1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ۱4۲الى ۱4٥

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (۱٤۲) وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (۱٤۳) قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (۱٤٤) وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (۱٤٥)


هذه الآيات المباركة و التي تتلوها وردت في تشريع أهم جهات وحدة المسلمين و هي وحدة قبلتهم، و من كثرة أهمية ذلك أكّد سبحانه و تعالى عليها بتعبيرات مختلفة هي بمنزلة البرهان و الدليل على ثبوتها، و بيان جهات إثباتها، و هي من حيث كونها محاجة مع أهل الكتاب ترتبط بالآيات التي قبلها بعبارات متسقة، و نظم بليغ.

قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. السفه: هو الخفة و الضعف و الرداءة، سواء أ كان في الجسم، أم في النفس؛ يقال: ثوب سفيه، أي خفيف النسج و رديئه، و شخص سفيه أي ضعيف العقل. و سواء أ كانت السفاهة في الرأي أم في الأخلاق، أم كانت في الدين أم الدنيا أم‏ فيهما معا، يقال: سفه حلمه و رأيه و نفسه. و المراد بهم هم الذين خفّت حلومهم و أعرضوا عن الفكر و النظر، فاعترضوا على الدين من دون علم بحقائق الأمور، و هم المنكرون على تغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين.
قوله تعالى: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها. التولي: الصرف، و العدول عن الشي‏ء. و هو من الصفات ذات الإضافة التي تختلف باختلاف المتعلق، فإن قيل: تولى عنه يكون بمعنى الإدبار. و إن قيل: تولى إليه يكون بمعنى الإقبال.
و المعنى: انه سيقول السفهاء الذين ضعفت عقولهم و اعترضوا على تحويل القبلة ماذا جرى للمسلمين ان يصرفوا عن قبلتهم التي كانوا عليها- و هي بيت المقدس- التي كانت قبلة الأنبياء باعتقادهم؟!.
و المقام- أي تقديم الإخبار على الاعتراض- من العتاب قبل الجناية، و هو من المحسنات البديعية، و له فوائد كثيرة: منها توطين النفس، و تقليل التأثير، لأن المفاجأة بالمكروه أشد إيلاما من غيرها.
و منها: الإعداد للجواب عن المعترض و مقابلته بالاحتجاج و تلقين الحجة، فيكون أقطع. و منها: بيان أن المعترض متصف بالسفاهة ذاتا من دون أن يكون للاعتراض دخل في ثبوتها. و منها: أن الوقوع بعد الإخبار معجزة له (صلّى اللّه عليه و آله).
قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ. هذا هو الدليل لتحويل القبلة و تبديلها، فإن من بيده أزمة أمور التكوين و التشريع و له الحكمة البالغة في جميع الأشياء، و إنّ الجهات بجميعها له تعالى، فلا تحويه جهة خاصة. و إنّ استقبال إحدى الجهات من الأمور التعبدية يجريه بحسب الحكمة و المصلحة، فليس اعتراضهم على تحويل القبلة إلّا من السفه.
و لا بد أن يكون سبب اعتراضهم هذا أحد أمور كلها باطلة، فإما أن يكون قد زعموا أنّ اللّه تعالى تحويه جهة خاصة، و هي بيت المقدس بحسب زعمهم، أو أن بعض الجهات تستحق الاستقبال لما فيها من الآثار دون‏ غيرها، أو للعصبية التي عندهم و إعلام النّاس بأن قبلتهم أحقّ أن تتبع من غيرها. و هذه الأمور كلها سببها الجهل بالحكمة الإلهية، و اتباع الهوى.
قوله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. هذه الآية تعليل للتغيير و التحويل من ان المحول اليه هو الصراط المستقيم و من مورد مشيته الأزلية في هدايته و تقدم في سورة الحمد تفسير كل من الهداية و الصراط المستقيم، فراجع.
قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. لفظ (كذلك) إشارة إلى ما مضى من جعل هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم، و هو قرينة لتعيين معنى الوسطية في الجملة، كما يأتي، و الجعل: الإيجاد، و الخلق، و التقدير، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يربو على مائة و خمسين موردا، مجردا تارة، كقوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [سورة المائدة، الآية: 97]، و مضافا إلى ضمير الخطاب، أو الغيبة أو غيرهما أخرى؛ كقوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [سورة المائدة، الآية: ٤۸]، و قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [سورة الفرقان، الآية: ٤٥]، و في الجميع يدل على عظمة الجاعل و جلاله و كبريائه. و الجعل في المقام تشريفي تعظيمي، كما يقتضيه كل جعل يتعلق بالشاهد الأمين.
و الأمة الجماعة، و هي من الألفاظ الإضافية تقع على الكثير و القليل و الأقل، و سياق الآية المباركة بقرينة سائر الآيات الشريفة يدل على أن المراد بها في المقام هو الأخير، كما ستعرف.
و الوسط معروف، فإن أضيف الى ما هو متصل- كالأجسام- أو ما هو منفصل- كالأعداد- يكون معيارا لتعيين الطرفين، و إن أضيف إلى المعنويات يكون معيارا لتمييز مرتبتي الإفراط و التفريط، و عليه تبتنى الفلسفة الأخلاقية.
و تفسيره بخيار الشي‏ء، أو الصلاح و العدل، و الاستقامة و الإستواء لا بأس به، فإن هذه الألفاظ و إن كانت لها مفاهيم متعددة لكنها مظاهر لشي‏ء واحد في الواقع، و في النفس الإنساني. و ذلك لأن الوسط هو المتوسط بين جانبي‏ الإفراط و التفريط المذمومين؛ و من جوامع كلمات‏ نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الأمور أوساطها».
و لأجل ذلك فسر الوسط في الأخبار بالعدل، و من المعلوم أن العدالة- التي هي من أهم كمالات النفس- هي المرتبة الوسطى بين مرتبتي الإفراط و التفريط من الملكات النفسانية.
و إذا كان معنى الوسط هو الخيار و العدل و نحو ذلك، فهل تكون جميع الأمة، كذلك، أو أنّ المراد منها بعض الأمة فقط؟ ذهب جمع من المفسرين إلى الأول، و قال إن المراد بالأمة هم المسلمون جميعا، فإن الإسلام قد جمع اللّه فيه بين حق الروح، و حق الجسد، فهي روحانية جسمانية، فليس المسلمون من أرباب الغلو في الدين المفرّطين، و لا من أرباب التعطيل المفرطين.
و لكن الحق أن يقال: إنّ الخطاب موجه إلى البعض فقط، و لا يمكن شموله لجميع المسلمين، و ذلك لعدة أمور:
الأول: إنه من المعلوم أن اللّه تعالى قد ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة تارة: بأنهم لا يعقلون؛ و أخرى: بأنهم لا يعلمون، و ثالثة: بأنهم لا يشكرون، و رابعة: بأنهم لا يؤمنون، و خامسة: بأن أكثرهم الفاسقون، أو أكثرهم يجهلون، أو أن أكثرهم، للحق كارهون. و من كان هذه حاله كيف يمكن أن يتصف بالخيار و العدل و كونهم شهداء على النّاس.
