1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 255

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (۲٥٥)


الآية الشريفة تقرر أعظم المعارف الإلهية و أهم أصل من أصول الدين الذي إليه يدعو جميع الأنبياء و المرسلين. و أنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم و يحثه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة و يترنم باسمه في كلّ حالة ألا و هو اللّه المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.
و ما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح و غيره فقد قررت توحيد اللّه تعالى في الذات و المعبودية و الصفات.
و قد وصفته بأصول صفات الكمال و هي الحياة، و القيوميّة، و المالكية، و الربوبية العظمى، و العلم فلا تخفى عليه خافية في السموات و الأرض و لا يحيط بعلمه أحد. و هذه هي أمهات الأسماء الحسنى و إليها يرجع سائرها و قد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه.
فهي تثبت المبدأ و المعاد للتلازم بينهما، فتضمنت الآية الشريفة توحيد اللّه تعالى و الصفات العليا و الأسماء الحسنى و تنزيهه عما لا يليق به و اتصافه بصفات الجمال و الجلال على نحو يستشعر العبد بعظمته و كبريائه و حكمته و علو قدره و عظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعا ذليلا مذعنا بوجوب طاعته و الوقوف عند حدوده و أحكامه، و نبذ ما لا يليق بساحة كبريائه و الإعراض عمّا يسخطه و لا يرضى به، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم و ما جاء به سيد المرسلين.
فالآية المباركة بحق أعظم آية في كتاب اللّه المجيد، و إنّها من كنوز العرش، و إنّها تعدل ثلث القرآن.
و من ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق و ما يأتي من الآيات الشريفة.

