1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 233

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)


الآية الشريفة تقرر أمرا من الأمور التكوينية الاجتماعية بأسلوب بليغ مشعر بالعطف و الحنان و الألفة، و هو تنشئة الأولاد بالرضاع و الحضانة و التربية، فأمر تعالى الوالدين بالقيام بشؤون الأولاد و العناية بهم، كما أمر الوالدات بارضاعهم مع التراضي و التوافق بينهما كل ذلك مع لحاظ المعاشرة بالمعروف التي أمرنا بها في الآيات السابقة فإنّ هذه الحياة متقومة بهما فلا بد من التعاون بينهما لانقاذها من المشكلات و الصعاب و جلب السعادة لهما و صلاح الأولاد الناشئين في حضانتهما.
ثم أمر بالتقوى لأنّها الغاية من كل تكليف و ارشاد و لا تحصل الا بمراقبة النفس و ما ورد في هذه الآية الشريفة يعترف به العقل السليم و الطبع المستقيم الذي نزل به الوحي المبين على قلب سيد المرسلين.

233- قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ.
مادة (رضع) تأتي بمعنى شرب اللّبن من الثّدي. و الرضاع من صفات الأنثى كالحائض، و الحامل، فإذا أريد الصفة يقال مرضع و إذا أريد الفعل يقال مرضعة قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج- 2]، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص- 12].
و مادة (حول) تأتي بمعنى التغير و التبدل و الانفصال، و بهذا الاعتبار يقال: حال فلان بيني و بينك. قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال- ۲٤]، و قال تعالى: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ- ٥٤]، و قال تعالى: وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود- ٤۳].
و التغير و التبدل إما بالذات، أو بالصفات، أو بالإضافات، و يمكن أن يجتمع في الزمان جميع ذلك، لأنّه متغيّر بالذات، و كذا بالصفات و الإضافات.
و المراد بالحولين الكاملين: أربعة و عشرون شهرا، فلا يكفي الحول و بعض الحول لما ورد في الآية المباركة من التحديد و التوصيف.
و الآية إخبار عن سنّة من سنن الطبيعة الجارية في النظام الأحسن حفظا للنوع، لأنّ شفقة الأم على الولد و اهتمامها بحفظه من حين الولادة إلى أن‏ يستقل الولد، و عطفها عليه بحيث لا تدخر عنه شيئا، و تبذل النفس و النفيس له و تقاسي في سبيله، فقرّر سبحانه و تعالى هذا القانون الطبيعي التكويني في التشريع السّماوي.
و يستفاد من هذا الخطاب الحنان و الرأفة و كمال العناية بتربية الأولاد فقدم تعالى الوالدات، لكثرة علاقتهنّ و عنايتهنّ بالأولاد.
و ذكر سبحانه و تعالى الولد حتّى يشمل الذكر و الأنثى من دون فرق بينهم خلاف ما كان شايعا في عصر نزول الآية الشريفة ثم جعل الوالدة في كفالة الوالد.
و يختص الحكم في الآية المباركة بالوالد و الوالدة و الولد و إنّما عدل سبحانه عن الأمهات إلى الوالدات، لأنّ الأخيرة تشعر بالعناية الشديدة و تشتمل على الحكمة أيضا فإنّ الولد يولد من الوالدة و يكون بمنزلة الثمرة لها.
قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ.
يستفاد منه أنّ التحديد المذكور غالبي فإن اقتضت المصلحة عدم البلوغ إلى آخر المدة كان لهما ذلك، فإنّ الأمر موكول إلى الوالدين بلا فرق في ذلك بين الوالدة المطلّقة و غير المطلّقة، و لكن يستفاد من الآية المباركة أنّ الرضاعة من حق الوالدة، و لا يمكن أن يستبد الوالد بالأمر من دون موافقتها، و يدل عليه ذيل الآية الشريفة.
و إنّما عدل سبحانه و تعالى من خطاب الإناث إلى خطاب الذكور لأجل أنّ الحضانة و الرضاعة لا تتمان إلا بموافقة الوالد و تقريره، لأنّه الركن الأساسي في المجتمع الزوجي.
قوله تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: كلاهما مسئولان تجاه هذا الرضيع، و إنّما عدل سبحانه من الوالد إلى المولود له لاشتمال الأخير على الحكمة أيضا، فإنّ الولد ملحق بالوالد و بعض منه، فعليه كفالته و القيام بمصالحة و منها النفقة على الوالدة و كسوتهنّ‏ لقيامهنّ بحفظ الولد و رعايته و قد تحملن مشقة الحمل و الرضاع فلا بد من رعايتهنّ و الإنفاق عليهنّ و كسوتهنّ بحسب المعروف و اللائق بحال الوالدين، و المتعارف يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الغنى و الفقر و العادة.
