1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 253

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (۲٥۳)


بعد ما ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة وجوب الإنفاق و الجهاد في سبيل اللّه و إقامة الحق و قد ضرب عزّ و جلّ لذلك مثلا من الأمم الماضية ليعتبر به المؤمنون و لتطيب به نفوسهم بما يلقونه من العنت و المشقة في سبيل اللّه تعالى و إقامة دينه عزّ و جلّ و قد وعد المؤمنين بالنصر و بشرهم بالفوز و ختم الكلام بالمرسلين الذين هم واسطة الفيض أرسلهم اللّه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
ذكر في هذه الآية الشريفة أنّ تلك الرسل ميّزهم اللّه تعالى في الفضل و الدّرجات بعد ما أيدهم بالبينات.
و ذكر من أسباب التفضيل ثلاثة: تكليم اللّه تعالى، و رفع الدّرجات و التأييد بروح القدس، و خص سبحانه من الأنبياء الذين بقي لهم أتباع، فأمرهم بالاتحاد و نبذ الاختلاف اللذين هما من أركان الأديان الإلهية. و لكنّهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فآل أمرهم إلى الاقتتال، و لو شاء اللّه لأزال ما يوجب الاختلاف و الاقتتال و لكن قضت حكمة اللّه المتعالية أن يجري الأمور بالأسباب و لا رادّ لحكمه و هو يفعل ما يريد.

253- قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ.
تلك إشارة إلى الرسل الذين تضمنهم قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ و أنّثها باعتبار الجماعة، و إنّما أتى بها بعيدا لبيان فخامة أمرهم و عظم شأنهم كما ذكرنا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة- 3].
و مادة رسل من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم مفردة و جمعا، تكسيرا و سالما، مقرونا باللّه تعالى كقوله عزّ و جل: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ [البينة- 2]، و قوله تعالى: جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة- 32]، و قوله تعالى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي [المجادلة- 21]، و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ [الفتح- 28]، و غير ذلك مما هو كثير.
و الرسالة فضيلة إلهية و سفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات و الفضائل لها من الرفعة و البهاء و العظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزّ و جل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام- ۱۲٤]، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له و لا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ‏ رَمى‏ [الأنفال- 17]، و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح- 10]، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة و الدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان و العالم الرّبوبي غير المحدود بحد.
و للرسول شأن عظيم في ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، و هو السفير الخاص من العالم الربوبي اختاره اللّه تعالى لتبليغ الرسالة و هداية العباد إلى ما فيه السعادة.
و السفير لا بد أن يكون مطلعا على أسرار ما يكون سفيرا فيه و يحيط بخصوصيات من يكون سفيرا إليه، فإنّ عظم المنصب يقتضي ذلك و إنّ بالرسول يعرف المرسل‏ و قد قال عليّ (عليه السلام): «يعرف عقل الرجل من سفيره».
و رسل اللّه تعالى كلّهم يشتركون في فضيلة الرسالة و يستوون في هذه الموهبة الإلهية و المنحة الربانية و يتفقون في أصل النبوة القابلة للتشكيك إلى مراتب متفاوتة، و هم حقيقون بالاتباع و جديرون بالاقتداء بهديهم إلّا أنّهم متفاضلون في الدّرجات و يتفاوتون في المقامات، ففيهم من هو أفضل و من يكون مفضّلا عليه بما امتاز به الأفضل من الخصائص التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى قال عزّ و جلّ: اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران- 179].
و المراد بالرسل جميعهم و لكن خصّ بعضهم بالذكر و الوصف تعظيما، أو لأجل بقاء اتباعهم و هم ثلاثة من أولي العزم: موسى، و عيسى، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله و عليهم).
قوله تعالى: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ.
الفضل معروف و هو إما فردي كفضل زيد على عمرو مثلا، أو صنفي كفضل العالم على الجاهل، أو نوعي كفضل الإنسان على الحيوان، أو جنسي كفضل الحيوان على النبات، و فضل الرسل بالنسبة إلى غيرهم من قبيل الثاني، و فضل بعضهم على بعض من قبيل الأول.
ثم إنّ تفاضل الرسل بعضهم على بعض يكون من جهات:
الأولى: اختلاف الاستعدادات التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى.
الثانية: اختلاف نفس هذا المقام الإلهيّ و الجمال المعنوي، فإنّه إذا كان للجمال الظاهري مراتب لا تحصى، فالجمال المعنوي أحق بذلك و أولى.
الثالثة: الاختلاف في العلوم و المفاض عليهم من عالم الغيب.
الرابعة: الاختلاف في مراتب الانقطاع إليه عزّ و جل التي لا نهاية لها.
الخامسة: الاختلاف في مراتب تحمل الأذى في إبلاغ الرسالة الإلهية.
السادسة: الاختلاف في عدد الأمة و الأتباع و فضائلهم المعنوية.
السابعة: الاختلاف في الشريعة في كمالها و تأييدها و نحو ذلك.
الثامنة: الاختلاف في كون كتبهم السماوية شرعة و منهاجا لعدد من الأنبياء اللاحقين.
التاسعة: الاختلاف في تشعير المشاعر الدّينية و إعلامها.
العاشرة: الاختلاف في البينات و الآيات و المعجزات كمية و كيفية.
