1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ۱4٦الى ۱٥۰

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (۱٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (۱٤۷) وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (۱٤۸) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (۱٤۹) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (۱٥۰)


هذه الآيات مرتبطة مع سابقتها فيما يتعلق بتشريع القبلة و أن أهل الكتاب أيضا يعرفون الحق، و أن الكعبة هي القبلة، و قد أقام سبحانه و تعالى الحجة عليهم بأتم حجة و أبلغ بيان، ثم بيّن تعالى أن كلا منهم متعبد بشريعته و أن القبلة من الأمور المعتادة عندهم و أمرهم بالاستباق إلى الخيرات و التسليم لأمره ثم أمر نبيه و أمته باستقبال الكعبة أينما كانوا و الخشية منه، و أخيرا ذكر سبحانه و تعالى أن تشريع القبلة إنما كان لأجل إقامة الحجة على النّاس، و بطلان حجة الخلاف و التمييز بين الحق و الباطل، و بذلك أتم نعمته عليهم.

قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. هذه الآية بيان لقوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. أي أنّ علمهم بالحق و معرفتهم به إنّما هو لأجل معرفتهم بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و صفاته؛ كما نطقت بها كتبهم بحيث لا تنطبق على غيره فلا يبقى مجال للشك فيه.
فكما أن القران العظيم يشتمل على ذكر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) خصوصا أولي عزمهم، و على ذكر الكتب السماوية و لا سيما التوراة و الإنجيل- كذلك شأن سائر الكتب السماوية فإنها تشتمل على ذكر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و نعوته و صفاته، بل الاسم الذي سمي به، لأن المبدأ و المعاد في الجميع واحد، و أنهم جميعا يشتركون في الدعوة إلى معبود واحد، و متفقون في الغرض من دعوتهم، فلا بد أن يبشر السابق باللاحق، و أن يذكر اللاحق حالات السابق، و أن ينوّه باسمه و يذكّر أمته بما جرى عليه و على أمته، و هذه سنّة اللّه تعالى في الإنسان، بل ذلك من مقتضيات المجتمع‏ الإنساني الذي يهتم بحفظ المجتمع و وحدته، و يعتني بأفراده بحيث يجعل الجميع كنفس واحدة في ما لهم و ما عليهم، فالآية المباركة تبين الحكم الفطري في المجتمعات في أن كل سابق يخبر باللاحق؛ و الأخير يؤيد السابق حتّى تتحقق الوحدة الاجتماعية و يبقى التآلف و الترابط بين أفراد المجتمع قائما.
و المستفاد من سياق الآية أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ راجع إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في الكتب السماوية بأوصافه، و نعوته، و حالاته، و يشهد له التشبيه في قوله تعالى: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ.
و يستفاد من الآية المباركة أمور:
أحدها: إنها تشير إلى أنهم نشأوا على معرفة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما ينشأ الأب على معرفة ابنه و إن غاب عن أبيه مدة طويلة، و هو مقتضى إتمام الحجة عليهم.
ثانيها: إنها تشير إلى وجود المعرفة القلبية التكوينية لو لم يمنعها اللجاج و العناد.
ثالثها: إنها تشير إلى قبح الإنكار بعد وضوح الأمر.
رابعها: إنها تشير إلى أنّ الابن لمّا كان نتيجة سعي الوالدين و جهودهما، كذلك تكون شريعة خاتم الأنبياء نتيجة خلق العالم، و جهود الأنبياء و المرسلين، و سعي الأمم الماضين، و هو مقتضى السير التكاملي في الإنسان.
خامسها: الإشارة إلى الترغيب إلى لزوم العناية بشأن خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) كما يعتني الآباء بالأبناء نتيجة أعمارهم.
ثم إن عود الضمير إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يلازم معرفة أحكامه إجمالا، و انها من اللّه تعالى. و من ذلك يعرف أنه لا وجه للنزاع في أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ يرجع إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، أو إلى‏ تحويل القبلة، أو إلى الكتاب لأن مرجع الكل إلى واحد على نحو الإجمال.
قوله تعالى: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ. المراد بالحق هنا هو ما بيّنه اللّه تعالى في الكتب السماوية من أوصاف النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و نبوته، و جملة كثيرة من معارف الإسلام و شريعته التي منها قبلته.
و نسب الكتمان إلى فريق منهم دون الجميع، لأنهم بين معترف بالحق و مؤمن بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و بين من شهد بالحق و عانده عن لجاج و عناد، و بين من جحده عن جهل لا يعلم شيئا من كتبهم، و قد تقدم في الآيات السابقة بعض الكلام فراجع.
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. الحق: يشمل إرادته تعالى التكوينية و التشريعية، فهو تعالى حق، و لا حق إلّا منه.
و قد استعمل (الحق) في القرآن الكريم بوجوه من الاستعمالات.
فتارة: ينسب الحق إلى ذاته الأقدس، و هو تعالى حق في ذاته و بذاته قال تعالى: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ [سورة يونس، الآية: 32].
و أخرى: ينسبه إلى صفاته العليا، قال تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [سورة الكهف، الآية: ٤٤].
و ثالثة: إلى أفعاله المقدسة، قال تعالى: وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ [سورة الأحزاب، الآية: 3]، و قال تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة الكهف، الآية: 21].
و رابعة: إلى نفس القرآن العظيم؛ قال تعالى: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ [سورة فاطر، الآية: 31] و قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [سورة الشورى، الآية: 17].