و هذه الآية شارحة لقوله تعالى: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و إنّما الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل.
قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها.
تأكيد لما سبق من الأحكام أي: لا تكلّف نفس إلا ما تتسع قدرتها و تقدر على تحمله، و قد شرح سبحانه ذلك في آية أخرى، قال تعالى:
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق- 7]، و هذا التعليل عام يشمل جميع التكاليف الإلهية قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة- ۱۸٥]، فالتكاليف الإلهيّة بأقسامها إنّما تتنجز في حدود طاقة الإنسان و لا تتجاوزها، و في سياق ذلك جملة من الآيات المباركة و الأخبار المتواترة فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في كلمته المباركة: «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء».
قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ.
تفريع على الحكم السابق. و الضرر مقابل النفع، و المضارة الضّرار من الجانبين. و الكلمة مجزومة ب لا، الناهية، و حركت آخر الكلمة بالفتحة لمشاكلتها للحرف الذي قبلها و ذلك لرفع التقاء الساكنين.
و قرئ بالرفع و لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى، و هو النّهي الإلزامي.
و المعنى: إنّه يحرم إضرار كلّ واحد من الزوجين الآخر في ولده فلا يستغل الوالد عواطف الأم و حنانها على ولدها الرضيع بإضرارها في منعها عن إرضاع الولد مع قدرتها و مكنتها أو حرمانها من الحضانة أو رؤيته، أو التضييق عليها برضاعه بلا مقابل أو الامتناع عن إعطائها الولد و سائر أنحاء المضارة. كما لا تستغل هي عطف الوالد بإضراره في منعه عن الاستمتاع بها أو طلب النفقة منه فوق وسعه أو تمنع الوالد من المعاشرة مع ولده و نحو ذلك، و مع الاختلاف لا بد من التراضي و الرجوع إلى العشرة بالمعروف.
و إنّما وضع سبحانه الظاهر موضع الضمير فقال تعالى: وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لبيان أنّ الولد لهما و متكوّن منهما معا فلا بد من مراعاة الجانبين له فإنّه كما يحتاج إلى الرضاع و الحضانة يحتاج إلى التربية و الرعاية من الوالد و الإنفاق عليه و هذا أمر تكويني قرّر في ظاهر الشرع أيضا.
أو لأجل بيان أنّ الولادة تضاف إلى الجانبين فيقال ولد الأب و ولد الأم فهما في النسبة سواء، فلا بد من ملاحظة كلّ منهما الولد و الاهتمام به.
قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ.
المراد بالوارث: ورثة كلّ واحد من الأب و الأم لو مات أحدهما تنتقل المسؤولية و التكفل إلى وارثه فلا يضار الوارث الطرف الآخر، فإذا ماتت الأم لا يضار وارث الأم الوالد بسبب الولد و لو مات الوالد فوارثه هو المكلّف في البذل على الأم بالمعروف و الحسنى حتى لا يضيع شأن الطفل و تنهار مصلحته، ففي الجميع لا بد من الإصلاح و المعاشرة بالمعروف، فإنّ فيه النجاة و الفلاح، و قد وردت روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على ما ذكرنا. و قيل في تفسير الآية الشريفة وجوه أخرى مذكورة في كتب الفقه.
قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما.
الفصال: هنا: بمعنى فصل الصّبيّ عن الرضاع أي الفطام، و الفطيم أي المفطوم يقع على الذكر و الأنثى فلهذا لم تلحقه الهاء.
و التشاور: استخراج الرأي بمراجعة البعض مع البعض و منه المشورة و الشورى و مثله المفاوضة في الكلام لظهور الحق، و قد حبذ الإسلام التشاور و الاجتماع على المشورة، و يأتي في قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران- ۱٥۹]، ما يتعلّق بالمشورة.
و المعنى: إذا أراد الوالد و المرضعة أو الوارث و الوالدة أن يفطما الرضيع عن الرضاع قبل استيفاء الحولين عن مراضاة بينهما و تشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته و عدم الإضرار به فلا بأس في ذلك لأنّ الحقّ لا يعدوهما و إنّ الحد المذكور للرضاع ليس من الواجبات التي لا تقبل التغيير و التبديل.
و التحديد إنّما كان لمصلحة الولد فإذا كانت تقتضي الفطام قبل ذلك أو كانت المصلحة تقتضي أن يكون الفصل و الفطام بعد الحولين فلا بأس بذلك إذا تراضيا عليه و كان صلاح الطفل في ذلك.