الحادية عشرة: الاختلاف في التصرف في هذا العالم و هم في عالم البرزخ في كونهم واسطة الفيض و البركات التي تنزل عليهم ثم منهم إلى غيرهم.
الثانية عشرة: الاختلاف في الغرض و هو مراتب الجنان فإنّ الأنبياء (عليهم السلام) يختلفون فيها فإنّ بعضهم في جنة الرضا و بعضهم في الرضوان.
و بعض تلك الأمور من الأمور التكوينية الذاتية و بعضها من المجعولة للذات، و الجميع تنتهي إليه عزّ و جل إمّا بالجعل البسيط أو المركب و لا يسع المقام تفصيل ذلك.
و كيف كان فإنّ جميع تلك الجهات موجودة في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي جعله خاتما لما سبق و فاتحا لأبواب المعارف على اللاحقين و هو صاحب المعجزة الخالدة.
قوله تعالى: مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ.
في الآية المباركة التفات عن الضمير إلى الظاهر، و عن الحضور إلى الغيبة تفخيما لهذه الدرجة و المنقبة و تعظيما لهذه الفضيلة، و لأنّ التكليم إنّما يكون فضيلة عالية و خصلة سامية إذا كان مع عظيم، فاكتساب الفضل و السّموّ- في المقام- بإضافته إلى اللّه عزّ و جلّ.
و مادة (كلم) تأتي بمعنى التأثير المدرك بإحدى الحاستين كالكلام بالسمع، و الجرح بالبصر، فالكلام إظهار المراد، و لا يعتبر في التأثير و الإظهار أن يكون بالآلات الجسمانية، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الأعم مما يمكن إحاطة العقل بها أو ما لا يمكن ذلك، و لكن لو فرض أنّه أحاط بها لحكم عليه بالصدق و الحقيقة، و هذا وجداني فإنّه كم كانت من معان غير معقولة في غابر العصور إلا أنّها صارت معقولة و محسوسة في عصرنا، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يتعلق بالكلام الإلهي.
و الآية المباركة مجملة في المقام و تشرحها آية أخرى من أنّه كان مع موسى بن عمران (عليه السلام) قال تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً [النساء- ۱٦٤]، و قال تعالى: قالَ يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف- ۱٤٤]، و قد ورد في السنة الشريفة متواترا تكليم اللّه تعالى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بدون توسط جبرائيل كما في المعراج و غيره.
و قيل: إنّ المراد مطلق الوحي لأنّه تكليم خفي و قد اطلق عليه التكليم في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى- ٥۱].
و لكن هذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه فإنّ وحي اللّه و إن كان عاما لجميع الرسل و الأنبياء و لكن المعهود من التكليم غير الوحي العام مضافا إلى أنّه ينافي التبعيض الوارد في الآية الشريفة.
قوله تعالى: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ.
فيه التفات عن الحضور إلى الغيبة أيضا تعظيما و تفخيما لهذه الفضيلة السامية حيث نسب الرّفع إلى اللّه تعالى كما ذكرنا آنفا.
و رفع الدّرجة من الأمور الإضافية النسبية فيصح أن يكون لرسول رفع درجة من جهة و لآخر رفع درجة من جهة أخرى، و لا ريب في أنّ لسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أرفع الدّرجات على سائر المرسلين (عليهم السلام) لما ورد عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة» و في الدنيا أيضا، يكون العلة الغائية للخليقة مطلقا، و قد ثبت في محلّه أنّ العلة الغائية علة فاعلية بوجودها العلمي و غائيّة بوجودها الخارجي، و مع ذلك قال تعالى مخاطبا له (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل- 123]، و في بعض المأثورات المعتبرة: «أللهم صلّ على محمد كما صلّيت على إبراهيم» و يستفاد من مجموع ذلك رفع درجة إبراهيم (عليه السلام) من جهة و إن كان لسيد الأنبياء أرفع الدّرجات من سائر الجهات.
و لا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم و السنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك، و قد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة، قال تعالى في إبراهيم: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة- ۱۲٤]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصّافات- 79]، و قال تعالى في إدريس (عليه السلام): وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم- ۷٦]، و قال تعالى في يوسف (عليه السلام): نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يوسف- ۷٦]، و قال تعالى في داود: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء- ۱٦۳]، و غير ذلك مما خص به بعض الأنبياء، و أما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا و سنة قال تعالى: إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ‏ عَظِيمٍ [القلم- 4]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء- 107]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ- 28]، و قال تعالى: وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب- ٤۰]، و خص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب، و أنّ فيه تبيان كلّ شي‏ء، و أنّه محفوظ من التحريف و الزيغ و الباطل، فقال تعالى فيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء- 88]، إلى غير ذلك من خصائصه (صلّى اللّه عليه و آله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء و مما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.
قوله تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
البينات جمع بينة: و هي الدلالات الواضحة و العلامات الظاهرة لكلّ أحد كإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطير، و نزول المائدة من السّماء و نحو ذلك من المعجزات و الآيات التي تفرّق بين الحق و غيره.
و مادة (قدس) تأتي بمعنى الطهارة المعنوية في كلّ ما لا ينبغي و لا يليق كالتي في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب- 33]، فهي نزاهة معنوية توجب الارتباط بعالم الغيب.