۲٥٥- قوله تعالى: اللَّهُ.
اللّه: علم لواجب الوجود المعبود بالحق إله العالمين جلّ جلاله، و هو أجل لفظ لأعظم معنى فوق ما نتعقله من معنى العظمة و الجلال.
و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به، و قلنا إنّه سواء كان اللفظ من و له بمعنى التحيّر، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ و علا، و أنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم و أمثاله من أسمائه المباركة، و أما الحقيقة فدونها حجب كثيرة.
أو كان من أله بمعنى العبودية، لكونه المعبود بالحق.
أو علم مختص به جلّ جلاله، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متصف بجميع صفات الكمال و منزّه عن النقائص و الأوهام‏ و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالم».
قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
نفي للمعبود مطلقا و حصر فيه جلّ و علا، بل نفي للحقيقة الحقة و إثبات لها فيه تعالى، لأنّ غيره في معرض الزوال و الفناء.
و الإله هو الذات المتصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود و الحياة و القدرة و غيرها.
أي: لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلّا اللّه تعالى، و الضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدال على الذات المقدّسة المتصفة بجميع صفات الجمال و الجلال و قد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة- ۱٦٤].
و نزيد هنا: أنّ الوجه في إتيان الضّمير مفردا دون الجمع لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا أو في مقام الرحمة و الامتنان على العباد يأتي بالمفرد و إذا كان في مقام بيان القدرة و القهارية و الكبرياء يأتي بضمير الجمع.
و قد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة و المنتهية بلفظ «هو» في ستة مواضع من القرآن الكريم أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران- 3]، و الثالث قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [النساء- 87]، و الرابع قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [طه- 8]، و الخامس قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل- ۲٦]، و السادس قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [التغابن- 13]. و عن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثارا عجيبة حصلت بالتجربة، و يشهد لما ذكره (قدّس سرّه) أنّ هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصّفات الجمالية و الجلالية. و وحدته الحقة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزّ و جل.
قوله تعالى: الْحَيُّ.
حصر للحياة فيه تعالى فهي فيه عز و جل حقيقية ذاتية لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.
أي: هو الحي فقط و غيره في معرض الزوال و مستمد منه عز و جل، قال تعالى: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه- 111].
و الحي من الصفات المشبّهة التي تدل على الثبوت و الدوام كالرحيم‏ و العليم أي: أنّه الحياة الثابتة، و مفهوم الحياة معلوم و ظاهر، و هي التي تبتني عليها جميع الإحساسات و الإدراكات و يلازمها العلم و القدرة و بانتفائها تتعطل جميع قوى الحي و مشاعره و أفعاله و هي على مراتب و أصولها الحياة الإنسانية و الحيوانية و النباتية، و حياة المجردات و قد ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد- 17]، و قال تعالى: وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى‏ [الشورى- 9].
و أقسامها ثلاثة: الحياة الدنيا، و الحياة البرزخية، و الحياة الآخرة، و قد وردت في القرآن الكريم قال تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر- 9]، و سيأتي أنّ المراد من الحياتين الحياة البرزخية و الحياة الآخرة.
و أما الحياة الدنيا- فقد وصفها اللّه تعالى بأوصاف مختلفة كلّها تدل على ذم هذه الحياة و رداءتها و زوالها بخلاف حياة الآخرة التي وصفها اللّه تعالى بأنّها الحياة الكاملة قال تعالى: هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت- ٦٤]، كما وصفها بالأمن و الخلود و الهناء و عدم النقص في كلّ ما يرتبط بها قال تعالى: آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى‏ وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [الدخان- ٥٦]، و هي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر و المنتهى قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود- 108]، و لكنّها محدثة مسبوقة بالعدم فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، و لكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة اللّه تعالى مملوكة له عزّ و جل قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل- 97].
فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزّ و جل بريئة من النقص يستحيل عليها الموت و الفناء قال تعالى: وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان- ٥۸]، و هي متقوّمة بالعلم و القدرة و لها مراتب غير متناهية لانتهائها إلى ما يكون عين ذات اللّه جلّت عظمته و لا مبدأ لأولها و لا منتهى لآخرها، لأنّه أزليّ أبديّ بذاته، و كذلك يكون ما هو عين ذاته أي الحياة و العلم و القدرة.
و هذه الحياة منحصرة في اللّه تعالى و ليست حياته حياة فردية شخصية بل هي حياة كلية حقيقية هي مبدأ حياة كلّ حيّ من حياة النبات و الحيوان و الإنسان و الروحانيين، و الأرواح الشامخة و العقول المجردة بل و جميع ما سواه حتّى الجمادات فإنّ لها حياة خاصة لا ندركها كما يظهر من قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء- ٤٤]، و قوله تعالى: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ [فصلت- 21]، فإنّ جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عزّ و جل منشأ الأرواح و أصلها و بدوامها تدوم بلا فرق بين الأرواح العلوية و الأرواح السفلية و الجواهر المقدّسة الروحانية، فهي منشأ الخيرات و منبع البركات، و هي الغيث المستغيث و الغياث المستغاث في عالمي الأمر و الخلق اللذين يجمعان جميع الممكنات.
و الحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة كالقدرة و نحوها كما يأتي.
قوله تعالى: الْقَيُّومُ.
حصر للقيّومية فيه عزّ و جل فقط قلبت الواو ياء بعد أن كان الأصل قيووما و ادغمتا فصار قيوما للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أنّ أصل القيام القوام فعل به ما فعل بنظيره.
و القيوم من أسمائه الحسنى و معناه: القائم بالأمر المتعهد بالحفظ و التدبير و المراقبة، و قد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضا قال أمية ابن أبي الصلت: لم تخلق السّماء و النجوم و الشمس معها قمر يقوم‏ قدّره مهيمن قيّوم و الحشر و الجنة و النعيم‏ إلا لأمر شأنه عظيم‏ و هو تعالى قائم بأمر خلقه و تدبير شؤونهم عن علم تام و حكمة كاملة، و هو دائم بدوام ذاته لا يعتريه ضعف و لا فتور.
و تستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات‏ الإضافة كالخلق و الرزق، و الإحياء، و الإماتة، و الرحمة، و الغفران و نحو ذلك مما يتطلبه شؤون خلقه.
فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، و الفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة و الإضافية المحضة يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ.
السّنة- بكسر السين- النعاس، و هو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم و أصل السنة و سنة حذفت الواو.
و النوم معروف و هما- أي السّنة و النوم- متلازمان غالبا و لكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.
و قد نفى سبحانه و تعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين لأنّ القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائما على تدبير خلقه في جميع الحالات و الا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتب هذه الجملة على الحيّ القيوم من ترتب المعلول على العلّة فيستفاد منها أنّ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة و النوم.
و من ذلك يعلم: أنّ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، و لو قدم النوم لما أفاد هذا المعنى أي: من لا تأخذه مقدمات النوم كيف يعقل أن يأخذه النوم.
و ما قيل: من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام فإنّه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف بخلاف مقام الإثبات فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى فإنه يرد عليه مضافا إلى ما تقدم: أنّ الترتيب في كلا المقامين- مقام الإثبات و مقام النفي- إنّما يدور مدار صحة الكلام.
و التعبير ب (الأخذ) لنفي جميع ما يتصور في عروض السنة، و النوم على ذاته الأقدس عزّ و جل.
قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ.
معلول آخر للواحد للحيّ القيوم فإنّه إذا انحصر الحيّ القيوم في الفرد الواحد يكون كلّ ما سواه له لا بمعنى المالكيّة و الملكية فقط بل إنّ كلّ ما يتصوّر في السّموات و الأرض من جهات الاحتياج و الاستكمال له تعالى و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شي‏ء، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها و ملزوماتها، فالسّموات و الأرض و ما فيهما خاضعة لإرادته و حاضرة لديه و هي قائمة به عزّ و جل، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته و قدرته و ملكه لجميع السّموات و الأرض و هي تدل على تفرّده بالألوهية، و أنّ السلطان المطلق للّه تعالى.
و مما ذكرنا يعرف: أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السّنة و النوم عنه تعالى أيضا يعني: من كان مالكا للسّموات و الأرض و ما فيهما و قيّوما عليها لا يمكن أن تأخذه السّنة و النّوم، و الا استلزم المحال و هو تعطيل شؤون الملك، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلا و غفل عن شؤونها لغرقت السفينة.
قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
استفهام إنكاري أي ليس لأحد الشفاعة و التأثير في ملكه و سلطانه إلا بإذنه. لأنّه إذا كان المعبود بالحق منحصرا فيه عزّ و جل و هو الحيّ القيوم لجميع خلقه و له جميع ما سواه ملكا و تدبيرا و إيجادا و إفناء لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه لأنّه محال بالضرورة.
و الآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى و الملكية الحقيقية فيه عزّ و جل تثبت قانون الأسباب و المسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن اللّه تعالى، و قد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ و مستقلّة عن مشية اللّه تعالى، و أما إذا كانت بإذنه عزّ و جل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا و يكون تأثيره من اللّه تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته العليا و نظير الآية المباركة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ‏ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [يونس- 3].
و أما الشفاعة التشريعية فتكون بإذنه عزّ و جل بالأولى، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها و قد تقدم الكلام في الشفاعة فراجع.
قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ.
كناية عن كمال إحاطته بالموجودات وسعة علمه بالمخلوقات. و المراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود و بما خلفهم الغائب المستور فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر و الماضي و المستقبل و هي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه.
يعني: أنّ مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه و يفعلونه و سائر جهاتهم و خصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر و الماضي و المستقبل و مثل هذا العلم منحصر في اللّه جلّت عظمته فلا بد أن تكون أصل الشفاعة و جميع ما يتعلق بها و سائر إضافاتها من حيث الشافع و الشفيع و متعلق الشفاعة بإذنه و اختياره عزّ و جل حدوثا و بقاء في الدنيا و الآخرة فلا كمال و لا استكمال إلا منه تعالى، و لا يقدر أحد على التصرف في ملكه و لا رادّ لقضائه جلت عظمته إلا منه و به تعالى و لهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء- 28].
قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ.
تأكيد لسعة علمه و كمال إحاطته و نفي علم ما سواه به تعالى. أي: أنّ أحدا من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء.
و من هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالى، لأنّ صفاته العليا و أسماءه الحسنى غير متناهية كذاته المقدّسة و ما سواه متناه و عدم‏ إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.
فالعلم للّه تعالى وحده و هو يختص به عزّ و جل و ما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه و مشيئته و إرادته و هو تعالى محيط بما سواه و قائم على خلقه و لا تتم قيّوميته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم و المعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية و الاخروية، و لا يختص ذلك بذوي العقول بل لطفه و عنايته شاملتان لجميع مخلوقاته فهي مستفيضة من فيضه العليّ، و يدل على ذلك جملة من الآيات المباركة قال تعالى: وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل- ٦۸]، و هي تحت إرادته و تربيبه العظمى و من مظاهر فيضه و إحسانه و آثار رحمته و امتنانه ذاتا و صفة حدوثا و بقاء فجميع نظامه التكويني و التشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي، و ما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزّ و جل في أصل الحدوث لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزّ و جل و هو قائم بإرادته و تدبيره الأتم و حكمته البالغة، و في كلّ آن له تعالى ربوبية خاصة و شأن غير ما في الآن السابق قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرّحمن- 29]، و من كان كذلك يكون جميع ما سواه كرسيّا له، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهرا من مظاهر القدرة و الاقتدار و التدبير و الارادة.
فالآية الشريفة تدل على تمام تدبيره و كمال إحاطته بمخلوقاته و هي عاجزة عن الإحاطة بخالقها و صفاته العليا إلا بقدر ما يفيضه عليها و يرشدها إلى الكمال المطلوب.
قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ.
مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع و المجتمع و منه الكرّاسة، و الكرسي- في العرف-: اسم لما يقعد عليه، و لوحظ فيه المعنى اللغوي أيضا لاجتماع الحال و المحل أو اجتماع الأجزاء فيه، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى‏ كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص- ۳٤]، و يكنّى به عن الملك.
و المراد به في المقام: اقتداره التام وسعة سلطانه، و هو تشبيه بليغ بين‏ ما هو المعقول- بل فوق المعقول- بما هو المحسوس، و له نظائر كثيرة في الكتاب الكريم.
و تعقيب تلك الصفات العليا و الأسماء الحسنى بهذه الآية يدل على أنّ المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى و كمال إحاطته و اقتداره و تمام تدبيره به و قيام جميع الممكنات به عزّ و جل فإنّ كرسيه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتسابا اشراقيا. و هو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود فيعم جميع الممكنات.
فكما أنّ في أسماء اللّه المقدسة اسم جامع لجميعها، و يصح انتزاع سائر الأسماء الحسنى منه و هو اسم الجلالة (اللّه) حيث ينتزع منه الرّب، و الرحمن، و الرحيم، و الجميل، و الجليل، و الجواد و غيرها من الأسماء الحسنى، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي، و هو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت و ستوجد إلى الأبد، و لعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم الذي به تقوم السّموات و الأرض كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه و تدبير ملكه على الحكمة البالغة.
و إنّما شبّه سبحانه و تعالى- ما في ساحته المقدسة التي تجل عن المادة و شؤونها، فإنّه لا كرسيّ و لا جلوس هناك تقريبا إلى الأفهام- بما اعتاد في صفات الملوك و العظماء فشبه عظمته و كبرياءه و سلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته و المدبر لشؤونها و الا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه و صفاته. و في المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية أعرضنا عن ذكره و سيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء اللّه تعالى.
و من ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة، و العجب أنّ بعضهم أقرّ بأنّ كرسيه تعالى كناية عن كمال إحاطته و تدبيره و سلطانه التام يقول بأنّ الكرسي شي‏ء يضبط السموات و الأرض لا يمكن معرفة كنهه و حقيقته. و ليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.
قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما.
الأود: المشقة و الثقل و الجهد، و الضمير يرجع إليه عزّ و جلّ، أي: لا يشق عليه حفظ السّموات و الأرض و لا يجهده و يتعبه ذلك. و لا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى و أشد من الحفظ بعد الوجود و الثبوت، و بعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلة، فالعلة المحدثة في كلّ آن تكون معه فلا يتصوّر موضوع للأود و المشقة بالنسبة إليه تعالى، مضافا إلى قيوميته المطلقة التي لا حدّ لها أبدا، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية و الربوبية العظمى.
قوله تعالى: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
هذه الجملة تدل على حصر جميع الكمالات فيه عزّ و جلّ فلا علوّ و لا عظمة إلا فيه و منه تعالى و قد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم و قرن اسم العلي بالكبير قال تعالى: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ- 23]، و بالحكيم قال تعالى: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى- ٥۱]، و قال تعالى: لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف- ٤]، كما اطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى- 1]، و قال تعالى: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى‏ [الليل- 20]، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسنى في جملة من الدّعوات المأثورة.
و المعنى: هو العليّ في ذاته و جميع شؤونه و صفاته فهو المتعالي عن الشرك و الأنداد و عن الضعف في وجوده و صفاته، و الفتور في ملكه و أمره العظيم في شأنه و جلاله، و أمره و سلطانه فلا يعجزه كثرة مخلوقاته و هو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملكه و سلطانه.
و يمكن أن تكون هذه الجملة حالية أي: كيف يؤوده حفظهما و هو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقا، فلا يعقل عروض التعب و المشقة عليه.
و هذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية تشتمل على الذات المقدّسة و أمهات الأسماء الحسنى و أصول الصفات العليا، و كلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو اللّه لا إله إلا هو المتنزه عن الأشباه‏ و الأنداد له جميع الصّفات العليا الجمالية و الجلالية.
فهو الحيّ القيوم الذي لا يأخذه ضعف و لا فتور و لا يصيبه كلال و لا ملال في حفظ مخلوقاته و هي محتاجة إليه تعالى متعلّقة بأمره و مشيته و هو متعال عنها عظيم في جميع شؤونه لا يشبهه أحد من خلقه.
و قد اشتملت هذه الآية على كلّ ما يسوق العباد إليه. و هي تملأ القلب مهابة من اللّه جلّ جلاله و تجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته و كبريائه و جلاله، و تزيد في معرفة العبد للّه تعالى و تقوده إلى ساحة قدسه و هو يستشعر بالحياء منه و قلبه ملي‏ء من عظمته و جلاله قد أعرض عن غيره و قطع أمله عن سائر خلقه و توكل عليه و اعترف بالعجز و القصور لينال ما هو المأمول.
و لأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنة الشريفة بعض منها و سيأتي في البحث الروائي نقلها.

