1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات ۱۳٥الى ۱4۱

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (۱۳٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (۱۳٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (۱٤۰) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (۱٤۱)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في ما سلف من الآيات المباركة حقيقة ملة إبراهيم (عليه السلام) و أنّها التوحيد الخالص و الاستسلام للّه تعالى، و بيّن أنها دين اللّه تعالى الواحد على لسان الأنبياء و إن اختص كل واحد منهم ببعض الأحكام بحسب المصالح.
بيّن سبحانه في هذه الآيات أنّ أهل الكتاب قصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين عن غيره و جهلوا الحقيقة المشتركة بين الأديان، فادعى كل واحد أن دينه الحق و غيره على الباطل، و أن أنبياء اللّه تعالى على دينهم، فأبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم و حكم بأن الإيمان باللّه جلّ شأنه، و ما أنزله تعالى و الاستسلام لأمره هي الحقيقة المطلوبة لدى الأنبياء من دون فرق بين أحد منهم، و أنّ ذلك هو دين الفطرة التي أودعها في الإنسان و لا دخل لأحد فيها، فمن كان محاجا في ذلك فهو في شقاق.
ثم أقام الحجة على ذلك بأنه تعالى هو الرب و المدبر للجميع، و أنه لا علم لهم بأن الأنبياء السابقين على دينهم كيف و قد بشروا بنبوة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و هم قد كتموه.
و ختم الكلام بأن كل واحد له جزاء عمله فلا يسئل عما يفعله غيره. فعلى كل فرد أن يجتني ثمار أعماله.

قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا. الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب، و (أو) للتنويع، و الجملة لبيان عقيدتهم. أي: قالت اليهود إنّ دينهم على الحق و أنّ الهداية محصورة في اليهودية، و كذلك ادعت النصارى، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان، و أنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير و التبديل، و طرق الهداية منحصرة في دينه، و مقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه، و هذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشي‏ء و يرى صحته، و هو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته و بطلان غيرهما، و قد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم، فقال مخاطبا لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) إتماما للحجة و البيان، و تلقينا للبرهان، و تثبيتا لشريعته و نبوته، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي و قول الموحى اليه في الحجية، و توطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.
قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي: الميل من الضلالة إلى الهداية و من الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق، و هي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.
و قد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة آل عمران، الآية: ۹٥] و قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۱] و قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة النحل، الآية: 120]. و تطلق على أصل الملة و الدين أيضا، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [سورة الروم، الآية: 30]. و في الحديث: «أحب الأديان إلى اللّه تعالى الحنيفية السمحة».
و الوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم و ملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين، عبدة الأوثان و قد جاهد (عليه السلام) في دعوتهم الى التوحيد و نبذ الأوثان و عبادتها و ابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره اللّه تعالى لأقصى درجات الخلة و الإمامة و منحه الملة التي‏ كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى- اليهودية و النصرانية و الإسلام- مع أنه (عليه السلام) يعتبر مؤسس حركة التوحيد في العالم، و به ابتدأت الشرايع الإلهية. و أما شرايع من قبله من الأنبياء فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها اللّه لملة إبراهيم، و لذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية و الكاملة في التوحيد و نفي الشرك. و الارتقاء في معارج الكمال، و قد أنزلها تبارك و تعالى حسب المصالح و مقتضيات الظروف حتّى انتهى الأمر إلى الإسلام الدين الجامع لجميع الكمالات و المشتمل على أقصى المعارف الإلهية.
و من ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف و بيان المأخذ لا وجه له، بل هو اختلاف مصداقي. و الجامع هو الصحة و التمامية و السهولة و عدم الضيق و الحرج.
و إنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه السلام) و أمرهم باتباع ملته لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتديا، بل يعتبر إمام المهتدين، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحا لكان إبراهيم (عليه السلام) غير مهتد، و هم لا يقبلونه.
و من ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام)، و أن موسى و عيسى (عليهما السلام) أيضا كانا متبعين لملته لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم، و المبني على التوحيد و الإخلاص و نفي الشرك، و الحق أحق أن يتبع.