و لها استعمالات كثيرة في الكتاب و السنة. و حظيرة القدس فسّرت بالشريعة المقدّسة كما فسّرت بالجنة أيضا، و هما واحد في الحقيقة و إن اختلفا مفهوما.
و روح القدس هو جبرئيل كما في بعض الأخبار، و عليه جمع من المفسرين و بعض أهل اللغة. و في بعض الأخبار أنّ روح القدس أعظم من جبرئيل.
و قيل: إنّ روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدّسة.
و فيه: أنّه خلاف المنساق من هذه الكلمة التي يستفاد منها أنّها علم لفرد خاص.
و التأييد: النصرة و التقوية، و تأييد عيسى بروح القدس غير خلقه من نفخة روح القدس كما هو الظاهر، فإنّ هذه النفخة كالمادة العاقدة في رحم مريم ابنة عمران، و التأييد إنّما هو بعد الخروج من الرّحم.
و قد كرّر سبحانه و تعالى تأييد عيسى (عليه السلام) بروح القدس في القرآن الكريم ثلاث مرات إحداها في آية (87) من هذه السورة و الثانية هنا، و الثالثة في قوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة- 110]، و لم يذكره تعالى في سائر الأنبياء حتّى في شأن إبراهيم (عليه السلام) الذي هو مؤسس الملّة الحنيفية و صاحبها، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه تعالى حيث خلق عيسى من غير أب، و هو خرق لنظام التكوين كرّر تعالى ذلك و صرّح باسمه لتثبيت القلوب و عدم المبادرة إلى جحود الواقع المحجوب، كما كرّر عزّ و جل قصة خلق آدم (عليه السلام) في موارد من القرآن الكريم، فيكون التصريح باسمه (عليه السلام) في المقام مع عدم ذكر غيره من الرسل ردا لما كان يفعله اليهود في تحقيره و ما يعتقده النصارى في ألوهيته.
ثم إنّ التأييد بروح القدس أو غيره من الملائكة المدبرة لهذا العالم بإذن اللّه تعالى لا يلزم أن يكون بنحو الاتحاد أو الحلول، بل يكفي فيه نزول شارقة من شوارق عالم الغيب على من أراد اللّه تعالى تأييده و هذه الإشراقات الغيبية مسخرات بأمر اللّه عزّ و جل و إرادته الكاملة التامة فلا تختص بحال أو زمان بل هي تدور مدار مشيئته عزّ و جل.
قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ.
فيه التفات من الإضمار إلى الإظهار، لأنّه تعالى في مقام إظهار القدرة الأزلية، و بيان أنّ الإرادة و المشيئة لا يغلبها شي‏ء فهو عزّ و جل المهيمن على جميع الحوادث كلياتها و جزئياتها يحكم ما يريد و يقضي ما يشاء وفق الحكمة المتعالية فهو الإله الذي لا يعجزه شي‏ء، و لذا أظهر في مقام الإضمار، و عدل إلى الغيبة.
و المشيئة الإلهية تارة تكون حتمية و أخرى اقتضائية، و الأولى هي المراد في قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا، و الثانية هي المراد في قوله تعالى: وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا و بذلك يرفع الجبر.
و المعنى: و لو شاء اللّه أن يلجئ عباده على عدم الكفر و العصيان و ترك الاقتتال فهو المهيمن على جميع عباده القادر القاهر الذي لا يعجزه أحد و لكن اقتضت حكمته المتعالية أن لا يلجئهم على ذلك فقد خلقهم و أنعم عليهم بأنواع النعم ظاهرة و باطنة و ميزهم عن سائر خلقه بالعقل و جعلهم أحرارا و أنزل عليهم البيّنات الواضحات و لكنّهم اختلفوا بعد وضوح الحق و بيان الرسل سبل الهداية لهم و إتمام الحجة عليهم فهم باختيارهم نبذوا الاتحاد الذي أراده اللّه تعالى و طرحوا السعادة التي كتبها عزّ و جل لهم.
قوله تعالى: وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
أي: أنّ سبب الاختلاف كان من أنفسهم فمنهم من آمن إيمانا صحيحا. و منهم من اتبع هواه و كفر بما جاء به النبيون و هذا الاختلاف إنّما هو لأجل اختلاف الاستعدادات اقتضاء كما هو سنته في خلق الأسباب في هذا العالم.
قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ.
أي: و لو شاء اللّه لخلقهم على فطرة واحدة و جبلهم على الاتحاد و المحبة و نبذ الاختلاف و الاقتتال، و لكن اللّه يفعل ما يريد حسب الحكمة البالغة التامة.
و يمكن التفرقة بين هذه الجملة و سابقتها بالاختلاف بحسب الحدوث و البقاء، أو بحسب دفع الاختلاف قبل الفطرة بأن يجبرهم على الاتحاد أو بعد جعل الفطرة فيرفع عنهم الاختلاف و يلجئهم على الاتحاد.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: الآية الشريفة تنص على تفضيل اللّه الرسل بعضهم على بعض، و هو لا يكون على حد الإلجاء و الاضطرار بل ينتهي إلى الاختيار لترتفع الدّرجات و تزداد المثوبات و ليس ذلك من قبيل تفضيل الأحجار الكريمة على سائر الأحجار، فقد شاء اللّه تعالى أن يكون بين رسله تفاضل حاصل من اختيارهم ليكون لهم الجزاء الأوفى و الدّرجات العالية.