و خامسة: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و دينه، قال تعالى: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ [سورة الفتح، الآية: 28]، و قال‏ تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ [سورة فاطر، الآية: ۲٤].
و الحق إذا أطلق لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه و نواحيه، و لا بد من الخضوع لديه و التسليم له، و هذا هو معنى الحق المطلق الذي قال عنه بعض فلاسفة الغرب المحدثين: «إذا قيل اللّه يعني الحق الواقع من كل جهة». و للعلماء و الفلاسفة في هذا الموضوع تعبيرات مختلفة نظما و نثرا، و المتفق بينهم- كما صرح به المعلم الأول- و هو صريح الكتب السماوية و الأحاديث الواردة في السنّة الشريفة: أن الحق لا بد أن يصدر منه تعالى فهو حق بذاته و في ذاته، و لا حق إلّا منه عزّ و جل. و هذا مما لا مرية فيه.
و مادة (م ر ي) تأتي بمعنى التردد. فما ذكره الخليل من أنها في الأصل مسح ضرع الناقة للحلب. فهو من تفسير المفهوم بالمصداق لأن مسح الضرع للحلب يستلزم تردد الماسح لا محالة.
و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ [سورة السجدة، الآية: 23]، و قال تعالى: وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [سورة الحج، الآية: ٥٥]. و المراء اللجاج، و في الحديث: «أترك المراء و إن كنت محقا».
و الحق في الآية الشريفة من استغراق الجنس أي: أن كل حق في الممكنات إنما هو من اللّه تعالى و يكون تطبيق هذه الكلية على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قهريا، فتصير النتيجة أنت بجميع شؤونك حق فلا يعقل الامتراء في ما هو من اللّه تعالى.
و الخطاب و إن كان موجها إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلّا أن المراد به غيره، كما تقدم في قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. و نظير هذه الآية كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [سورة الفتح، الآية: 2]؛ و مثل هذا الخطاب مألوف عند النّاس فإن الملوك إذا نصبوا شخصا لإدارة الرعية فإنهم يجعلونه مورد خطابهم مع الرعية في ما لهم و ما عليهم، و على ذلك جرى خطاب القرآن الكريم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله).
و يمكن أن يكون الوجه في المقام هو تسلية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عما لاقاه في أمر القبلة من أهل الكتاب، و المنافقين، فيكون النهي عن صفة باعتبار عدم المنشأ لها أبدا، و لذلك أيضا نظائر كثيرة في المحاورات. أو أن المراد به تذكير المؤمنين لئلا يقعوا في شرك المخادعين و المنافقين و تضليلهم.
قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ. الوجهة: الجهة. و الهاء في آخرها عروض عن الواو، و هي بمعنى ما يتوجه إليه كالقبلة لما يستقبل إليه.
و السبق: التقدم، و ما يحصله السابق من سبقه؛ و يستعمل في إحراز كل فضيلة، و منه قوله تعالى: وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 10]، و قول علي (عليه السلام): «ألا إنّ السبقة الجنّة، و الغاية النار».
لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب لا محالة، و لا محبوب إلّا و الجنّة أعلى منه، و الغاية ما ينتهى إليها و لو لم تكن محبوبة أو مطلوبة، بل و لو كانت مبغوضة.
و قد استعمل الفعل متعديا بنفسه لا أن يكون المفعول منصوبا بنزع الخافض، كما في قوله تعالى: وَ اسْتَبَقَا الْبابَ [سورة يوسف، الآية: ۲٥]، و قوله تعالى: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ [سورة يس، الآية: ٦٦].
و الخيرات جمع خير، و هو أعم من العمل الصالح، و البر. و معناه- كلفظه- مرغوب كل فرد، و مطلوب كل إنسان، فيكون كلفظ الكمال و العقل في محبوبية اللفظ و المعنى عند الجميع، و قد استعمل في القرآن الكريم في ما يقرب من مأة و ثمانين موردا. و في غالب الاستعمالات يكون اسما، كقوله تعالى: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ [سورة يونس، الآية: 11]، و قد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل، قال تعالى: فَما آتانِيَ‏ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [سورة النمل، الآية: ۳٦] و هو كثير أيضا. و ربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة و عناية خاصة.
و يستعمل تارة: في مقابل الشر، كقوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: ۳٥]. و في مقابل الضر أخرى، قال تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [سورة يونس، الآية: 107].
و هو من الأمور الإضافية التي لها عرض عريض جدا، فأطلق في القرآن بالنسبة إليه تعالى، قال سبحانه: وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ [سورة طه، الآية: 73]. و بالنسبة إلى الممكنات جواهرها، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [سورة البينة، الآية: 7]. و أعراضها سواء كانت من أعمال الجوارح أم أفعال القلوب أم نفس المعتقدات.
و لم يبيّن سبحانه في هذه الآية الخيرات، لأن لها مراتب كثيرة غير متناهية تتصل بخير الآخرة التي هي غير متناهية، قال تعالى: وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [سورة الأعراف، الآية: ۱٦۹]، و قال علي (عليه السلام): «و ما خير بخير بعده الجنّة، و ما شرّ بشر بعده النّار».