قوله تعالى: وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. أي لم يكن إبراهيم من المشركين باللّه تعالى. و فيه إشارة إلى اختلاط اليهودية و النصرانية المخترعتين لنوع من الشرك و التناقض على ما يأتي تفصيله.
قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ. الأسباط جمع سبط و هو بمعنى الانبساط في سهولة، و سمي ولد الولد سبطا لانبساطه و تفرعه من الجد. و منه‏ سمى الحسن و الحسين (عليهما السلام) سبطي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).
و الأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. و كانوا اثنى عشر سبطا كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب، كل واحد منهم أمة و جماعة من النّاس، قال تعالى: وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [سورة الأعراف، الآية: ۱٦۰] و لذلك لم يستعمل في القرآن إلّا جمعا. و سموا بذلك أيضا في التوراة و غيرها.
و النزول مساوق للإيتاء في الجملة، لأنه يشمل الجواهر و الأعراض و التشريعات قال تعالى: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ [سورة الحديد، الآية: ۲٥] و قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى‏ [سورة الأعراف، الآية: ۲٦]. و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجرات، الآية: 21]. و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [سورة المائدة، الآية: ٤٤] إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم التي هي كثيرة جدا بهيئات مختلفة. فأصل المادتين- الإيتاء و الإنزال- متحدتان في جامع قريب هو الإيصال و الوصول، إلّا أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة بخلاف الإيتاء، لكنه إذا أضيف الممكن إلى الواجب بالذات و المخلوق إلى الخالق الغني بالذات ينطبق عليه الانحطاط من العلو- لوحظ ذلك أو لم يلحظ-، فكل إيتاء منه عزّ و جلّ إنزال دون العكس.
و لعل الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) و من تبعه بالإنزال للإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية و الملة الحنفية فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب.
ثم إنه قد يستدل على أنّ الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة، و بقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى‏ [سورة النساء، الآية: ۱٦۳].
و فيه: أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي و إبقائه و مناط النبوة هو الأول دون الثاني، فيكون من حفظ الوحي غير من أنزل الوحي عليه ابتداء، كما ستعرف قريبا.
و في بعض الأحاديث: «إن اللّه تعالى جعل النبوة في ولد بنيامين و نزعها من ولد يوسف» و عن أبي جعفر (عليه السلام) نفي كون الأسباط أنبياء؛ و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء.
و من ذلك يظهر الوجه في‏ قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي في جهة حفظ الدين و الوحي المبين فان العلماء أمناء اللّه تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا.
و هذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف و العصبية و الأهواء، و هي تدعو الناس إلى الوحدة و الاتحاد بين جميع أفراد البشر في المبدأ و التشريع و المعاد، و الترغيب إلى الإيمان بأصل الدين الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء اللّه تعالى. فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي كذلك لا بد و ان يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. و الاختلاف إنما ينشأ من المصالح الزمنية، و ما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان، كما أنه يختلف حفّاظ الوحي باختلاف العصور و القرون.
و المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن و جميع المعارف و التشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و باعتبار النزول عليه و على سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.
كما أن المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلى‏ إِبْراهِيمَ الصحف التي أنزلت عليه و ملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) باتباعها.
و إنّ المراد بما أنزل على إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط ذلك أيضا، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علما و عملا و بيانا، و إلّا لم يعهد نزول كتاب عليهم كما أن علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كذلك، كما عرفت.
قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجي‏ء، بسهولة، و تستعمل في الأعيان و الأعراض، و الخير و الشر. و الكل مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، و قال تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [سورة التوبة، الآية: 70]، و قال تعالى: وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى‏ بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: ٤۷] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و ما اوتي موسى و عيسى عبارة عن التوراة و الإنجيل و ما حباهما اللّه تعالى من كرامة الوحي و سائر المعجزات الباهرات. و إنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما، و لأن المقام مقام المحاجة مع اليهود و النصارى و الإحتجاج عليهما. و إلّا فهما كسائر أنبياء اللّه تعالى يدعوان إلى التوحيد و الإسلام، و لذا أكد سبحانه و تعالى بعد ذلك بقوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. فلم يكن ذلك خاصا بموسى و عيسى، فيكون تعميما بعد التخصيص، و إيضاحا للسبيل، و إتماما للحجة. و الإشارة إلى أن أنبياء اللّه تعالى متحدون في الدعوة إلى الحق، و هو أيضا أعم من المعارف التشريعية و المعجزات التي خص اللّه تعالى بها كل نبي.
قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. أي: قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل و الأنبياء و نحن للّه تعالى مسلمون.
قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا. (الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط، و لفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها جي‏ء به إتماما للحجة، و قطعا للخصومة، و هذا شايع و متعارف عند الناس فليست الكلمة زائدة بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.
قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ. التولي هو الإعراض‏ و مادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب و الخرم، و يلزمهما الفصل و التجزئة. و هي تستعمل في القرآن كثيرا، قال تعالى: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [سورة عبس، الآية: ۲٦]، و قال تعالى: وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [سورة الحج، الآية: ۳٥]، و قال تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ [سورة ص، الآية: 2].
و للشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول و الفروع و الأخلاق، و الشقاق بالنسبة إلى اللّه و رسله بمعنى الكفر و الضلالة؛ فالكافر في شق و المؤمن في شق، و المصلي في شق و تارك الصلاة في شق آخر، و العادل في شق و الفاسق في شق آخر و هكذا. فكل شي‏ء و غيره يمكن أن يكونا من شقين و لو كانا من صنف واحد في الجملة.
و في أحاديث آخر الزمان: «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين».
أي بحذاقته و فكره.
قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. كفى يأتي بمعنى سدّ الخلة و بلوغ المراد في الأمر، قال تعالى: وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [سورة الأحزاب، الآية: ۲٥]، و قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر، الآية: ۹٥] و غير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها. فهو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم و ما في ضمائرهم و ما يقدّره على عباده و ما ينفذه فيهم، فهو الكافي من كل شي‏ء و لا يكفي منه شي‏ء.
و الآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم، بأن يقال: الإيمان بالأنبياء و الرسل سبب للهداية فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد، فاليهود و النصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء و الرسل و كل من كان كذلك فهو في شقاق مع اللّه و رسله، فاليهود و النصارى في شقاق مع اللّه و رسله و كذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع اللّه و رسله، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع. و أما الأثر المترتب عليه فهو أنّ اللّه تعالى يكفي أنبياءه و رسله و المؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق و نفاقهم، كما يقتضيه نظام التكوين و التشريع.
و في الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر و وعد لهم بالكفاية و لن يخلف اللّه وعده، و قد ظهر صدقه مرارا. و سيظهر كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان. كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و رسالته.
قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. الصبغة اسم للكيفية الحاصلة من صبغ الشي‏ء. فكما أنّ للأجسام ألوانا تظهر للبصر، كذلك للنفوس و الأرواح، ما هو بمنزلة اللون يظهر لأهل البصائر و البصيرة من بياض و سواد، و صفاء و كدر، و نور و ظلمة، و طهارة و خباثة.
و تضاف إلى اللّه تعالى تارة: إذا حصل من الإيمان باللّه و ما أنزله على رسله و الاستسلام لأمره. و إظهار العبودية له عزّ و جلّ و هذا بياض معنوي، بل لمعان أنوار في النفس بحيث يكون نورا في ذاته و منورا لغيره، و لها مراتب كثيرة و درجات متفاوتة. و أخرى: تضاف إلى غيره تعالى، و هي الظلمة و الكدورة التي تحجب عن مبدأ النور.
فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان الذي تجتمع فيه الشرايع الإلهية على ما يأتي من التفصيل المعبر عنها بالفطرة السليمة، و ما سوى ذلك ليس من صبغة اللّه تعالى؛ فصبغة اللّه تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي و معنوي، و لا يمكن أن تجتمع مع الشرك و الكفر و النفاق و الرذائل النفسانية فلا تتأثر بالتقاليد و الأهواء و العصبية، و إنما هي من صنع اللّه تعالى التي تبقى و تدوم، و هي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه. و هي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية التي يظهر أثرها الكريم من التوحيد و الأخلاق الفاضلة و الأعمال الشريفة من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية التي هي في اضطراب و تعدد و تفرق.
فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم- مع ما هم عليه من الكفر- إلّا إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقا بالقرآن فحينئذ ينفعهم التعميد لأنه من دين اللّه.
و بالجملة: صبغة اللّه ترجع إلى ارتباط العبد مع اللّه تعالى بنحو ما يشاء اللّه تعالى و يريده لا بما يشاؤه العبد و يريده، كما يدل عليه صدر الآية المباركة و ذيلها، فان قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ. و قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ بيان للصبغة و العلة لتحققها، و الإيمان و العبودية إنما يتحققان بما يشاء اللّه المعبود بالحق لا بما يشاؤه العابد.
و من ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام، أو ملة إبراهيم، أو دين اللّه كل ذلك صحيح و ينبئ عن شي‏ء واحد. و هو: التوجه إلى اللّه تعالى و الانقطاع عن غيره؛ كما سيأتي في البحث الروائي.
ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى اللّه تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، كما تنسب إلى العبد نسبة الشي‏ء إلى قابله، و كل منهما على نحو الاقتضاء لا العلية التامة.
و من ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات و المورد و الفاعل، فأصل اللون هو التوحيد و الإيمان و مكارم الأخلاق، و مورده المؤمن، و فاعله هو اللّه عزّ و جلّ، و غايته السعادة و الخلود في الجنان. و من آثارها العبودية التي كنهها الربوبية، فلا يتصور في العالم شي‏ء أفضل و أحسن من هذه الصبغة، و فيها قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].
قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ. أي: لا نشرك في العبادة و الألوهية غيره تعالى. و هو في موضع الحال، و بيان العلة لأحسنية الصبغة. كما أن نصب «صبغة اللّه» بالفعل المقدر، أي: اتبعوا، أو بدل من ملة إبراهيم، و إن كان الأخير هو الأوفق، كما عرفت.
ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة:
الأول: ما تكون للدنيا و من الدنيا و فيها أيضا و لا تتجاوز عنها و هذا هو الكثير الذي ابتلي عامة النّاس به و لا ربط له بصبغة اللّه تعالى أبدا. نعم هو مورد قضاء اللّه و قدره.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏2، ص: 75
الثاني: ما تكون للدنيا و الآخرة معا بحيث يجعل الدنيا وسيلة و ذريعة للوصول إلى الكمال الأخروي.
الثالث: ما تكون للآخرة فقط بحيث لا نظر إلى الدنيا إلّا على نحو الآلية و المرآتية، كما قال علي (عليه السلام): «صحبوا الدنيا أبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى».
و القسمان الأخيران من صبغة اللّه؛ و لكل منهما درجات متفاوتة و مراتب كثيرة.
قوله تعالى: قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ. المحاجة:
المجادلة، و مادة (ح ج ج): تأتي بمعنى القصد و الطلب و منه «حج البيت»، و حيث أن كل واحد من المتخاصمين و المتنازعين يطلب الغلبة على الآخر و يقصد جذبه أطلقت عليه المحاجة.
و تستعمل في كل من الحق و الباطل؛ قال تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ [سورة الأنعام، الآية: 83]. و قال تعالى: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ [سورة الأنعام، الآية: 80]. و العلوم الاستدلالية مشحونة من الإحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين، و العلماء وضعوا علما مستقلا مفصلا لبيان الحجة الصحيحة مادة و صورة و التمييز بينها و بين أنحاء المغالطة.
