1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 127 الى 129

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)


يذكّر سبحانه و تعالى النّاس في هذه الآيات المباركة بأن الذي بنى هذا البيت الشريف- الذي يعود لهم بالنفع العظيم- هو إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) أبوا هذه الأمة و أن الرسول الذي ظهر فيهم إنما هو من دعائه و أن ملته هي ملة أبيهم إبراهيم فلا عذر لهم في الكفر و الإعراض عن ملة أبيهم مع ما هم عليه من التفاخر بالآباء و يستفاد من الآيات عظمة البناء و الباني.

قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ. مادة (رفع) تستعمل فيما يشتمل على العلو نقيض الخفض، و تختلف باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا، كما تختلف موارد استعمالاتها بين الجواهر و الأعراض و الصفات و الشؤون و الاعتباريات قال تعالى: وَ السَّماءَ رَفَعَها [سورة الرحمن، الآية: ٥۷]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الإنشراح، الآية: ٤]، و قال جلّ شأنه: وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10] و قال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [سورة غافر، الآية: ۱٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و القواعد جمع القاعدة و هي تأتي بمعنى الثبوت و الاستقرار في مقابل الحركة، و سمي أساس البيت و البناء قاعدة لثباته و استقراره قال تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [سورة النحل، الآية: ۲٦] و سميت القاعدة العلمية قاعدة لثباتها و تفرع مسائل عليها. و رفع القواعد هو البناء عليها.
و يحتمل أن يراد بالبيت و القواعد و الرفع المذكور في الآية المباركة المعنى الأعم من رفع البيت الجسماني و قواعده و رفع بيت النبوة و التشريعات السماوية فإن أساسها من إبراهيم (عليه السلام).
و في الآية المباركة تلميح إلى أن رفع البيت و بناءه كان من إبراهيم (عليه السلام) لنسبة الرفع إليه وحده و أنّ إسماعيل كان يساعده و يعمل له.
قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تقدم معنى الرب في قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 2] و قد ذكرنا هناك أنّ في هذا الاسم المبارك مزية لا توجد في غيره من الأسماء المقدسة، و لذا لا يكون دعاء في القرآن- خصوصا دعوات هذا النبي العظيم- إلّا و هو مبدوّ بهذا الاسم: و القبول من المفاهيم المبينة عند العرف، و له مراتب و هو (عليه السلام) يطلب جميعها حتّى جنّة اللقاء التي هي أرفع المقامات المعنوية.
و السمع إذا استعمل في الإنسان فهو إدراك خاص بقوة خاصة في مقابل‏ البصر و سائر التقوى الظاهرة. و إذا استعمل في اللّه تعالى كان معناه انه لا يخفى عليه المسموعات، و يرجع إلى علمه الأزلي بجميع ما سواه. و قد وردت مادة السمع في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، كما ورد السميع العليم بالنسبة إليه عزّ و جل كثيرا جدا قال تعالى: وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: ۷٦]. و تستعمل فيه عزّ و جل أيضا بمعنى الجزاء و ترتب الأثر مثل «سمع اللّه لمن حمده».
و في ذكر العليم إشارة إلى أنه تعالى يعلم بتحقق شرائط استجابة الدعاء التي من أهمها الخلوص و الإخلاص و الانقطاع اليه عز و جل. و قد استجاب اللّه تعالى دعواته (عليه السلام). و يستفاد من الآية المباركة أن محل البيت كان موجودا قبل بناء إبراهيم (عليه السلام) و هو رفع قواعده و شيّد بنيانه و تدل عليه الروايات الآتية في البحث الروائي.
كما أن في دعائه (عليه السلام) بالقبول إشارة إلى أن الإنسان مهما سعى و بذل أقصى وسعه في تحصيل العمل لا بد له أن يتضرع اليه سبحانه و يبتهل إليه بالقبول و أن يعترف بالقصور. و في حذف المتعلق تحقير للعمل و النفس في مقابل العظيم المتعال جل شأنه و هذا من أدب خليل الرحمن مع اللّه عزّ و جل في دعواته. و في لفظ «تقبل» إشارة إلى كثرة توجهه (عليه السلام) الى جنّة اللقاء و مقام الرضاء كما طلبه في دعائه الآخر قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة ابراهيم، الآية: 39] فإن مقامه (عليه السلام) أرفع من أن يطلب قبولا يوجب الحور و القصور فقط.