و قد عد اللّه سبحانه بعض المصاديق في القرآن الكريم، كالآخرة قال تعالى: وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ [سورة الأعلى، الآية: 17]، و الإيمان قال تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [سورة النّساء، الآية: 170]، و التقوى قال تعالى: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ [سورة البقرة، الآية: 197]، و الرزق قال تعالى: وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ [سورة طه، الآية: 131]، و الصدقة قال تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 280]، و الصيام قال تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٤]، و الصبر قال تعالى: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: ۲٥]، و الصلح قال تعالى: وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128]، و الباقيات الصالحات‏ قال تعالى: الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا [سورة الكهف، الآية: ٤٦]، و تعظيم حرمات اللّه قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة الحج، الآية: 30] إلى غير ذلك.
و يستفاد من مجموع ذلك أن كل ما يقرب إلى اللّه تعالى و كان صالحا للإنسان في الدنيا و العقبى فهو من الخير، كما يظهر من السنة الشريفة أن الجامع بين الخيرات ما طلب فيه رضاء اللّه تعالى، فعن الصادق (عليه السلام): «ليس الخير أن يكثر مالك، و ولدك، و لكن الخير أن يكثر عملك، و أن يعظم حلمك، و أن تباهي الناس بعبادة ربك».
و من ذلك يظهر أن الاستباق الى الخيرات مما يحمده جميع العقلاء، فالآية إرشاد إلى طريق العقلاء، لا أن تكون تعبدية شرعية.
و معنى الآية: ان اللّه تعالى جعل لكل أمة شريعة خاصة و منهاجا معينا لا بد من متابعته؛ و المبادرة إلى الحق و متابعته لتحقيق المسارعة إلى الخيرات التي هي الغرض الأقصى من تشريع الشرائع.
و نظير المقام قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية: ٤۸]. و إذا كانت الشرائع الإلهية تناسخ بعضها بعضا فلا بد من المسارعة إلى ما هو خيرها و هو الشريعة الناسخة لا المنسوخة.
و يمكن أن يراد بقوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ المعنى العام الشامل للجهات التكوينية و الاختيارية- عادية كانت أو شرعية- فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور و خصوصيات قد لا تكون في ما سواه و لا يحيط بها إلّا علام الغيوب، فتشمل اختلاف العادات و الملكات و الصفات، و الاختلاف في القبلة و الشريعة. و إنما يسعى الإنسان لنيل هدفه و تحصيل غرضه باختياره، فأمر سبحانه و تعالى أن يكون سعي الإنسان إلى الحق و المبادرة إلى الخيرات، فإنّ به يتحقق الاتحاد في المجتمع و به يرتفع الاختلاف و التعاند إذا كان الغرض محبوبا لدى الجميع بعد ما كان فيه الصلاح و الخير، و إلى ما ذكرناه‏ تشير الآية الكريمة: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية: ٤۸].
و لذلك رغب سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بالاستباق إلى الخيرات و المغفرة، قال تعالى: سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [سورة الحديد، الآية: 21]، و قال تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ [سورة المؤمنون، الآية: ٦۱].
و مما ذكرناه يظهر الوجه في جعل نفس الخيرات، و المغفرة، أو الصراط سبقا (بفتح السين و الباء) للإعلام بأنها هي الغاية المطلوبة، و الهدف المرجو في المسابقة.
قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً. أينما: ظرف مكان يدل على العموم و يتضمن معنى الشرط و جوابه يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ، و اللفظ شامل لجميع الحالات الممكنة الواردة على الإنسان و جميع التبدلات الحاصلة له من الجمع و التفرق و نحوهما، و جميع ما يرد عليه من التقلبات و الاستحالات من جوهر إلى جوهر، أو صفة إلى أخرى.
فهذه الجملة من أبرز مظاهر قيمومته و إحاطته على ما سواه عزّ و جل؛ و ذلك من شؤون القهارية و القدرة المطلقتين؛ كما في قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النساء، الآية: 78]؛ و قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: ٤] و الآية نظير قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [سورة لقمان، الآية: ۱٦]. و جميع ما سواه عزّ و جل في مقابل عظمته و قدرته و قيمومته أصغر من حبة الخردل بل لا وجه لملاحظة النسبة بين المتناهي و غير المتناهي.
و ترتب الآية على قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ من قبيل ترتب الجزاء على الشرط، أي: انكم ترون نتائج استباقكم بأنفسكم؛ فتشمل‏ الحشر.
و المعنى: ان اللّه تعالى يأت بكم أينما تكونوا و يجمعكم يوم القيامة للحساب و الجزاء و لا يعجزه شي‏ء عن ذلك.
و سياقها و إن كان يدل على الجمع ليوم الحساب و لكن ذلك لا ينافي عمومها المنطبق على مصاديق كثيرة، كما عرفت آنفا، فيصح أن تنطبق على يوم ظهور العدل العملي في هذا العالم المعبّر عنه في السنة المقدسة المتواترة بيوم ظهور المهدي الموعود، و استشهد بها الأئمة (عليهم السلام) لذلك، كما سيأتي في البحث الروائي.
و في الآية الشريفة التأكيد البليغ على أمر القبلة و التوجه إليها في جميع الحالات. و فيها من التوعيد للعاصين و الوعد للمطيعين، كما لا يخفى.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ. و هو برهان للآية السابقة.
و في هذه الآيات- على اختصارها- إشارة إلى علوم:
منها: علم معرفة النفس و أسرارها الذي قد يفيضه اللّه تعالى الى بعض أوليائه، و قد وضعت كتب و رسائل فيه.
و علم الأخلاق و الاجتماع اللذان هما من أهم العلوم الإنسانية.
