1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآيات 109 الى 113

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى مكائد اليهود و مكرهم بالنسبة إلى المسلمين بيّن تعالى في الآية الأولى أن سبب ذلك هو الحسد- و خبث نفوسهم- الذي لا ينفك عنهم، ثم وعد المسلمين بالنصر و أمرهم بالإيمان و العمل الصالح لئلا يتأثروا بشبه المنكرين و تشكيك الكافرين، ثم ذكر جل شأنه بعض أمانيهم الفاسدة الأخرى و هو انحصار دخول الجنّة باليهود أو النّصارى، و قد أبطل ذلك تعالى بالدليل العقلي و هو أن الجنّة لا تكون إلّا بالعمل الخالص، بل هي نفس العمل الخالص فقطع أمانيهم بذلك.

قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً. مادة (و د د) تأتي بمعنى المحبة و تستعمل في التمني أيضا، لأنه مشتمل على المحبة و متضمن لها. أي: تمنى كثير من اليهود و النصارى أن يرجعوكم عن دينكم و يردونكم إلى الكفر، كما قال تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: ٦۳].
قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.
الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها سواء أرادها لنفسه أولا، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير. و الأول مذموم، و الثاني محمود، فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المؤمن يغبط، و المنافق يحسد»
و في الحديث القدسي: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».
و المعنى: أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان، و إرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) هو النبي الموعود المبشّر به في كتبهم، و إتمام الحجة عليهم بالآيات التي أتى بها. و في قوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم و فساد أخلاقهم لا أن يكون عن غبطة لحق، أو غيرة عليه، أو شبهة و نحو ذلك.
و الآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي، و هو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمرا و صار ذلك الأمر مألوفا عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم، لا سيما إذا وجد ما يخالف ذلك القديم فيتصدون له و يعارضونه بكل ما أمكنهم و ينتهي ذلك إلى الحسد الكائن في النفوس فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.
و في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المغروس في الفطرة في بداية ظهوره، كما أن في قوله‏ تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا [سورة النساء، الآية: 89] إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.
قوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا. العفو: ترك المؤاخذة على الذنب. و الصفح: إزالة أثره عن النفس، و الاعراض عن المذنب بصفحة الوجه، و هما و التجاوز بمعنى واحد، و هي من مكارم الأخلاق. أي عاملوا النّاس بمكارم الأخلاق من العفو و الصفح و الإغماض عنهم و حسن المعاشرة معهم حتّى يشتد أمركم، و تغلب شوكتكم، و يمكّنكم اللّه منهم فتعملوا فيهم بما هو الصّلاح.
و في الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة و المنعة، فإن العفو و الصفح إنما يطلبان من القادر. و فيها البشارة بالغلبة و تأييدهم بالعناية الإلهية.
قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. من القتل، أو الطرد و الجلاء و نحو ذلك. و المراد من الأمر الأعم من التشريعي و هو الجهاد و التكويني.
و فيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد و النصر و الغلبة، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن اللّه تعالى.
و السياق يدل على أن الصفح و العفو محدود بزمان خاص بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد و القتال، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات، بل نفس هذه الآية الشريفة مغياة بغاية خاصة فلا معنى للنسخ الحقيقي حينئذ.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ. تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين.
قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ. بعد أن أمرهم بالعفو و الصفح، و المداراة مع الأعداء ليأمنوا من كيدهم ظاهرا و يجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعا أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم و بين اللّه عزّ و جل و التمسك بأوثق عرى الإسلام ليحصل ارتباطهم مع خالقهم و هي الصّلاة، فإنها من أقوى دعائم الدين و أبرز مظاهر إسلام المسلمين، فيتنزه العبد بمناجاة اللّه تعالى عن إتيان الفواحش و المحرمات، و أمرهم بإيتاء الزكاة، و صلة الأغنياء للفقراء، و في ذلك من الوحدة و الايتلاف و رفع التفرق و الاختلاف ما لا يخفى، و قد تقدم تفسير هذه الآية المباركة.
قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ. أي: إنّ ما تعملونه في دار التكليف و العمل محفوظ عند اللّه فلا يرغب عامل عن العمل، و لا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم، فالدعوة عامة، و الرحمة تامة، و الوفاء ثابت، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك و لا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 8] و هذه الآيات المباركة و ما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة، و فيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلّا أنه يربّى كما يشاء اللّه تعالى‏
و في الحديث: «كما يربّي أحدكم فصيله».
و سيأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قد تكررت هذه الآية الشريفة في القرآن كثيرا، و في بعضها بدئت بالإعلام قال تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة، الآية: 233] و هو يدل على علمه الإحاطي بالجزئيات، و يكفي في ذلك قوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3] و منه يظهر بطلان ما نسب إلى جمع من الفلاسفة من نفي علمه تعالى بالجزئيات لتوقف العلم بها على الآلات الجسمانية، و هو تعالى منزه عنها فأرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل، و مثل ذلك كثير، و سنعود إلى تفصيل المقال في مباحث العلم إن شاء اللّه تعالى.
و في الآية المباركة من الترغيب على إتيان الأعمال الصالحة، و الترهيب عن‏ المعصية ما لا يخفى.
قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏. عطف على قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ و في الكلام اختصار بديع، و إيجاز حسن. أي: قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلّا من كان يهوديا، و قالت النصارى كذلك في أنفسهم و اشتراكهما في المقول أوجب جمعهما في القول و هذا زعم كل من يدعي الإعتقاد بدين و هو غافل عن أحكامه، أو جاحد معاند.
و إنّما عبر سبحانه و تعالى بكلمة «هود» دون التعبير باليهود، لأن هود قوم منهم يقولون لا يقبل اللّه توبة عبد إلّا من كان منهم، و لذا خصهم بالذكر، و لكن الظاهر أن جميع اليهود يقولون بذلك، و لعل التعبير كان باعتبار منشأ الحدوث.
و لازم كلام كل من الطائفتين نفي دخول المسلمين الجنّة.
قوله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ. أي أنّ قولهم ذلك من مجرد أمنياتهم التي لا تتجاوز عن الخيال و لا واقع لها بوجه، و المقام من مصاديق قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [سورة البقرة، الآية: 78] و هذه من جملة تلك الأماني.
قوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. تكذيب لهم و مطالبتهم بالبرهان على دعواهم، و هذا شأن كل دعوى فإنّها لا تقبل إلّا مع إقامة برهان على صدقها، و إلّا كانت دعوى كاذبة.
قوله تعالى: بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ. بلى: كلمة رد لما زعموه، و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: بَلى‏ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [سورة البقرة، الآية: 82].
مادة (س ل م) تدل على السلامة من العيب و النقص و الخلوص بلا فرق بين كون العيب و النقص من الجسمانيات أو المعنويات، في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 127]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]. و استعمالات هذه المادة كثيرة بهيئات مختلفة، و منها الإسلام لخلوصها، و تخليصه للمعتقد به عن المعايب و النواقص المعنوية.
و المراد بأسلم في المقام التوجه و الخضوع، و الصدق و التخليص‏ كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في معنى الخلوص: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
و الوجه مستقبل كل شي‏ء و أشرفه، و طريق الوصول إليه، و يطلق على الذات أيضا. و المراد هنا عمل الجوانح، و أعمال الجوارح، فيكون المعنى من أخلص دينه للّه تعالى اعتقادا و عملا و هو محسن في عمله، فيكون المناط كله في السعادة الأبدية هو الإيمان و العمل، و قد تكرر ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة بعبارات مختلفة نفيا و اثباتا و نظير هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة البقرة، الآية: ۱۳٥].
قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ.
هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة، فإن من أخلص وجهه للّه اعتقادا و عملا و أحسن في عمله له أجره و لا خوف عليهم من المتوقع، و لا يحزنون على الواقع، و ذلك من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع. و في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِ دلالة على أن الأجر محفوظ عن التغيير و التبديل، كقوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [سورة النحل، الآية: ۹٦]، مضافا إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك.
ثم إنّ إسلام الوجه للّه عزّ و جل بالتوجه اليه، و سلوك طرق مرضاته و الخضوع و الانقياد له تعالى، و الإقبال عليه، و صرف النظر عن غيره و المواظبة على الإخلاص يجعل الفاعل في المحل الأعلى من الكمالات المعنوية، و يجلو جوهر النفس عن الرين و الفساد، و يمنع عن استيلاء الأغيار عليها، فيفتح له باب إلى الغيب المحجوب فيرى ما في نفسه من‏ المساوئ و العيوب. و تقدم أن النفس فاعل للعمل، و العمل مؤثر في النفس، و يأتي في آيات أخرى مزيد بيان لذلك.
قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ. أي: ادعى كل فريق أن صاحبه ليس على شي‏ء. و ذلك أن أصحاب كل نحلة و دين لا يرون غيرهم على حق، و هذا الاختلاف قديم جدا يرجع إلى أوائل الخليقة و منذ حدوث الاجتماع الإنساني، فكل طائفة ترمي الطائفة الأخرى بالباطل، بل نرى ذلك بين المذاهب المختلفة من دين واحد فضلا عن الأديان المختلفة، و يدل على ذلك قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.
و لو تأملنا في المنشأ الحقيقي لذلك فإنه لا يرجع إلّا إلى الوهم و الخيال، و طرح العقل المؤيد بالشرع، و تغليب الهوى مع أن الحق واحد في جميع الأديان الإلهية التي يجمعها أنها من اللّه الواحد و كتاب منزل منه تعالى، و أنه لا يوجد دين سابق إلّا و يبشر بالدين اللاحق، كما أن الأخير متمم للسابق، و ما عدا ذلك فهو من الوهم و الخيال، فتراهم يكفرون بأنبياء اللّه تعالى و رسله و كتبه و عليه جرت طريقتهم حتّى صار يعد من الأمور الاجتماعية بين البشر و كم كان جديرا بالإنسان أن يرجع إلى فطرته، و يهتدي بهدي عقله و ينبذ الاختلاف و العناد حتّى يرى ما كان يجلبه من الخير و الصلاح و لم يصل إلى ما وصل إليه من الانحطاط و الإفتراق، و في ذلك عبرة لمن اعتبر.
قوله تعالى: وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ. أي: أنّهم قالوا ذلك و هم يتلون التوراة و الإنجيل و فيهما ما يأمرهم بخلاف ما يقولون فإن أحد الكتابين يدعو إلى الآخر، و كلاهما يدعوان إلى القرآن كما أن الأخير يدعو إليهما، فما بالهم ينقضون كتابهم و لا يعملون بدينهم و في ذلك من التوبيخ ما لا يخفى.
قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ. أي: إنّ‏ الذين لا يعلمون من الحق شيئا يقولون مثل قولهم سواء كانوا من المشركين أو الكفار، بل يشمل كل من لا يعلم بالحق و لا يعمل به و غلب عليه هواه و لو كان من المسلمين.
إن قيل: إنّ الآية المباركة تدل على ذم التقليد، و قد جرت سيرة المسلمين عليه خلفا عن سلف. (يقال) التقليد تارة يكون عن حجة معتبرة و بحجة كذلك و أخرى لا يكون كذلك و الثاني باطل و مذموم دون الأول.
قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أي أنّ الجميع يرجع إليه و ينتهي الحكم إليه، فهو الحاكم بينكم في هذا الاختلاف، و يحكم لمن كان منكم على الصراط المستقيم.

