1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 214

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (۲۱٤)


كلام في غاية البلاغة، و خطاب في منتهى الفصاحة، يقرع الأسماع بجواهر لفظه، و يشدّ القلوب بآثار وعظه، و أجلى بيان لشرح سنة اللّه تعالى الجارية في الأمم من أنّه لا يمكن الحصول على المقصود و لا الظفر بالمطلوب إلا بعد بذل غاية الجهد، و لا يتحقق الانتصار إلا بعد الصبر و الاصطبار، و مقاساة الهموم و الشدائد، و الآية مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها تثبت ما ورد فيها، فقد دلت على لطف اللّه تعالى بالناس أن بعث إليهم الأنبياء و المرسلين ليرشدوهم إلى الكمال و السعادة، و ذكر تعالى هنا أنّ ذلك لا يتم و لا ينال الفوز و الصّلاح إلا بعد الجهد و مقاساة الهموم و الشدائد و الثبات و المصابرة حتّى يأتيهم النصر.

۲۱٤- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
(أم) هنا منقطعة تفيد الإضراب بمعنى بل. و (الحسبان): مجرد الوهم بلا تصوّر لخصوصيات الموضوع حتى يؤخذ بالراجح منها.
و الخطاب لمن هداه اللّه تعالى إلى الإيمان، و هم المسلمون الذين أمرهم اللّه عزّ و جل بالدّخول في السّلم و عدم اتباع خطوات الشيطان فإنّ في ذلك سعادة الدّارين، كما أمرهم بالاعتبار من أحوال الماضين الذين بدّلوا ما أنعم اللّه عليهم كفرا فحلّ عليهم غضب من ربّهم.
و في الآية تثبيت لما ورد في الآيات السابقة، و بيان لها بأنّ ما ذكر فيها لا يتحقق و لا يمكن الوصول إلى ما يريده ربّ العالمين و الدّخول في الجنة التي وعد المؤمنين بها إلا بالثبات و المصابرة و التسليم و الرضا.
و هي تبيّن حكما فطريّا عقليّا بني عليه صلاح الفرد و النوع، و المجتمع- بل هو عادة الطبيعة أيضا- و هو أنّه لا يمكن الفوز بالمقصود و الوصول إلى المطلوب إلا بعد العمل و بذل الجهد، و أنّ الأجر على قدر المشقة، فكلّما عظم المقصود اشتد السعي و الجهود، و يستحيل في السنّة الطبيعية حصول الثمرة من دون غرس الشجرة، كما يستحيل الأخذ بالنتائج و الغايات إلا بعد تحصيل المقدمات.
و في الآية التفات من الغيبة إلى خطاب المؤمنين بعد ما نزّلوا منزلة الغيبة في أول الكلام، و العدول عنهم في أثنائه ثم الرجوع إليهم بالخطاب معهم، و ذلك لوجوه بلاغية.
قوله تعالى: وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ.
المثل- بكسر الميم و سكون الثاء، أو بفتحتين-، كالشّبه و الشّبه، و هو وصف الشي‏ء و بيان نعوته التي توضحه، و تضرب الأمثال للامتحان و الابتلاء.
و مادة (خ ل و) تستعمل في المكان و الزمان. و إذا استعملت في الثاني تكون بمعنى المضيّ، و الذهاب، و الانقضاء، قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران- ۱٤٤]، و قال تعالى: وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد- ٦]، و قال تعالى: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر- ۸٥]، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و كذلك في السنة المقدّسة
ففي الحديث «إنّ اللّه تعالى خلو من خلقه، و خلقه خلو منه».
