1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ۱٥۱الى ۱٥۲

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (۱٥۱) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (۱٥۲)


هاتان الآيتان كالآيات السابقة في مقام بيان نعمه تعالى، و فيهما إشارة إلى استجابة دعوة إبراهيم (عليه السلام)، كما انهما تدلان على أصول التربية و التعليم، و لطفه تعالى بالنسبة إلى ذاكريه.

قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا. مادة (ر س ل) تأتي بمعنى البعث و الانبعاث مع اللين و السهولة و السكون و الطمأنينة. و منه‏ قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «غبن المسترسل سحت» يعني: من سكن إليك فلا تغبنه. و كذا قول علي (عليه السلام): «لا تثقنّ بأخيك كل الثقة فان سرعة الاسترسال لن تستقال».
و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من اربعمأة مورد، و هي تستعمل بالنسبة إلى الملائكة، قال تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‏ [سورة هود، الآية: ٦۹]، و قال تعالى: لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [سورة الأسراء، الآية: ۹٥]. و بالنسبة إلى الأنبياء- و هو كثير جدا بجميع الهيئات- و بالنسبة إلى غيرهما، قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]؛ و قال تعالى: وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [سورة الفيل، الآية: 3]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [سورة الأعراف، الآية: 133]، و غالب استعمالاتها في الخير، و قد تستعمل في الشر، قال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك، الآية: 17]و الرسول هو المبعوث من قبل اللّه تعالى لهداية الإنسان و تكميله، و الفرق بينه و بين النبي من جهات:
الأولى: إنّ كل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا فيكون بينهما العموم المطلق، لأن النبي يصح ان يكون نبيا في نفسه لنفسه من دون ان يؤمر بإبلاغ الشريعة إلى النّاس، فإذا أمر بذلك يصير رسولا حينئذ- سواء كانت شريعته مبتداة أم ناسخة، و في الحديث: «ان للّه تعالى أنبياء مستخفين (مستورين) و أنبياء مستعلنين».
و النبي أعم من أن تكون له شريعة كمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و عيسى، و موسى (عليهما السلام)، أو لم تكن له شريعة، كيحيى و ذي الكفل و لوط (عليهم السلام) و غيرهم ممن هو كثير خصوصا في بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى (عليه السلام)، كعلماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الذين يبلغون شريعة خاتم الأنبياء.
الثانية: في مبدأ إفاضاتهم من ربهم، فان الرسول يفاض عليه من اللّه تعالى بغير واسطة بشر و يرى الملك و النبي يفاض عليه بالواسطة منه تعالى، و لا يرى الملك؛ و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبّئا في نفسه لا يعدو غيرها، و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد، و عليه إمام مثل ما كان ابراهيم (عليه السلام) على لوط. و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و يعاين الملك، و قد أرسل إلى طائفة- قلوا أو أكثروا- كيونس، قال تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون ثلاثين ألفا، و عليه امام، و الذي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة، و هو امام مثل اولي العزم، و قد كان إبراهيم نبيا و ليس بإمام، حتّى قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من عبد صنما أو وثنا لا يكون اماما».
الثالثة: إنّ الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي.
و لا ريب في اختلافهم في الفضل، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ [سورة البقرة، الآية: ۲٥۳]، و عمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة و هم: نوح، و ابراهيم، و موسى، و عيسى (عليهم السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله)؛ و يأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف، الآية: ۳٥].
و قد ورد أنّ عدد الأنبياء مائة الف و عشرون ألفا، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر على ما يأتي التفصيل.
و الكاف في قوله تعالى «كما» للتشبيه على النعمة السابقة، بلا فرق بين ان تكون «ما» كافة أو مصدرية.
و المعنى: انه كما جعلنا القبلة نعمة لكم و أتممناها عليكم كذلك أرسلنا رسولا منكم تعرفونه، فانه أيضا نعمة عظيمة لكم، لأنه يهديكم من الضلالة إلى الهدى و يرشدكم إلى سبيل الرشاد.