تدل الآية الشريفة على أمور:
الأول: إنّما عبر باسم الجلالة (اللّه) في صدر الآية المباركة لدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال، و لازم ذلك انحصاره في فرد و نفي الشريك عنه ذاتا و صفة و فعلا، لأنّ الشرك مطلقا ينافي فرض الكمال المطلق و هو خلف، و بهذا الدليل القويم يستدل على التوحيد في الذات و الصفات و الأفعال و هو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، و لأجل ذلك تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ [طه- 8]، و قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل- ۲٦]، و قال تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن- 13]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضم إليها جملة (الحي و القيوم) لأنّها تتضمن أم الأسماء الجمالية و الجلالية و الأصل في نظامي التكوين و التشريع، و الرابط بين عالم الغيب بالشهادة و عالم الشهادة بعالم الغيب و فيها أهمّ أسرار عالم الملكوت و هي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت يستحيل على الممكنات تحمل معناها فترى العقول‏ صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، و حيّر الأفلاك فلا تزال تتحرّك شوقا إلى الاقتراب و كلّما تقترب ميلا تفر أميالا لشدة أشعة الجلال و عظمة الاحتجاب يحترق كلّ من دنا منها، و ماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة و قيوم كل ذي ذات- جوهرا كان أو عرضا-.
الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أنّ حفظ السّموات و الأرض أعظم من إيجادهما فإنّ حفظ الشي‏ء أعظم بكثير من إيجاده لأنّه يتطلّب جهدا أكبر فكم قد رأينا أنّ ملكا وصل إلى الملك و لم يقدر على حفظه و إبقائه فحرم من الاستمتاع به و لكن هذا غير متصوّر بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّه القادر القهار على جميع ما سواه حدوثا و بقاء إيجادا و إفناء، فلا مضادّ له في حكمه و لا ندّ له في ملكه و قد جمع ذلك في قوله عزّ و جلّ: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ … وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما.
الثالث: يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، و أنّ جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية حاضرة لدى علمه عزّ و جل حضورا علميّا إحاطيا و أنّها كذرة فلاة غير محدودة.
و التدرج إنّما هو في مرتبة المعلوم بالعرض لا في مرتبة العلم الإحاطي الغيبي، و أنّ غيب الغيوب حاكم على الشهادة بكلّ معنى الحكومة إيجادا، و تقديرا، و تدبيرا، و إفناء، و تبديلا لصورة إلى أخرى فهو المبدئ و المعيد و المصوّر لكلّ ما شاء و أراد.
كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات التي منها الإنسان من بدء حدوثها إلى آخر فنائها إذ لا معنى لمالكيته تعالى للسّموات و الأرض و علمه بها إلا ذلك فيعلم تعالى جميع ما يتعلق بالإنسان أنواعه و أفراده و جميع صفاته و حالاته و سعادته و شقاوته و أفعاله و أقواله حتّى خطرات القلوب و لمحات العيون.
الرابع: يدل قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ على أنّه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالى إلا بمسمّى المشيئة و يستفاد منه أنّ كلّ علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بد أن يكون محدودا بالمشية، و لا يمكن للعقول درك خصوصيات المشية و لا الجهات المقتضية للإفاضة، و إن كان يستفاد من قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة- 282]، أنّ لحقيقة التقوى دخلا كبيرا فيها، فإنّها توجب صفاء القلب و استعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية فإذا انعكس شعاع الشمس على المرآة الظاهرية الجسمانيّة كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية.
الخامس: يحتمل أن يكون متعلّق المشيئة الإحاطة، كما يحتمل أن يكون نفس العلم، و يحتمل أن يكونا معا و على أيّ تقدير لا يكون إلا بقدر القابليات و الاستعدادات قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد- 17]، نعم لو فرض الفناء المطلق فيه جلّت عظمته بحيث تزول الاثنينية فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه و القلم عن تحريره فإنّ جميع جهاته حاليّة لا أن تكون مقالية.
السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة- و ما في سياقها من الآيات- أنّ المعبود بالحق لا بد أن يكون فيه هذه الأمور، الحيّ، القيوم، لا تأخذه سنة و لا نوم و غيرها، لأنّ هذه كلّها ذاتية له فيمتنع التخلف و تنحصر لا محالة في اللّه جلّت عظمته.
و ما يتوهّم من أنّه يستلزم التركب في الذات الأقدس لا وجه له لأنّ جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان و النواقص الواقعية و الإدراكية عنه، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقله من معنى البساطة.
السابع: ظاهر نفي السنة و النوم عنه تعالى نفي حقيقتهما عنه مطلقا فيكون عدم الاختياري منهما عنه جلّت عظمته أيضا بل بالأولى، كما أنّ مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل و الأبد لا أن يكون مختصا بوقت دون آخر.
و ظاهر الآية الشريفة أنّ عدمهما مختص به عزّ و جل، أي نفي ذاتهما مطلقا بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.
و أما غيره تعالى فإنّه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم و السّنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا يعلمها الا علّام الغيوب، و من تلك المراتب‏ ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تنام عيني و لا ينام قلبي» و قد رأينا بعض المشايخ أنّه (رحمه اللّه تعالى) في أثناء بحث التفسير ينام مع أنّه كان مشغولا بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.
فالقيوم الذي له القيومية الفعلية على ما سواه من كلّ جهة، و الممكن الذي هو زوج تركيبي له ماهية و وجود شيئان لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.
مع أنّ للسّنة و النوم مراتب كثيرة و نفي جميعها منحصر به تعالى كما أثبتناه سابقا.
و أما العقول و بعض الروحانيين و سادات الملائكة، فإنّ نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم.
مع أنّ المقهورية المطلقة لما سواه عزّ و جل من أعظم أنواع النوم لجميع الممكنات. نعم، من كان حياته بحياته و أفنى جميع شؤونه في مرضاته بحيث لا يرى لنفسه ذاتا و لا صفة و لا فعلا و قد وصل إليه كتاب كريم من الحيّ القيوم إلى الحيّ القيوم كما في بعض الروايات فهو خارج عن موضوع ما يكتب و ما يختلج في الأوهام و لكنه مع ذلك كلّه بالنسبة إلى الأبد لا بالنسبة إلى الأزل فارتفع الوفاق و حصل الافتراق.
الثامن: قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم و علّقه على مشيته و إذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال لأنّ إفاضة العلم منه عز و جل على أقسام:
الأول: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطولية حتّى تنتهي إلى ذاته‏ المقدّسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصيات عالم الشهادة و الغيب حتّى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود و لا نهاية فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم‏ و في بعض الدّعوات المأثورة عن نبينا الأعظم «اللهم أرنا الأشياء كما هي».
الثاني: أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوى بما لها من الآثار.
الثالث: أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها و ملزوماتها دون أصل الحقائق.
الرابع: إفاضة بعض الآثار إجمالا.
الخامس: أن يتخصص كلّ فرد بخصوصية خاصة. و يمكن أن تصوّر الأقسام أكثر من ذلك و التفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت، و مقام الإثبات.