إن قلت: إنّه ذكرتم أنّ التفاضل قد يكون بحسب الذوات الشريفة فربما يكون بعض الأنبياء أكثر استعدادا من غيره و هو خارج عن الاختيار،
كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة».
قلت: إنّ ذلك لم يكن على نحو العلية التامة المنحصرة بل هو من مجرد الاقتضاء فقط و إلا لزم فيه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بها فيكون المقام مثل قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء- ۹٥] و ليس مثل قوله تعالى: وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد- ٤] الذي يكون غير اختياري.
الثاني: أنّ تفضيل اللّه تعالى بعض الرسل على بعض يتضمّن رفع الدّرجات أيضا و عليه ربما يتوهم أن يكون ذكر الأخير- و هو قوله تعالى:
وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ- مستدركا. و هو مردود بأنّ التفضيل إنّما هو باعتبار بعض الجهات، و رفع الدّرجات إما عام أو مختص بالمقامات الاخروية.
الثالث: يستفاد من نسبة الاختلاف إلى الإنسان و عدم نسبته إلى اللّه تعالى أنّ الاختلاف في الإيمان و الكفر و جميع المعارف الإلهية إنّما يكون من الإنسان و هو يحصل بالبغي و الجحود و الظلم، و يدل على ذلك قوله تعالى:
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة- 213]، و قد تقدّم في تفسيرها ما يرتبط بالمقام.
الرابع: يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) إنّما بعثوا بالرسالة الإلهية و أيدوا بالبينات الواضحة التي تبين الحق و تدحض الباطل، و الغرض من ذلك هداية الإنسان و إيصاله إلى الكمال اللايق به و لكن ذلك لا يزيل العناد و اللجاج بل هما من غرائز الإنسان التي لا يصلحهما الا القتال، و يدل عليه قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد- ۲٥]، حيث قرن سبحانه إنزال الحديد مع إنزال الكتاب و الميزان و بهما يفصل بين الحق و الباطل فيكون الحديد كذلك فالجهاد في سبيله تعالى مما لا بد منه في كلّ تشريع إلهيّ لإقامته و إبطال زيغ المبطلين و رفع عناد المعاندين. و لكن لو شاء اللّه لرفع الجهاد في سبيله و ما اقتتلوا و لكنّ اللّه يفعل ما يريده فإنّ الحكمة اقتضت أن يرسل الرسل و يأمر بالجهاد في سبيله، لإقامة دينه و نشر الحق‏ و يستفيد الإنسان من الرسالة الإلهية و المعارف الربوبية حتّى يصل إلى الكمال المطلوب.
الخامس: ذكر بعض المفسرين إشكالا على تفسير هذه الآية المباركة بما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بطرق مختلفة: «لا تخيّروا بين الأنبياء فإنّ الناس يصعقون- أي يغشى عليهم- يوم القيامة»، و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تفضلوا بين أنبياء اللّه» و في بعض الأخبار عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تخيّروني على موسى» أو «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى».
و هو مردود لأنّ النّهي راجع إلى الترجيح من عند أنفسهم لا التفضيل و الترجيح الذي أثبته اللّه تعالى لهم، و قد ذكرنا أنّ التفضيل بما فضّله اللّه تعالى أمر لا بد منه.
و يمكن أن يحمل على أصل النبوة و الرسالة الإلهية كما أمرنا بذلك قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة- ۲۸٥]، و التفضيل في غير ذلك كما بينه اللّه تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

في العيون عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ (عليه السلام): يا رسول اللّه أ فأنت أفضل أم جبرائيل؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ اللّه تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين- الحديث-».
أقول: ما ورد في هذا الحديث تشهد له جملة من الأخبار، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة تلويحا و تصريحا، كما يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى. و تؤيده الأدلة العقلية أيضا، و قد تقدم ذلك في التفسير غير مرة.
في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ- الآية- في هذا ما يستدل به على أنّ أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده- الحديث-».
أقول: يدل على ذلك بعض الآيات المباركة مثل قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ [آل عمران- ۱٤٤].
و في تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: «كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتّى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين! كبّر القوم و كبّرنا و هلّل القوم و هلّلنا، و صلّى‏ القوم و صلّينا فعلى م نقاتلهم؟! فقال عليّ (عليه السلام): على هذه الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ فنحن الذين من بعدهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فنحن الذين آمنّا و هم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم و ربّ الكعبة ثم حمل فقاتل حتّى قتل رحمه اللّه».
أقول: يظهر من انتهاء كلّ هذا الاختلاف و المقاتلة من بعد الرسل إلى اختيار الناس باستعداداتهم و إدراكاتهم المقتضية للاختلاف طبعا الموجب للبغي و الظلم قهرا، كما تقدم في التفسير.
و ما وقع بعد سيد الأنبياء يكون كما وقع بعد سائر الأنبياء (عليهم السلام) و يمكن استناد ذلك إلى اختلاف الاستعدادات كما مرّ، أو إلى الاجتهاد مثلا أو إلى أسرار القضاء و القدر كلّ ذلك على نحو الاقتضاء. و قد مرّ أقسام الكفر في آية (۷) من هذه السورة.