و علم المبدأ و المعاد و هما من أهم العلوم في الشرائع السماوية بل عليهما تدور المعارف الإلهية، و للقرآن الكريم كليات في هذه العلوم يأتي التعرض لها في محالها.
قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
كلمة «حيث» تستعمل في المكان، و الجملة التي بعدها تكون بيانا لها، نظير «أين» إلّا أن الأولى أعم من الثانية؛ فإن الأخيرة لوحظ فيها السؤال عن المكان بخلاف الأولى. كما أن في لفظ «متى» لوحظ فيه السؤال عن الزمان، بخلاف «حين» الذي هو في الزمان كلفظ «حيث» في المكان.
و تستعمل «حيث» في مطلق التحيز، و يشهد له حديث نفي الصفات عنه‏ تبارك و تعالى، قال (عليه السلام): «كيف أصفه بحيث، و هو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا»، و في بعض الأخبار: «و هو الذي أيّن الأين و أوجده».
و في مثل هذه الأحاديث إشارة إلى رد ما أثبته أكابر الفلاسفة من عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها، كما يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.
و المعنى: أنه من أيّ مكان خرجت و إلى أية جهة توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام.
و قد تكرر قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في هذه الآيات المباركة، و ذلك لأن الكعبة المقدسة قبلة لأهل العالم، و العالم متقوم بالمكان و الزمان و الجهة و يمكن أن تكون كل جملة إشارة إلى خصوصية من تلك الخصوصيات الثلاث، و من ذلك تعدد جهات الخروج من المشرق و المغرب، و الشمال و الجنوب، و في جميع الأمكنة من البر و البحر و الجو.
مع أن مخالفة اليهود و النصارى تستلزم التأكيد و التكرار، و بيان ان هذه القبلة على خلاف قبلة أهل الكتاب في أنه يمكن التوجه إليها من جميع بقاع الأرض المختلفة شرقا و غربا، شمالا و جنوبا.
قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. تثبيت للمطلب و تأكيد للموضوع من وجوه أربعة: «إنّ»، و «لام» التأكيد، و لفظ «الحق» و جملة «من ربك».
و الضمير في «أنّه» يرجع إلى التوجه إلى المسجد الحرام، و سياق الكلام يدل على أنه كان حقا أزلا و هو كذلك أبدا؛ و ان كل توجه في العبادة بخلافه يكون باطلا، و لذا أوعد اللّه تعالى على من خالف ذلك.
قوله تعالى: وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. أي أنّ اللّه ليس بغافل عن أعمالكم، لأنه عالم بما سواه حتّى خطرات القلوب و لحظات العيون فلا يتوهم الغفلة بالنسبة إليه مع هذا الحضور الفعلي و الاستيلاء المطلق على كل شي‏ء، و هو المهيمن على الجميع، فهو الذي يتولى الجزاء على أعمالكم خير الجزاء.
قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. يمكن أن يكون التكرار، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام، و الثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس و الأخيرة على تمام الربع المسكون، و يمكن الحمل على حالتي الحضر و الذهاب إلى السفر و الإياب منه.
و الابتداء بالخطاب للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فانه و إن كان كافيا في عموم التكليف، إلّا أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص و بيان أهمية الموضوع، و لترتيب ما سيأتي. و الضمير في قوله تعالى: وُجُوهَكُمْ يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيهم.
و كان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث: اليهود، و النصارى، و المشركين، و الأولان كانا يعترضان عليه (صلّى اللّه عليه و آله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ و لم يصلي إلى قبلتنا؟ و المشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم و أقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع و الفائدة منه، و الجواب عن اعتراض المعترضين و دفع شبه المنافقين.
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ. هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة و تغييرها، أي: لئلا يكون للمحاجين- و هم الطوائف المتقدمة- عليكم حجة و سلطان.
و مما تقدم يعرف انتفاء حجتهم؛ لأن صلاة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية و بذلك اندحضت حجة الفريقين.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ. يصح أن يكون الاستثناء متصلا، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية و الحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد و اللجاج.
فيكون المعنى: لئلا يكون للنّاس عليكم حجة إلّا حجة الظالمين الحاصلة عن اعتقادهم و ظلمهم و محاجتهم بعد ظهور الحق، نظير قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى، الآية: ۱٦].
كما يصح أن يكون الاستثناء منقطعا إن خصصنا المستثنى منه بخصوص الحجة الصحيحة، فيحتاج الكلام إلى مقدمة مطوية، و هي انه إن كان على المؤمنين حجة، فهي لا تكون إلّا من الظالم، و لا حجة للظالم فليس عليهم حجة مطلقا، فان الظالم لا ينقطع عن اللجاج و العناد و الإحتجاج حسب الأهواء الباطلة و الآراء المزيفة و ما يمليه عليه ظلمه. و مثل هذا متعارف في المحاورات الفصيحة، قال النابغة: و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب‏ أي: لو كان فيهم عيب فهذا عيبهم، و هو ليس بعيب إذا لا عيب فيهم مطلقا.
قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي. الخشية: هي الخوف المشوب بالتعظيم و إنّها أعم موردا من مطلق الخوف، لإطلاقها على الجمادات، قال تعالى: وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة البقرة، الآية: ۷٤]. و أخص منه مفهوما لأنها مشوبة بالتعظيم.