المعروف بين أهل اللغة و الأدب أنّ (اللام) تأتي للملك المجرد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكية من التدبير، و التنظيم، و الإيجاد و الإفناء و غير ذلك من لوازم الملكية عقلا و عرفا و قد وضع لذلك كله ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقق المعنى، و لا تستعمل مع عدمه مع صحة الانفكاك. و قد حصل ذلك من تصوّر الملكية في الممكنات و انتفاء الملكية الواقعية الحقيقية من جميع الجهات.
و أما فيما هو الحقيقي الواقعي فالملكية و المالكية تشمل جميع ما لها من اللوازم و الآثار التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى إيجادا و إفناء و تدبيرا و غير ذلك. فإنّ الملك فيه حقيقي لا اعتباري كالدائر بين الإنسان فالمستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أنّ له الملكية الذاتية الحقيقية الشاملة لجميع اللوازم و الملزومات التي لا توجب النقص إما بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، كما يقال: فلان رجل عاقل أي: يحسن تدبيراته و عمله و شؤونه و نحوها و الكلّ منطو في معنى اللفظ الواحد.
و كلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره و لوازمه و ملزوماته، و لا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصا فيه جلّت عظمته، و لأجل ذلك قلنا: إنّ لفظ (اللّه) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية المسلوب عنه جميع‏ النقائص الواقعية و الإدراكية، و تشهد لذلك الأدلة العقلية و السنة الشريفة فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة و سلب معان متعددة و هذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز.