قوله تعالى: رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. مادة (سلم) تشتمل على معنى السلامة، و لها مراتب كثيرة جدا بين العيوب الظاهرية و المعنوية- الدنيوية و الأخروية- و القلبية، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.
و الإسلام هو الدخول في السلم- بكسر السين- و قد اختص بالإذعان، بإلهيته تعالى و رسالة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و شريعته و قرآنه المساوق للإيمان.
و للإسلام درجات أعلاها ما كان عليه إبراهيم (عليه السلام) و أدناها ما عليه عامة المسلمين يحفظون بها دماءهم و أموالهم مع ما عليه بعضهم من الفسق و الشقاء. و قد جمع جملة من مراتبها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في الحديث المعروف «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه» فالإسلام الحقيقي مظهر [بضم الميم‏] اللّه في الأرض و المسلم الواقعي مظهره (بالفتح) بين عباده.
و معنى الآية المباركة ربنا و اجعلنا مخلصين لك في الإعتقاد و العمل و ثبتنا على الإسلام بتوفيقك و هدايتك. و سؤال الإسلام لنفسه و خواص ذريته إنما هو للثبات على مثل هذه المرتبة في الإسلام.
قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. الذرية اسم جمع يطلق على نسل الإنسان و على غيره قال تعالى في الشيطان: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [سورة الكهف، الآية: ٥۰] و الأمة الجماعة و الطائفة، سواء أ كانت من ذوي العقول أم من غيرهم مما يجمعهم شي‏ء واحد قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 38] و هي من الأمور الإضافية القابلة للقلة و الكثرة، و قد يكون كل نوع أمة بل قد يكون كل صنف كذلك و قد يطلق اللفظ على الواحد باعتبار كونه مجمع الخيرات و منشأ البركات قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [سورة النحل، الآية: 120] و تقدم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي [الآية: ۱۳٤] الوجه في أنه (عليه السلام) لم يسأل الإسلام لجميع الذرية.
و يستفاد من الآية المباركة أنّ إسلام هذه الأمة إنما هو من بركات دعائه (عليه السلام) و في غالب دعواته انه يسأل لنفسه و لامته و ذريته.
قوله تعالى: وَ أَرِنا مَناسِكَنا. النسك العبادة و الناسك العابد و المنسك هو الموضع المعد للعبادة، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [سورة الحج، الآية: ٦۷] و لكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200] و يستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة، الآية، ۱۹٦] و النسك هو الهدي و قال تعالى: قُلْ‏ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۲] و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما رواه الفريقان بطرق متواترة: «خذوا عني مناسككم».
و المراد بالرؤية هنا الرؤية الحقيقية أي المعرفة و الإراءة لا مجرد الرؤية البصرية و التعليم القولي، و تدل على ذلك روايات كثيرة دالة على أن جبرائيل كان معه (عليه السلام) في جميع أعماله و أطواره كما كان مع نبيّنا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حجة الوداع.
قوله تعالى: وَ تُبْ عَلَيْنا. التوبة تأتي بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى اللّه تعالى عن مخالفته، أو عن مجرد الالتفات إلى غيره و لو كان مباحا و توبة الأنبياء (عليهم السلام) من الأخير فيكون قبولها من اللّه تعالى بالنسبة إليهم بمعنى ارتقاء الدرجة لا إسقاط العقاب، و تسمى هذه توبة أخص الخواص في اصطلاح علم الأخلاق. مع أنّ لنفس استعمال التوبة نحو موضوعية خاصة فإنها لتذليل العبد و استصغار الأعمال بالنسبة إليه تعالى، مع أنه يمكن أن تكون توبة الأنبياء عن ما يصدر من تابعيهم من المعاصي، فإن من كان إمام قوم و سيدهم له أن يتوب إلى اللّه تعالى من ذنوب تابعيه.
و المعنى: وفقنا للإنابة و الرجوع إليك عما يشغلنا عنك.
قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. التواب هو كثير التوبة أو لأجل أنه جل شأنه يوفق العبد للتوبة ثم يقبلها منه ثم يضاعف درجاته بها يعني: إنك وحدك توفق العباد للتوبة و تقبلها منهم و الرحيم بهم، و تقدم معنى الرحيم في بسملة سورة الفاتحة.