الثاني: إنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية- تحملا و أداء- بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح و الجوانح إحاطة حضورية من اللّه تعالى في مقام التحمل في الدنيا، و في مقام الأداء في الآخرة، و يستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل اللّه تعالى، و لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع ما هم عليه، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم، و إنّ الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شي‏ء، و هي بالنسبة إلى النشأة الأخرى شي‏ء آخر.
الثالث: إنه يستفاد من لفظ الوسط- بأي معنى لوحظ- اختصاص الأمة بالبعض دون الجميع.
الرابع: إنّ سوق الآية المباركة في سياق قصة إبراهيم (عليه السلام)، و اختصاص قوله تعالى: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128] بالبعض، ثم جعل الشهادة في سياق شهادة الرسول كل ذلك يدل على أن المراد بالأمة قسم خاص منها.
الخامس: إنّ شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود و شروط في الشريعة، و إلّا فلا تقبل شهادة كل فرد، فإذا كانت هذه حال الشهادة على الفرد، فكيف تكون الشهادة على النوع في النشأة الآخرة فهل تقبل بلا قيد و شرط؟!!.
السادس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا بعرض أعمال الناس على الشاهد من قبل اللّه تعالى، و إلّا فلا يمكن أن يتحقق التحمل فلا يترتب الأداء في النشأة الآخرة. و من يعرض عليهم أعمال النّاس عدة مخصوصة، كما ورد في نصوص كثيرة. و بالجملة: أنه لا بد للشاهد على نوع البشر يوم الحشر الأكبر من اطلاعه على صحة أعمال الخلق و فسادها، و التمييز بين جيدها و رديئها، و ذلك لا يكون إلا في طائفة مخصوصة.
إن قيل: إنّ قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 19] يعم جميع الأمة بلا اختصاص له بطائفة، فليكن المقام نظير هذه الآية المباركة أيضا.
يقال: إنه لا ربط للمقام بالآية الشريفة المتقدمة، فإن المقام في الشهادة على النّاس، و الآية المتقدمة في مقام بيان أن للمؤمن مرتبة الشهادة عند اللّه تعالى، و هما مختلفان، و قد ورد في جملة من الأخبار: «أنّ المؤمن شهيد و لو مات في فراشه».
و من ذلك كله يعرف أن الآية المباركة لا تشمل جميع الأمة. و ما ذكره بعض المفسرين لا شاهد له لا من عقل و لا نقل، بل هو معترف في ضمن‏ كلامه بأن المراد بالوسط من كان متبعا لشريعة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و انه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط فاقتصر على الأمة التي تكون متبعة للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و إلّا فليس كل أحد انتحل الإسلام دخل في الآية الشريفة.
و أما إذا كان مراده من تعبيره شرح دين الإسلام من حيث أنه حائز للمرتبة الوسطى بين الجسمانية المحضة و الروحانية الصرفة مع قطع النظر عن المتدين به، فلا ريب في كونه حقا و لكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.
و ربما يتوهم أن مقتضى إطلاق الآية المباركة و كونها وردت في مقام الامتنان هو التعميم لجميع الأمة. و لكنه باطل، فإن المراد بالوسط هو الحقيقي منه، كما في نظائره من الصفات- كالإيمان، و الخير، و الصلاح، و العدل، و الصدق و نحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم- دون مجرد الإطلاقي الظاهري، و ذلك لا يتحقق إلّا في المسلم الحقيقي المتصف بحقيقة الإسلام حتّى يكون مفخر الأنام و شاهدا يوم الحساب، و لا امتنان في جعل من لا يعرف من الإسلام إلّا اسمه، و من الدين إلّا رسمه، و لا يعلم من القرآن حتّى درسه شهيدا بين الأمم، و لا أظن أحدا يرتضي ذلك.
ثم إنّ جعل اللّه تعالى الأمة وسطا يتصور على أقسام:
الأول: أن يكون من مجرد الجعل التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه، كسائر مجعولاته التكوينية، قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ [سورة الاسراء، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [سورة الأنبياء، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة مما هو كثير في القرآن.
الثاني: الجعل الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة كقوله تعالى: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا [سورة الحجرات، الآية: 13] و قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: ٦٦].
الثالث: الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه و بين اللّه تعالى، و هذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: ۲٤].
و الجعل في المقام من هذا القسم، حيث أن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) هم الوسط في جميع المعارف و الكمالات النفسية، و دينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة و المادية الصرفة و لأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا، و لكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف و الأحكام و سائر الكمالات النفسية، إلّا أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء، و توجيه الخطاب إلى النوع و ارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض و مصالح، و القرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول، كما في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 173] و غيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم، و المراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي، كما أن عكسه أيضا صحيح و وارد في القرآن الكريم. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [سورة الطلاق، الآية: 1] و ليس ذلك من المجاز في شي‏ء، كما أثبتناه في الأصول، بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.
قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. إنما جي‏ء بلفظ «على» لبيان الإحاطة و الاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها و خفياتها، فهو (صلّى اللّه عليه و آله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية و المعارف الإلهية. و تشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلّى اللّه عليه و آله) كشهادته بالإبلاغ و إتمام الحجة، و شهادته لبعضهم بالإطاعة و على الآخرين بالمخالفة، و شهادته على أمته بالاستقامة و الانحراف، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.
و ذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول، يعني تكونوا شهداء على الناس، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم‏ تتصفون- علما و عملا- بما علمكم الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و قد شرح سبحانه هذه الآية شرحا وافيا في آية اخرى قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ [سورة الحج، الآية: 78]. فجعل المناط في الشهادة على الناس و شهادة الرسول عليهم المجاهدة في اللّه حق جهاده، فيصير بعد رد شارحها إلى مشروحها، و مفصلها إلى مجملها هو أن الشهادة على الناس إنما تكون بالمجاهدة في اللّه و الاعتصام به جلت عظمته و كل من كان كذلك فقد اجتباه تعالى، و لا يكون ذلك إلّا في عدة مخصوصة، و هي مورد دعوة إبراهيم خليل الرحمن و وصاية الأنبياء من بعده، و أهم مقاصد خاتم الأنبياء في تشريع شريعته.
و من ذلك يعلم أنّ مقام مثل هذا الشاهد الذي يحتمل شهادة اعمال الخلائق في الدنيا و أداءها كاملة في العقبى من أجلّ المقامات و ارفعها، إذ لا بد أن يتصف بصفات عالية و يرتقي إلى درجات الكمال حتّى يصل الى هذا المقام، و يتسم بوسام العلم، كما قال تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [سورة الكهف، الآية: ٦٥] و لا يليق بذلك الا الأخص من الخواص، كما عرفت.