و المراد به المباينة لا العزلة، كما فسر في أحاديث أخرى.
و المعنى: يا أيّها المؤمنون كيف تتوهمون و تطمعون أن تدخلوا الجنة و لما يجر عليكم ما جرى على الصالحين من قبلكم في شؤون دينهم و دنياهم، فإنّكم تبتلون و تمتحنون بمثل ما جرى على الغابرين فإنّ الطريق المسلوك واحد، فكلّما جرى على السالكين الواصلين إلى المطلوب يجري على اللاحقين لوحدة المبدأ، و الغاية، و السلوك.
و في الآية تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه مما كانوا يلاقونه من المشركين المعاندين من صروف البلاء و أنواع الأذى.
قوله تعالى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا.
بيان للمثل الذي ذكره سبحانه فيما تقدم.
و (المس): هو اللمس إلا أنّ الثاني أعم من الأول، لأنّه لا يقال في‏ المس إلا و الممسوس معه، بخلاف الثاني فإنّه يصح أن يقال: لمسته فما وجدته.
و التعبير به في المقام لبيان أنّ البأساء و الضرّاء لم يعرضا عليهم فقط بل أصابتاهم و مستا و ذاقوا شدائدهما فصبر المؤمنون و ثبتوا على دينهم و لم يهنوا.
و (البأساء): ضدّ النّعماء، و هي ما يصيب الإنسان في غير نفسه من أنحاء الأذى. و (الضرّاء): ضدّ السرّاء، و هي ما يصيب الإنسان في نفسه، كالقتل و الجرح و نحوهما. و (الزلزلة) هي الاضطراب الشديد، و تضاعف حروف لفظها يشهد على تضاعف معناها، و لم ترد هذه الهيئة في القرآن الكريم إلا في ستة مواضع كلّها تدل على الشدّة و الاضطراب العظيم، سواء أ كان في الدنيا أم في الآخرة، قال تعالى: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب- 11]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ [الحج- 1].
قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ.
أي: أنّ الرسول و المؤمنين مع ثباتهم و صبرهم على تحمل المكاره و الأذى، و إحاطة أعداء اللّه تعالى بهم و وقوعهم في الاضطراب و الهول الشديدين يفزعون إلى اللّه تعالى، يطلبون منه النصرة، و يستمدّون منه عزّ و جلّ العون، و يستنزلون رحمته.
و قوله تعالى: مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ مقول قول المرتبطين مع اللّه تعالى من الرسول و المؤمنين دعاء منهم و استنصارا للحق، و رغبة منهم في إظهار دين اللّه عزّ و جلّ، و النصرة على الأعداء.
و يصح أن يكون مقول المؤمنين لرسولهم، أو يكون مقولهم للّه تعالى، و يجوز أن يكون بالاختلاف.
و في الآية إرشاد للمؤمنين إلى أن يكونوا مثلهم في الصّبر و تحمّل الأذى و الفزع إليه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
جملة مستأنفة لا تتمة لمقول الرسول و الذين آمنوا معه. و وعد من اللّه تعالى لهم بالبشرى بالنصر و قربه منهم، كما وعد عزّ و جلّ به في آيات أخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصّافات- 171- 172].
و لفظ (ألا)- بالفتح-: يفتتح به الكلام للتنبيه و الإعلام، يؤتى به للإشعار بعظمة الكلام و أهميته، و في المقام لا شي‏ء أهم و أعظم من قرب نصر اللّه تعالى لأهل البلاء و المحن، كما في قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس- ٦۲].