قوله تعالى: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ. مادة (ب ع ث) تأتي بمعنى إثارة الشي‏ء و توجيهه و تختلف باختلاف المتعلق فتارة: تكون أمرا عرضيا خارجيا، يقال بعثته في أمر قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31] و هذا عام يشمل الخالق و الخلق و بعث اللّه الأنبياء و الرسل إلى النّاس من هذا القبيل، قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 213] و مثل هذا الاستعمال في‏ القرآن كثير. و أخرى: يكون بمعنى الإخراج- و الإثارة- من العدم إلى الوجود و هذا يختص باللّه جل شأنه قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى‏ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً [سورة الأنعام، الآية: ٦٥]. و ثالثة: يكون بالإحياء بعد الموت و هو يختص به جلت عظمته أيضا قال تعالى: وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [سورة الأنعام، الآية: ۳٦] و من أسمائه المقدسة «يا باعث» و قد يفيض هذا المقام إلى بعض أوليائه كعيسى (عليه السلام). و المراد بهذا الرسول هو محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لما يستفاد من ضمير «فيهم» فإن الدعاء وقع في مكة و هو منحصر فيه (صلّى اللّه عليه و آله) فإبراهيم (عليه السلام) رسول اللّه إلى ذرية هذا النبي العظيم و به ابتدأت الدعوة إلى الحق و اختتمت في نسله المبارك إلى يوم القيامة، و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم».
و إنما دعا أن يكون الرسول منهم لا من غيرهم ليكونوا أعزّ به و لأنّه أقرب لإجابة دعوته».
قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ. أي يقرأ عليهم، و في لفظ التلاوة خصوصية ليست في مطلق القراءة فإنها القراءة التي يتبعها الفهم و التدبر، و المراد بالآيات القرآن الكريم.
قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ. الكتاب هو القرآن. و مادة (ح ك م) تدل على الثبات و الإتقان و الاستحكام ما لم تكن افتعاليا ادعائيا و للحكمة مصاديق مختلفة و كل ما قيل فيها إنما هو دون شأنها و قد جعلها سبحانه و تعالى مدار كمال عباده و ترقياتهم المعنوية و سيأتي شرح معنى الحكمة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و المراد بها في المقام هو أسرار الشريعة و أحكام الدين.
قوله تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ. مادة (ز ك ي) تأتي بمعنى النمو و يختلف ذلك باختلاف الموارد فقد يكون في المال؛ أو في النفس يعني: نموها في المعنويات و الكمالات و الأخلاق الفاضلة و العلوم و المعارف الحقة. و تأتي بمعنى الطهارة لكونها من موجبات النمو و البركة. و تنسب تارة إلى العبد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [سورة الأعلى، الآية: ۱٤]، و أخرى: إلى اللّه‏ تعالى لأنه المؤثر و الفاعل الحقيقي قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: ٤۹] و ثالثة: إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما في الآية المباركة و رابعة: إلى العبادة لكونها بمنزلة الآلة- كما في نفس الزكاة- قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة، الآية: 103].
و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:
أحدهما: أن تكون بالعمل و الإنصاف بالأوصاف المحمودة، و لا ريب في حسنها عقلا و شرعا و إليها تشير الكتب السماوية و القرآن العظيم.
و ثانيهما: أن تكون بالقول المجرد و هو مذموم عقلا و شرعا قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النجم، الآية: 32] و المعروف في الفلسفة العملية أنّ الذي لا يحسن- و إن كان حقا- هو مدح الإنسان نفسه.
و المراد بها في المقام هو المعنى العام و هو تنمية عقولهم و أبدانهم و أموالهم و جميع شؤونهم ببركات تعاليمه القيمة و تطهيرهم من الأدناس و رذائل الأخلاق.
و المعنى: و أرسل إليهم رسولا يعلمهم القرآن و أحكام الدين و يطهر نفوسهم من أنواع المعاصي و ذمائم الأخلاق و يزيّنها بالأعمال الحسنة و الأخلاق الفاضلة و الآية على إجمالها تشتمل على الفلسفة العملية و العلمية و الاجتماعية.
قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ختم للدعاء بالثناء عليه تبارك و تعالى و هذا من أدب الدعاء، و قد ذكر من أسمائه المقدسة ما يناسب سؤاله، فوصفه بالعزيز الذي لا مرد لأمره و الحكيم فيما يفعل و لا معقب لحكمه.
و العزيز من أسمائه المقدسة و هو المنيع الذي لا يقهر و لا يغالب‏ و في الحديث: «المؤمن أعزّ من الجبل» أي أصلب منه. و قد ورد في القرآن كثيرا و غالب ما ورد فيه مضافا إلى اسم آخر من أسمائه المباركة. و العزيز المطلق‏ ينحصر فيه عزّ و جل عقلا و نقلا كما يأتي عند قوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [سورة يونس، الآية: ٦٥] إن شاء اللّه تعالى. هذا في العزة الحقيقة، و الظاهرية منها في الدنيا. و قد تحصل لبعض ادعاء لكن ليس كل ادعاء حقيقة بعد قوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8] و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من طلب العزة بغير اللّه ذل».