و الخطاب لجميع الأمة تشريفي بمقتضى السير الاستكمالي في البشر حيث يقتضي أن تكون أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم و أرفعها، و نفس هذا السير التكاملي يقتضي أن يكون في هذه الأمة صنف خاص، و طائفة مخصوصة هي أشرفها و أعظمها؛ فيكون المراد من ذكر الكل هو البعض و هو شايع في المحاورات، و قد تقدم في قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 122] أنّ التفضيل باعتبار خصوص أنبيائهم لا جميعهم.
و بذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين، بل مقتضى قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [سورة الواقعة، الآية: 13] أنها فيهم أكثر، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أشرفهم، و قد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلّا اللّه تعالى، فهو بدء الخلق و غاية التكوين.
كما أن شرف و رفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم، و شريعته أكمل الشرايع الإلهية و أتمها، فيصير العاملون بها شهداء الخلق، للارتباط بين الغاية و ذيها تكوينا، و الواسطة في الإفاضة و ذويها طبعا، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة.
و في الحديث انه قال (صلّى اللّه عليه و آله): «إن لواء الحمد بيدي و آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة».
و ربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر؛ و أما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق و بروزها يوم تبلى السرائر، و الإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.
الجواب إنّه يقال: إنّ الإشهاد فيهما معا، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. و أما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد، و بذلك تتم الحجة عليه، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد و لا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ و المعاد، و أهم ما يتعلق بأصل العبودية و الربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار، و أهل الجنّة من أهل النار، و بذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على اللّه حجة.
و من ذلك يعلم أنّ الشهادة ليست قولية فقط، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضا؛ و المراد من الأخيرة هي: أن أمة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكوينا تكون بارزة بحقائقها و معارفها و أحكامها و تشهد على جميع الأمم و الأديان، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار أن ليس للأخيرة شأن مقابلها، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان و المعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن، و انه على الصراط المستقيم، و أن ما سواه على غير الصراط فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية.
ثم إنه يستفاد من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة أنّ الشهداء على الخلائق في يوم المعاد لا تنحصر بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أمته، فإن اللّه تبارك و تعالى أحد الشهداء على بريته، قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 231]، و قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى‏ عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ [سورة آل عمران، الآية: ٥]، و قال تعالى: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة يونس، الآية: ٦۱]. و لا معنى لقدرته التامة، و حكمته البالغة، و قيمومته المطلقة إلّا ذلك.
و من الشهداء الملائكة، قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق، الآية: 18].
كما أنّ منهم جوارح كل فرد من أفراد الإنسان، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: ۲٤].
و منهم الأنبياء، قال تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هؤُلاءِ [سورة النحل، الآية: 89].
و من الشهداء القرآن، و الزمان، و المكان و غير ذلك مما يأتي شرح ذلك كله في مباحث الحشر و النشر.
و الإشكال على شهادة هؤلاء الشهداء، بأنها بدون فائدة بعد قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 30]، و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]. و بعد العيان لا وجه للشاهد و البيان، مع أن جميع الممكنات بجميع أطوارها و شؤونها، و تمام جهاتها و جزئياتها تحت قدرته المطلقة و قيمومته المهيمنة عليها فلا وجه للإشهاد و الشهود. فاسد، يظهر الجواب عنه مما تقدم من أن ذلك كله لرفع الجحد، و إتمام الحجة حسب اختلاف الاستعدادات في النفوس.
قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ. القبلة من المقابلة، و مفهومها قائم أولا بمن يستقبل غيره، فهي الحالة التي يكون عليها المقابل- كالجلسة التي هي حالة الجلوس- ثم شاع استعمالها في نفس الجهة التي يستقبلها النّاس في الصلاة. و لم ترد هذه الكلمة في القرآن إلّا في آيات تشريع القبلة و تحويلها، و في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87].
و مادة (ع ق ب) تشتمل على معنى التأخر في الجملة، و منه إطلاقها على مؤخر الرجل- إذا كان بفتح الأول و كسر الثاني و سكون الأخير- و على الأولاد و الأحفاد لتأخرهم بالنسبة إلى الآباء ممن تقدمهم، قال تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف، الآية: 28] و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الجميع كناية عن الإدبار و الإعراض. و أما ما ورد في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ويل للأعقاب من النار» فهو كناية عن عدم التحرز و التنزه عما كان يصيب مؤخر الرجل من رشاش البول و غيره مما يضر بالطهارة المشروطة بها الصّلاة و بيان ذلك مذكور في كتب الفقه.
و الآية لبيان بعض الحكمة في جعل القبلة التي كان عليها الرسول قبل‏ تحويلها إلى غيرها، و ذلك للتمييز بين متابعي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و الثابت على إيمانه عن مخالفيه و من لاثبات له على الإيمان فارتد على أعقابه، لأن تحويل القبلة إنما كان سببا لظهور طوائف: قوم هداهم اللّه تعالى فآمنوا بالرسول و ثبتوا على إيمانهم، و قوم ارتدوا على أعقابهم، و قوم نافقوا في ذلك. و قد أشار سبحانه و تعالى إلى هذه الطوائف الثلاثة في هذه الآيات المباركة فأراد تعالى أن يميز بين تلك الطوائف و يتميز كل فريق عن صاحبه.
و مثل هذا التعبير- في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ في المقام أو «ليعلم» في غيره- في القرآن كثير، كما في قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ [سورة الكهف، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ [سورة محمد، الآية: 31]، و قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: ۹٤]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 166]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [سورة الحديد، الآية: ۲٥] إلى غير ذلك. و من المعلوم أن علمه أزلي قديم و عين ذاته، و لا يتصور فيه التغيير و التجدد و الوجه في هذه التعبيرات أحد أمور:
الأول: إنّ مقارنة علمه تعالى لوجود المعلوم أثر كبير في الزجر و التوبيخ، أو البشارة عند الإنسان.
الثاني: أن يكون المراد بالعلم هو علم الوقوع و الظهور، و أن القضية الحادثة مطابقة لعلمه الأزلي و يترتب عليه الجزاء من الثواب و العقاب.
الثالث: إنّ التعبير بلفظ المستقبل إنما يكون لدفع شبهة الجبر و بيان أن العلم الأزلي ليس علة تامة لحصول المعلوم خارجا، و لا يعتذر العبد بأنه لا يقدر على ترك الفعل، لأنه يلزم الانقلاب في علمه.
الرابع: إنّه لبيان فائدة الإعلام إلى الإنسان بأنّ اللّه تعالى عالم بالأشياء.
الخامس: الجري على عادة العظماء حيث ينسبون حالات أتباعهم‏ منزلة شؤون أنفسهم، و نسبة فعل الأتباع إلى النفس باب من أبواب البلاغة تترتب عليه فوائد و حكم كثيرة.
السادس: إتمام حجة الإختيار على المخاطبين، و جميع هذه الوجوه صحيحة يمكن الاعتماد عليها في مثل هذا النهج من التعبير، كما في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ الوارد في أكثر من عشرين موضعا في القرآن الكريم.