و يمكن أن تكون «كما» إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129]، فتكون إشارة إلى استجابة هذا الدعاء الذي هو من أهم دعواته.
و التعبير بقوله تعالى: مِنْكُمْ للتحريض على الإيمان به، لكونه أقرب إليكم، و لأنه سبب لفخركم و شرفكم. و قد عدد سبحانه بعض ما كلّفه بالنسبة إليهم، و كلها تتعلق بأصول العقائد و تهذيب النفوس.
قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا. تلو تأتي بمعنى المتابعة؛ و هي في القرآن ذكر الكلمة بعد الكلمة على وجه متسق منظّم. و هي أخص من مطلق القراءة، فان كل تلاوة قراءة و ليست كل قراءة بتلاوة، و تختص أيضا بتلاوة كتب اللّه المنزلة، و لو استعملت في غيرها تكون بالعناية.
و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، لعل من أشدها عظمة على النفوس قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران، الآية: ٥۸]. و من أشدها حسرة قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ [سورة البقرة، الآية: ٤٤]. و تقدم بعض الكلام في الآية الأخيرة.
و المعنى: إنّ الرسول يتلو عليكم الآيات الباهرات التي تهديكم إلى الصراط المستقيم و ترشدكم الى الحق القويم.
قوله تعالى: وَ يُزَكِّيكُمْ. أصل الزكاة هو النمو الحاصل من بركة اللّه تعالى سواء أ كان في الأمور الدنيوية، أم الأخروية، أم هما معا. و قد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتى، فتارة: تضاف الى اللّه عزّ و جل، قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: ٤۹]. و أخرى: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)؛ كما في المقام و ثالثة: إلى ذات الفاعل، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس، الآية: 9]. و هذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة.
و التزكية هي الطهارة و التقديس عن الأدناس و الأرجاس الظاهرية أو الرذائل المعنوية، سواء كانتا بالنسبة إلى النفس كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، كما قال تعالى: غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 19]، أو بالنسبة إلى الأعمال و الأفعال.
و الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو المثل الأعلى في التزكية بجميع مراتبها و القدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة و السجايا الكريمة لا يدانيه أحد و لا يجاريه فرد، و لقد جاهد في تزكية أمته بدينه و تعاليمه و تشريعاته، و بنفسه الشريفة، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 21]. و تطهيرهم من رذائل الأخلاق و سوء الإعتقاد، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل و الخبائث و يتحلى بالفضائل، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية و التعليم.
و ترتب التزكية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، و قد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة، كما في بعض النفوس المستعدة.
ثم انه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة و أخرها عنه في دعاء ابراهيم (عليه السلام) قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة، الآية: 129]. و لعل الوجه في ذلك ان للتزكية مراتب كثيرة منها الإرشاد المحض و إتمام الحجة، و منها التخلي عن الرذائل، و منها التحلي بالفضائل، و منها التجلي بمظاهر الأسماء و الصفات الربوبية و لكل واحدة منها درجات، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب؛ و ما أخرت فيها على البعض الآخر.
قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ. لأنّ بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية الى أقصى درجات الإنسانية، فقد كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) المعلّم الهادي لأمته يبين لهم ما انطوت عليه شريعته و ما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار و المعارف الربوبية.
قوله تعالى: وَ الْحِكْمَةَ. تقدم معنى الحكمة في الآية 32 من هذه السورة. فان قلنا بمقالة الفلاسفة من أنّ الحكمة تارة: علمية، و هي: العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية، و أخرى: عملية و هي صيرورة الإنسان أكبر حجة للّه تعالى في خلقه، فان عظمة مقامها معلومة لكل احد.
و إن قلنا بما يستفاد من الكتاب و السنة المقدسة- و هي متابعة الشريعة أصولا و فروعا، و معرفة حجة اللّه على الخلق- فالأمر اظهر و أبين، و سيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: ۲٦۹].
قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. بفهم أسرار الكتاب العظيم و اخبار الأمم الماضين و العلوم التي تهمكم و تزيد في علوكم، و تكون سببا في تهذيب نفوسكم مما لم تكونوا تعلمونه سابقا.
و هذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية و التعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم ابتداء بالتلاوة و التذكر بآيات اللّه تعالى، ثم تزكية النفس من الرذائل و تحليتها بالفضائل لتستعد لإفاضة العلوم عليها، ثم التعليم ثم معرفة الأشياء بحقائقها و العمل بما عرفه كل ذلك من طريق الشرع المبين.
و عليه ترجع التلاوة و الحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم فإنهما و ان اختلفتا في المؤدى و لكنهما متحدتان مصداقا، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.
قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي. الذكر تارة: يطلق و يراد به التوجه و الالتفاف الفعلي، و هو عبارة أخرى عن الحفظ، و الفرق بينهما بالاعتبار، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته، و الأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي الى الشي‏ء، و لو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية.
و قد يطلق أخرى: و يراد به إظهار الشي‏ء باللسان، أو القلب أو الجوارح، فمن الأول آيات كثيرة منها قوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [سورة الأنبياء، الآية: ۲٤.] و من الثاني قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] فإنه عام لذكر القلب و اللسان. و من الأخير قوله تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [سورة طه، الآية: ۱٤] حيث إنّ الصّلاة ذكر اللّه تعالى بالجوارح أيضا.
بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو الفرد الأكمل و المرآة الأتم لصفات الجلال و الجمال، قال تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ [سورة الطلاق، الآية: 10] بناء على أنّ لفظ «رسولا» من لفظ «ذكرا»، كما أطلقت «الكلمة» على عيسى بن مريم (عليه السلام) قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ [سورة النساء، الآية: 171].
و قد يكون بمعنى الشرف و علو المنزلة قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [سورة الزخرف، الآية: ٤٤]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الشرح، الآية: ٤].
و الذكرى كثرة الذكر و أبلغ منه قال تعالى: رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى‏ لِأُولِي‏ الْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: ٤۳]، و قال تعالى: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى‏ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: ٥٥].
و المراد به في المقام هو الالتفات الفعلي اليه تعالى قلبا و قولا و عملا عكس قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].
و الالتفات اليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى و إدمان الشكر عليها و الطاعة و العبادة له و إتيان ما اختاره اللّه تعالى مما فيه السعادة في الدارين فان الالتفات اليه عزّ و جل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية الى الكمال المطلق، لما ثبت في الفلسفة العملية من: أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عزّ و جل، و ان أخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقامات التجلي.
و ذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات و الكمال المطلق، و الخير المحض العام، و الفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس و تعاليها عن حضيض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية و كلما ازداد الأنس ازداد الارتقاء، و أساس هذا الأنس يدور مدار الالتفات الفعلي اليه عزّ و جل كما يريده تعالى، و هو المعبر عنه ب (الذكر) في الكتاب و السّنة الشريفة، و بعبارات مختلفة أخرى، كالتوجه، و التقرب، و التولية و غيرها.
و المناط كله أمران:
(الأول): الالتفات الفعلي إلى اللّه تبارك و تعالى المعبر عنه في الفقه ب (القربة)، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب (الحضور، و التوجه) و نحو ذلك.
(الثاني): كون ما يذكر به اللّه عزّ و جل مأذونا فيه من قبله تعالى، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لا بد من مراعاتها، كما فصلها الفقهاء، فكل ما يكون مرضيا للّه تعالى و يؤتى به لوجهه عزّ و جل فهو ذكر اللّه تعالى، سواء أ كان من العقائد أم الأخلاق الحسنة، أم العبادات و المعاملات أم غير ذلك فإن ذكره تعالى- كرحمته- وسع كل شي‏ء إذا لوحظ فيه التوجه اليه، و قد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عزّ و جل و ما ورد في الفلسفة العملية من: «أنّ الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه. فكما لا حدّ للمذكور كذلك لا حدّ لمراتب الذكر.