و هذا الدعاء إنما كان بعد الفراغ من بناء البيت، إذ لا يمكن تعمير هذا البيت العظيم إلّا ببقاء الحركة الدينية و استمرار المبادئ الإنسانية الكاملة،
و في الحديث: «إنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة إن الكعبة يستقل منها بالمعاول و لا يستقل من إيمان المؤمن شيئا» و لذا طلب منه إرسال الرسول ليشيد أركان العبادة.

يظهر من الآيات المباركة أمور:
الأول: يستفاد من دعاء إبراهيم (عليه السلام) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ان هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه لأن هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأولية من الإسلام مثل كسر الأصنام و الإحتجاج على بطلان عبادة الشمس و القمر، و الطعن على عبادة دون اللّه تعالى. فهو عبارة عن العبودية المحضة و تسليم الأمر اليه تعالى التي لخصها بعضهم‏ بقوله: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» و الأحاديث و شواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام و العبودية كثيرة جدا. و بناء عليه يكون ما طلبه (عليه السلام) لذريته إنما هم خواص ذريته، كطلبه للإمامة لبعض الذرية، كما عرفت.
الثاني: أنّ الإسلام الحقيقي و تسليم الأمر إليه تعالى في مقام العبودية المحضة يلازم الاصطفاء في الدنيا و الصلاح في الآخرة فهما متلازمان في المبدأ و المنتهى، و في المراتب شدة و ضعفا، كمالا و نقصا.
الثالث: أنّ في تأخير ذكر إسماعيل (عليه السلام) عن المفعول به في‏ قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ إشارة إلى أن الباني هو إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل تبع له فهو كالعامل لديه، كما عرفت سابقا.

في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة و أن يرفع قواعدها و يري النّاس مناسكهم فبنى إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) البيت كل يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال أبو جعفر (عليه السلام): فنادى أبو قبيس إنّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه».
أقول: إنّ نداء أبي قبيس لإبراهيم (عليه السلام) ليس من قبيل النداءات الظاهرية المسموعة بكل سمع بل هو من سنخ الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلّا المرتبطون بعالم الغيب و ذلك لا ينافي الروايات الكثيرة الدالة على أن الحجر نزل من الجنّة، إذ من الممكن أنه قد وضع في جبل أبي قبيس بعد الخروج من الجنّة.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: الحجر الأسود استودعه إبراهيم، و مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر (عليه السلام): إن اللّه استودع إبراهيم الحجر الأبيض و كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».
أقول: لا تنافي بين كون الحجر مستودعا عند إبراهيم (عليه السلام) و مستودعا في جبل أبي قبيس كما في الحديث السابق، لإمكان تعدد محال الاستيداع حسب أهمية الوديعة و المصالح المقتضية لذلك.
و في بعض الأخبار إنّ اللّه تعالى أنزل قواعد البيت من الجنّة.
أقول: يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة، و كانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان- كدحية الكلبي- و كما في قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ‏ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 9]، و سيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.
و قد ثبت في الفلسفة أن تنزل كل شي‏ء من عالمه إلى ما دونه لو تصور بصورة ما كانت بصورة ما نزل إليه لا بصورته التي يكون عليها في الواقع.
إن قيل: إنّ جنّة الآخرة لم تخلق بعد فما معنى هذه الأخبار من أنها نزلت من الجنّة. يقال: المراد بعدم خلق جنة الآخرة اى خلق نتائج أعمال العباد و أما خلق ذات المكان و سائر خصوصياته فهو مسلّم، كما تدل عليه ظواهر الآيات المباركة و السنة المقدسة. و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء فمن يذهب إلى أنها غير مخلوقة أراد جنة نتائج الأعمال، و ما يستفاد من الأدلة أنها مخلوقة أي بحسب الذات، و سيأتي الكلام فيه مفصلا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و في تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه السلام) في حديث نزول هاجر و إسماعيل على أرض مكة قال (عليه السلام): «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت فقال: يا رب في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها اللّه تعالى على آدم قائمة حتّى كان أيام الطوفان أيام نوح (عليه السلام) فلما غرقت الدنيا إلّا موضع البيت فسميت البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق، فلما أمر اللّه عزّ و جل إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت و لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث اللّه جبرئيل فخط له موضع البيت فأنزل اللّه عليه القواعد من الجنّة و كان الحجر الذي أنزله اللّه على آدم أشد بياضا من الثلج فلما لمسته أيدي الكفار اسود، فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام) و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، و الباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشجر و الإذخر و علّقت هاجر على بابه كساء كان معها و كانوا يكنّون تحته. فلما بناه و فرغ منه حج إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل‏ و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال يا إبراهيم: قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) فقال إبراهيم (عليه السلام) لما فرغ من بناء البيت: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ. قال (عليه السلام): من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى النّاس لينتابوا إليهم و يعدوا إليهم».