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: تدل الآية الشريفة على دوام الابتلاء و الامتحان في الأمم و جريانهما وفق السنة الإلهية، و لا يستثنى من ذلك قوم و لا أمة.
و تدل أيضا على تكرار الحوادث و ما جرى على الأمم الغابرة، و هو المعبّر عنه بعود التاريخ و تكراره.
الثاني: أنّ تمنّي الجنة بدون تحمّل متاعب التكليف و مشاقه في مرضاة اللّه من اللغو الباطل، و من جوامع‏ كلمات نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «حفّت الجنة بالمكاره».
و يمكن أن يجعل ذلك من القواعد العقلية من باب ملازمة المعلول للعلة التامة، و عدم انفكاكه عنها.
الثالث: أنّ تمنّي النّصر من اللّه جلّت عظمته عند تناهي الشدّة لا يكون منافيا للشكر و التسليم، و الرضا بالقضاء، لفرض أنّ الجميع منه تعالى و إليه عزّ و جلّ. و من ذلك يعلم أنّه لا يضرّ بمقام الرسول لو طلب من اللّه تعالى النّصر مع علمه بوعده عزّ و جلّ له به، فإنّ الرسل يطلبون من اللّه تعالى دائما النّصر بلسان الحال أو المقال.
الرابع: يدل قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ على أنّ عند شدة البلاء يكون النّصر، و تدل عليه أحاديث من السنة الشريفة منها قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «عند تناهي الشدة يكون الفرج».
الخامس: لم يذكر سبحانه درجات الجنة و مقاماتها لعدم تناهيها و لأنّها تختلف باختلاف مراتب المبتلين بالبأساء و الضّرّاء.
و إذا كان هذا حال من أراد الوصول إلى الجنان فكيف حال من أراد الوصول إلى ساحة الرّحمن و ظهور تجلياته عزّ و جلّ فالطريق يكون أصعب، و الامتحان أشد، فلا بد من ترك ما سواه و التوجه إلى من لا يقصد الملأ الأعلى إلا إياه، و التفاني في حبّ اللّه تعالى، و مراقبة النفس في جميع الأحوال.
ألاحظه في كلّ شي‏ء رأيته و أدعوه سرّا بالمنى فيجيب‏ ملأت به سمعي و قلبي و ناظري و كلّي و أجزائي فأين يغيب‏

السادس: إنّ قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يتضمّن قاعدة عقلية عرفانية، و هي محبة الخالق لخلقه، و المعبود الحيّ القيوم لعباده، و استباق العلّة التامة لمعلولها، و تربيبه العظيم لجميع جهات العبد بذاته و أعراضه، و قد أثبت أهل الفلسفة العملية أنّ هذا الشوق تكويني، كما فصّلوا ذلك في مباحث النفس، و شرح المقام يأتي في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

المعروف أنّ لفظ (ام) يتضمّن معنى الاستفهام، و هو إما منقطع بمعنى بل، كما في هذه الآية الشريفة. أو متصل، و هو تارة بمعنى أو، كما في قوله تعالى: أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان- 37]، و أخرى للتسوية، قال تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة- ٦]. و الفارق القرائن المعتبرة.
و الحق أنّه في الأصل حرف عطف و ما ذكروه إنّما يستفاد من القرائن من باب تعدّد الدالّ و المدلول، كما صرّح به بعضهم فلا اشتراك في البين، كما هو جار في جملة مما عدّوه من المشترك.
ثم إنّ قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ يجوز فيه النصب و الرفع، فعلى الأول يكون غاية لما سبق، و على الثاني يكون ما سبق من الدّواعي لصدور هذا القول من الرسول، و كلاهما صحيحان لما ذكرنا من أنّ الرسول يستمد العون منه عزّ و جلّ دائما في جميع الأحوال، حالا و مقالا.
و (لمّا) لتأكيد النفي في مقابل الإثبات المؤكد، و هو يناسب المقام. و الفرق بين (لمّا) و (لم) أنّ الأول لنفي قد فعل و الثاني لنفي فعل. و يستنتج من ذلك فروق خمسة:
أحدها: ما ذكر.
الثاني: أنّ «لمّا» تنفي مع توقع الحصول، و «لم» لنفي المنقطع، و قد ذكروه في المقام.
الثالث: أنّ «لمّا» للنفي المستمر إلى الحال، و منفي «لم» يحتمل الاتصال.
الرابع: أنّ منفيّ «لمّا» لا يكون إلا قريبا من الحال و لا يشترط ذلك في منفيّ «لم».
الخامس: أنّ منفيّ «لمّا» جائز الحذف لدليل و لا يجوز ذلك في منفيّ «لم».

ذكر الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ.
نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد و الشدّة و الحرّ (و الخوف) و البرد، و سوء العيش و أنواع الأذى، و كان كما قال اللّه تعالى: وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب- 10].
أقول: هذا من باب التطبيق و بيان بعض الصغريات و إلا فحكم الآية عامّ إلى قيام الساعة.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"