و في الاحتجاج عن صفوان بن يحيى قال سأل أبو قرة المحدّث الرضا (عليه السلام) فقال: «أخبرني (جعلني اللّه فداك) عن كلام اللّه لموسى فقال (عليه السلام): اللّه أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان اللّه عما تقول و معاذ اللّه أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون و لكنّه سبحانه ليس كمثله شي‏ء و لا كمثله قائل فاعل قال: كيف ذلك؟
قال (عليه السلام): كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النّهي من غير تردد في نفس- الخبر-».
أقول: من هذا الحديث و أمثاله يظهر أنّ الكلام من صفات الفعل لا أن يكون من صفات الذات، كما يأتي في البحث الفلسفي.
في أمالي المفيد عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول: «لم يزل اللّه جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال (عليه السلام) الكلام محدث كان اللّه عزّ و جلّ و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام».
أقول: هذا الحديث ينص على ما ذكرناه من أنّ التكلم من صفات الفعل كما سيأتي أيضا.
في نهج البلاغة في خطبة له (عليه السلام): «متكلّم لا بروية مريد لا بهمة».
و فيه أيضا في خطبة له (عليه السلام): «الذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة و اللهوات جمع لهات و هي لحمات في سقف أقصى الفم.
في تفسير العسكري: «أنّ روح القدس هو جبرائيل».
و في الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: «فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنّهم أنبياء مرسلون و غير مرسلين جعل فيهم خمسة أرواح: روح القدس، و روح الإيمان، و روح الشهوة، و روح القوة، و روح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين و غير مرسلين، و بها علموا الأشياء».
و في رواية أخرى: «أنّ روح القدس ملك أعظم من جبرئيل».
أقول: لا ريب في أنّ روح القدس من عالم المجرّدات التي أثبته الفلاسفة بالأدلة الكثيرة العقلية و النقلية. و قد اختلفت تعبيراتهم فيه فبعض عبّر عنه بالعالم المحيط، و آخر بعالم الأملاك و الرّوحانيين، و ثالث بعالم النور. و لا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا يمكن حصر موجودات ذلك العالم و لا دليل على انحصارها من عقل أو نقل، بل إرادة اللّه قاهرة غالبة و المحلّ ممكن غير ممتنع فلا وجه للحصر أبدا، فما ورد في السنة المقدّسة في تفسير روح القدس من أنّه جبرائيل أو أنّه ملك أعظم منه، أو روح يؤيد الأنبياء و المرسلين يمكن‏ إرجاع جميع ذلك إلى شي‏ء واحد لأنّ لجبرائيل الذي هو مدير عالم الإمكان أعوانا و جنودا يمكن أن يكون ما يؤيد الأنبياء و المرسلين من بعض أعوانه.
و ما ورد أنّه أعظم يراد العظمة من بعض الجهات لا من جميع الجهات فترجع جميع الروايات إلى شي‏ء واحد، و يشهد لذلك ما عن بعض قدماء الفلاسفة في شأن جبرائيل أنّه «رباني العقول».

ذكرنا أنّ قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ يدل على ثبوت صفة التكليم له تعالى مع بعض الأفراد، و قد ورد ما يدل على وقوعه منه عزّ و جل في القرآن الكريم في موارد أربعة: أحدها المقام، و الثاني في قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً [النساء- ۱٦٤]، و الثالث في قوله تعالى: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى‏ لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف- ۱٤۳]، و الرابع في قوله تعالى: اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف- ۱٤٤].
و لقد حظي موسى (عليه السلام) بهذه الفضيلة السامية و الموهبة العظمى في جميع تلك الموارد.
و المستفاد منها أنّها تثبت صفة من الصفات الربوبية و حقيقة من الحقائق الواقعية و هي من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى تأويل أو ارتكاب مجاز.
و البحث في الكلام مذكور في علوم متعدّدة كعلوم اللغة و الآداب و علمي الفلسفة و الكلام الذي أخذ اسمه منه و البحث فيه يقع في أمور:

خلق اللّه تعالى الإنسان مدنيّا بالطبع اجتماعيا بالفطرة يحتاج هذا الاجتماع الإنساني إلى التعاون بين الأفراد و الترابط بينهم و قد ولد هذا الترابط بين المجتمع و الأفراد بعض الأمور التي لا يمكن التخلّي عنها و من أهمّها الكلام و التكلّم بين الأفراد و هو الوسيلة التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و إذا رجعنا إلى السّير الطبيعي التكاملي في هذا الأمر الاجتماعي نرى أنّ أقدم وسيلة لإبراز ما في الضمير هي الإشارة ثم تطوّرت و قرنت الإشارة بالصّوت للدلالة على المعنى المشار إليه، ثم استقر التفاهم بالأصوات للدلالة على المعاني و نبذت الإشارة و استغني بالصّوت عنها و وضع لكلّ شي‏ء صوتا معيّنا و الكلام هو الأصوات الحلقية التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و وسيلة للتعبير عمّا في الضّمير وضعا و كان لذكاء الإنسان الأثر الكبير في تنضيد الألفاظ و تنسيقها و وضعها بهذه الكيفية المعهودة و لأجل ذلك تعتبر اللغة أول مظهر من مظاهر الذكاء البشري، و لا يمكن للإنسان الاستغناء عن الكلام و هو نتيجة تفاعل الأفراد المجتمعين للتفاهم فيما بينهم و كلّما اتسعت دائرة تفاهمه صارت عنده ألفاظ تدل على المعاني، و لا تزال تزيد تلك الألفاظ و اللغات تبعا لتقدم الاجتماع و الاحتياج الإنساني.