أقول: وردت روايات أخرى قريبة من ذلك من الفريقين، و يدل على تفسير الثمرات بثمرات القلوب قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة ابراهيم، الآية: 37]. كما تقدم الوجه في كون القواعد من الجنّة في الحديث السابق.
في تفسير القمي في قوله تعالى: رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ- الآية- قال: يعني ولد إسماعيل فلذلك‏ قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنا دعوة أبي إبراهيم».
و في تفسير العياشي عن الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: أخبرني عن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) من هم؟ قال: أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بنو هاشم خاصة. قلت: فما الحجة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال (عليه السلام): قول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
فلما أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي‏ وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة و الامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم، لقوله تعالى: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.
أقول: ما ذكره (عليه السلام) استدلال حسن على أن ذرية ابراهيم و الأمة المسلمة سوى من يسمى بالإسلام و أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لأن هذه الآية و ما في سياقها تخص الذرية و الأمة المسلمة بخصوص من اجتباه اللّه تعالى و عطف عليهم إبراهيم بتلك الدعوات الخاصة لنفسه و ذريته، فتخرج البقية عن مورد الاجتباء تخصصا إذ لا مناسبة بين ما طلبه إبراهيم (عليه السلام) و ما يرى في بعض المسلمين. و بالجملة هو القليل الذي يمدحه اللّه تعالى كثيرا و غيره داخل في الكثير الذي وقع مورد الذم في القرآن كذلك.
و في الوافي نقلا عن الكافي عن ابن بكير قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) لأي علة وضع اللّه الحجر في الركن الذي هو فيه و لم يوضع في غيره؟ و لأي علة أخرج من الجنّة؟ و لأي علة وضع ميثاق العباد و العهد فيه و لم يوضع في غيره؟ و كيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني اللّه فداك؟ فإن تفكيري فيه لعجب. قال (عليه السلام) سألت و أعضلت في المسألة و استقصيت فافهم الجواب و فرّغ قلبك و اصغ بسمعك أخبرك إن شاء اللّه تعالى: إنّ اللّه تبارك و تعالى وضع الحجر الأسود و هي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق، و ذلك أنّه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ اللّه عليهم الميثاق في ذلك المكان، و في ذلك المكان ترا أى لهم- إلى أن قال-: و أما القبلة و الالتماس فلعلة العهد تجديدا لذلك العهد و الميثاق و تجديد البيعة، و ليؤدوا اليه العهد الذي أخذ اللّه عزّ و جل عليهم في الميثاق فيأتوه في كل سنة و يؤدوا اليه ذلك العهد و الأمانة اللذين أخذ عليهم، ألا ترى انك تقول «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة- إلى أن قال- يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق عنده لحفظ العهد و الميثاق و أداء الأمانة، و يشهد على كل من جحده و أنكره و نسي الميثاق بالكفر و الإنكار.
فأما علة ما أخرجه اللّه من الجنّة؟ فهل تدري ما كان الحجر؟ قلت: لا قال (عليه السلام): كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند اللّه فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به و أقر ذلك الملك فاتخذه اللّه تعالى أمينا على جميع خلقه و ألقمه الميثاق و أودعه عنده و استعبد الخلق ان يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق و العهد الذي أخذ اللّه عليهم ثم جعله اللّه مع آدم في الجنّة يذكّره الميثاق و يجدد عنده الإقرار في كل سنة فلما عصى آدم و خرج من الجنّة أنساه اللّه العهد و الميثاق و جعله تائها حيران فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم بأرض الهند فلما نظر إليه آنس اليه و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة فأنطقه اللّه عز و جل، فقال له: يا آدم أ تعرفني؟! قال: لا. قال أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم في الجنّة فقال لآدم: أين العهد و الميثاق؟ فوثب إليه آدم و ذكر الميثاق و بكى و خضع له و قبّله و جدد الإقرار بالعهد و الميثاق ثم حوله عزّ و جل إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية- إلى أن قال- ثم إن اللّه عز و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان- الحديث-».