فان الذكر اللفظي كالتسبيح و التحميد و التهليل و الشكر لنعمائه.
و الذكر العملي هو العبادة، و الطاعة، و الأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى، و تشييع الموتى، و السعي في قضاء حوائج الأخوان.
و الذكر القلبي هو التوجه و الخلوص و التقرب إليه تعالى. و كلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجه إليه؛ و لذا ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب و لا نبي مرسل». و فيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه، أو قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّي أبيت عند ربي فيطعمني و يسقيني ربي».
ثم إنّ ترتيب قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي على الآيات السابقة ترتيب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم الذي يحكم به العقل المستقل.
و المتحصل من جميع ما ذكرناه أمور:
الأول: إنّ الذكر منبث على القلب و اللسان و الجوارح، و لا يختص بخصوص الذكر اللفظي بل كل ما كان مضافا إليه عزّ و جل و كان مأذونا فيه من قبله تعالى و تقابله المعصية فإنها لا تصدر إلّا مع الغفلة عنه عزّ و جل.
الثاني: إنّ حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عزّ و جل، أي العلم الفعلي بأصل العلم لا مجرد العلم فقط، و لذلك مراتب كثيرة منها ما ذكره بعضهم: «أن ينسى العبد ما سوى اللّه تعالى و يكون مقصوده من جميع حركاته و سكناته و أفعاله و أقواله- بل و خطرات قلبه- هو اللّه تعالى».
الثالث: إنّ أمره بالذكر شامل لجميع المراتب و لا يختص بخصوص بعضها.
الرابع: إنّ ما يقترفه النّاس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلّا إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه، و قد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر- كمية و كيفية زمانا و مكانا- ما يشفي العليل و يروي الغليل، و قد وضع الأعلام فيه كتبا و رسائل.
الخامس: أقسام الذكر ستة فتارة: يتعلق بالنعم الطبيعية، قال تعالى: أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية: ٦۷].
و أخرى: يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها اللّه سبحانه على الإنسان، قال تعالى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [سورة الحج، الآية: ۳٤].
و ثالثة: يكون محبوبا بذاته على كل حال و مجردا عن الإضافة قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً [سورة الشعراء، الآية: 227].
و رابعة: يكون عند اهتمام النفس بشي‏ء غير مرضي له تعالى فيذكر اللّه و يرتدع عنه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 201]، و قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [سورة العنكبوت، الآية: ٤٥].
و خامسة: يكون بعد الارتكاب فيذكر طلبا لرضائه، قال تعالى: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: ۱۳٥].
و سادسة: حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه تعالى، و قد ورد في الدعاء: «و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك و ما عصيتك إذ عصيتك و أنا بك جاهل و لا لعقوبتك متعرض و لا لنظرك مستخف و لكن سوّلت لي نفسي».
إن قيل: ذكره تعالى حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه عزّ و جل كيف يكون محبوبا له تعالى. (يقال): إنّ الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف و الاستهانة- نعوذ باللّه- فلا ريب في أنه ليس من الذكر بل يوجب الكفر و البعد عن ساحة الرحمن. و أما إذا كان من باب انه تعالى ستّار العيوب، و غفار الذنوب فهذا يوجب الحياء منه تعالى و لو في ما بعد، فينتهي إلى التوبة و الاستغفار فيكون محبوبا له.
قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ. للمفسرين في بيان متعلق الذكر أقوال:
منها: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، أو أذكركم بمعونتي.
و منها: اذكروني بالشكر على نعمائي أذكركم بالزيادة إلى غير ذلك مما قالوه.
و الحق هو الحمل على العموم و هو ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتّى يدرك ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده، و منه‏ ما ورد في الحديث: «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه- الحديث-»
و هو يجازي عبده بالجزاء الأوفى و يعد له باللطف و الكرامة و الإحسان و مزيد في النعم و يضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.