تقدم أنّ آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية منها التوحيد الخالص و بيان الصفات العليا و يكفي في شرفها أنّ اسم اللّه تعالى تكرر فيها ثمان عشرة مرة بين ظاهر و مضمر بل يمكن القول بأنّها تحتوي على كليات و أصول المعارف الحقة:
أما التوحيد- فيكفي فيه قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
و أما العدل- فإنّه يكفي فيه قوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ إذ القيومية المطلقة لا تتم إلا بالعدل و إنّ به قامت السّموات و الأرض.
و أما النبوة- فيرشد إليها قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
و النبوة و المعاد متلازمان تلازم المبدإ و المعاد، لفرض أنّ النبي يخبر عن المعاد فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد كما تدل عليه الآيات المباركة.
و منه يستفاد الولاية أيضا إذ لا نبوة كاملة الا بتعيين الوصاية و الولاية.
و لشرافة ما تضمنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات و أفضلها و أجمعها فقد ورد في السنة الشريفة ما يدل على فضلها و عظمة أمرها و الاعتناء بها اعتناء بليغا، و التوصية بقراءتها و حفظها لما فيها من الآثار العجيبة و قد اشتهرت بذلك من حين نزولها و نحن نذكر في هذا البحث جملة مما ورد في فضلها، و ما يتعلق في عددها و ما يتعلّق بالكرسي، و ما ورد في تفسير مفرداتها.

الحضور عند اللّه جلّت عظمته من طرف الممكنات له مراتب كثيرة يمكن أن يقال بأنّها لا تتناهى ما دام يكون للحاضر لديه جلّ جلاله استعداد لذلك و تدور مراتبه على مراتب التخلق بأخلاق اللّه عزّ و جل و التفاني في مرضاته و أساس ذلك يرجع إلى حبّ اللّه تعالى بحيث يجري في الجوارح جريان الدم في جميع العروق فإنّ القلب منبع الحياة الأبدية و إذا خضع خضعت جميع الجوارح.
و أول من سلك هذا المسلك العظيم و مشى في هذا الطريق الجليل الكريم إنّما هو سيد الأنبياء و إمام المرسلين الذي هو أعظم أبواب رحمة اللّه لجميع العالمين حيث نال بحبّه له تعالى حياة أبدية حقيقية لا يتصوّر حياة أفضل و أشرف منها فتأمل في‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي يطعمني ربّي و يسقيني ربّي» فإنّ المحبوب يسقى مباشرة من حبيبه فهل يتصوّر حياة ألذ و أوفى من هذه الحياة؟!! ثم تأمل في‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «ليغان على قلبي فأستغفر اللّه في كلّ يوم سبعين مرة» فإنّ قلبه الشريف أبدا كان مشغولا و مربوطا به جلّت عظمته فإن عرض له عارض من أمور الأمة و الملة و مصالحهما فزع إلى الاستغفار، فجعل المعاشرة مع غيره تعالى- و لو في المباحات الضرورية- حجابا عنه تعالى، فما أشدّ الحب، و ما أفضل الحبيب و ما أجل المحبوب و في مثل هذا الحب و الحضور لا نوم و لا سنة و هو الذي‏
قال: «تنام عيني و لا ينام قلبي».
و كيف يصلح النوم لواسطة الفيض و غاية الكمال المستفاض خاتم كمالات من سبق و فاتح أبواب المعارف!! و كيف ينام و هو بمحضر محبوبه و شهيده! كلّا و ربّ الناس إنّ مقام الحبّ أعزّ و أمنع من أن يعرضه النوم و النعاس.

الآية الشريفة تضمنت جملة من الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي كثيرة. و لا فرق بين الأسماء و الصفات إلا بالاعتبار فإنّ الثانية تحمل على الذات دون الأولى كما أثبتناه في الأصول و قد اصطلحوا على مصادر النعوت (صفات اللّه تعالى) مثل العلم و القدرة و الرّحمة و نحو ذلك و على مشتقاتها (أسماء اللّه تعالى) مثل العالم و القادر و الرّحيم و غيرها.
و عن بعض أنّ هذا الفرق ذاتي لا أن يكون اعتباريا، و كيف كان فإنّ البحث في المقام يقع تارة في أقسام الصفات. و أخرى: في بيان معنى بعض الصفات الواردة في الآية الشريفة.

ذكر الفلاسفة و المتكلمون تقسيمات عديدة لأسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا باعتبارات مختلفة نذكر المهمّ منها:
التقسيم الأول: الصّفات الحقيقية المحضة، و الصفات الحقيقية ذات الإضافة، و الصّفات الإضافية المحضة.
و الاولى: عبارة عن الصّفات التي يصح أن تلحظ بذاتها من دون لحاظ أمر آخر مثل الحياة، و الوجوب، و الحقية، فهو تعالى حيّ واجب، حق.
و الثانية: هي الصّفات التي لا بد في تصورها من شي‏ء آخر مثل العلم و القدرة و الرّحمة فإنّها لا يمكن تصويرها إلا مع المعلوم و المقدور و المرحوم.
و الثالثة: هي الصّفات الإضافية المحضة في حدّ نفسها مثل الرازقية و الحكيمية فإنّها إضافة محضة و زائدة على الذات عند الكلّ، و هذه الأقسام الثلاثة تجري في صفات الإنسان أيضا.
التقسيم الثاني: صفة الذات و صفة الفعل و تقدم سابقا الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية. و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها فهي صفة فعل مثل الرزق و الخلق و الإرادة و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه فهي صفة الذات، لأنّها عين الذات فيه عزّ و جل فلا يمكن انفكاكها عنه تعالى و هي كثيرة مثل العلم و القدرة و غيرهما.
و التقسيم الثالث: الصّفات الجمالية (الكمالية) و الصفات الجلالية.
و الأولى عبارة عن الصّفات الثبوتية، و الثانية عبارة عن الصّفات السلبية.
و يمكن إرجاعهما إلى شي‏ء واحد، فإنّ الأولى- أي الصّفات الثبوتية- ترجع إلى وجوب الوجود و التحقق، و الثانية- أي الصفات السلبية- إلى سلب الإمكان عنه تعالى فيسلبه عنه عزّ و جل فتنتفي جميع النواقص الواقعية و الإدراكية.
و المستفاد من السنة الشريفة: أنّ الصّفات الثبوتية له تعالى ترجع إلى معنى عدمي لأنّ ثبوت شي‏ء له تعالى نحو تحديد فنفوا (عليهم السلام) عنه عزّ و جل حتّى هذه المرتبة من التحديد فيكون معنى «السميع و البصير» لا تخفى عليه المسموعات، و لا تخفى عليه المبصرات و معنى «الواحد و القادر» لا شريك له بوجه من الوجوه و لا يعجزه شي‏ء و قد ورد نظيره في القرآن الكريم قال تعالى: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [الفاطر- ٤٤]، فكما لا يمكن درك الذات كذلك لا يمكن درك حقيقة صفاته فإنّها «شي‏ء لا كالأشياء».
التقسيم الرابع: بحسب العظمة و الأعظم و الأعظم الأعظم. و من الأول‏ جميع أسمائه المقدّسة فإنّها عظيمة.
و أما الثاني: فقد تقدم بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة، و قد ذكر بعضهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى (عليه السلام) عن اسم اللّه الأعظم فقال لهم: «أياهيا شراهيا يعني: يا حيّ يا قيوم».
و أما الأخير فهو الذي وضعه على النهار فأضاء و على الليل فأظلم و به قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصّلت- 11]، و به تلقف عصا موسى ما يأفكون، فقال تعالى: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف- 117]، إلى غير ذلك مما شرحته السنة المقدسة و هو من الغيب المكنون.
و منها: تقسيمها بحسب العوالم فتارة: تكون في عالم وجوب الوجود، و أخرى: في المجردات، و ثالثة: في الجواهر المادية، و رابعة: في الأعراض القائمة بالغير.
و بالجملة: فإنّ جميع ما سواه مظاهر أسمائه و صفاته و ربوبيته العظمى و قيوميته المطلقة. و هناك تقسيمات أخرى يقصر منها المقال و لا يعرفها إلا أهل الحال.
و قد اجتمعت جملة من تلك الأقسام في الآية الشريفة فمن الصفات الذاتية: الحياة، و العلم، و العلوّ، و العظمة، و من الصفات الفعلية: الإذن، و من الصفات الحقيقية المحضة: الحياة، و القيومية، و من الصفات الحقيقية ذات الإضافة: الملك، و العلم، و من الصفات الإضافية: عنوان المالكية المستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ و من الصفات الكمالية الجمالية جملة منها و من الصفات الجلالية نفي الشريك. و قد اشتملت الآية على الاسم الأعظم فهنيئا لمن التفت إليه.