قوله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. كبيرة أي عظيمة و ثقيلة. و قد وردت مادة (كبر) في القرآن بهيئات مختلفة، و الكبير و الصغير من الأمور الإضافية يتصف بهما جميع الجواهر و الأعراض، بل الاعتباريات أيضا، كما هو معلوم. و يطلق الكبير على اللّه تعالى قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [سورة الرعد، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سورة الحج، الآية: ٦۲].
و الضمير في «كانت» يرجع إلى القبلة من جهة تحويلها أي: انه عظم أمر القبلة في تحويلها على أهل الكتاب و المنافقين و غيرهم ممن لم يثبت على الإيمان إلّا أن الذين هداهم اللّه تعالى إلى دينه و هم الذين صدقوا الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و آمنوا به بحقيقة التصديق و الإيمان لم يفرقوا بين القبلة الأولى المحول عنها و القبلة الثانية المحول إليها، و أنهم يعلمون أن ذلك من أمر اللّه تعالى العالم بالمصالح و الحكم، و المبين لعبده ما لم يكن يعلم، فاستسلموا لأمره و أطاعوا رسوله. و في الآية إشارة إلى الطائفتين من الطوائف الثلاثة المتقدمة و هم المنافقون و المؤمنون.
قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. الضياع الهلاك و الفساد، و الآية المباركة في مقام الجواب عما ارتكز في النفوس عن شأن الأعمال التي تقع على طبق الحجة السابقة إذا تبدلت إلى حجة اخرى؛ فكان الجواب أنها صحيحة و مقبولة لدى اللّه تعالى و يجزي عليها بالجزاء الأوفى.
و في الآية بشارة للمؤمنين و إيماء إلى أن أعمالهم إنما كان مبعثها هو الإيمان باللّه تعالى و التسليم لأمره.
و القول بأنّ المراد من الإيمان- في المقام- هو الصلاة، كما قال به جمع من المفسرين و ورد به الحديث إنما هو من بيان أحد المصاديق و إلّا فإن سياق هذه الآية يدل على أن المراد به هو معناه المعهود. و قد ورد مفاد هذه الآية في عدة آيات أخرى، قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف، الآية: 30].
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. الرأفة أخص من الرحمة من جهتين: من كونها أشد من الرحمة، و من أنها لا تكاد تقع في الكراهة بخلاف الرحمة. و هما من أسماء اللّه الحسنى و غالب ما تستعمل الكلمة في الدعوات مع الرحيم. و قد وردت في القرآن الكريم كثيرا إما مقرونة باللام- كما في المقام- و اما غير مقرونة به، كقوله تعالى: وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207] و هذه الآية في مقام بيان العلة للحكم السابق أي: لا يضيع، إيمانكم لأنه رؤوف رحيم. و إنما ذكر سبحانه الرأفة لتعميمها بالنسبة إلى العاصي و المطيع.
و قوله تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. مادة راى لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة. و في مضارعها تحذف الهمزة مطلقا، كما في المقام. وسعة استعمال الكلمة تعم الدنيا و الآخرة بل الرؤيا و حتى الحيوانات. و تستعمل بالنسبة إلى اللّه جل شأنه، قال تعالى: وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ [سورة التوبة، الآية: ۹٤].
و المعنى الجامع: هو الإدراك بما له من المراتب الكثيرة، فيشمل علم اللّه تعالى و إدراكات المجردات و إدراكات القوى الحاسة الظاهرية و الباطنية، و الوهم، و الخيال، و التفكير و الوجدان، و العلم و الظن كل ذلك بحسب مراتبها.
و التقلب التحول من حال إلى حال، أو التردد المرة بعد المرة، و سمي القلب قلبا لتحوله و تصرفه من حال إلى حال، و المراد به في المقام تحويل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) وجهه المبارك في السماء من جهة إلى أخرى تطلعا للوحي و انتظارا لأوامر اللّه تعالى.
و يستفاد من الآية الكريمة أنه (صلّى اللّه عليه و آله) كان ينتظر تحويل القبلة و كان اللّه تعالى يعلم بأنه (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في قبلة جديدة.
قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها. أي سنأمرك باستقبال القبلة التي ترضاها، و لذا قرنه تعالى بالأمر، و قال عزّ و جل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. و لا تختص التولية بتشريع الحكم، بل المراد الأعم منه و من تحقق التولية خارجا بواسطة أخذ جبرائيل (عليه السلام) بيد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و توليه إلى المسجد الحرام.
و الآية الكريمة لا تدل على أن القبلة الأولى لم تكن مرضية للّه تعالى و لا لرسوله (صلّى اللّه عليه و آله) بأي وجه من الدلالات؛ فإن إثبات الرضا في استقبال الكعبة لا ينافي ثبوت الرضا في استقبال البيت المقدس ما دام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستقبله لمصلحة كما جميع التكاليف المنسوخة و المتبدلة لمصالح مختلفة، بل يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية أن القبلة الحقيقة هي الكعبة المقدسة التي هي مورد محبته (صلّى اللّه عليه و آله): لأنها أقدم القبلتين و قبلة إبراهيم (عليه السلام) و مجمع العرب و ملاذهم و أهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و محبته و ان لم يظهره على لسانه تأدبا مع ربه، بل كان يردد وجهه الى آفاق السماء منتظرا لما هو المعلوم من إرادة اللّه تعالى و عليه يكون التوجه إلى القبلة الأولى من قبيل التكاليف الامتحانية و الصّلاة إليها قبل التحويل- على فرض عدم تصادف الكعبة في البين- من الصلاة الاضطرارية التي تصلى الى غير القبلة لمصالح كثيرة، منها المماشاة مع اليهود الذين هم ألدّ الخصام، و جلب قلوبهم.
قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشي‏ء، أي النصف، و الجزء و منه الحديث: «السواك شطر الوضوء»، و قوله (عليه السلام): «من أعان على مؤمن و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه».
و المراد به هنا النحو و الجهة. و لم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم‏ إلّا في تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. و إنما ذكر المسجد الحرام، لتوسعة الأمر، و أن الاستقبال اليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدسة، و إلّا فإن القبلة هي الكعبة، لنصوص متواترة بين الفريقين كما يأتي في البحث الفقهي.
قوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. تعميم للمستقبلين في جميع أنحاء العالم بأن يولوا وجوههم نحو المسجد الحرام، و تعميم أيضا لجميع الجهات خلافا للنصارى حيث يستقبلون جهة المشرق فقط.
قوله تعالى: وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.
الحق يأتي لمعان متعددة، منها الإيجاد، و الحكمة التامة و مطابقة الواقع، و غير ذلك. و قد ورد في القرآن العظيم بالنسبة الى جميع المعارف من المبدأ و المعاد، و صفات الباري عزّ و جل و أفعاله و تشريعاته المقدسة.