و لأجل ذلك صار الإنسان يشعر بالحاجة إلى التفاهم عن بعد، فوضع الخط و الكتابة و هي أيضا مرّت بمراحل من الخط بالرسوم ثم الخط بالرموز ثم الخط بالحروف ثم اتسعت دائرة تفاهمه و احتياجه فوضع أنظمة أخرى كما في هذه الأعصار تبعا لكثرة احتياجاته الاجتماعية.
و من ذلك يعرف: أنّ الكلام وليد التعاون الاجتماعي و هو الأصوات الحلقية المؤتلفة الدالة على المعاني بالوضع لأجل التفهيم بين أفراد الإنسان المجتمعين، و لذلك يختص بالإنسان، لأنّه اجتماعيّ كما تقدم و في غيره الذي لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي لا يعهد فيه الكلام الا على نحو المحاكاة التي هي فارغة عن الذكاء الخاص و لا يمكن التفاهم به و قد تقدم في قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة- 31] بعض القول.
و لكن هذا الكلام المبحوث عنه عند الإنسان لا يمكن صدوره عن اللّه تعالى و لا يصلح الانتساب إليه من جميع جوانبه لا من حيث أصله و حقيقته و لا من حيث صدوره و لا من جهة غايته فهو منزّه عن خروج الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع النفس المبتنية على الدلالة الوضعية، و منزّه عن احتياجه إلى التفاهم فإنّه تعالى أجلّ، و أنزه من أن ينسب إليه جميع ذلك فهو الغنيّ المطلق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ [الشورى- 11]، و سيأتي المراد من كلامه عزّ و جل الذي أثبته لنفسه الأقدس نعم حقيقة كلّ كلام- سواء كان من الخالق أو من المخلوق- أنّه إبراز للحقائق و المعاني، و هذا هو الأصل و البقية فرع عليه، بل يمكن أن نقول إنّ النظام الأحسن الأكمل الذي اتفق العقل و الشرع على حسنه و كماله يبتني على هذا الأصل الأصيل. و لكن هذا الإبراز إما أن يكون بالوحي، أو الإلهام، أو الكلام، أو القول، أو الإشارة، أو الكتابة و الخط، و غير ذلك فإنّ جميعها تشترك في حقيقة واحدة و الاختلاف إنّما هو بالاعتبار.

ذكرنا أنّ اللغة إنّما هي ألفاظ دالة على المعاني ينتقل الذهن إليها بمجرّد سماعها و قد مرّ الوضع اللغوي بمراحله المتعدّدة، فقد كان استعمال الألفاظ في المعاني المحسوسة أولا ثم استعملت في المعاني الأقرب إلى الحس ثم إلى المعنويات و كانت المرحلة الأخيرة هي التجريد الذي هو أعلى درجات الذكاء و القوى العقلية و من مميزات المرحلة الأولى أنّ الألفاظ كانت معدودة و هي مجموعة من بعض الأفعال و الأسماء.
و قيل: إنّ استعمال الألفاظ الموضوعة للمعاني المحسوسة في غيرها من المعاني المعقولة يكون مجازا حتّى يستقر الاستعمال و يحصل التبادر.
و لكنّه مردود بأنّ الألفاظ موضوعة للحقائق الواقعية غير المقيّدة بعالم دون آخر فالاستعمال يكون حقيقة كما يظهر ذلك من بعض أعاظم العلماء من الفلاسفة و غيرهم فلا مجاز في البين مع هذا الاتساع كاتساع المدنية و الحضارة التي أوجبت التغيير في الوسائل مع بقاء أصل الفائدة و الأثر المطلوب في جميع موارد الاستعمال و التفصيل حرّرناه في (تهذيب الأصول).

تقدم معنى الكلام الذي هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع‏ النّفس الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و بهذا المعنى يرادف اللغة و هو يختص بالإنسان فقط و لم يرد في القرآن الكريم استعماله في غير مورد الإنسان. و أما قوله تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل- 82]. فالمراد به الإنسان أيضا كما في ورد في السنة المقدّسة، و لو شاء اللّه لأظهر التكلم من يد الإنسان كما في قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ [يس- ٦٥] هذا و قد استعمل لفظ «كلمة» أو «كلمات» في غير مورده مثل القضاء و الخلق، و ذات الإنسان و نفسه مثل قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا [الأنعام- ۱۱٥]، و قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود- 119]، و قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ [النساء- 171]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة و ليس البحث في ذلك.
و قد يطلق و يراد به القول و لكنّه أعم موردا من الأول فإنّ الأخير استعمل في الكتاب الكريم في الإنسان و غيره ففي الإنسان قال تعالى حكاية عن الحواريين: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة- 113]، و غيره من الآيات المباركة. كما اطلق منه تعالى على الإنسان و غيره قال تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة- ۳٥]، و في مورد الملائكة قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ [آل عمران- ٤۲]، و قد اطلق عليه جلّ شأنه في قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص- 71]، و غيره من الآيات الشريفة. و في مورد الشيطان أو الجن قال تعالى: وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم- 22]، و قال تعالى في قصة سليمان: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ [النمل- 39]، و في مورد غير ذوي العقول قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت- 11]، و في جميع ما سواه تعالى من الممكنات قال تعالى: إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم- ۳٥].