أقول: المراد من‏ قوله (عليه السلام): «فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق»- كما يستفاد من السنة الشريفة، و سيأتي في الآيات المناسبة- أنّ ميثاق العباد لربهم كان في ذلك المكان و صار ذلك المكان مشرّفا و مباركا لأنه موضع أخذ الميثاق من الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه الصالحين على التوحيد و يأتي في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172] و ساير الآيات المباركة المناسبة بعض الكلام.
و أما قوله (عليه السلام): «يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق- الحديث-» هذه الشهادة من قبيل شهادة ما ورد في قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ [سورة النور، الآية: ۲٤] فهي منوطة بالحياة و الإدراكات المعنوية الموجودة في الأشياء بالنسبة إلى اللّه تبارك و تعالى و ما يرتبط به جلّ شأنه و أما قوله (عليه السلام): «فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان من أول من آمن به» يظهر منه أن الميثاق كما أخذ من بني آدم أخذ من الملائكة أيضا فأصل الميثاق واحد و إن كان المورد تارة بالنسبة إلى الملائكة و أخرى بالنسبة إلى بني آدم، كما يظهر من مثل هذا الحديث أن أخذ الميثاق من الملائكة كان مقدما على أخذ الميثاق من ذرية آدم و يشهد له الاعتبار أيضا. كما يظهر منه اتحاد من التقم الميثاق في مقام البقاء و إن كانا مختلفين في مرحلة أصل الحدوث فزاد ذلك في فضل الركن، و لأجل ذلك عبر عنه ب «يمين اللّه في الأرض» كما في بعض الروايات.
و أما قوله (عليه السلام): «أنساه اللّه العهد و الميثاق» فالمراد عدم الالتفات الفعلي لا ترك العهد و الميثاق بالمرة و ذلك لمصالح كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: ۳٦].
إن قيل: انه يمكن أن يكون المراد من العهد و الميثاق أيضا عالم الدنيا و تعميرها من حيث العبور منها إلى الآخرة فلا يتحقق وجه للإنساء حينئذ. يقال: هذه النظر الآلية التبعية إلى الدنيا حصلت من الإنساء فتكون لنفس معصية آدم و نسيانه دخل في الجملة في تكوين الدنيا بنحو الاقتضاء إجمالا لا على نحو العلية التامة.
و أما قوله (عليه السلام): «حوّل ذلك الملك في صورة درة بيضاء» فالمراد منه ظهور حقيقة عالم في صورة عالم آخر- كما تقدم- لا أن يكون من التناسخ الباطل، فذات الحقيقة باقية و هذا صحيح و واقع بالأدلة العقلية و السمعية فما في بعض الأخبار من «ان الحجر الأسود يمين اللّه في ارضه يصافح بها عباده» تنزيل للأمر الغيبي بالأمر الحسي باعتبار أصله الذي كان من الملائكة و استلم ميثاق العباد.
و أما قوله (عليه السلام): «فرماه من الجنّة إلى آدم و هو بأرض الهند» تقدم موضع هبوط آدم من الجنة إلى الأرض سابقا، و المراد من الرمي هو تسليم اللّه الحجر إلى آدم. و فيه إشارة إلى أن التسليم وقع مباشرة منه جل شأنه من دون واسطة في البين، و فيه من اظهار كمال الأهمية ما لا يخفى.
و الأرض كلها كانت أرض خليفة اللّه تعالى و كان يتجول فيها بقدرته تعالى- بما فيها الهند- و قد فصل المحدثون ذلك في السنة الشريفة.
و أما قوله (عليه السلام): «فلما نظر إليه آنس اليه» المراد به الأنس المعنوي الذي يدركه أهل المعنى كما في قوله تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [سورة القصص، الآية: 29].
و أما قوله (عليه السلام): «و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة» فإن العلم بالحقائق الواقعية و ملكوت الأشياء بما هي عليها يختص به تبارك و تعالى أو من علّمه اللّه عزّ و جل؛ و لم تقتض المصلحة ان يعلم آدم حقيقة تلك الجوهرة حين رماها اليه.