و عن جمع من أعاظم الفلاسفة أن الحق يقال للمطابق للمخبر عنه و للموجود الحاصل بالفعل، و الموجود الذي لا سبيل للبطلان اليه أبدا فهو تعالى حق من حيث ذاته و صفاته و أفعاله و جميع شؤونه، و قد خصص بعض أكابرهم في شرح هذه المادة صفحات من كتابه الكريم و كلها تنطبق على المعارف الربوبية.
و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعمأة مورد، فسبحان الذي يكون هو أصل الحق و منبعه و مرجعه. و لا حق غيره و ما سواه باطل.
و قد عد الحق من أسماء اللّه الحسنى، و ينبعث شعاعه إلى جميع تشريعاته المقدسة. و لا يخلو الحق عن الحقيقة بخلاف الباطل، ففي الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «على كل حق حقيقة و على كل صواب نور».
و المعنى: إنّ أهل الكتاب بعد التفاتهم إلى كتبهم المنزلة عليهم من التوراة و الإنجيل ليعلمون أن كون الكعبة قبلة هو الحق من ربهم أو ليعلمون أنها قبلة إبراهيم (عليه السلام) المتفق بينهم أن ملته هي الحنيفية التي أمروا باتباعها.
و ما ذكره جمع من المفسرين من إرجاع الضمير في قوله جلّ شأنه: أَنَّهُ الْحَقُّ إلى دين الإسلام صحيح أيضا، لأنه من باب بيان الكبرى، و ما ذكرناه بيان لإحدى الصغريات.
قوله تعالى: وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. الغفلة: تستعمل في عدم التحفظ على الشي‏ء و الاهتمام به، و مثل هذا المعنى محال بالنسبة إلى العالم الحكيم المدبر على نحو الحكمة التامة البالغة، لأن الحضور الفعلي الإحاطي من جميع الجهات مع الغفلة عنه خلف عقلا.
و يتصف بها الإنسان و تكون من أرذل صفاته التي تجعله في عرض الحيوان، قال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]. و يتصف الزمان و المكان بها، كما ورد في الأسواق، و سيأتي عند قوله تعالى: عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [سورة القصص، الآية: ۱٥] بعض أزمنة الغفلة.
و المعنى: أنه لا يعقل الغفلة عن كليات الأمور و جزئياتها بالنسبة إليه تعالى. و في الآية المباركة تهديد بالنسبة إلى مرتكب السيئات، و يصح أن يراد بعدم الغفلة عدم الغفلة العملية، أي: يجزي على الحسنات بالجنّة كما يجزي على السيئات بالنّار.
قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. الآية هي الحجة و البرهان الواضح و هي إنما تنفع لرفع الجهل البسيط، و أما الجهل المركب فهو داء لا يقبل العلاج لا سيما إذا كان قرين العناد و اللجاج خصوصا إذا كان المورد مما يصح نسبته الى الدين السماوي.
و حينئذ يتضح الوجه في هذه الآية الشريفة، و مضمونها دليل عقلي وجداني لا يختص بعصر التنزيل، و لا بطائفة خاصة.
و المعنى: و لئن جئتهم بكل برهان و حجة على صدقك ما تبعوا قبلتك، و لم يعترفوا بملتك، فقد تمكن منهم الجهل و غلب عليهم العناد و اللجاج بارتكابهم السيئات، فلم يوفقهم اللّه تعالى للإيمان بك.
قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ. بعد ما أيأس سبحانه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من اتباعهم لقبلته أراد سبحانه و تعالى إياسهم من اتباعه قبلتهم بعد ما اتضح الحق، و أن قبلته (صلّى اللّه عليه و آله) أولى بالاتباع خصوصا بعد ما أمر بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام، و لا وجه لمتابعة قبلة أوجب اللّه تعالى الانحراف عنها و أكد فيه التأكيد البليغ.
و يمكن أن يريد منه بيان بطلان أصل المتابعة، لأنه بعد وضوح بطلان شي‏ء كيف يعقل على العاقل الحكيم متابعته، فيكون مفاد هذه الآية كالآية السابقة.
قوله تعالى: وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ. أي أن أهل الكتاب على خلاف و عناد في أمور دينهم فلا اليهود تتبع قبلة النصارى و لا هؤلاء تتبع قبلة اليهود، فإن كلّا منهما يرى قبلة صاحبه باطلة، فكيف يتوجه إلى الباطل و يستقبله، و قد أعمى الجهل بصيرته فلا يتبع ما هو صالح واقعا.
قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قضية عقلية برهانها معها، أي: إنه إذا ثبت أنك على حق- كما هو الواقع- و كل من خالف الحق بعد ثبوته هو ظالم، فانك لو خالفته لكنت من الظالمين. و قد ثبت في محله. أن صدق القضية الشرطية بصدق النسبة بين الطرفين لا بتحقق موضوعها في الخارج.
و الخطاب موجه إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) تعظيما و تشريفا لأنه المشرع المسؤول عن الأمة في يوم المعاد، و قطعا لأطماعهم بأنه لا يتبع أهواءهم، و إلّا فحقيقة مثل هذه الخطابات العقلية تكون لجميع العقلاء في القرآن الكريم بلا اختصاص لها بأحد، و لا بزمان دون آخر، و إلى ما ذكرنا يشير ما ورد في الحديث: «أنّ القرآن نزل على طريقة إياك اعني و اسمعي يا جارة». و في الآية توعيد و توبيخ لهم و تبكيت لهم بأنهم أصحاب أهواء
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏2، ص: 103
باطلة، و أنهم ليسوا على العلم و أن ادعوه.
ثم إنّه لا بد من الاعتبار من مثل هذه الآيات فإن الخطاب بهذا النحو يكون لأشرف خلقه و أعلاهم مقاما عند اللّه تعالى و إنما أفرده بالخطاب مع ان المراد به غيره من أمته، إعلاما بأن أمته لا بد لهم من متابعته و أن لا يؤثروا على الحق شيئا، و لا يتبعوا أهواءهم و يطلبوا مرضات غير اللّه تعالى. و إيذانا بأن مثل هذا الذنب- و هو متابعة الهوى- من الذنوب التي لا تغفر و لو كان صادرا من أعلى فرد و أقربهم إلى اللّه عزّ و جل.
و في الحديث عن الصادق (عليه السلام) «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»، و الأخبار في ذلك متواترة، و السيرة دالة عليه أيضا، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى بعد ذلك.

يستفاد من مجموع هذه الآيات الشريفة أمور:
الأول: أنّ التعبير بالسفهاء في مطلع الآيات يشعر بأن أصل الاعتراض إنما نشأ عن السفاهة و الجهل، زعما منهم أن الحكم النوعي إذا حصل من اللّه عزّ و جل لا بد و أن لا يتغير و لا يزول، و أن نسخه يستلزم الجهل، و هذا هو الاعتراض الذي يبتني عليه إنكار النسخ عند اليهود، و قد أوضحنا المقال فيه في ما تقدم من مباحث هذا الكتاب، فراجع آية ۱۰٦من سورة البقرة.
الثاني: في قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ إشارة إلى أنّ تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي إلى نقطة الجنوب.