و من المعلوم أنّ القول بالمعنى الوضعي الذي هو دائر في الإنسان لا يمكن إطلاقه على اللّه تعالى و على سائر مخلوقاته غير الإنسان فلا بد أن يكون المراد من استعماله هو إبراز المقصود بعناية خاصة ففي مورد الكلام يكون بألفاظ موضوعة في المخاطبة و المشافهة و في القول بمطلق الإبراز بحيث يفهم المعنى المقصود، و في الوحي و الإلهام بعناية خاصة خفيّة و نحو ذلك فالجامع القريب في الجميع هو إبراز المقصود بعناية خاصّة و يختلف ذلك باختلاف الموارد و الخصوصيات.

لا ريب في أنّ التكلم من صفات الباري عزّ و جل بنص من القرآن الكريم و السنة الشريفة كما عرفت، و يمكن الاستدلال عليه بالقاعدة المعروفة: «أنّ كلّ ما كان ممكنا في ذاته عزّ و جل و لم يستلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له تعالى» و هذه القاعدة من القواعد الحكمية المتينة التي استدلوا عليها بأدلة كثيرة، و قد أثبتوا أصل وجوب الذات بها قال بعض الفلاسفة: إذ الوجود كان واجبا فهو و مع الإمكان قد استلزمه‏ و التكلم صفة كمال ممكن في ذاته جلّت عظمته و لم يلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له عزّ و جل حسب تلك القاعدة.
و تكلّمه عزّ و جل غير علمه و سائر صفاته الجمالية، و الجلالية، للقاعدة التي أسست في محله- المشهورة عند الفلاسفة و غيرهم من: «أنّ اختلاف المفهوم كاشف عن اختلاف الذات و الحقيقة الا إذا دل دليل على الاتحاد» مثل العلم فإنّه عين ذاته و متحد معه و إن اختلف مفهومه مع الذات بدليل خارجي و هو مفقود في المقام.
و البحث في كلامه تعالى الذي هو معترك الآراء و إليه ينسب علم الكلام المعروف يقع في ناحيتين:
الأولى: في المراد من كلامه تعالى فإنّ الكلام حادث بالضرورة لأنّه‏ متدرج الوجود و كلّ متدرج الوجود حادث لا محالة فلو كان المراد من كلامه عزّ و جل هذا يلزم منه أن يكون تبارك و تعالى محلّا للحوادث و هو باطل بالضرورة و قد أثبتوا استحالته.
الثانية: في قدم كلامه أو حدوثه.
و الحق أن يقال: إنّ الكلام بالمعنى المعهود في الإنسان لا يصح نسبته إليه عزّ و جل، كما عرفت آنفا. إلا أنّ الكلام يشترك مع غيره في أنّه إبراز للحقيقة، فالجامع بين كلّ كلام- سواء كان من الخالق أو المخلوق- هو إبراز المراد و المقصود في اللفظ و الحروف و إن اختلف بالاعتبار. هذا هو حقيقة الكلام و أما خروجه من العضو المخصوص و نحو ذلك فهو خارج عن تلك الحقيقة.
نعم، قيام هذا التكلم فيه تعالى إنّما يكون قياما صدوريا كسائر أفعاله المقدّسة مثل الخلق و الرّزق و نحوهما بخلاف صفاته الذاتية فإنّها عين ذاته جلّت عظمته.
فالكلام من صفاته الفعلية، للقاعدة التي ذكرناها مرارا في الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية من أنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها- أي الثبوت و السلب- كانت من صفات الفعل، و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه عزّ و جلّ فهي من صفة الذات، و التكلّم مما يمكن سلبه عنه عزّ و جل و إثباته له تعالى فهو من صفات الفعل، قال تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً [النساء- ۱٦٤]، و قال تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران- 77]، فهو كالرّزق و الهداية و غيرهما من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها و بنقيضها من دون أن يلزم محذور في البين. و فعله حادث فالتكلم حادث فلا يكون قديما، كما أنّ إرادته جلّت عظمته فعله فهي أيضا حادثة. نعم، منشأ كلامه إنّما هو علمه تعالى، فهو بمنشئه في مرتبة الذات و بفعليته و إرادته في مرتبة الصّفات الفعلية الحادثة.
و يمكن إرجاع كلمات القوم إلى ما ذكرناه و إن أبى ظاهر بعضها عن ذلك فإنّهم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بقدم كلامه و قال آخر بأنّه حادث مخلوق. و قال ثالث إنّ التجدد و التبدل إنّما يكون في المتعلّق بالعرض كالعلم.
و لكن مما ذكرناه تعرف المناقشة في جملة مما ذكره الفلاسفة و المتكلّمون في المقام و أطالوا فيه الكلام فيكون أصل النزاع صغرويّا بينهم، و اختلاط بين صفات الفعل و صفات الذات، فمن جعل الكلام من صفات الذات ذهب إلى الكلام النفسي.