فلا يختص ذكره تعالى لذاكريه بعالم دون آخر و لا بحالة دون أخرى.
ثم إن ترتب قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة، لأن التوجه الفعلي من العبد الى اللّه عزّ و جل ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة، فان أضيف إلى العبد يكون ذكرا منه، و إن أضيف اليه عزّ و جل يكون من ذكر اللّه تعالى له.
و قد يكون من باب ترتب المقتضى [بالفتح‏] على المقتضي [بالكسر] لاختلاف مراتب الذكر و الذاكر كما هو معلوم، و الظاهر أن ملازمة الذكر للذكر من الملازمات المتعارفة بين العقلاء فهو حسن لديهم و يكون من اللّه تعالى‏ أحسن.
قوله تعالى: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ. مادة (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر)، و (ك ش ف) تأتي بمعنى الإظهار، و يقابلها مادة (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر و يختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا. و الجامع القريب في الأولى الإظهار، و في الثانية الستر.
فإظهار وحدانية اللّه تعالى، و صفاته الحسنى، و أفعاله العليا إيمان و ستر ذلك كفر، و لهما مراتب. كما أن إظهار نعمه شكر و سترها كفر، و يطلق عليه الكفران أيضا.
و الإظهار تارة: يكون بالاعتقاد، و أخرى بالقول، و ثالثة بالعمل إما بفعل ما أوجبه اللّه تعالى أو ترك ما نهاه عنه تعالى، و قد قال علي (عليه السلام): «شكر كل نعمة الورع عن محارم اللّه تعالى».
و المعنى: أظهروا نعمائي و لا تكفروا بسترها.
و إنما قال تعالى: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ و لم يقل: و اشكروا لي أشكركم، لأمور:
أحدها: الإعلان بقبح الكفر و الكفران استقلالا.
ثانيها: التنبيه على عظم النعمة، و أنه بمنزلة كفر الذات.
ثالثها: إنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر- في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ- بالملازمة فلا وجه للتكرار بعد ذلك.
ثم إنّ الشكر من أجلّ الصفات الحسنة و من أرفع مقامات العبودية و هو على أقسام:
الأول: أن يكون من المخلوق للخالق، و قد رغّب اليه الكتاب و السنة المقدسة ترغيبا بليغا بأنحاء مختلفة: بأن أضاف الشكر تارة: إلى نفسه، قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: ۱٤] و قال تعالى: وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ [سورة البقرة، الآية: 172] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و أخرى: إلى نعمه قال تعالى: وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ [سورة النحل، الآية: ۱۱٤]. و هو يرجع الى الأول، لأن كل ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات. و ثالثة: إلى نفس الشاكر، قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة لقمان، الآية: 12] فان غاية الشكر إنما يرجع الى نفس الشاكر، كقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [سورة الأسراء، الآية: 7]، و لا فرق في هذا القسم بين أن يكون الشكر على الآراء و المعتقدات الحسنة و المعارف الحقة، أو على النعم الخارجية، و جميع ذلك مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل، الآية: 78] و قال تعالى: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الأنفال، الآية: ۲٦] و هو مطابق للقواعد العقلية لأن أساس معرفة اللّه تعالى مبني على وجوب شكر المنعم عقلا- و هذا الوجوب عقلي لا أن يكون شرعيا- و معرفة اللّه تعالى من أرفع المقامات و الكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله.
الثاني: أن يكون من الخالق للمخلوق، قال تعالى: وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: ۱٤۷]، و قال تعالى: وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [سورة الإنسان، الآية: 22] بل الشكور من أسمائه الحسنى، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا، و له دخل كبير في سوق العباد الى العمل و جلب قلوبهم.
الثالث: أن يكون من الخلق لآخر مثله و هو من مكارم الأخلاق، و قد ورد في الحديث: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» لانتهاء المخلوق و نعمه إلى الخالق فالشكر له ينتهي بالآخرة الى شكر نعمائه، و ترك شكر المخلوق ينتهي الى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب.