الحياة: تستعمل في معان متعددة ذكرها اللّه تعالى في القرآن الكريم.
و يمكن أن يجعل لها جامع قريب فيما سواه أي: منشأ الفعل و الإرادة فيشمل الجميع بل يشمل الحياة النباتية لصدور فعل النمو منها و لها نحو إرادة و إن كنا لا نفهم ذلك.
و أثبت أكابر الفلاسفة أنّ حقيقة الحياة تدور مدار حقيقة الوجود بحسب الأصل و الاشتداد و التضعف و سائر الجهات فيكون أولى الحقائق بالوجود أولاها بالحياة، و أشدّها و أعظمها بالنسبة إليه يكون كذلك بالنسبة إلى الحياة، و كما أنّ الوجود يدرك مفهومه إجمالا و لا يمكن درك حقيقته، كذلك الحياة، فهما ككفتي الميزان في جملة من الجهات.
مفهومها من أبده الأشياء و كنهها في غاية الخفاء و كما لا مطمع للممكن في درك الذات الأقدس الرّبوبي كذلك لا مطمع له في درك حياته جلّت عظمته و هي عين ذاته فلا بد و أن تعرف الحياة فيه تعالى بمعنى عدمي أي: عدم الموت، إذ لا يمكن الإحاطة بحقيقتها فيه تبارك و تعالى، لفرض أنّها عين ذاته الأقدس، فيلزمه جميع الكمالات الحاصلة من الحيّ فتكون بمنزلة الوجود.
فما كان وجوده و حياته منشأ كلّ شي‏ء و حياته، فيكون قيوم كلّ شي‏ء لا محالة، فتنحصر القيومية المطلقة فيه جلّت عظمته قيومية حقيقية واقعية إحاطية، و ما كان كذلك لا يعقل أن تأخذه سنة أو نوم. فهذه الآية الكريمة مترتبة، فكلّ سابق بمنزلة العلّة للاحقه كما تقدم فالحياة المطلقة الذاتية- على ما ذكرناه- علّة للقيومية كذلك، و القيومية المطلقة الذاتية علّة تامة لعدم تحقق السّنة و النوم و الغفلة و الفتور، و الجميع علّة تامة لسعة إحاطته و قدرته لجميع السّموات و الأرض و ما فيهما.
و الكلّ معلول إرادته التامة حدوثا و بقاء ذاتا و صفة، و مثل ذلك منحصر في الفرد و هو اللّه تعالى فهو العلي العظيم المنزه عن الند و الشرك لا يجانسه أحد من مخلوقاته.

النوم: وجدانيّ لكلّ حيوان كالأكل و الشرب، و توليد المثل و نحو ذلك من الوجدانيات و هو ضروري بالنسبة إلى الحيوان تتوقف عليه حياته كسائر الأمور الضرورية التي يتوقف عليها بقاؤه و حياته.
و محصّل ما ذكره الفلاسفة في حقيقة النوم أنّه يرجع إلى عزل الروح نفسها عن الشؤون و التدبيرات الخارجية للبدن و حصرها في البدن لمصلحة في ذلك العزل و الحصر و إنّما هي تفعل ذلك بإرادة من الحيّ القيوم فهو تعالى يقبض الأرواح و يبسطها، فالنوم حاصل منه عزّ و جل لكن جعل ذلك بالأسباب الطبيعية الظاهرية التي جرت عادته على تطبيقها في جميع خلقه من ذروة العرش الأعلى إلى تراب الأرض الأدنى.
و لا فرق بين النوم و الموت من هذه الجهة قال تعالى: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى‏ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام- ٦۰]، و قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى‏ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى‏ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر- ٤۲]، و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كما تنامون تموتون و كما تستيقظون تحيون» فكلّ منهما مفارقة تدبير الرّوح من البدن، فإن طالت مدة ذلك يكون موتا و الا كان نوما.
و لما كان الرّوح خلقا آخر و هو من أمر الرّبّ قال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء- ۸٥]، فلا بد أن تكون تحت استيلائه و سلطنته من كلّ جهة و لا معنى للقهارية المطلقة عليها الا ذلك. نعم للأسباب الظاهرية دخل بنحو الاقتضاء كما في جميع المخلوقات هذا إجمال ما لا بد من تفصيله و يأتي في محلّه.
و أما النوم الذي أطلقوا عليه (النوم المغناطيسي) فإن كان ناتجا من التسلط على الروح من حيث هي مع قطع النظر عن سائر الجهات فهذا غير ممكن لأنّ الرّوح من عالم الأمر و لا يتسلّط عليها الا من ارتبط بعالم الأمر، و الناس بمعزل عن ذلك إلا من اصطفاه اللّه تعالى و ارتضاه.
و إن كان في الجسم من حيث ارتباطه بالروح فله وجه، و لكن كلية ذلك مشكلة أيضا لغير أولياء اللّه تعالى و أحبّائه الذين بذلوا جميع شؤونهم للّه تعالى فسلّطهم على ما شاءوا و أرادوا فمشوا بحق اليقين في عالم عين اليقين و أدركوا بأبصارهم ما لا يدركه الناس ببصائرهم. نعم ما يدعونه من الوقوع إنّما يكون في الأرواح الجزئية الدنيئة هذا ما يتعلّق بالنوم بالنسبة إلى الحيوان.
و أما النوم في غيره فهو يختلف باختلاف متعلّقه فيكون تارة سباتا و أخرى: فتورا و ثالثة: غفلة و نحو ذلك مما لا يخلو عنها مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى.
و لكن جميع ذلك منفيّ عنه تعالى و هو منزّه عن السّنة و النوم و غيرهما مما يوجب الفتور و الغفلة و قد ذكرنا أنّ عروض النوم و السّنة عليه مستحيل بنفسه لأنّه من عوارض الجسم و الجسمانيات، و يلزم المحال أيضا لأنّه يستلزم الغفلة و هي تنافي القيومية المطلقة و الإحاطة الواقعية الحقيقية.

روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «آية الكرسي سيدة آي القرآن».
و روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر: «قال: يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي».
و أخرج البخاري في تاريخه و ابن الضريس عن أنس أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت آية الكرسي من تحت العرش».
و أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: «قلت: يا رسول اللّه أيّما أنزل عليك أعظم؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي» رواه الخطيب البغدادي أيضا.
و في سنن الدارمي عن أيفع بن عبد اللّه قال: «قال رجل: يا رسول اللّه أيّ آية في كتاب اللّه أعظم؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي: اللّه لا إله إلا اللّه هو الحي القيوم- الحديث-».
و في الكافي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش و قلن أي ربّ إلى أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب؟! فأوحى اللّه عزّ و جل إليهنّ اهبطن و عزّتي و جلالي لا يتلوكنّ أحد من آل محمد و شيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كلّ يوم إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة أقضي له في كلّ نظرة سبعين حاجة و قبلته على ما كان فيه من المعاصي.
و هي أم الكتاب، و شهد اللّه أنّه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم، و آية الكرسي، و آية الملك».
أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أنّ للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية و إن كنا لا ندرك ذلك و يدل عليه قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى- ٥۲].
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام): «إنّ لكلّ شي‏ء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسي».
و في أمالي الشيخ باسناده عن أبي أمامة الباهلي: «أنّه سمع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها، قلت: و ما سوادها؟ قال (عليه السلام): جميعها حتّى يقرأ هذه الآية: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- إلى قوله- وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ قال: فلو تعلمون ما هي- أو قال ما فيها- ما تركتموها على حال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش و لم يؤتها نبيّ كان قبلي قال علي (عليه السلام) فما بتّ ليلة قط منذ سمعتها من رسول اللّه إلّا قرأتها».
و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال أبو ذر: «يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي، ما السموات السبع و الأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض بلاقع ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): و إنّ فضله على العرش كفضل الفلاة على الحلقة».
و سئل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) القرآن أفضل أم التوراة؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ في القرآن آية هي أفضل من جميع كتب اللّه و هي آية الكرسي».
و عن نبينا الأعظم: «من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة لم يمنعه دخول الجنة إلا الموت و من قرأها حين ينام آمنه اللّه و جاره و أهل الدويرات حوله».
و عن علي (عليه السلام) قال: «سمعت نبيّكم (صلّى اللّه عليه و آله) يقول- و هو على أعواد المنبر-: من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت و لا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، و من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه و جاره و جار جاره و الأبيات حوله».
أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة و الجمهور و قد ورد استحباب قرائتها في مواضع كثيرة منها عند السفر و بعد الصلاة، و بعد الوضوء، و عند المريض، و حال النزاع و سكرات الموت و غير ذلك مما هو كثير راجع الكتب المعدة لذلك.

لا ريب في أنّ كلّ ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى: وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ و تقدم في حديث أبي أمامة الباهلي عن عليّ (عليه السلام) التصريح بذلك، و يظهر ذلك أيضا مما ورد في قراءة آية الكرسي و آيتين بعدها، فإنّه ظاهر في خروجها عنها، و هو المنصرف من إطلاق آية الكرسي أي الآية التي يذكر فيها الكرسي هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ أو زيادة «آيتين بعدها»، ففي الخبر عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي و آيتين بعدها و ثلاثا من آخرها لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن» فحينئذ يؤخذ بها في موردها.
و في تفسير القمي ذكر آية الكرسي إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ- و الحمد لله رب العالمين.
أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشادا إلى استحباب ذكر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب قول: «كذلك اللّه ربّي» و في سورة الجحد من استحباب قول: «ربّي اللّه و ديني الإسلام»بعد تمامها و مثل ذلك كثير في القرآن.

