1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 25

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (۲٥) 


من سنته تعالى أنه في كتابه الكريم يقرن بين الترهيب و الترغيب فكلما يذكر شيئا من مظاهر غضبه يعقبه بشي‏ء من موجبات رحمته، إتماما للحجة و لئلا ييأس من رحمته أحد و كلما يذكر شيئا من جهات رحمته قفاه بشي‏ء من موجبات غضبه لئلا يتكل على عمله أحد، و لذا بعد أن ذكر الكفار و المنافقين، و ما أعد لهم من العقاب أردفه ببشارة المؤمنين و ما وعد لهم من النعيم.

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ. البشارة هي الإخبار بما يوجب ظهور آثار السرور في بشرة المخبر و قد تستعمل في الإخبار بالشر أيضا توبيخا و تعييرا كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 21]. و تقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة.
و العمل الصالح من الواضحات عند الناس مفهوما و مصداقا و هو كل ما يحبه اللّه و يرتضيه، و قد ذكر سبحانه جملة من مصاديقه في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ‏ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177] و نحو ذلك من الآيات المباركة.
قوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. مادة (ج ن ن) تأتي بمعنى الستر. و الجنات جمع جنّة و هي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه و الثمار المستترة بالأشجار و المراد بها في القرآن الكريم نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص على العام إما لكماله من جميع الجهات، أو لعدم الاعتناء بالفاني مع التوجه إلى الباقي.
و ما عن بعض اللغويين من أنّ البستان إذا كان فيه الكرم يسمى بالفردوس و إن كان فيه النخيل يسمى جنة. فإن أراد أنه مجرد اصطلاح طائفة خاصة في عصر مخصوص فلا بأس به. و إن أراد التخصيص في أصل المعنى و الذات فلا دليل عليه، مع أنه ورد في القرآن الكريم ما يخالفه قال تعالى: وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [سورة الأنعام، الآية: 99] و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [سورة الكهف، الآية: 107] و السياق في الجميع واحد.
ثم إنه ورد لفظ الجنّة و الجنّات كثيرا في القرآن الكريم بأنحاء الاستعمالات المشعرة باعتنائه تعالى بها اعتناء بليغا، و لا بد أن يكون كذلك، لأنّها نعيم أبدي لا يزول و أنّها دار الأبرار و المتقين و هي عوض ما اشتراه اللّه تعالى من المؤمنين فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] و كلما كان المعوض أعلى و أغلى يكون للعوض المكانة العليا.
قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. تستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبا و تشتمل جميع الأقسام التي يمكن تصويرها في جريان الماء و نبوعه تحت أظلال الأشجار المطابق للأذواق الحسنة المتعارفة بين الناس التي يمتدحونها و يهتمون بها في تزيين جناتهم الدنيوية. و قد نظم ذلك الشعراء بوجوه من النظم في مدح تلك الجنان، و لم يبين سبحانه خصوصيات الجريان تعميما لجميع مراتب الحسن و الكمال.
قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. يحتمل أن يجعل الظرف الأخير في الآخرة: أي، كلما انتفعوا من ثمارها قالوا هذا ما رزقنا قبل ذلك من ثمار الآخرة فإنها تكون بحيث كلما يقتطف منها ثمرة يعود مكانها مثلها.
و يحتمل أن يجعل الظرف في الدنيا فإنّ ثمار الدارين متحدتان اسما و جنسا و نوعا، و لكنهما مختلفتان في اللطافة و الذوق و الالتذاذ و نحوها.
و يحتمل أن يراد من الرزق الثاني هو نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا، و منه يظهر وجه قوله تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً لوجود التشابه بين ما ينتفعون به فعلا و بين جميع الاحتمالات التي تعرضنا لها في الجملة، فالمراد بالتشابه المعنى الأعم الشامل، و يشهد للتشابه في الجملة قول الصادق (عليه السّلام): «كل ما في الدنيا فسماعه أعظم من عيانه و كل ما في الآخرة فعيانه أعظم من سماعه» حيث أثبت (عليه السّلام) الاتحاد من جهة و الاختلاف من أخرى، و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، فإن من المشتهيات ما اشتهوه في الدنيا و تلذذوا به، و كذا ظاهر كثير من الآيات التي تعد نعم الجنّة بالأسماء المستعملة المأنوسة.
و أما ما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر» و غيره مما في سياق ذلك. فلا ينفي ما ذكر في سائر الآيات و الروايات، لأنها نعم أخرى إما جسمانية ليس في الدنيا لها اسم و لا رسم، أو من النعم المعنوية التي لا موضوع لها في الدنيا.
قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. الأزواج جمع زوج بمعنى القرين، و يطلق على كل واحد من الذكر و الأنثى، و قد يطلق على الأخيرة الزوجة. و المعنى أن لهم أزواجا مطهرات غاية التطهير، لأن حذف المتعلق يفيد العموم فهنّ مطهرات من جميع الأقذار الخلقية- كالحيض‏ و النفاس- و الخلقية كالمكر، و سائر مساوئ الأخلاق و مستكملات بكل المحامد الجسمانية و النفسانية، و ما ورد في بعض الأخبار أنهنّ مطهرات من الحيض و النفاس إنما هو بيان لبعض المصاديق.
قوله تعالى: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ. سيأتي معنى الخلود في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ [سورة هود، الآية: 108].

ذكر سبحانه في هذه الآية الارتزاق الفردي أولا، ثم أوكل معرفة ذلك الرزق إلى نفس المنتفعين منه ثانيا في قوله تعالى: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، ثم ذكر الأزواج و الاجتماع الجنسي ثالثا و إنما أخره عن الرزق، لتقدمه على الاجتماع الجنسي تكوينا. و حصر موارد الارتزاق في الثمرات رابعا لجريان نظام التكوين عليها في النشأتين. فهو سبحانه قد بين؛ كما أن بقاء الإنسان في هذا العالم بالارتزاق كذلك له دخل في تلك النشأة أيضا و لكن لا يعلم أنه دخل بقائي- كما في هذا العالم- أو دخل تلذذي و البقاء مستند إلى شي‏ء آخر.
إلّا أن يقال: إنّه لا وجه لاستناد البقاء في الآخرة إلى الارتزاق، لأن الارتزاق من الثمرات في الدنيا إنما هو لأجل الحركة و تحلل قوى الإنسان، و ليس الأمر كذلك في الآخرة.
و لكن يمكن الجواب عنه: بأنه لا وجه لنفي الحركة عن أهل الجنّة و النار لأن بعض لوازم الجسم لا تتغير في جميع النشآت و المفروض ان المعاد جسماني، كما يأتي و حينئذ يثبت التحلل لهم، لأنه من لوازم الحركة. نعم ليس لهم فضلات الجسم كالعرق و البول و نحوهما. بل ليس كل تغذية تكون لأجل التحلل كتغذية الجنين في الرحم.
ثم إنّه تعالى ذكر الجنّات بلفظ الجمع و يحتمل فيه وجهان:
الأول: أن يكون لكل واحد منهم جنات.
الثاني: أن يكون لكل واحد منهم جنّة فيصير المجموع جنّات و سياق الآيات و العناية الإلهية تقتضي الأول، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

عن الصادق (عليه السّلام) في قوله عزّ و جل: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ: «الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن».
أقول: تقدم أنه من باب التطبيق.
كما أن ما ورد عن ابن عباس أن قوله تعالى: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إلى آخر الآية المباركة- نزل في علي (عليه السّلام)، و حمزة، و جعفر، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب- من باب التطبيق لا التخصيص، كما تقدم منا مكررا.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"