و أما قوله (عليه السلام): «فأنطقه اللّه عزّ و جل فقال له يا آدم أ تعرفني؟» فذلك ممكن عقلا و واقع في الخارج أيضا بقدرة اللّه تعالى كتسبيح الحصى في كف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).
و من هذا الحديث الشريف يظهر سر دعاء الحجيج عند استلام الحجر الأسود بقولهم: «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» فكان لهذا الحجر الشريف مظاهر و شؤون و في جميعها مبارك و مقدس و سيظهر له بعد ذلك بما هو أحسن و أولى في عالم آخر.
و أما قوله (عليه السلام) «إن اللّه عزّ و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في المكان» فإنه يستظهر منه أن أول بناء الكعبة المقدسة كان من اللّه تعالى بواسطة الملائكة. و يمكن أن يحمل على بناء ابراهيم (عليه السلام) فيكون نظير قولهم بنى الأمير المدينة.
و المتحصل انه يظهر من هذا الحديث و أمثاله من الأحاديث المعتبرة عظمة هذا البيت و أهمية الحجر الشريف بما لا يدع مجالا للشك و الريب، فليس هو من الأحجار التي لا تضر و لا تنفع، و إنما اكتسب شرفا بالمجاورة كما يراه بعض المفسرين، بل له كمال الزلفة و القداسة و له المنزلة العظمى، كما له المظاهر المختلفة حسب تعدد العوالم.

تقدم في البحث الروائي بعض الأحاديث الواردة في بناء البيت و فضل الحجر الأسود، و مضامين تلك الأحاديث متواترة بين الفريقين فلا وجه للمناقشة في أسانيد بعضها. نعم قد يكون بعض الروايات ضعيفة سندا، و لكن ذلك لا يوجب رفع اليد عن بقية الروايات و رميها بالضعف و الخرافات كما هو واضح. و مع ذلك فقد ناقش بعض المفسرين و الكتّاب المحدثين في تلك الأحاديث فقال في عرض كلامه لتفسير الآية الشريفة: و هذه الروايات فاسدة في تناقضها و تعارضها، و فاسدة في عدم صحة أسانيدها، و فاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن بل كل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم و ينفروا أهل الكتاب منه.
و لا يخفى أنّ ما ذكره باطل من وجوه:
الأول: إنّه قد شهدت الأدلة العقلية و السمعية على أنّ للّه تعالى في عالم الشهادة مظاهر من عالم الغيب إتماما للحجة و لمصالح لا يحيط بها إلّا اللّه تعالى و بعض خواص أوليائه، و من تلك المظاهر مقام إبراهيم (عليه السلام) و الحجر الأسود و غيرهما مما أشرنا إليه سابقا و ما ستعرفه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى، و قد ثبت في الفلسفة ببراهين كثيرة إمكان ظهور شي‏ء واحد في مظاهر مختلفة حسب العالم الذي يظهر فيه و لا ينافي ذلك واقعه الذي هو عليه، فيمكن أن يكون شي‏ء واحد من الروحانيات في عالم و هو في نفس الوقت من الماديات في عالم آخر- جوهرا كان أو عرضا- كما في الحجر الأسود فإنه إذا استلم كان بحسب الظاهر شيئا ماديا و لكنه في الواقع يمين اللّه- بالمعنى الذي تقدم- يصافح بها عباده كما في الحديث، و حينئذ لا وجه لحصر حقيقته في ما ندركه بالماديات فقط بزعم أن العقول لا يمكن لها درك ما وراء عالم المادة فإن ذلك إما قصور أو تضييع و تعطيل للعقل عن مسيره‏ الذي جعله اللّه تعالى له، فإنه لم يحده بحد إلّا ما ورد في الشرع من النهي عن التعمق فيه. و من ذلك يعلم أن جعل مضامين تلك الأخبار من الأقاصيص التي بثها زنادقة اليهود، من الجهل بالحقائق و الواقعيات.
الثاني: إنّ رمي الروايات بالضعف إنما هو سبيل العاجز و أسهل شي‏ء في الأحاديث عند من لا يحيط بواقعها و حقائقها و قصر النظر على الظاهر فقط، و تعطيل للعقل عن الاستكمال، فإن نظر أهل المعرفة في العلوم إنما هو إلى الحقائق الكلية المختلفة مظاهرها حسب تعدد العوالم دون الأفراد الجزئية، و الفضل في الأولى دون الأخيرة كما هو المعلوم للخبير.