و المعنى: أ تجادلوننا في اللّه و تدعون أنكم أحباء اللّه و أبناؤه و الموحدون له و ان دينكم الحق، و أن النبوة فيكم مع أنّ رحمته وسعت كل شي‏ء و كل عبيده و لا تختص رحمته بقوم دون آخرين، و جميع تلك المقترحات باطلة، و أن اللّه يختار ما يشاء و ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: ٦۸]، و كيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ، و الجميع عباده، و رحمته واسعة؛ و هو الرب و الكل مربوبون له.
قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ. مادة خلص؛ تأتي بمعنى ذات الشي‏ء و خاصته و زوال كل ما يشوبه و ينافيه، و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [سورة ص، الآية: ٤٦]، و قال تعالى فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [سورة الزمر، الآية: 2]، و قال تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: ٤۰]، و قال جل شأنه: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و كل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده و رتبته، و قد قال علي (عليه السلام): «بالإخلاص يكون الخلاص، و طوبى لمن أخلص للّه العبادة و الدعاء».
و هو من الأمور الإضافية فيضاف إلى أصل التوحيد تارة بدرجاته، و في مقابله الشرك بمراتبه. و إلى العبادة أخرى، و في مقابلها الرياء بمراتبه. و إلى سائر الأعمال ثالثة، و في مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق، و الجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.
و العلماء و العرفاء ذكروا للخلوص و الإخلاص معاني متعددة، فعن الفقهاء ان معناه إتيان العمل للّه تعالى، بأن يكون الداعي على إتيانه هو اللّه تعالى؛ و قد فصلنا القول فيه في الفقه. و عن بعض العرفاء: إن الإخلاص؛ سر من أسرار اللّه تعالى يستودعه قلب من يحب من عباده. و عن آخر: إنه لا يحب أن يحمد على شي‏ء من عمله. و قد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.
و الحق إنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جدا، فأولى مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو اللّه تعالى، و أقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى و في هذه المرتبة أيضا درجات غير محدودة حتّى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في اللّه الذي هو عين البقاء باللّه تعالى. و بالجملة أصل الحقيقة وجدانية عملية، لا ان تكون قولية بيانية؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها و إن كثرت و العبارات عن شرحها و إن تعددت.
و المعنى إنّ التفاضل يأتي من ناحية الأعمال فكل امرئ رهين عمله إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و المدار على الإخلاص، و فيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.
و الآية من الآيات التي تبين كيفية رد من يخاصم الإسلام سواء أ كان من أهل الكتاب أم من غيرهم، و نظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [سورة الشورى، الآية: ۱٥] و هذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.
و المستفاد منها أن منشأ النزاع و التخاصم مع دين الإسلام إما أن يرجع إلى المبدأ، أو إلى المعاد أو إلى أحقية دين الإسلام، أو إلى جهات أخرى دنيوية. و جميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.
أما الأول: فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية و البراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ؛ و قد أشار إليه سبحانه و تعالى بقوله: اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ.
و أما الثاني: فلأنّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الإعتقاد بالمبدإ فهما متلازمان ثبوتا و إثباتا، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و هو من قبيل ذكر اللازم و إرادة الملزوم.
و أما الثالث: و هو أحقية الإسلام- و يندفع بالآيات البينات و المعجزات الباهرات، و إليه يشير قوله تعالى: وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ.
و أما الرابع: و هو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود و النصارى فإخلاص دين الإسلام للّه عزّ و جل ينفي ذلك كله، إذ لا معنى للدين الخالص الا ما كان له تعالى، فكل ما سواه باطل خصوصا ما يتعلق بمعبوديته و عبادته.
قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏. بيّن تعالى حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان و أتم حجة أي: أ تقولون إن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، و أن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند اللّه و لا ينجو أحد إلّا بهما و أن ما عداهما كفر و ضلال؟!!: كيف و قد كان إبراهيم (عليه السلام) و أبناءه و أحفاده على الملة الحنفية المرضية- التي بدأت بخليل الرحمن و ختمت بسيد المرسلين- الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ و المعاد. و الأحكام الشرعية، و البداهة و البرهان تدلان على كذبهم، و أن اليهودية و النصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده بقرون، و هذا ادعاء باطل، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران، الآية: ٦٥]. إلّا إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت فأوصوا لأعقابهم بالتهود و التنصر، و هذا كسابقه باطل، و لذا رد عليهم سبحانه.