و المعنى: لا موضوع لخشيتهم لفرض بطلان طريقتهم فتنحصر الخشية من اللّه تبارك و تعالى، لأنه الحق و الخشية لا بد و ان تكون من الحق.
قوله تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. هذا هو الأمر الثاني، و التمام: انتهاء الشي‏ء و كماله بحيث لا يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه، و يستعمل بالنسبة الى جميع الأمور المادية- جواهرها و أعراضها- و الأمور المعنوية، قال تعالى: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 23].
و مادة (نعم) تأتي بمعنى الحالة الحسنة، و تستعمل بالنسبة إلى الإنسان فقط دون غيره، و في جميع حالاته و نشآته في الدنيا و الآخرة و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.
و قد ذكرت هذه الجملة في موارد من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: ٦]، و قال تعالى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [سورة النحل، الآية: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. و نعم اللّه تعالى كثيرة لا يمكن عدها، و هي إما معنوية أو مادية أو هما معا. و تكاليف اللّه سبحانه و تعالى من النّعم على الإنسان فإنها تقع في طريق استكماله و ما يترتب عليها من الفوائد.
و تمامها إنما يكون لأجل انها تقع في سبيل سعادة الإنسان في الدارين و ارتقائه إلى درجات الكمال، و في الحديث عن علي (عليه السلام): «تمام النعمة الموت على الإسلام» ، و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «تمام النعمة دخول الجنّة».
و المنساق من إتمام النعمة في المقام- بعد جعل الإمامة و بناء البيت- استقلال المسلمين بقبلة تخصهم، و تطهير دينهم من آثار الشرك و الضلال، و استيلاء المسلمين على غيرهم بالحجة و البيان إلى غير ذلك من النّعم التي أراد سبحانه جعلها حكمة لتشريع تحويل القبلة.
و ذكر بعض المفسرين أنّ في هذه الآية بشارة إلى فتح مكة، لأنه عزّ و جل ذكر في سورة الفتح، الآية 2: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً و قد ذكرت- بعد الفتح- النصرة منه تعالى. و القرينة على ان المراد من النعمة ذلك قوله تعالى بعد ذلك: وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً.
و لكنه مخدوش بأن مجرد التشابه اللفظي في الموضعين لا يوجب اتحاد النعمتين في الموردين إلّا مع قرينة خاصة. نعم لو أريد تشابه النعمة في مطلق جنسها فهو صحيح لا اشكال فيه، إلّا انه خلاف ظاهر كلامه.
قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. هذا هو الأمر الثالث. و كلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلّا أنه بالنسبة إليه عزّ و جل يكون بداعي المحبة و الإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزّ و جل، لأنه الكامل في ذاته و بذاته و لا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى، و التمني و الترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص و أما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزّ و جل. و تستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان و كل غاية يقصدها باختياره.
هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة و التعبد بها و كل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي: جانب الحجة و الإحتجاج مع المخالفين و المعاندين و قطع حجتهم، و الجانب المادي و الفوائد التي يتوخاها الإنسان، و الجانب المعنوي و الروحي من التكاليف.
و كل واحد من هذه الغايات الشريفة و المنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة، و بذلك تتم نعمته على المسلمين و يظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.

الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي و من النفي إثبات، و جرى عليه نظم القرآن الكريم، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ و لذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك و إثبات الوحدانية له تعالى.
و المعروف بين اللغويين و غيرهم أنّ كلمة «إلّا» تستعمل في الاستثناء المتصل و المنقطع، و تأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا و المرجع في التعيين القرائن المعتبرة، و إذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. و قالوا: إنّ الأصل في «إلّا» أن تكون استثناء و الصفة عارضة، للقرينة، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة و الاستثناء عارض، و في القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.
ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.
و هو: أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء و الملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم و سلطانهم، فينتقلون من الحاضر الى الماضي، أو إلى المستقبل، أو إلى الأمر و النهي و قضايا متعددة، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.
و الحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة و الإتقان و التدبر، و به يتحقق النظم البليغ، لأنه نقل الكلام و تغييره من حالة إلى أخرى، فهو من محاسن الكلام و بدائعه و يهتم الأدباء به اهتماما بليغا، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.
و المشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.
ثانيها: أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين، كما في قول: «أنت صديقي».
ثالثها: أن يكون في جملتين.
و هو عند أهل المعاني و البديع على أنواع:
الأول: تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، مثل قوله تعالى: وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [سورة الإسراء، الآية: 81]، و قوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 127]، و هو على سبيل الدعاء.
الثاني: أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شي‏ء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك و نحوه ثم يرجع الى‏ مقصوده، كما في قول الشاعر: فلا صرمه يبدو و في اليأس راحة و لا ودّه يصفو لنا فنكارمه‏ فإن في قوله: «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه و هو غير لائق، فقال: «و في اليأس راحة» فكان هذا عذرا.
الثالث: التفات الضمائر و هو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، نحو قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلى‏ ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات، الآية: ٦].
الرابع: بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه؛ نحو قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الحمد، الآية: 7] بعد قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.
الخامس: الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.
السادس: انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر، و هذا على أقسام- كما يأتي- نحو قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87]، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد، و نحو قوله تعالى: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس، الآية: 22] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.
السابع: التفات الأفعال، و هو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر و هو على أقسام أيضا و هذا كثير في القرآن الكريم و فيه لطائف دقيقة.
