه السلام) في بعض دعواته الشريفة: «اللهم إن استغفاري إياك و أنا مصرّ على ما نهيت قلة حياء، و تركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك و حلمك تضييع لحق الرجاء».

تصح التوبة من جميع الذنوب و الخطايا، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر، و هي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط، و تدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم و روايات من السنّة الشريفة.
اما الآيات فمنها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية 31]، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110].
و يدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً [سورة الفرقان، الآية: 71].
و أما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة النساء، الآية: 31] و الآيات في ذلك كثيرة.
و أما الروايات فهي مستفيضة منها ما روي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «اعترفوا بنعم اللّه ربكم، و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم فإن اللّه يحب الشاكرين من عباده».
و في تفسير القمي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما اعطى اللّه إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم يا رب سلطت إبليس على ولدي و أجريته منهم مجرى الدم في العروق، و أعطيته ما أعطيته فمالي و لولدي؟ قال: لك و لولدك السيئة بواحدة و الحسنة بعشر أمثالها، قال: يا رب زدني، قال: التوبة مبسوطة إلى ان تبلغ النفس الحلقوم، قال: يا رب زدني، قال: اغفر و لا أبالي. قال: حسبي».
و روى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ الكبائر فما سواها قلت: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه السلام): نعم» و الروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر و الصغائر كثيرة جدا تقدم بعضها.
ثم إنه قد ورد إنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث دينا، و ما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء، الآية: ۱۱٦]، و عدم قبول توبة المرتد.
و لكن الحق أن يقال: إنّ جميع تلك الموارد لا بد و ان تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط او الموت على الشرك و عدم التوبة منه، و إلّا فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال، و تدل على ذلك روايات منها صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث الإسلام و الإيمان قال: «و الإيمان من شهد أن لا إله إلّا اللّه- إلى ان قال- و لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار. قال أبو بصير: جعلت فداك و أينا لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال (عليه السلام): ليس هو حيث تذهب إنما هو من يلق اللّه بذنب أوعد اللّه عليه بالنار و لم يتب منه».
و أما المرتد فتقبل توبته مطلقا- فطريا كان أو مليا- على ما فصلناه في الفقه و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و يدل على القبول‏ صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «من كان مؤمنا فعمل خيرا في‏ إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له و حوسب بكل شي‏ء كان عمله في إيمانه و لا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».
إن قلت: إنه قد ورد في بعض الأخبار نفي الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب و إثبات الكفر له، ففي الخبر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لا يزني الزاني و هو مؤمن؛ و لا يسرق السارق و هو مؤمن»، و مثله غيره.
قلت: يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان، أو إثبات بعض مراتب الكفر، و يدل عليه ما رواه زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أ رأيت قول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يزني الزاني و هو مؤمن، قال (عليه السلام): ينزع منه روح الإيمان».
و لا يدل ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلية، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن و لا كافر كما يقوله بعض المعتزلة، و للكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

التوبة و زمانها:
إنّ من رحمته تعالى و منّه على عبده أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه، و من عظيم لطفه جعله مفتوحا أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم، و يدل على ذلك روايات مستفيضة منها ما رواه الكليني في الكافي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل ان يعاين قبل اللّه توبته».
و روى في الكافي أيضا عن أحدهما (عليهما السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ قال لآدم (عليه السلام): جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة- أو بسطت لهم- حتّى تبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي»
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة، و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [سورة النساء، الآية: 18] أي في ما إذا عاين الموت‏ كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تقدم في بعض الروايات.