و إنّما قيّد سبحانه الحكم بالتشاور بعد التراضي لبيان أنّه لا بد من مراعاة صلاح الولد الواجب عليهما حمايته و رعايته لا مجرّد تراضيهما مراعاة لرغبتهما و أهوائهما، و يستفاد منه الترغيب إلى المشورة أيضا في الأمور و نبذ الاستبداد فيها.
قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
تفريع على الحكم السابق من أنّ الحق لهما فإذا أراد الوالد أن يسترضع لولده من ترضعه فلا بأس به إذا سلّم لها الأجرة تسليما بالمعروف بحيث لا تكون الإجارة مزاحمة لحق الوالدة، و لا أن تكون الأجرة مجحفة، و بها يكون الضمان لتربية الطفل و رعايته أشد إن كان إرضاع غير الأم في مصلحة الولد أو غير ذلك مما يجب أن يكون معروفا غير مزاحم لحق أحد من الأطراف.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أمر بالتقوى بعد تشريع تلك الأحكام و ربط العمل بها بالتقوى لبيان أنّ المهم هو الإخلاص في النية و توافق الظاهر مع الباطن لأنّه العالم بما تعملون، و قد تقدم تفسير ذلك.
و البصير من الأسماء الحسنى و يرجع إلى علمه أي لا يخفى عليه المبصرات، و يستفاد منه الحضور العلمي في الجزئيات فضلا عن الكليات.
و قد ذكرنا أيضا أنّ جملة وَ اعْلَمُوا أدعى للعمل لأنّه حينئذ يشتد قبح التقصير مع العلم، و سيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بتكرار هذا التعبير في الآية المباركة المتقدمة مع الاختلاف في الصفة.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: أنّ قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يرشد- كما ذكرنا- إلى أمر طبيعي، و هو رضاع الأم ولدها نظرا إلى شفقة الأم و لطفها و حنانها، و احتياج الطفل إلى عناية تامة قد لا تتوفر في غير الأم، و أما الوجوب فلا يمكن استفادته من الجملة الخبرية فإنّها إنّما تدل على الوجوب إذا كانت في مقام الإنشاء و لم تكن قرينة على الخلاف، و هي موجودة في المقام، كما عرفت.
الثاني: أنّ الآية الشريفة ترشد إلى أهمية لبن الأم و أولويته بالنسبة إلى غيره و ترغّب الأم في إرضاع ولدها لما فيه من الأثر الكبير في جسم الطفل و أخلاقه و صحته و نشأته بل و جميع صفاته النفسية و العقلية و أثبتت التجارب العصرية و العلوم الصحية و النفسية أنّ رضاع الام في فترة الحولين ضروري لنمو الطفل نموّا سليما، و لا يقوم مقامه غيره فهو الغذاء الذي لا يقابله غيره له، و هذه قرينة أخرى على عدم دلالة الجملة على الوجوب، فيجوز لغير الأم إرضاع الولد إن كان في إرضاع الأم موانع خلقية أو خلقية أو لجهات أخرى.
الثالث: يدل قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ على أنّ المعتبر هو أربعة و عشرون شهرا فلا يصدق الحولان على الحول الواحد و بعض من الحول‏ الثاني، و يمكن حمله على التأكيد فإنّ الطفل في هذه المدة أحوج منه في غيرها إلى العناية و الرعاية و قد ذكر علماء الطب و التربية أنّ الغذاء في هذه المدّة يعين مصير الطفل من حيث صحته و سقمه و صفاته النفسية و الخلقية، و قد كشف القرآن بهذه الكلمة الوجيزة عن كلّ ما وصل العلم إليه بعد جهدهم الأكيد في قرون، فعلى المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم فإنّه تعرض إلى كلّ ما يرشدهم إلى الهداية و الصلاح و السعادة في الدنيا و الآخرة.
الرابع: يستفاد من قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أنّ المدة المذكورة إنّما هي لمصلحة الطفل فإذا اقتضت أن تكون الرضاعة أقل منها فلا بأس به و أوكل ذلك إلى اجتهاد الوالدين، و لهذا عدل عن خطاب الأم إلى خطاب الذكور لبيان أنّها لا بد من الرجوع إلى الوالد في تقرير مصير الطفل في أمر الرضاع و الفطام، و هذا مما يؤكده قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا في ذيل الآية الشريفة.
الخامس: ذكر بعض المفسرين أنّ قوله تعالى: وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ يدل على أنّ الوالدات إنّما ولدن للآباء فقط، و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، و استشهد بقول القائل: و إنّما أمهات الناس أوعية مستودعات و للآباء أبناء و المناقشة في ما ذكره واضحة، فإنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الولد لوالديه فهو بمنزلة الثمرة لهما، و إنّما يرجع فيه إلى الاعتبارات، و ما عليه المجتمع الإنساني، و هو يختلف باختلاف الأمم، كما هو واضح.