و في قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ توبيخ و تعيير لهم بابطال جميع محتملات كلامهم ثم إظهار ما هو الحق.
و «أم» متصلة و معادلة لما قبلها أي: إن كانت المحاجة في اللّه تبارك و تعالى فأنتم و المسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل. و إن كانت في أن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، فهو خلاف الوجدان و البرهان، لأن التوراة و الإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون. و أن اللّه هو الجاعل للنبوة لإبراهيم و أولاده و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم.
قوله تعالى: قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. أي: أنتم أعلم بالواقع مع ادعائكم الباطل أم اللّه الذي أخبر بأن إبراهيم كان حنيفا و أنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة اللّه إلها واحدا. كما عرفت، و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم. و لا ريب في أنهم يعترفون بالثاني فيكون ادعاؤهم باطلا.
قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ. كتم بمعنى ستر، و كتم الشهادة أي سترها. و هو و شهادة الزور من المعاصي‏ الكبيرة. و المراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل، كما هو الظاهر، فيكون التوبيخ و التعيير حقيقيا لأجل كتمان الواقع و إيقاع النفس في الكبيرة الموبقة و الهلاك الأبدي، و مثل هذا كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [سورة الأنعام، الآية: 21]، و قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ [سورة الزمر، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و المراد بالمشهود عليه إما رسالة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و قد أخبر اللّه تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبيا من إخوتهم و يجعل كلامه في فيه، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، و قد كتموا هذه الشهادة تعصبا و إنكارا للحق. أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه السلام) كان على دين الحق و الإسلام و الملة الحنيفية و لم يكن يهوديا و لا نصرانيا، و قد كتموا الشهادتين ظلما.
و من المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء أي من أظلم من اللّه لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا أو نصرانيا، و قد بيّن خلافها، فيكون الشرط تقديريا، و يصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتّى مع امتناع المتعلق، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية و ما في سياقها.
و يكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح، و فيه من المفسدة العظيمة و لا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية و الأمور الدينية فيكون أظلم، و لذا أوعد عليه تبارك و تعالى.
قوله تعالى: وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. تقدم معنى الغفلة في آية (۷٥) من هذه السورة. و قد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيرا، قال تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة النمل، الآية: 93]، و قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة آل عمران، الآية: 99] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. و بعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قيومية تستحيل الغفلة بالنسبة إليه جل شأنه، لأنه من الجمع بين‏ النقيضين، فالغفلة منه ممتنعة و تقع من عباده بالنسبة إليه تعالى، و لها مراتب كثيرة جدا. هذا و لكن ليس من القبيح عقلا و لا شرعا غفلته تعالى عن سيئات عباده، و هي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك و تعالى عنها.
قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ. تقدم معناها و إنما كررت تأكيدا لسوء أخلاقهم، و بيانا لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث لطائفة، و هم الأنبياء و الرسل، و الأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى، أي: أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد و معاملتهم مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
و الآية المباركة تشير إلى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق و الإصرار على الباطل، و الافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها، و التعلل زورا بمن مضى. و في تكرارها تأكيد أيضا إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح الذي أكد القرآن الكريم عليه، فكل يجزى بعمله، و لكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة كما لا دل عليها، فان انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا و الآخرة مما لا ريب فيه عقلا و شرعا فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئا؛ قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الإنفطار، الآية: 19] التي لا تنفي الشفاعة، و سيأتي الكلام في الشفاعة مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

مما تتضمنه الآيات السابقة كيفية المحاورة و المجادلة مع الخصم و محاجته، فقد أقام سبحانه و تعالى أربع حجج على بطلان ما ادعاه أهل الكتاب بأسلوب يقبله الطبع السليم متدرجا من ما هو المتسالم عند الخصم، ثم إلزامه بنتيجة مدعاه، ثم تلقينه بما أراده سبحانه. و للقرآن الكريم منهج رفيع في احتجاجاته و مراعاة الأدب الكامل في هذه الجهة؛ و ملاحظة مدركات الخصم كمية و كيفية، ثم الترقي من الداني بأسلوب رصين، قال‏ تعالى: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل، الآية: ۱۲٥]. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الجهات قولا و عملا و وضع أهل الفلسفة العملية في ذلك كتبا و رسائل نافعة من المسلمين و غيرهم.