الثامن: الانتقال في الكلام من كل من التكلم و الخطاب و الغيبة إلى آخر و هو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب، و يكون ذلك على‏ أقسام ستة:
الأول: من التكلم إلى الخطاب، نحو قوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ [سورة الأنعام، الآية: 71].
الثاني: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [سورة الفتح، الآية: 1].
الثالث: من الخطاب إلى التكلم، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [سورة الأنعام، الآية: ۱۱٤].
الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [سورة يونس، الآية: 22].
الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ– إلى قوله تعالى- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة، الآية: ٤].
السادس: من الغيبة إلى التكلم، قال تعالى: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى‏ بَلَدٍ مَيِّتٍ [سورة فاطر، الآية: 9].
و للالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص، و تختلف باختلاف المقامات، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. و منها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. و منها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة و التلبس بالفعل في كل وقت. و منها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ و آكد و أعظم وقعا. و منها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. و منها إظهار التفخيم، و تذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.

في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى يقول اللّه تبارك و تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني: يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، لأن اللّه عزّ و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قول اللّه عزّ و جل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ. و هذه صفة محمد رسول اللّه في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه اللّه عزّ و جل عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ. و قريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه السلام).
أقول: هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المختصة به المذكورة في القرآن و في جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء اللّه تعالى على أممهم.
و في الدر المنثور في الآية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كانوا يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بنعته و صفته و مبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد اللّه بن سلام: لأنا أشد معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول اللّه حقا يقينا و أنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك اللّه يا ابن سلام».
و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال (عليه السلام): «الخيرات الولاية».
أقول: هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة، و يصح تطبيق الآية المباركة على القرآن و جميع المعارف الإلهية و قد تقدم الكلام فراجع.
و في الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً. قال: «الخيرات الولاية. و قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني أصحاب القائم (عليه السلام) الثلاثمائة و البضعة عشر، قال: هم و اللّه الأمة المعدودة. قال: يجتمعون و اللّه في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه السلام) و انهم المفتقدون من فرشهم ليلا- الحديث-».
أقول: هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله، و الآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. و أما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين و عليه الإجماع أيضا، و سنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. و الرواية من باب التطبيق، كما تقدم.
و في تفسير القمي في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: و لا الذين ظلموا منهم و «إلّا» في موضع «و لا» ليست هي استثناء».
أقول: هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع، و قد تقدم في البحث الأدبي فراجع.

ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و تقدم في ضمن الآية الشريفة وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.
و استدلوا على البطلان بوجوه- ذكروها في كتبهم- أهمها: أنّ ثبوت الشي‏ء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة.
و فيه: ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل و التحقق، و أما قبلهما فليس إلّا العدم المحض و يستوي الثبوت و عدمه بالنسبة إليه، و قد اشتهر بين الفلاسفة: ان الشي‏ء من ذاته ليس، و من علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية و إن أطالوا القول فيها في الفلسفة.
بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. و دفعه: بأن الشيئية مساوقة للوجود؛ و قبله لا شي‏ء حتّى يلزم العدم. مخدوش: بأنّ اعتبار الذات أمر و اعتبار الوجود أمر آخر، و لا ربط لأحدهما بالآخر. و المسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة: منها مسألة اصالة الوجود في التحقق، و اصالته في الجعل، و ربط الحادث بالقديم كما يأتي. و لا مفرّ عنه إلّا بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات و إخراجها من العدم إلى الوجود، و انه كان و لم يكن معه شي‏ء- بأي معنى من معاني المعية و لو اعتبارا- و قدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد و إنما عرّفها أئمة الدين (عليهم السلام) بقولهم: «لا يعجزه شي‏ء» كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.
إن قيل: إنّ الموضوع محال و قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال: على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي، و ما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.
و قد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات و جاعلها، و القدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.
ثم إنّ جميع الفلاسفة اتفقوا على أن ما سواه تعالى مركب من ماهية و وجود، بلا فرق بين المجردات، و الماديات بمراتبها الكثيرة التي لا حد لها بوجه، و جعلوا ذلك من القواعد الفلسفية المسلّمة التي يستدلون بها في الفلسفة و هي قاعدة: «إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية و وجود»، فالبساطة الحقيقية منحصرة به تبارك و تعالى، و تدل عليها نصوص السنة المقدسة و ظواهر الكتاب المبين. و التركيب و التركّب يلازمان الحدوث، و هو مناط الاحتياج و هو عين الفقر، فجميع ما سواه عزّ و جل حادث.
ثم إنه اختلف أعلام الفلاسفة في أمور ثلاثة:
الأول: في أنّ الأصل في التحقق و منشئية الأثر هو الوجود و الماهية تابعة له- و قد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود- أو يكون الأمر بالعكس؟
و اصطلحوا عليه بأصالة الماهية، بعد اتفاقهم على أنها قبل جعل الجاعل لا حيثية لها أبدا.
الثاني: أنّ المجعول من الباري تعالى هو الوجود و الماهية تابعة له أو الأمر بالعكس؟ و اصطلحوا عليه باصالة الوجود في الجعل، أو اصالة الماهية فيه. و كل واحد من البحثين من المباحث المهمة المفصلة لديهم.
و الذي يظهر من السنة المقدسة أصالة الماهية في كل من التحقق و الجعل، بمعنى أنّ اللّه تعالى مذوت الذات و مفيض الوجود عليها لا بمعنى التشريك، بل بمعنى الترتب الدقي العقلي. و نسب إلى بعض أكابر أهل الدقة و التحقيق إنه وضع رسالة مستقلة في ذلك.