ثم إنّ الشكر تارة: يكون للّه تعالى لذاته بذاته بلا لحاظ عناية أخرى، لأنه مبدأ الكل و منتهاه فيستحق الشكر و هو شكر أخص الخواص، و أخلص أنواع الشكر و أعظمها.
و أخرى: يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا و المحن فيشكر عليها كشكره على النعم، و هو شكر الخواص، و هو كالأول من أجل مقامات العارفين باللّه تعالى.
و ثالثة: يكون بإزاء النعمة و هو شكر العامة من الأنام، و سيأتي في قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7] ما يناسب المقام إن شاء اللّه تعالى‏.

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:
الأول: إنّ في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى: أَرْسَلْنا أو قوله تعالى: آياتِنا ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إشارة إلى أنّ الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد و ان ينتهي اليه عزّ و جل، و أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في ذلك واسطة محضة.
و فيه إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى و بين نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس و الضمير الراجع إلى نبيه المقدس.
الثاني: أنّ الآيات المباركة تدل على نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي لم يكن من ذاته شي‏ء و له من ربه كل شي‏ء فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب و الشهادة فانه ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى‏ [سورة النجم، الآية: ٤].
الثالث: إنّها تدعو النّاس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية و المعنوية بالتعليم.
الرابع: أنّ مقتضى المطابقة و المجازاة بين ذكر العبد و ذكره تعالى أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد يتحقق ذكره تعالى له بمثله و نظيره مع‏ الزيادة، لفرض سعة رحمته و فضله فإن ذكره العبد في نفسه يذكره اللّه عزّ و جل كذلك، و إن ذكره في ملأ من النّاس يذكره اللّه تعالى في ملإ من الملائكة و إن ذكره للدنيا أو الآخرة يكون ذكره تعالى لعبده كذلك، و يمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها و لا حصر، و ذلك يختلف باختلاف الاستعدادات و النفوس. هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سياق الشرط و الجزاء الظاهري. و أما بناء على ما أشرنا اليه من رجوع المعنى: ان أذكركم فلا تغفلوا عني، فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.
الخامس: إنّ في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ لطف و عناية و تعليم للغير بمجازاة الخير بالخير.
السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ تحذيرا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أن لا يتركوا ما أمرهم اللّه تعالى و لا يكفروا بما أنعم اللّه عليهم، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة بعد ما كفرت بأنعم اللّه تعالى.
السابع: إنّ في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى: وَ اشْكُرُوا و العنوان السلبي بقوله عزّ و جل وَ لا تَكْفُرُونِ إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولا؛ و نفي أنحاء الكفر حتّى كفران النعمة ثانيا، و إلّا فيصح الاكتفاء بأحد العنوانين.

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مكتوب في التوراة التي لم تغير، أن موسى سأل ربه فقال (عليه السلام): يا رب أ قريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى اللّه عزّ و جل اليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى (عليه السلام): فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ قال: الذين يذكرونني فأذكرهم و يتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم».
أقول: الروايات متواترة بين الفريقين في فضل الذكر و التحابب في اللّه و التباغض فيه بل في بعضها: «ليس الإيمان إلّا الحبّ في اللّه و البغض في اللّه».
و المراد من قوله تعالى: «ذكرتهم فدفعت عنهم» التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة الى الأولياء و لأجلهم خلق هذا العالم و يدار هذا النظام، أي: «العلة الغائية» كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية.
في عدة الداعي قال: روي «أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) خرج على أصحابه فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، فقالوا: يا رسول اللّه و ما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب ان يعلم منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه عنده، فإن اللّه تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد اللّه تعالى من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه، فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان».
أقول: المراد من‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «ارتعوا في رياض الجنّة» الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر اللّه تعالى إن كانت المجالس و كان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.