الثالث: أنّ الوسطية صفة ممدوحة حسنة، و لذا اختارها اللّه سبحانه و تعالى في القرآن دون غيرها من الصفات الحسنة، و لا يتصف بها كل الأمة بالعيان و الوجدان فإن جمعا منهم في طرف العصيان، فلم تتحقق الوسطية بالدليل و البرهان.
الرابع: إنّ ذكر الوسط في الآية المباركة وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً بنفسه قرينة على تخصيص الأمة بالبعض دون الجميع، لأنه بأي معنى لوحظ ظاهر في التخصيص.
الخامس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا، و لا يتحقق ذلك إلّا بعرض أعمال الناس، و التمييز بين جيدها و رديئها على الشاهد من قبل اللّه تعالى. و إلّا فلا يتحقق التحمل فلا يترتب عليه الأداء. و من يعرض عليه أعمال النّاس عدة خاصة، للنصوص الكثيرة الدالة عليه، و في بعض النصوص: «هم اللب و الأمة بمنزلة القشرة».
السادس: يظهر من هذه الآية لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بضميمة قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [سورة الكهف، الآية: ٥۱] نحو ملازمة بين الإشهاد على مبدأ الخلق و الإشهاد في المعاد، فإن من كان له الاستعداد لأن يشهد المبدأ، شهودا علميا إفاضيا من اللّه تعالى له الاستعداد أن يشهد على أعمال الخلائق في المعاد.
السابع: أنّ في قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إيماء إلى أن القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة و القبلة الأولى كانت من التكاليف الامتحانية أمر بالتوجه إليها لمصالح خاصة على ما تقدم، كما يستفاد من ظاهر الآية المباركة أنها نزلت قبل تحوله (صلّى اللّه عليه و آله) إلى الكعبة، و أنها بمنزلة الوعد، و لذا قرنها بالأمر، و قال جل شأنه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الثامن: أنّ في تخصيص النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالخطاب في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تعميمه لجميع المسلمين في قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ نوع تشريف لمقام النبوة، و لزيادة الاهتمام بالموضوع و التأكيد عليه، بغية الإلفة و الاجتماع و نبذ الفرقة و الاختلاف.
التاسع: ربما استدل بعضهم بمثل هذه الآيات على حرمة التأمل في علل الأحكام و السؤال عنها، لأنها تعبديات محضة، و العقل قاصر عن الوصول‏ إليها، و لا بد من الانقياد في جميع الأحكام.
و هذا الاستدلال على إطلاقه باطل لا وجه له؛ و الآيات المباركة أجنبية عن ذلك، و ما ذكره مخالف للآيات الكثيرة الآمرة بالتفكر و التعقل في ما يتعلق بالمبدأ، و المعاد، و تكميل النفس، و فهم الأحكام و دركها من أهم وجوه تكميل النفس، و لقد ذم سبحانه و تعالى قوما بقوله جل شأنه: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قد وردت في السنّة المقدسة نصوص كثيرة تبين المصالح و المفاسد و الحكم الكثيرة للأحكام الشرعية و قد جمعها المحدثون من الفريقين في كتب مستقلة ممتعة و نافعة من شاء فليراجعها.
فالسؤال عن الأحكام و عللها و حكمها صحيح و لا بأس به، بل حيث عليه الشارع. نعم مثل هذا السؤال يكون على أقسام:
فتارة يكون السؤال لأجل التعليم و الإعتقاد و العمل به. و أخرى: يكون لأجل العلم الإجمالي بأن الأحكام الإلهية تنشأ عن الحكم و المصالح بنحو الإجمال، و هذان القسمان لا بأس بهما. و ثالثة: يكون السؤال لأجل التشكيك به في الأحكام و تطبيق المصالح و الحكم على ما يوافق الأهواء مما اكتشف في هذه الأعصار، و هذا القسم باطل، إذ أن المكتشفات تتغير بمرور الزمن، و اتساع رقعة العلم و تطبيق الحكم عليها يوجب التغيير في الأحكام و الجرأة على ردها، و هذا مما لا يرتضيه أحد، و الآيات الشريفة على فرض تمامية دلالتها تدل على هذا القسم.
العاشر: أنّ إضافة القبلة الى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إضافة تشريفية و إلّا فالكعبة قبلة إبراهيم (عليه السلام) و قبلة جميع المسلمين: و فيه إيماء إلى أنه كان معهودا عندهم، و في بعض الأحاديث: «انه كان في بشارة الأنبياء لهم- أنه يكون بين صفاته كذا و كذا- و أنه يصلي إلى القبلتين».
الحادي عشر: إنما ذكر الوجه في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، و قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان و أجلها، و لذا يطلق و يراد به الإنسان نفسه من باب‏ استعمال البعض في الكل، لأهمية ذلك البعض أولا، و تقوّم أكل به ثانيا، و الإضافة إلى الذات و سقوط سائر الإضافات ثالثا. و عليه فالاختلاف بين العلماء في معنى الوجه ليس اختلافا حقيقيا، و إنما هو لأجل الكشف عن الذات، فقول الفقهاء في الوجه في المقام بأن المراد به هو مقاديم البدن إنما ذكر بنحو الكشف عن الذات و النفس الذي هو قول الفلاسفة، كما أن قول اللغوي فيه بأنه الجارحة الخاصة أي تلك الجارحة الحاكية عن الذات أيضا، و ليس المراد به الموضوعية الخاصة و إلّا كان لغوا و باطلا إلّا إذا دلت القرينة على أن المراد به الموضوعية الخاصة، كما في آية الوضوء و نحوها.
و حينئذ يصح أن يقال: بأن المراد بالوجه هو توجيه الأعضاء إلى أوامر اللّه تعالى الكاشف عن توجيه الذات إليها على نحو يسري الخضوع و الخشوع على سائر الأعضاء من الذات الخاضعة، و ليس المراد هو توجيه الأعضاء فقط الذي يجل مقام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر عباد اللّه المخلصين عن ذلك، و آية الوضوء و إن أخذ الوجه فيها على نحو الموضوعية لكن من حيث اعتبار القربة في الغسلات و المسحات المنبسطة على الذات لوحظ بنحو الطريقية أيضا. هذا إذا استعمل اللفظ في الإنسان، و أما إذا استعمل في اللّه عزّ و جل، فيأتي شرحه في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السماء أنه (صلّى اللّه عليه و آله) في جميع حالاته يطلب رضاء اللّه تعالى و ينتظر أمره، و أن طلبه- بلسان الحال دون المقال، لكونه أقرب إلى أدب العبودية و ابلغ إلى نيل المقصود.
ثم إنّ للتوجه إلى الكعبة المقدسة نحو ابتهاج للكعبة ابتهاجا معنويا لأن التوجه في العبادة إليها، و الطواف حولها كاشف عن غاية عناية اللّه تعالى بها.