قلنا: إنّ الكلام و القول في الإنسان عبارة عن إبراز المقصود و المراد بواسطة الحروف و الأصوات الحلقيّة، و في اللّه تعالى: إبراز المراد بواسطة الحروف على نحو الإيجاد فإذا سمعها المخاطب ينتقل ذهنه إلى المدلول عليه باللّفظ فيحصل التفهيم و التفهيم، و قد ذكرنا أنّ الكلام يشترك مع كثير من الدّلالات في هذا الغرض كالإشارة و المحاكاة و نحوهما فإنّ من ذلك محاكاة وجود المعلول عن وجود العلّة و دلالته على خصوصياتها، و من ذلك ما يقال من حكاية عالم الإمكان عن علّته الحقيقية، و كونه مظهرا من مظاهر علمه عزّ و جلّ و صفاته العليا المقدسة و أسمائه الحسنى تبارك و تعالى و دالّا عليه عزّ و جل، فهو تعالى الدال على ذاته بذاته.
و كيف كان فالكلام هو الألفاظ الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و هذا هو المعنى المعروف فيه الذي ينصرف الذهن إليه عند إطلاقه في العرف و اللغة.
و لكن ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام على قسمين: الكلام اللفظي و هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع النّفس و الحروف. و الكلام النفسي و هو المعاني الذهنية التي يدل عليها الكلام اللفظي و قالت: إنّ الكلام اللفظي في اللّه تعالى حادث زائد على الذات، و الكلام النفسي فيه عزّ و جل شي‏ء قائم‏ به قديم بقدمه و استشهدوا بقول الأخطل: إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلا و قالوا: إنّ هذا هو الكلام حقيقة الذي لا يختلف باختلاف العبارات و الألفاظ و لا يتغيّر بتغيرها، و يدل عليه اللفظ و الإشارة و الكتابة. و أنكر سائر الفلاسفة ذلك و أبطلوا الكلام النفسي و اعتبروا المعاني النفسية صورة علمية و ليست من الكلام بشي‏ء، فالكلام عندهم ليس إلا الأصوات و الألفاظ التي تعبّر عن المعاني الذهنية التي هي صور علمية تصورية.
و البحث فيه يقع تارة: في مرحلة الثبوت و التصوير و أخرى: في مرحلة الإثبات و مقام الحجة و البرهان.
أما الأول:- فلا يعقل ثبوتا معنى للكلام النفسي، لأنّهم يقولون في تعريفه: إنّه ليس من العلم و لا الإرادة بل هو شي‏ء في مقابلهما قائم بالنفس حادث في الإنسان قديم في اللّه تعالى.
و فيه: أنّه لا تعقل صفة أخرى في النفس في مقابل العلم و الإرادة حتّى تسمّى بالكلام النفسي و إن أرادوا مما يسمونه بالكلام النفسي في اللّه تعالى علمه الأزلي فلا مشاحة في الاصطلاح و لكن أكابرهم يصرّحون بالاختلاف، فالكلام في اللغة و العرف و العقل يطلق حقيقة على تلك الأصوات الحلقية الدالة على المعاني، كما عرفت. و المعاني في الذهن إنّما هي صور علمية ذهنية و هي غير الكلام النفسي.
قد يقال: إنّ الشي‏ء الواحد قد يختلف باعتبارين فإنّ الصور الذهنية إنّما تكون علما و انكشافا للواقع من هذه الجهة و كلاما من جهة كونها علما مفاضا للغير.
و هو باطل لأنّ الصور العلمية هي نفس العلم و هم يصرحون بأنّ الكلام النفسي غير العلم. مع أنّ القول بالكلام النفسي بمعنى الصور الذهنية في اللّه تعالى يستلزم ثبوت تلك الصور الذهنية له عزّ و جل و تكثرها، و كون علمه حصوليا، و اعتبار كلامه محتملا للصدق و الكذب و غير ذلك، و لا أظن أنّ‏ عاقلا يلتزم بذلك فإنّ علمه تبارك و تعالى عين ذاته الأقدس، و هو منزّه عن جميع هذه اللوازم الباطلة فإنّ كلامه صدق و عدل و منزّه عن الذهن و التركب.
و أما المقام الثاني- أي إثبات الكلام النفسي- فقد استدلوا بأدلة كثيرة واضحة الفساد لمن أمعن النظر فيها.
منها: أنّ اللفظ كاشف عما يترتب في نفس المتكلّم قبل التلفظ به.
و الجواب عنه: ما ذكرناه آنفا من أنّه تصور مداليل الألفاظ الذي هو العلم. و دلالة الألفاظ عليه تكون دلالة عقلية، كدلالة الأفعال على ما يتصوره الفاعل.
و منها: أنّ إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح حقيقي لا يحتاج إلى عناية و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك- 13].
و يرد عليه: ما تقدم سابقا مع أنّه معارض بما إذا تصور الفعل في النفس فلا بد أن يقال لذلك فعل نفسي و لا يقولون به.
و منها: أنّ إطلاق الكلام على اللّه تعالى إنّما هو باعتبار من قام به الكلام لا من أوجده، و القائم به لا يكون إلا قديما.
و فيه: أنّ إطلاق الكلام عليه عزّ و جل باعتبار القيام به على نحو آخر من أنحاء القيام كما هو مفصّل في علمي الفلسفة و الأصول كقيام الرزق و الخلق بالنسبة إليه عزّ و جل و الا كان الرزق و الخلق قديمين و لا يقولون به.
و استدلوا بأدلة أخرى هي موهونة جدّا لا يخفى على من راجعها في مظانّها.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"