و من تأكيد القرآن الكريم على مراعاة تلك الجهات يستفاد أنه لا بد للعلماء و أهل النظر من رعاية ما ورد في الكتاب و السنّة، و ما وضع في الفلسفة العملية في منهج التعليم و التربية ليكون ذلك داعيا إلى إقبال النّاس على العلم، و أثبت في تكميل النفوس؛ و أشد ربطا لقلوب المتعلمين بالمعلمين و المربين.

في تفسير العياشي في قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قال الصادق (عليه السلام): «إن الحنيفية هي الإسلام».
أقول: لأنه تبارك و تعالى أمر نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) باتباع ملة إبراهيم، فأصل الحنيفية جامع بين ملة إبراهيم (عليه السلام) و دين محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و لو فرض اختلاف فهو جزئي بحسب اختلاف الظروف.
و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما أبقت الحنيفية شيئا حتّى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان».
أقول: هذه الرواية ظاهرة في أن جميع المعارف الإلهية و الأحكام التشريعية العملية داخلة في الحنيفية حتّى الجزئيات التي ندب إليها الشرع بالنسبة إلى التزيين و التطهير، كما في الحديث الآتي، فيكون قد ذكر الأدنى ليعرف أنّ شمول الحنيفية للأعلى بالفحوى.
و في تفسير القمي قال: «أنزل اللّه تعالى على إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة أشياء، خمسة في الرأس، و خمسة في البدن. فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و طمّ الشعر، و السواك، و الخلال. و أما التي في البدن: فحلق الشعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و هي الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم ينسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة».
أقول: قد ورد ذلك في عدة روايات عن العامة و الخاصة، و لكل ذلك آداب و شروط مذكورة في كتب أحاديث الفريقين و فقههم و طمّ الشعر جزّه، أو قصه في مقابل الحلق، و منه الحديث: «ثلاثة من اعتادهنّ لم يدعهنّ: طمّ الشعر، و تشمير الثوب، و نكاح الإماء». و تقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة.
و في أسباب النزول في قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا. قال ابن عباس: «نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف، و مالك بن الصيف، و أبي ياسر بن أخطب. و في نصارى أهل نجران، و ذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين اللّه تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى (عليه السلام) أفضل الأنبياء، و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان؛ و كفرت بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و محمد و القرآن. و قالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان. و كفرت بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و القرآن، و قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دين إلّا ذلك و دعوهم إلى دينهم».
أقول: هذه شيمة كل من كان على الجهل المركب، و اعتقد بحسر شي‏ء مع عدم التوجه إلى غيره.
و في تفسير العياشي عن حنان بن سدير عن الباقر (عليه السلام) في الأسباط قال (عليه السلام): «إنهم كانوا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا».
أقول: و مثله ورد في عدة روايات، و الحديث نص في كونهم أولاد الأنبياء لا منهم، كما يدل على أن ما صدر منهم ليس منقصة لهم بعد تحقق التوبة منهم.
و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه سبحانه: صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً. قال (عليه السلام): «الصبغة هي الإسلام».
أقول: ورد ذلك في عدة روايات، و تقدم ما يدل على ذلك.
و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ. قال (عليه السلام): «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق».