و هي نهاية الابتهاج لكل موجود، و يشهد له ما ورد في توجيه الموتى عند الدفن إلى الكعبة ففي الحديث: «كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة و أنه حضره الموت و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و المسلمون يصلون إلى البيت المقدس فأوصى البراء إذا دفن أن يجعل وجهه تلقاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى القبلة فجرت به السنة».

للّه تعالى أسماء عبر عنها بالأسماء الحسنى، قال اللّه تعالى: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [سورة الأعراف، الآية: 180]، و قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [سورة طه، الآية: 8]. و قد وردت في شأنها و إحصائها أخبار كثيرة من الفريقين، سيأتي التعرض لها في محله إن شاء اللّه تعالى. و قد وضعوا في شرحها كتبا من العامة و الخاصة، و من تلك الأسماء المقدسة (الرؤوف)، كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ورد في الآيات المتقدمة: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. و اللفظ من صيغ المبالغة، و لا مبالغة بالنسبة إليه عزّ و جل؛ لأن صفاته الجمالية و الجلالية غير متناهية من كل جهة كذاته الأقدس، فالمبالغة من جهة الإضافة إلى المتعلق.
و الرؤوف من صفات الذات لا من صفات الفعل، و قابل للتشكيك شدة و ضعفا باعتبار المتعلق لا باعتبار الذات.
و الرأفة بالمعنى اللغوي لا يمكن إطلاقها عليه تعالى، و هي بمعنى اللطف بعباده و التساهل معهم، و لا تكاد تستعمل في الكراهة بخلاف الرحمة فإنها قد تكون في الكراهة للمصلحة. و لم تستعمل في القرآن الكريم- غالبا- إلّا مقرونة مع الرحمة و مقدمة عليها كذلك في أغلب الدعوات المأثورة أيضا و هي أرق منها. فيكون من تقديم الخاص على العام، لأن الرحمة نحو محبة خاصة تستعمل غالبا في دفع المكروه و إزالة الضرر عن الغير.
و الرأفة تستعمل غالبا في إيصال النفع إليه، فيكون معنى قوله تعالى: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي يدفع المكاره و المضرات و يوصل المنافع و هما من مظاهر ربوبيته العظمى و قيموميته المطلقة على جميع ما سواه .
كما أنّ غالب استعمالاته إنما هو بالنسبة إلى ذوي العقول و العباد و المؤمنين، و لم نجد في القرآن العظيم استعماله بالنسبة إلى سائر الخليقة من الحيوان و النبات.
و حقيقة معنى الرأفة مما يدرك و لا يوصف خصوصا إذا أضيفت اليه عزّ و جل، كسائر الصفات المضافة إليه تعالى، و جميع ما ذكره اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون قول من وراء الحجاب لا يصلح لإزالة الشك و الارتياب، فحقيقتها مجهولة و إن كانت أخصيتها من مطلق الرحمة معلومة. و الرأفة تستعمل في المخلوق أيضا، قال تعالى: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور، الآية: 2]، و في بعض الدعوات المأثورة (يا أرأف من كل رؤوف)، و تأتي تتمة المقال في سائر أسماء اللّه الحسنى في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.
ثم إنّ الآيات المباركة المشتملة على الرأفة على أقسام بعضها مطلقات، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 7]، و قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر، الآية: 10]. و بعضها الآخر ذكر فيه النّاس، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 143]. و في ثالث ذكر فيه العباد، قال تعالى: وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207]، و قد ذكر المؤمنين أيضا، قال جل شأنه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]. و ليس ذلك من التقييد في شي‏ء، فإن ما سواه تعالى مورد رأفته و رحمته حدوثا و بقاء، و ذكر النّاس أو العباد، أو المؤمنين إما لأجل ذكر الفرد الأهم، أو لأجل بيان مراتب الرأفة الكثيرة. اما أن المرؤوف بهم أيضا كذلك.

القمي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. قال (عليه السلام): «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال (عليه السلام): ثم وجهه اللّه إلى الكعبة، و ذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا، لما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرائيل و أخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة، و أنزل عليه قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. و كان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود و السفهاء: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها.
أقول: قريب منه ما رواه الشيخ في التهذيب إلّا أن فيه: «و تسعة عشر شهرا بالمدينة».
و في الدر المنثور عن البراء «لما قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل اللّه تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ- الآية-. و قال السفهاء من النّاس- و هم اليهود- ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال اللّه تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ.
و رواه البخاري عن عبد اللّه بن رجاء. و في صحيح مسلم نحوه إلّا أن المدة ستة عشر شهرا.
أقول: الروايات في ذلك من طرق الخاصة و العامة متواترة في الجملة، و المشهور ان تاريخ الواقعة كان في النصف من شهر شعبان الشهر السابع عشر من الهجرة؛ و يأتي بعض الكلام في المباحث الآتية.
و في الكافي عن بريد العجلي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. قال (عليه السلام): نحن الأمة الوسطى، و نحن شهداء اللّه على خلقه و حججه في أرضه. قلت: قول اللّه عزّ و جل مِلَّةَ أَبِيكُمْ‏ إِبْراهِيمَ. قال (عليه السلام): إيانا عنى خاصة هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت، و في هذا القرآن يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. فرسول اللّه الشهيد علينا بما بلغنا عن اللّه عزّ و جل، و نحن الشهداء على النّاس، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة، و من كذّب كذبناه يوم القيامة».
و في الكافي أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. قال (عليه السلام): «نحن الأمة الوسط و نحن شهداء اللّه على خلقه».
أقول: الروايات في ذلك متواترة و ما ورد في الروايات فانه من باب التطبيق، و قد تقدم وجهه.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً إلى آخر الآية. قال (عليه السلام): «فإن ظننت أن اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا!! لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، و هم الأمة الوسطى، و هم خير أمة أخرجت للنّاس».
و في المناقب عنه (عليه السلام): «إنما أنزل اللّه: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس و يكون الرسول شهيدا عليكم. قال (عليه السلام): و لا يكون شهداء على النّاس إلّا الأئمة و الرسول. فأما الأمة فإنّه غير جائز أن يستشهدها اللّه و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا في حزمة بقل».
أقول: ذلك ظاهر لكل من تأمل في الجملة على الفرد، فكيف بالجماعة فضلا عن النّاس جميعا.
و في قرب الأسناد عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «مما اعطى اللّه أمتي و فضلهم على سائر الأمم الماضية أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبي: و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على‏ قومه؛ و إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق حيث يقول: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ- إلى آخر الحديث-».
أقول: لا بد من حمله على ما تقدم من الروايات المفصلة بقرينة ذكر التعليل فيها، بل المنساق من الرواية هي الأمة المسلمة فقط، كما مر.
و في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال (عليه السلام): «يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلّا من أذن له الرحمن و قال صوابا، فيقام الرسول فيسأل، فذلك قوله تعالى لمحمد (صلّى اللّه عليه و آله): فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً. و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل».