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فقال: يا فضيل كلّ شي‏ء في الكرسي، السّموات و الأرض، و كلّ شي‏ء في الكرسي».
أقول: أما قوله (عليه السلام) أولا: «كلّ شي‏ء في الكرسي» فيه إجمال و قد بيّنه بقوله‏ (عليه السلام): «السّموات و الأرض» و أما قوله (عليه السلام) ثانيا: «كلّ شي‏ء في الكرسي» فهو عبارة عما في السّموات و الأرض من الجواهر و الأعراض و النفوس و المجردات و الأملاك و الأفلاك.
و المراد به: الإحاطة العلمية بما سواه كلية و جزئية كما فسر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيومية فإنّه تعالى محيط بجميع ما سواه و قائم عليه بتمام معنى الإحاطة و القيومية.
و في الكافي أيضا عن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ السموات و الأرض و سعن الكرسيّ أو الكرسيّ وسع السّموات و الأرض؟ فقال (عليه السلام): «إنّ كلّ شي‏ء في الكرسي».
أقول: ظهر معنى الرواية ممّا مرّ في سابقتها. و أما سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداء قبل التأمل فيه، فأبدى الإمام (عليه السلام) الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.
و في المعاني عن حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قال (عليه السلام) علمه».
أقول: يصح التعبير عن العلم المحيط بالعرش و الكرسي و يصح هذا التعبير باعتبار الإحاطة و الاستيلاء فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك و تعالى مثل كرسيّ الجمال و الجلال و العزّة و القدرة و العظمة فما ذكره الإمام (عليه‏ السلام) بعض منها تقريبا للأفهام، و لأنّ الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.
و في المعاني أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسيّ ما هما؟ فقال (عليه السلام): العرش في وجه: هو جملة الخلق، و الكرسيّ وعاؤه. و في وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و رسله و حججه. و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله و حججه عليهم السلام».
أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني بل الإحاطة الحقيقية.
و أما الوجه فهو بيان مراتب علمه التي هي غير متناهية و سيأتي البحث في علمه عزّ و جل مستقلا إن شاء اللّه تعالى.
و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي. و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره».
أقول: تقدم ما يتعلّق‏ بقوله: «السّموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي» أي: الكرسي بمنزلة الوعاء لها. و أما قوله (عليه السلام): «العرش هو العلم» فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنى العلم و قوله: «الذي لا يقدر أحد قدره» أي: لا يقدر على فهم حقيقته أحد و لا يمكن الاطلاع على جميع خصوصياته.
في تفسير العياشي عن زرارة في قوله عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قال (عليه السلام): لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض و العرش، و كلّ شي‏ء خلق اللّه في الكرسي.
قال الأصبغ بن نباتة: «سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فقال (عليه السلام): إنّ السّماء و الأرض و ما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه».
أقول: قوله (عليه السلام): «لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض‏ و العرش» دفع لما يمكن أن يتوهم من أنّ السّموات و الأرض وسعت الكرسيّ كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى.
و المراد بالعرش: سائر مخلوقاته عزّ و جل، أي: العرش الجسماني، و قوله (عليه السلام): «في جوف الكرسي» عبارة عن سعته للسّماوات و الأرض و ما فيهما كما تقدم في الرواية السابقة.
و أما حمل الأملاك الأربعة الكرسيّ فهو عبارة عن مظاهر قدرة اللّه تعالى لحمل كرسيّ العالم الجسماني فلا تنافي بين هذه الرواية و بين الآيات الدالة على ثبوت الحمل للعرش قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ [غافر- 7]، و قال تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة- 17]، و يأتي شرحها في موضعها و قريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق (عليه السلام).
و محصّل الكلام في العرش و الكرسي أنّهما إما معنويان روحانيان أو جسمانيان أي عالم الأجسام و لا بد و أن يميّز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة لئلا يختلط بعضها ببعض، و القرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمل فيها.
في تفسير القمي عن الأصبغ بن نباته: «أنّ عليّا (عليه السلام) سئل عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فقال: السّموات و الأرض و ما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه- الحديث-» و رواه العياشي أيضا.
أقول: تقدم ما يتعلّق به في الرواية السابقة.
في الكافي عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و بناته و كانت تبيع منهنّ العطر فجاء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و هي عندهنّ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا أتيتنا طابت بيوتنا؟ فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه قال (صلّى اللّه عليه و آله): فإذا بعت فأحسني و لا تغشي فإنّه أتقى و أبقى للمال فقالت: يا رسول اللّه ما أتيت بشي‏ء في بيعي و أتيت أن أسألك عن عظمة اللّه عزّ و جل قال (صلّى اللّه عليه و آله): سأحدثك عن بعض ذلك- إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله): و هذه السبع، و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، عند حجب النور كحلقة في فلاة قي و هذه السبع، و البحر المكفوف و جبال البرد و الهواء، و حجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة في ثم تلا هذه الآية: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. و هذه السبع و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، و حجب النور، و الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي و تلا هذه الآية: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏.
أقول: القيّ- بالكسر- هي الأرض القفر الخالية. و حقيقة مثل هذه الأحاديث لا يعرفها إلا من عبر تلك المحالّ المقدسة و هو مختص بسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن أن يراد بالكرسي و العرش الجسماني منهما كما تقدّم و اللّه تبارك و تعالى محيط على الجسم و الجسمانيات و الرّوح و الرّوحانيات.
في التوحيد عن حنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال (عليه السلام): إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يقول: رب الملك العظيم، و قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ يقول على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، و منه الأشياء كلّها و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون، و القدر، و الحد، و الأين، و المشية، و صفة الإرادة، و علم الألفاظ، و الحركات و الترك، و علم العدد، و البداء. فهما في العلم بابان مقرونان لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي صفته جار الكرسي قال (عليه‏ السلام): إنّه صار جارها لأنّ علم الكيفوفية فيه، و فيه الظاهر من أبواب البداء، و إنيتها وحد رتقها و فتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما، لأنّه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز».
أقول: أما قوله (عليه السلام): «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة» مطابق للواقع و الحقيقة لأنّ كلما عظم الشي‏ء كثرت صفاته و العرش و الكرسي أعظم المخلوقات فتكون لهما صفات كثيرة و قد يجتمعان في بعضها و قد يختلفان. و هذه الفقرة تدل على ما ذكرناه آنفا من انقسامهما إلى قسمين روحاني و جسماني.
و المراد من‏ قوله (عليه السلام): «في كل سبب وضع في القرآن» أي: لكلّ سبب اصطلاح خاص في القرآن.
و المراد من‏ قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية لأنّ العرش و الكرسي مخلوقان له تعالى فيجري فيهما الكيفية و سائر الجهات المخلوقة و إن لم تجر الكيفية بالنسبة إلى الباري عزّ و جل‏ لقولهم (عليهم السلام): «و هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له».
و المراد من‏ قوله (عليه السلام): «ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي» أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي فهما شيئان مختلفان لأنّهما بابان من أبواب الغيب، و إن كان يجتمعان في كونهما من الغيب، و هذه صفة كلّ جنس له نوعان مختلفان، و أما كونهما بابين من أبواب الغيب فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى اللّه عزّ و جلّ و لا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، و الحاوي و المحتوي غيبان محجوبان عن البصائر فضلا عن الأبصار.
و المراد من الظهور في‏ قوله (عليه السلام): «لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع» النسبي منه أي بالنسبة إلى العرش فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل و الكرسي بمنزلة الباب الخارج، و الكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها اللّه تعالى.
و يمكن أن يراد بباب الغيب أي ما فوقهما لا ما فيهما، و ما فوقهما هو غيب الغيوب الذي هو سرّ محجوب.
و المراد من‏ قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الباطن» العرش الرّوحاني العلمي لفرض أنّه (عليه السلام) حدّد المعلومات بالنسبة إليه و منه يكون البداء كما ذكره (عليه السلام) من جملة العلوم، و كذا علم العدد فإنّه من أهمّ العلوم الغيبية و كلّ ذلك منطو في‏ قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الداخل و الكرسي هو الباب الخارج» فيكون تفصيلا لذلك الإجمال.
و المراد من‏ قوله (عليه السلام): «و بمثل صرف العلماء» يعني أنّ علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج مؤيدا من اللّه تبارك و تعالى.

في تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ قال: «ما بين أيديهم فأمور الأنبياء، و ما كان و ما خلفهم ما لم يكن بعد إلا بما شاء أي بما يوحى إليهم».
أقول: هذا تفسير الكلّي ببعض مصاديق العلم و الا فإنّ علمه تعالى عين ذاته فهو إحاطي بجميع ما سواه، و يمكن أن يجعل ذلك أيضا من التعميم فإنّ جميع العلوم لا تخرج عمّا يوحى إلى أنبيائه و عما يكون في الممكنات.
و في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «قلت: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال (عليه السلام): نحن أولئك الشافعون» و رواه البرقي في المحاسن أيضا.
أقول: هذا من باب التطبيق.
في معاني الأخبار عن محمد بن سنان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته هل كان اللّه عزّ و جل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال (عليه السلام): نعم قلت: يراها و يسمعها؟ قال (عليه السلام): ما كان محتاجا إلى ذلك لأنّه لم يكن يسألها و لا يطلب منها هو نفسه، و نفسه هو، قدرته نافذة، فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه و لكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه العليّ العظيم، لأنّها أعلى الأشياء كلّها. فمعناه اللّه و اسمه العليّ العظيم. و هذا أول أسمائه لأنّه على كلّ شي‏ء قدير».
أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات أي يجد نفسه بنفسه و يكون حاضرا لدى نفسه و هذا يجري في غيره تعالى أيضا لأنّ الإنسان يعرف وجود نفسه.
و أما قوله (عليه السلام): «اختار لنفسه أسماء» لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه و دعاء عباده له فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"