الثالث: ربط الحادث بالقديم، و هو أيضا من المباحث المهمة الدقيقة الذي اختلف الفلاسفة فيه اختلافا كبيرا فاختار كل مهربا، و لا طريق لهم إلّا التمسك بالسنّة المقدسة من جعل إرادته تبارك و تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات. هذا موجز القول و التفصيل يطلب من محله، و من اللّه التوفيق و به الاعتصام.

يظهر من الآيات المباركة الواردة في القبلة أهميتها و عظم أمرها فقد أمر الشارع باستقبال الكعبة في الصّلاة و الذبح و في حالة الاحتضار و غير ذلك و ندب إليها في حالات كثيرة، بل استقبالها مندوب في جميع الحالات إلّا ما استثني. و حرم استقبالها في مواطن، كما نزّه عنه في مواطن أخرى، و هو يدل على الاهتمام بها، و لذلك نزلت الآيات الشريفة تستعرض جميع جوانب هذا التشريع الجديد و الاعتناء به اعتناء بليغا و التأكيد بمراعاته بأنحاء التأكيدات‏ بأسلوب رصين و عبارات بليغة.
فذكر سبحانه أولا فضائل البيت الحرام، و كونه مثابة للنّاس و أمنا و محلا لعبادة المتعبدين، و هو بذلك أراد سبحانه تهيئة النفوس لقبول تشريع جديد، ثم ذكر أنّ القبلة أمر تعبدي لا بد و ان يكون من اللّه تعالى- كما هو شأن كل عبادة إلهية- ثم أعلم نبيه بتغيير القبلة و أمر المسلمين باتباع القبلة الجديدة و أكد عليه تأكدا بليغا، و قد جمع سبحانه في ذلك بين رغبة رسوله الكريم في اتخاذ قبلة جديدة و بين استقلال المسلمين فيها بعد أن كانوا تابعين، و ذكر سبحانه أخيرا ان الاستقبال أمر اجتماعي لا يختص بطائفة خاصة، و في الضمن أبطل اعتراض المعترضين و دحض حججهم. و نحن نذكر في هذا البحث بعض الجوانب المهمة في القبلة.

لا ريب في أنّ الإنسان واحد نوعي و هذه الوحدة النوعية تقتضي وحدة الاجتماع بالطبع، و الوحدة الاجتماعية من أهم الأمور النظامية التي يقوم بها النظام و يحفظ بها شؤون الأنام، فإذا كان تنظيم الأمور النظامية في الحيوان بإلهام من اللّه تعالى، كما يستفاد من آيات كثيرة، و يأتي في قوله تعالى: وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: ٦۸] بعض الكلام ففي استلهام طبيعة الاجتماع الإنساني التي يستكمل بها خصوصيات الاجتماع و الجهات اللازمة بالأشد و الأقوى.
و من تلك الجهات التي يستكمل بها الاجتماع وحدة التوجه الى الجهة الواحدة التي لا بد للمجتمع أن يهتم بها كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء اللّه تعالى، كذلك التوجه إلى جهة معينة، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [سورة البقرة، الآية: ۱٤۸]. و لا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة و إن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلّا أنّ ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب و الروح الى المعبود، بل سيأتي في المحل‏ المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها- من الطواف حول الكعبة و السعي في المسعى، و القيام بين يدي المولى، و الركوع، و السجود و القنوت، و غسل الوجه و اليدين، و ما يفعل بالرأس و الرجلين- من طرق توجه القلب إلى اللّه تعالى و عدم غفلته عنه و الخضوع و الخشوع لديه كل عضو بحسبه، و هذا هو معنى الروح في العبادة، و البقية بمنزلة اللفظ أو الجسد، و لا فائدة في لفظ بدون المعنى و جسد بلا روح فيه.
و بعبارة أخرى: إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح و القلب مما يستنكره العقل و العقلاء فكيف يرضى به إله السماء.

ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا و اجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة و المعبود، و بها تميز المسلمون عن غيرهم و احتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.
و الظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة و لكنها كانت محدودة و موقّتة، فقد ورد في شأن موسى و أخيه أن أوحى اللّه تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] و لكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية و مكانية.
و يظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت و كانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس و يصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.
و أما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليه السلام) و مدفنه عندهم، و لم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.
و لعل أحد وجوه تأكيد القرآن و اهتمامه بكون بيت الحرام قبلة انها أول قبلة شرعت في الأديان السماوية بها تحفظ الوحدة بين أفراد هذا الدين. و انها كانت سببا في هدايتهم، و إعلاما بأنهم على الصراط المستقيم و تدعيما لهم، و قد تكفل سبحانه و تعالى الجواب عن احتجاج المعترضين، كما وصم سبحانه المخالفين بخفة العقول و اتباع الأهواء الباطلة و الظلم و أوعدهم بسوء العقبى إن هم أصروا على الجحود و الإنكار. و لأجل ذلك كله كان هذا التشريع الجديد من موجبات إتمام النعمة على المؤمنين.

كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه يستقبلون بيت المقدس أول بعثته في مكة حتّى بعد هجرته إلى المدينة إلى نزول الوحي بتحويل القبلة و لقد كان (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في ذلك و يترقبه بشغف شديد، كما حكى عنه عزّ و جل: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها.
و يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ أنّ القبلة الحقيقية كانت هي البيت الحرام، فإنّ كون البيت مثابة يقتضي ان يكون مثابة أيضا لهم في أهم الجهات العبادية و هو الاستقبال و التوجه اليه في العبادة.
و يؤكد ذلك جملة من الأحاديث الواردة في أنّ الكعبة كانت قبلة الأنبياء السابقين (عليهم السلام) و أنّها كانت موضع تقدير العرب و حبهم لها و توجههم إليها، فهي من هذه الجهة اقدم القبلتين و أشرفهما و تربو فضيلتها على بيت المقدس من جهتين: ذاتية- لأنها أشرف بقاع الأرض مطلقا، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة، و انها مقابل بيت المعمور- و عرضية، لأنها موضع عبادة المتعبدين من بدء تكوينها، فما زالت مطاف الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين و الأولياء و الصديقين و عباد اللّه الصالحين.
و لا يستفاد من آيات تشريع القبلة ما يخالف ذلك إلّا ما قد يتوهم في قوله تعالى: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة، الآية: ۱٤۲]. و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [سورة البقرة، الآية: ۱٤۳] الى غير ذلك مما تقدم من الآيات المباركة.
و يمكن الجواب عنه: بأنّ الآية الأولى نسب الاستقبال فيها إلى المسلمين لا إليه عزّ و جل مما يؤكد عدم كون القبلة المولّى عنها قبلة حقيقية.
و عن الآية الثانية بأنها لا تدل على كون الجعل جعلا أوليا ذاتيا. نعم تدل على الجعل التقريري الظاهري لمصالح ظاهرية متعددة اقتضت استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس- نظير صلح الحديبية و غيره- و المصالح الزمنية قد تقتضي الفعل و قد تقتضي الترك و لذلك أمثلة كثيرة في الشريعة المطهرة، فلم يكن استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس لأجل كونه قبلة حقيقية فنسخت و حولت إلى قبلة أخرى، بل القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة، و يشهد لذلك‏
ما ورد: «من أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي- و هو بمكة- نحو بيت المقدس و الكعبة بين يديه».
و عليه فلم تكن مصلحة واقعية في استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس، بل كان الحكم إرشادا محضا لاستقرار ظاهر الشريعة، و الأمن من كيد الأعداء و خديعتهم ليحين حين إظهار الحق فهو تكليف مجاملي تأليفي، فيكون اطلاق النسخ عليه من باب المجاز و العناية، أو بالمعنى اللغوي، و هو مطلق التبديل إلّا إذا أريد منه نسخ قبلة اليهود.
إن قلت: يظهر من ذيل الآية الشريفة: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أنّ استقبال بيت المقدس كان لأجل كونه قبلة حقيقية لا أنه مجرد تكليف مجاملي. (نقول): إنّ الآية الشريفة في الخلاف أدل و أظهر، كما ذكرنا آنفا.

قد صلّى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بأصحابه إلى بيت المقدس برهة من الزمن حتّى نزلت آيات تحويل القبلة فأمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالتحويل إلى القبلة الجديدة و هو في صلاة الظهر بينما كان يصلي بأصحابه فتحوّل إلى الكعبة المقدسة- و في بعض الروايات أخذ جبرائيل بيد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و حوله إليها- و تحول أصحابه إليها حتّى صار الرجال موضع النساء و النساء موضع الرجال، ثم صلّى بهم صلاة العصر إلى القبلة الجديدة، و هو في مسجد بني سالم و سمي بعد ذلك بمسجد القبلتين، و هو من المساجد المشهورة في المدينة المنورة يقصده المسلمون ليؤدوا فيه الصّلاة إعظاما لهذا الحدث العظيم و تخليدا لذكرى صاحبه.
و أما زمانه فالمروي في صحيح مسلم انه كان في رجب من السنة الثانية بعد الهجرة بستة عشر شهرا، و في رواية البخاري انه صلّى الى بيت المقدس بعد الهجرة بستة عشر أو سبعة عشر.
و لكن المشهور- و عليه جمهور العامة- انه كان في النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة. و على كلا التقديرين فلا بد و ان تكون الشهور بعد الهجرة- التي وقعت في شهر ربيع الأول- اما سبعة عشر إذا كان التحويل في رجب، أو ثمانية عشر إذا كان في شعبان.
و روى الشيخ المفيد في مسار الشيعة: «في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة» هذا.
و روى ابن بابويه في الفقيه «صلّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهرا بالمدينة» و ذكره في قرب الأسناد أيضا و لا بد من حمله على بعض المحامل.

يمكن تعيين القبلة إما بالعلم بها، كما في أهل مكة و الحرم. و إما بالظن و قد عين الشارع له بعض العلامات، كالجدي و غيره، و قد فصل الفقهاء ذلك راجع كتابنا [مهذب الأحكام‏]. و يستفاد من مجموع ما وصل إلينا ان الشارع اكتفى في تعيينها بمجرد الاطمئنان المتعارف.
و أما ما عن جمع من أعلام الهيئة- رفع اللّه تعالى شأنهم- الذين‏ اجتهدوا في هذا الموضوع و بذلوا جهدهم في تعيين الجهة، و من ذلك ما تعارف عليه في هذه الأعصار كالآلات المغناطيسية، كل ذلك ان حصل منه الاطمئنان، فلا ريب في كفايته و إلّا فلا اعتبار به.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"