و إنّما عبّر سبحانه بالمولود له لبيان الحكمة في الحكم و إثارة العاطفة و الحنان فيه، فما ذكره المستدل مخالف لصريح الآية الشريفة و إنّما هو عادة جاهلية قد أبطلها الإسلام.
السادس: يدل قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ على أنّ إضرار كلّ واحد من الوالدين بالآخر موجب للإضرار بالولد، و يؤثر ذلك في تربيته و نشأته و صحته و نفسيته. و النهي عام يشمل جميع أقسام الإضرار.
السابع: إطلاق قوله سبحانه و تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يشمل جميع الورثة فإنّه يحرّم الإضرار مطلقا من أيّ شخص كان وارث الوالد أو وارث الوالدة أو وارث الولد و إن كان المنصرف من الآية المباركة وارث الوالدين.
الثامن: إنّما عبّر سبحانه و تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لأنّه ورد في المقام أحكام كثيرة مرتبطة بالوالد و الوالدة و الولد و لذلك عقبها بعلمه الإحاطي بالجزئيات و علمه يستلزم حكمه بما هو الصّلاح.
و أما الآية السابقة فقد ورد فيها: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ و هي تشتمل على مصالح العباد و سبل هدايتهم و سعادتهم فعقبها بقوله تعالى: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ليشعروا بأهمية الإنعام و غزارة الفيض.

في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ قال (عليه السلام): «ما دام الولد في الرّضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأم فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة و إن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، و قالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإنّ له أن ينزعه منها إلا أنّ ذلك أخير له و أقدم و أرفق به أن يترك مع أمه».
أقول: يستفاد من هذه الرواية أفضلية لبن الأم من لبن غيرها.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا تجبر الحرة على إرضاع الولد و تجبر أم الولد».
أقول: أما عدم إجبار الحرة فلعدم ثبوت حق له عليها في هذه الجهة، و الآية الشريفة إنّما تبيّن حكم المرأة لا حكم الرجل. نعم، لو اقتضت المصلحة الوجوب تجبر على الإرضاع بإذن الحاكم لأنّه حينئذ من موارد الأمر بالمعروف.
و أما إجبار المملوكة فلفرض كونها و لبنها ملكا للوالد.
في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال (عليه السلام): «كانت امرأة منا ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها تقول: لا أدعك أنا أخاف أن أحمل على ولدي، و يقول الرجل لا أجامعك إنّي أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى اللّه عزّ و جل أن تضارّ المرأة الرجل و أن يضارّ الرجل المرأة».
أقول: هذا بيان بعض مصاديق الإضرار و الآية المباركة عامة لجميع أنحاء الإضرار.
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال الصادق (عليه السلام): «الجماع».
أقول: تقدم ما يتعلق به لو كان مضرّا.
و فيه أيضا عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قال (عليه السلام): «هو في النفقة على الوارث مثل ما على الوالد».
أقول: الآية الشريفة عامة، و ما ورد في هذه الرواية بيان بعض المصاديق.
و في تفسير العياشي أيضا في قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عن الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها و يضارّ ولدها إن كان لهم عنده شي‏ء فلا ينبغي له أن يقتر عليه».
أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.
في الكافي في قوله تعالى: وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ، عن الصادق (عليه السلام): «نهى أن يضارّ بالصبيّ أو يضارّ أمه في رضاعه و ليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور قبل ذلك كان حسنا و الفصال: هو الفطام».
أقول: هذا بيان لبعض المصاديق و الآية المباركة عامة شاملة للجميع.
في الدر المنثور عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فطام، و لا صمت يوم إلى الليل، و لا وصال في الصيام، و لا نذر في معصية، و لا نفقة في معصية، و لا يمين في قطيعة رحم، و لا تعرّب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا يمين لزوجة مع زوج، و لا يمين لولد مع والد، و لا يمين لمملوك مع سيده، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك».
أقول: المراد من‏ قوله (صلّى اللّه عليه و آله): لا رضاع بعد فصال‏ أي: بعد فطام، و هو بعد الحولين، كما يدل عليه‏ ما رواه حماد في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا رضاع بعد فطام قلت له: جعلت فداك و ما الفطام؟ قال (عليه السلام): الحولان اللذان قال اللّه عزّ و جلّ».
أقول: هذا بحسب الحكم الأولي، و أما العناوين الثانوية فقد توجب الرضاع و لو كان بعد الفطام.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"