أقول: هذا من باب التطبيق بالنسبة إلى بعض مراتب الصبغة، فان لها مراتب كثيرة، كمراتب الإيمان و الإسلام، و ذلك لا ينافي عموم الآية المباركة بالنسبة إلى جميع أهل التوحيد.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا قال (عليه السلام): «إنما عنى بذلك عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة (عليهم السلام)».
أقول: رواه العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).
و هذا من باب التطبيق على بعض خواص أهل الإيمان فلا ينافي تعميمه بالنسبة إلى الجميع.
و في الفقيه في وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: «و فرض على اللسان الإقرار و التعبير عن القلب بما عقده عليه، فقال عزّ و جل: قولوا آمنا باللّه و ما أنزل إلينا».
أقول: الحديث في مقام بيان لزوم الموافقة بين مقام الإثبات و مرحلة الثبوت، فإن الأول يعرف باللسان و البيان، و الثاني بالاعتقاد و عقد القلب.

قد شاع بين الفلاسفة و المتكلمين أن الذاتي غير قابل للتغيير و التبديل و يعتبرون ذلك من القواعد المسلّمة بينهم. و كلامهم هذا يشمل كلا قسمي الذاتي أي: ما هو داخل في الذات، كالجنس و الفصل. و ما هو خارج عنه‏ و لازم للذات- المصطلح بذاتي باب البرهان- أي لازم الماهية، كالزوجية للأربعة. و تكرر في كلمات ابن سينا «أنه ما جعل اللّه تعالى المشمش مشمشا بل أوجده». و الأصل في هذه القاعدة يرجع إلى عدم إمكان الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و لوازمها، و أطالوا القول في ذلك بإيراد شواهد و مؤيدات.
و الحق أن يقال: إن ذلك و إن كان صحيحا في الجملة بالنسبة إلى الجعل و القدرة الإمكانية لأنها هي التي تقع مورد الإدراك الإنساني و الفهم البشري.
و أما أنّها كذلك حتّى بالنسبة إلى القدرة الأزلية التي غاية ما يمكن دركها للعقول إنما هي نفي العجز عنه تعالى- كما في الحديث- فهو تعالى قادر أي: لا يعجزه شي‏ء، و لا يصح قياس ما هناك على ما نتعقل إلّا أن يكون تحديدا في قدرته على ما نتعقله، و هو مناف لعموم قدرته و قيموميته تعالى من كل حيثية وجهة، و في الحديث: «هو الذي أين الأين؛ و كيف الكيف».
و في حديث آخر: «إن اللّه تعالى مجسّم الأجسام و موجدها».
إن قلت: بعد ما ثبت استحالة الجعل التأليفي، فكلما ورد من مثل هذه الأحاديث لا بد من حملها و تأويلها. فإن قدرته لا تتعلق بالمحال، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.
قلت: الاستحالة إن كانت من البديهيات الأولية، فلا بد من الحمل أو التأويل، كما ورد في حديث جعل الدنيا في البيضة. و إن كانت من النظريات القابلة للبحث و الجدل، فقدرة اللّه تعالى تكون فوق ذلك كله.
و بناء على ذلك يمكن أن تدخل صبغة اللّه تعالى و فطرته، و السعادة و الشقاوة تحت قدرته؛ بل هي ليست من الذاتيات الأولية، و لا من لوازم الذات حتّى تقع مورد النقاش، و إنما هي أعراض خارجة عن الذات لها دخل في الذات على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة المنحصرة، و إلّا لطرأ البطلان على جملة كثيرة من مسائل المبدأ، و المعاد، كما سنبينها في المباحث المستقبلة إن شاء اللّه تعالى. و في بعض كلمات الأقدمين من فلاسفة اليونان أن القيوم المطلق: «مذوت الذوات».
و يمكن الجمع بين شتات الكلمات أن القاعدة التي أسسوها من عدم إمكان الجعل التأليفي بين الذات و ذاتياته. أي في مورد الجعل الاستقلالي، و أما الجعل التبعي فلا محذور فيه من عقل، بل قد وافقه النقل، و للمقام تفصيل يطلب من محله.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"