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- الآية أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا و كان يهجو النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يحرّض عليه كفار قريش في شعره، و كان المشركون و اليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يؤذون النبي و أصحابه أشد الأذى، فأمر اللّه تعالى نبيّه بالصبر على ذلك و العفو عنهم، و فيهم أنزلت وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ.
و فيه أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى‏ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ- الآية «نزلت في يهود أهل المدينة، و نصارى أهل نجران، و ذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شي‏ء من الدين، و كفروا بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و قالت لهم النصارى: ما أنتم على شي‏ء من الدين، و كفروا بموسى (عليه السلام) و التوراة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».
و قريب من ذلك ما رواه في المجموع عن ابن عباس، و ما روي عن‏ الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أقول: مع الغض عن أسانيد الأحاديث لا يمكن الاعتماد على متونها، لأن النصارى مطلقا يعترفون بالتوراة، و نبوة موسى (عليه السلام)، لأنّ الإنجيل متمم للتوراة، و مشتمل على كثير من أحكامها.

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:
الأول: العفو و الصفح عن المذنبين و الصبر على أذى الأعداء و انتظار الفرصة لتهيئة العدة للغلبة عليهم.
الثاني: لا يمكن أن تتحقق الغلبة على الأعداء ما لم يوثق عرى الإيمان بين العبد و بين اللّه تعالى، ثم توثيق الروابط بين الأغنياء و الفقراء و تحقق الوحدة الاجتماعية ليكونوا يدا واحدة على الأعداء.
الثالث: العلم بأنّ ما يصدر من العبد من خير مذخور عند اللّه تعالى، و أن جزاء عمله حاضر لديه عزّ و جل، مما يوجب سكون النفس في العزيمة فلا يؤثر فيه تشكيك المبطلين و شبه المفسدين. و يزيد في ذلك شهود اللّه تعالى لأعمال العباد، و مراقبته لعبيده، و ربوبيته العظمى لهم مما يجعل الإنسان مواظبا على ما يصدر منه من الأعمال و الأقوال.
الرابع: يستفاد من قوله تعالى: بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات و الفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة اللّه تعالى و طاعته عز و جل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، و الآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا و السنّة فوق حد التواتر بين المسلمين، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل و الفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل و الحقيقة، دون مجرد التسمية فقط، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ‏ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ۹٤].

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"