و المراد من المنزلة توجه قلب المؤمن و إخلاصه من كل جهة الى اللّه تعالى، و لازم ذلك ارتفاع منزلته عند اللّه تعالى فتكون القضية حينئذ من الملازمات العقلية، لأن الانقطاع من جميع الجهات اليه تبارك و تعالى بحيث لا يشوبه شي‏ء آخر يوجب ان تكون عناياته متوجهة اليه، بل نفس هذا الانقطاع اليه هكذا عناية خاصة منه تبارك و تعالى.
و المراد من‏ قوله: أنا جليس من ذكرني‏ نهاية القرب اليه جلت عظمته و الدنو المعنوي منه، كما يقرب إلينا جليسنا و يدنو منا لا أن يكون المراد منه القرب المكاني.
و في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني».
أقول: إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة يكون على قسمين:
الأول: ما إذا كان لسان حاله أنّ علمك بحالي يغني عن مقالي.
الثاني: ما إذا نسي ذلك كله و توجه اليه تعالى من كل جهة، و في القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة اليه فيغفل عن شؤونه.
و في المعاني عن الحسين البزاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه (عليه السّلام): ألا أحدثك بأشد ما فرض اللّه على خلقه؟ قلت بلى قال: إنصاف النّاس من نفسك؛ و مواساتك لأخيك، و ذكر اللّه في كل موطن، أما أني لا أقول سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر اللّه في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».
أقول: المراد بهذا الذكر- ما تقدم في أقسام الذكر- هو الذكر العملي الخارجي عند إرادة الطاعة أو إرادة المعصية بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.
في الكافي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ يا ابن آدم أذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك».
أقول: تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث.
و في المحاسن عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلإ أذكرك في خلإ، ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك. و قال: ما من‏ عبد ذكر اللّه في ملإ من النّاس إلّا ذكره اللّه في ملإ من الملائكة».
أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين و هذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر فانه إما نفسي قلبي، أو باللسان في مكان خلوة، أو باللسان في الملإ، و الذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ للّه تعالى، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة كلها من ناحية الذاكر، فيترتب عليه الثواب مضاعفا، و إن لم يوجب ذكر غيره يكون من إتمام الحجة على الغير فيكون كسابقه.
في الكافي عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال و لا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، و إن ترك ذكري يقسي القلوب».
و في الدر المنثور أخرج الطبراني و ابن مردويه، و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب اللّه: من أعطي الذكر ذكره اللّه، لأن اللّه يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. و من أعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن اللّه يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و من أعطي الشكر أعطي الزيادة: لأن اللّه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة، لأن اللّه تعالى يقول: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً».
أقول: و روي قريب منه عن علي (عليه السّلام) و لا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.
و في الدر المنثور قال: «رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه و إن قلّت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن. و من عصى اللّه فقد نسي اللّه، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن».
أقول: يستفاد من أمثال هذه الروايات أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن اللّه تعالى، و تدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء اللّه تعالى.
في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى‏ اللّه عليه و آله) ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم اللّه عزّ و جلّ و لم يصلوا على نبيهم إلّا كان ذلك المجلس حسرة و وبالا عليهم».
أقول: الوبال هو سوء العاقبة و العذاب، و كون المجلس وبالا لتحقق الغفلة عن اللّه تعالى، لأنها منشأ كل معصية و لا وبال أشد منها.
و الوجه في كون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) من ذكر اللّه تعالى لفرض انه رسوله و ينبئ عنه، و كذا جميع أولياء اللّه تعالى الذين يدعون إليه تعالى.
و في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قلت له: للشكر حد إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ قال (عليه السّلام): نعم. قلت: و ما هو؟ قال: الحمد للّه على كل نعمة أنعمتها عليّ، و إن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه، و منه قول اللّه: الحمد للّه الذي سخر لنا هذا».
أقول: هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر، لإتمام مراتب الشكر.