الثالث: إنّه يعلم مما ذكرناه عدم تحقق التناقض و التعارض في الروايات فإنّ ذلك إنّما يحصل من قصر النظر على نشأة دون أخرى و أما حقيقة الشي‏ء المختلفة باختلاف النشآت حسب ظهورها في ذلك فلا وجه لعده من التناقض، فما في بعض الروايات من كون الحجر ملكا و في بعض آخر أنه درة بيضاء إنما يكون بحسب تعدد الظهور و من شرط تحقق التناقض و التضاد وحدة الموضوع و هي مفقودة في المقام، و لا وجه لتوهم التعارض مع القرآن.
الرابع: إنّ ما اعترف به من أنّ هذه الأمور مما شرفها اللّه تعالى كما شرف أنبياءه فهو حق لا ريب فيه، لأنّ جميع تلك الأمور لا بد أن تنتهي جهة شرافتها اليه تعالى و ذلك لا ينافي جريان الأسباب التي قدرها اللّه تعالى لشرافتها.

العبادات التي شرعت في الإسلام إنما هي مبنية على مصالح كثيرة قد لا يحيط بها الإنسان إلّا إذا بينها اللّه تعالى على لسان نبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و المستفاد من الآية المباركة و الأخبار الكثيرة بعض تلك المصالح، فإنها تدل على أن تلك العبادات من مظاهر عبودية العبد بالنسبة إلى معبوده، و أنّها تجليات المعبود في قلوب المتعبدين بحسب مراتب قربهم اليه جلّ شأنه، و أنها منازل للسير الاستكمالي في الإنسان الذي لا يتحقق إلّا بواسطة الأنبياء و المرسلين بتشريعاتهم و أنّ منها مثالا لمجاهدات المخلصين من أنبيائه (عليهم السلام) و صورا لمنازل العبودية التي بها بلغوا إلى مدارج استكمالهم، ففي الحج مثلا يتجلى ما ذكرناه بوضوح فإنه عنوان مشير إلى منازل عبودية شرعها إبراهيم الخليل (عليه السلام) و أفعال الحج مثال لجهاده في مرضات اللّه تعالى و لذا شرع في الإسلام لأنه مشتمل على أعظم أنحاء العبادات و شموليته لجميع الجوانب- روحا و بدنا و مالا- فيكون انقطاعا اليه جلت عظمته بجميع أنحاء الانقطاعات كما فعله إبراهيم (عليه السلام) فهو لم يلاحظ في بناء هذا البيت الجانب المادي منه بل بنى بيت العبودية الحقيقية التي هي غاية كمال الإنسان و أكمله سيد المرسلين نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فصاروا جميعا من حجاب هذا البيت العظيم و سدنته، و للمقام تتميم يأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

كانت للكعبة المقدسة أهمية و احترام عند العرب قبل الإسلام من حين بنائها بل قد يستفاد من بعض التواريخ أنها كانت محترمة و معظمة حتّى عند الأمم من غير العرب أيضا كالهنود و الفرس و الصابئة و اليهود و النصارى و غيرهم.
أما الهنود فكانوا يعتقدون أن روح أحد عظمائهم [سيفا] قد حلت في الحجر الأسود حين زار بلاد الحجاز. و كان الفرس يعظمونها زاعمين أن روح هرمز قد حلت فيها. و أما الصابئة- و هم عبّاد الكواكب- فإنهم يعدونها من إحدى البيوت السبعة المعظمة لديهم. و كانت اليهود تحترم الكعبة و يعبدون اللّه تعالى فيها على دين إبراهيم (عليه السلام) و كان لهم فيها تمثال إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) و غيرهما من عظمائهم. كما كانت الكعبة معظمة و مقدسة عند النصارى أيضا و كانت فيها صورة العذراء و المسيح و كان للعرب فيها أصنام ربما تقرب إلى ۳٦۰صنما.
و لكن ذهاب هذه الأمم إلى أصل قداسة البيت و عظمته مما لا ينكره أحد. و أما ما ذهبوا اليه من حلول روح سيفا أو هرمز أو التقديس لها لأجل‏ صورتي العذراء و المسيح أو غير ذلك إن كان من جهة قصور عقولهم في تطبيق القداسة و العظمة على ما زعموه فلا شك أنه من باب الجهل المركب في تطبيق الواقع على مزاعمهم، و إن كان مرادهم بذلك الموضوعية الخاصة فالآيات المباركة و السنة الشريفة و ضرورة الدين المقدس تنكر جميع ذلك بل العقل لا يقبل ذلك أيضا كما ستعرف في الآيات المباركة المناسبة إن شاء اللّه تعالى‏.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"