أقول: وجه شهادته على جميع الرسل انه غاية الكل و الغاية مفضلة على ما سواها فهو مقدم عليهم علما، و إن كان مؤخرا عنهم في الوجود الخارجي، كما ثبت ذلك في علم الفلسفة.
عن الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى‏ عَقِبَيْهِ أمره به؟ قال (عليه السلام): نعم إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم اللّه ما في نفسه، فقال تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها».
أقول: سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بالرواية.
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. قال (عليه السلام): «قال المسلمون للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ رأيت صلاتنا التي كنّا نصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ- الآية- فسمى الصّلاة إيمانا، فمن اتقى اللّه عزّ و جل حافظا لجوارحه‏ موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض اللّه عليه لقى اللّه مستكملا لإيمانه من أهل الجنّة، و من خان في شي‏ء منها، أو تعدى ما أمر اللّه فيها لقى اللّه تعالى ناقص الإيمان». و قريب منه في الكافي.
أقول: الحديث محمول على المرتبة الكاملة من الإيمان.
و في الدر المنثور: «كان من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ماتوا على القبلة الأولى جائت عشائرهم، فقالوا: يا رسول اللّه مات إخواننا و هم يصلون إلى القبلة الأولى و قد صرفك اللّه تعالى إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا؟ فأنزل اللّه وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ- الآية-».
و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه عزّ و جل قال لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و اخشع ببصرك، و لا ترفعه إلى السماء- الحديث-».
أقول: الحديث وارد في آداب الصلاة. و يمكن أن يكون المراد بالفريضة أنها كانت منشأ جعل الآداب في الصّلاة، لا أن تلك الآداب مختصة بها فقط. و قد ذكر التفصيل في الفقه، فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام‏].
و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضا قال: «استقبل القبلة بوجهك و لا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه يقول لنبيه في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».
أقول: تقدم ما يتعلق بالحديث.
و في أسباب النزول عن البراء قال: «صلينا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم اللّه عزّ و جل هوى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها». و رواه البخاري عن‏ أبي نعيم، و رواه مسلم عن أبي الأحوص.
و في الفقيه: «أن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة- الحديث-».
أقول: الروايات في مدة الصّلاة إلى بيت المقدس مختلفة، و المشهور أنها سبعة عشر شهرا في المدينة و تأتي تتمة الكلام في بحث مستقل.

الوارد في الآيات المباركة إنما هو لفظ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
و الشطر- في اللغة و العرف- جهة الشي‏ء و نحوه، كما تقدم، و لم يبين الشارع الأقدس في هذا الأمر النوعي العام البلوى خصوصية خاصة غير لفظ الشطر و التولي و التحول و نحو، و أمثالها في السنة الشريفة، و المرجع في معاني هذه الألفاظ هو العرف، لأنه المحكم في كل ما لم يرد فيه تحديد شرعي، كما هو المتبع في الفقه. و ما ورد من العلامة في القبلة من الجدي و نحوها- كما ذكر في الفقه- مجملة أيضا ليس لها كلية و ليس من عادة الشرع الإيكال إلى مثله في الأمور العامة البلوى، فهو أيضا من قرائن كون الموضوع عرفيا، فلا يعتبر إلّا صدق التوجه و التولي شطر القبلة عرفا من دون الابتناء على الدقة العقلية، و لأجل ذلك ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز الاعتماد على ما يصممه خبراء الهيئة الموثوق بهم في تعيين القبلة.
ثم إنّ المعروف بين المسلمين أنّ القبلة هي الكعبة، و قد دلت عليه الأخبار المتواترة بين الفريقين، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر، أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ركع ركعتين في قبل الكعبة، و قال (صلّى اللّه عليه و آله) هذه القبلة».
و في جوامع أخبار العامة في حديث تحويل القبلة أنه كان الى الكعبة.
و أما عن الخاصة فقد وردت أخبار كثيرة تدل على أن الكعبة هي القبلة، و في أكثرها أن الكعبة هي القبلة المحول إليها،
ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان يصلي في المدينة إلى بيت‏ المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة»، و في رواية أخرى «أنها قبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء».
و إنّما ذكر المسجد الحرام في الآيات الشريفة لأجل إظهار شأنه و عظمته للنّاس، مع إطلاق المسجد على الكعبة أيضا، اطلاق الكل على الجزء، فيجمع بين ما دل على التوجه الى المسجد و المتواترة الدالة على أن القبلة هي الكعبة أن المسجد الحرام ذكر بعنوان الطريقية الى الكعبة المقدسة.
و في بعض الأخبار: «أن الكعبة قبلة لأهل المسجد، و المسجد قبلة لأهل الحرم، و الحرم قبلة لأهل العالم» و لا معنى لذلك إلّا الطريقية الصرفة، و المسألة فقهية تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام‏].

قد وردت «اللام» في خمسة موارد من الآيات الشريفة المتقدمة مما زاد في بلاغتها و جمالها:
(الأول): لام التعليل في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ. المعبر عنها في اصطلاح الأدباء بلام «كي».
(الثاني): لام الابتداء.
(الثالث): لام تأكيد الإثبات في قوله تعالى: وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ.
(الرابع): لام تأكيد النفي في قوله تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
(الخامس): لام القسم في قوله تعالى: اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.
و «قد» في قوله تعالى: قَدْ نَرى‏ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ للتكثير كما في قول الشاعر:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني جرداء معروفة اللحيين سرحوب‏ و «كان» في قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها منسلخة عن الزمان، و إنما جي‏ء بها لبيان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) صاحب القبلتين، و ليترتب عليه قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ فلا تنافي بين ظواهر الآيات المباركة، كما زعمه بعض المفسرين.
و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مؤكدة بأنحاء التأكيدات المحاورية من لام القسم، و إن الشرطية الظاهرة في فرض التحقق فضلا عن أصله، ثم لام التأكيد، ثم تعريف الظالمين و الجملة الاسمية و غير ذلك.
ثم إنّ المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون: أن أدوات الشرط مثل «إن» و «لو» و نحوهما تدل على عليّة المقدم للتالي، أي: انتفاء التالي عند انتفاء المقدم، و رتبوا على ذلك ثبوت المفهوم للجمل الشرطية على ما فصل ذلك في علم الأصول. و هذا من موارد اشتباه العنوان الكلي ببعض المصاديق الخارجية، فإن أدوات الشرط مطلقا، و ما يرادفها من سائر اللغات لا يستفاد منها إلّا جعل متلوها مورد الفرض و التقدير، و الترتب بأي قسم من أقسامه. و أما خصوص ترتب المعلول على العلة فلا بد في استفادته من التماس دليل آخر عقلا، أو نقلا فضلا عن العلية التامة المنحصرة.
و في المقام يدل العقل و النقل على أن متابعة الهوى بعد ظهور الحق، و ثبوته ظلم فيكون أصل الترتب ظاهرا من سياق الجملة، و العلية التامة المنحصرة ثبتت بالدليل العقلي و النقلي، بل من ظاهر التأكيد في الآية المباركة بلام القسم، كما عرفت.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"