عن العياشي أيضا عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر النعم و ذلك قول اللّه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ.
أقول: تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: ٦] و في البحث الروائي منه.

من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه فإن «من أحب شيئا أكثر من ذكره»، و من علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه، و قد قالوا: إن المحب إذا صمت هلك، و العارف إذا نطق هلك، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب، و الثاني مأمور بستر الأسرار، و نسب إلى سيد الساجدين (عليه السّلام): يا رب جوهر علم لو أبوح به* لقيل لي أنت ممن تعبد الوثنا.
و الذكر- عندهم- على أقسام ثلاثة:
الأول: ذكر اللسان المستمد من القلب.
الثاني: ذكر القلب مع عدم حركة اللسان، و يسمى مناجاة الروح و الاستجماع للمذكور بالكلية، و هذا ذكر الخواص.
الثالث: ذكر السرّ، و معناه غيبة الذاكر في المذكور- في الجملة- فكأن المذكور يكون هو الذاكر، و هذا ذكر أخص الخواص. و مثّلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها. كما بينوا لكل واحد منها ثمرات و نتائج.
و لو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام، ذكر عامة النّاس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب، تصير الأقسام أربعة.
و لعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر.
ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوم بحبه للمذكور، و لولاه لم يذكره و المذكور قد يحب الذاكر قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 31]، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية- كما برهن في الفلسفة الإلهية- و النقلية، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين. و بعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح قال الشاعر: اما ترى الحق قد لاحت شواهده و واصل الكل من معناه معناكا و البحث نفيس جدا لو وجدت لهذا العلم الشريف حملة.

يتضمن قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أهم‏ المناهج في تربية الإنسان في استكماله، و مثله في القرآن الكريم كثير.
و قد أشار سبحانه و تعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج- كما هو دأبه عزّ و جلّ في القرآن الكريم- فعلى الإنسان الجد و الاجتهاد في التفريع عليها و تطبيقها على مجالات الحياة.
و لا ريب في أهمية التربية و التعليم و ارتباطهما الوثيق بالإنسان و دخلهما في جميع جوانب حياته و بهما يستكمل الفرد و ينال السعادة في الدارين. و لا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته و بهما يقوم النظام الاجتماعي، و لا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني و تكون له هذه الشمولية، و هما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره.
و لا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان مع علمه عزّ و جلّ بما يترتب على إهماله من الآثار، و لم يشرع شريعة إلّا لتهذيب النّاس و تكميلهم و إيصال الفرد إلى السعادة.
و منهج التربية و التعليم- كسائر المناهج و العلوم- قد طرأ عليه تغييرات و لم يصل إلى حده الفعلي إلّا بفضل جهود العلماء و المربين و وضع النظريات العلمية مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.
و للتربية و التعليم مناهج متعددة و قد وضعوا في كل واحد منها كتبا و رسائل كثيرة جدا. و أهم تلك المناهج هو: المنهج العقلي، و المنهج المادي، و المنهج التجريبي، و جميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب إلّا المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و السبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلّا في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة و لذا نرى الاختلاف و التناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي الذي يصدر عن منبع محيط بكل الجهات و في كل زمان.
و يمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:
الأول: إنّ المنهج التربوي و التعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا و لا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين و يعطي لكل جانب حقه.
الثاني: إنّه يراعي الجانب التطبيقي و يعطي للعمل أهميته و يهتم بالمربّين و المعلمين قبل كل شي‏ء، فهو يأمر بالتزكية و إتيان العمل الصالح و لا يكتفي بالجانب النظري فقط.
الثالث: إنّه يهدف الكمال الإنساني و يبغي سعادة الفرد و الاجتماع و وضع لكل ذلك أسسا و قواعد لا يمكن التخلي عنها.
الرابع: إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان و جميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.
الخامس: إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم و طلب الحكمة، و التجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.
و في القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة و في السنة الشريفة شرح ذلك و يأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"