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها و محوها، و التوبة عنها و لذلك طرق كثيرة، و هي إما أن تكون محدودة و معينة في الشرع فلا تصح بغيرها، و إما ان لا تكون كذلك. و الجامع بين القسمين هو الندامة، و المجاهدة على ترك الذنب، و إرضاء صاحب الحق- خالقا كان أو مخلوقا- فطرق التوبة على قسمين:
القسم الأول: الطرق التي عينها الشارع و جعل لها حدودا و شروطا لا تصح التوبة بغيرها و هي كثيرة:
منها: الإسلام فإنه يهدم الشرك، و الآيات و الروايات فيه متواترة، و يكفي في ذلك‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله) المشهور بين الفريقين: «الإسلام يجبّ ما قبله».
و منها: قضاء الطاعات الواجبة مثل الصّلاة، و الصوم، و الحج و الزكاة، و الخمس، فإن النوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها على ما هو المفصل في علم الفقه.
و منها: أداء حقوق النّاس إن ضيعها سواء كان الحق ماليا، أو جناية على النفس، أو حقا أدبيا أخلاقيا، و التوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها، و الاسترضاء من صاحب الحق، أو القصاص، أو إخراج الدية كما هو مفصل في كتب الفقه.
و منها: إظهار الخلاف و إعلام النّاس ببطلان ما أظهره كما لو استحدث دينا جديدا فطريق التوبة عنه إظهار خلافه و إعلام النّاس ببطلانه، و الإصلاح بعد الإفساد، قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: ۱٦۰].
و أما ما ورد عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه‏ (صلّى اللّه عليه و آله) أنه قال: «إن اللّه غافر كل ذنب إلّا من أحدث دينا، و من اغتصب أجيرا أجره، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.
القسم الثاني: الطرق العامة التي جعلها اللّه تعالى وسيلة للتوبة و التكفير عن الذنوب و الخطايا، و هي أيضا كثيرة.
منها: اجتناب الكبائر فانه موجب لمحو الصغائر، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ [سورة الطلاق، الآية: ٥]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [سورة الأنفال، الآية: 29].
و روى ابن بابويه في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفر اللّه جميع ذنوبه و ذلك قول اللّه عزّ و جل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.
و في رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من اجتنب كبائر ما أوعد اللّه عليه النّار إذا كان مؤمنا كفر اللّه عنه سيئاته» و نحوهما غيرهما.
و منها: إتيان الحسنات و الأعمال الصالحة، فانه كفارة للذنوب قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: ۱۱٤].
و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «الصلوات الخمس و الجمعة تكفر ما بينهنّ إن اجتنبت الكبائر»، و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «أتبع السيئة الحسنة تمحها»، و في وصية النبي لأبي ذر: «اتق اللّه حيثما كنت، و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها».
و في صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «و من عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، و من عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية».
و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما أحسن الحسنات بعد السيئات و ما أقبح السيئات بعد الحسنات».
و منها: الاستغفار فانه الممحاة، و انه دواء الذنوب كما في الأثر قال‏ تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110]، و قال تعالى: وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 90]، و قال تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة آل عمران، الآية: ۱۳٥].
و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة يقول: استغفر اللّه ربي و أتوب اليه، و كذلك أهل بيته، و صالح أصحابه؛ يقول اللّه تعالى: وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ؛ و في الحديث أيضا قال رجل: «يا رسول اللّه إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال: (صلّى اللّه عليه و آله): استغفر اللّه، فقال: إني أتوب ثم أعود فقال: كلما أذنبت استغفر اللّه. فقال: إذن تكثر ذنوبي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله) عفو اللّه أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»، و عن عمار بن مروان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «من قال استغفر اللّه مأة مرة في يوم غفر اللّه له سبعمائة ذنب، و لا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنبا» و في رواية عبد الصمد بن بشير عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له، و إن الكافر لينساه من ساعته».
و الروايات في كون الاستغفار موجبا لمحو الذنوب كثيرة جدا.
و منها: الاستعانة باللّه بالصّلاة و الصيام في غفران الذنوب، ففي الخبر عنهم (عليهم السلام): «ما من عبد أذنب ذنبا، فقام و تطهر و صلّى ركعتين و استغفر اللّه إلّا غفر له، و كان حقا على اللّه أن يقبله، لأنه سبحانه قال: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً، و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلي ركعتين».
و قد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع أو أيام من السنة يوجب محو الذنوب، فراجع كتاب الصوم من الوسائل.

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض. لتعدد الذنوب و تعدد آثارها شرعا، و عدم الارتباط بينها كذلك، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا، و الدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة و عموماتها، و تسمى هذه بالتوبة المفصلة.
و ذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم- كما هو مذهب المسيحيين- في التوبة، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب، و مع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.
و هو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة، و يبقى من جهة أخرى و لا تنافي بين الجهتين، كما لا يخفى.
نعم، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ، و به يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.
و من جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة و لا يذنب فيها.

للتوبة عبارات متعددة، منها «أتوب إلى اللّه»، و «استغفر اللّه»، و «استغفر اللّه و أتوب إليه» و غير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية، كما تقدم. و ليست فيها صيغة خاصة.

التوبة على أنواع، منها توبة الإنابة، و هي عبارة عن الخوف من اللّه جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.
و منها: توبة الاستجابة، و هي عبارة عن الحياء من اللّه لقربه من العبد.
و منها: توبة العوام، و هي ناشئة عن الخوف من عذاب اللّه تعالى.
و منها: توبة الخواص من الغفلة، و توبة الأنبياء من ترك الأولى و العجز عن ما ناله غيره، و هي أخص الخواص كما تقدم في آية- 37 من هذه السورة.

الأولى: أن يتوب العبد عن الذنوب كلها و يستقيم على التوبة إلى آخر عمره و لا تصدر عنه المعاصي إلّا اللمم و الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، و هي التوبة النصوح المعبر عنها في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».
الثانية: أن يتوب عن الذنوب و يستقيم على الطاعات إلّا أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه و لكنه يندم و يأسف على كل ما صدر عنه، و هذا هو معنى التواب.
الثالثة: مثل السابقة و لكنه لا يحدث نفسه بالتوبة و لا يتأسف على ما صدر عنه.

لا تختص التوبة و التطهير عن الأدناس و الخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها و ان اختلفت في الكيفية و الشروط، و قد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه السلام)، قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 37] و قول موسى (عليه السلام): فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ [سورة البقرة، الآية: ٥٤] و قال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام): وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: ٥۲] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك، و لكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"