1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 186

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (۱۸٦)


تحريض للدعاء بأسلوب بليغ يشعر بالعطف و الحنان و المحبة، و ترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق و غاية الكمال و هي الرشاد و في الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجابا، و في تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحث على الدعاء في هذا الشهر و أنّ له اختصاصا به و القبول فيه مما يخفف ثقل التكليف بالصوم فيه، و هذا مما دلت عليه السنة المقدسة
ففي بعض الأخبار: «من فاته الدعاء في شهر رمضان فلينتظر يوم عرفة، و من فاته الدعاء فيه فلينتظر شهر رمضان المقبل».

186- قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي.
السؤال: طلب معرفة شي‏ء و استدعاؤها، أو طلب مال. و في الأول يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بحرف الجرّ أخرى، تقول: سألته كذا، و سألته عن كذا، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال- 1]، و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة- 189]، و قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج- 1]. و إذا كان لطلب المال يتعدى إليه بنفسه أيضا، و بمن أخرى، قال تعالى: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب- ٥۳] و المعروف أنّ الطلب إذا كان من العالي إلى السافل، فهو أمر.
و إذا كان بالعكس فهو سؤال. و إذا كان من المساوي فهو استفهام، و قد ذكرنا في الأصول أنّه لا كلية في ذلك، و يختلف الدعاء عن السؤال في أنّ الأخير بمنزلة الغاية للأول.
و العبد، و العبودية، و العبادة: بمعنى التذلل و الخضوع، و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به. و للعبد في القرآن دلالات:
الأولى: في مقابل الحر، و هو الذي يباع و يشترى كسائر الأمتعة و له أحكام خاصة في الإسلام مذكورة في الكتب الفقهية، قال تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى‏ بِالْأُنْثى‏ [البقرة- 178].
الثانية: عبد الإيجاد يعني خلقهم للعبودية و الخضوع له تعالى، كما في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم- 93].
الثالثة: المخلصون من عباده تعالى الذين لهم مع اللّه جل جلاله حالات، و له عز و جل معهم عنايات، و لهم في القرآن قصص و حكايات، و هم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته فقال تعالى حكاية عنه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص- 83]، لأنّهم اتخذوا اللّه تعالى بذاته الأقدس معبودا لأنفسهم بتمام معنى العبودية الحقيقية، فاتخذهم اللّه تعالى عبادا لنفسه و مدحهم بأبلغ المدائح، و لعلّ أرقّها قوله تعالى: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان- ٦۳].
الرابعة: عبد للّه تعالى و لكنّه يطيع الشيطان و يتبعه، قال تعالى حكاية عنه: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً [النساء- 118]، سواء كان مسبوقا بالكفر ثم آمن كذلك أم لم يكن، و الجميع عبيده عزّ و جلّ لكثرة رأفته و عنايته بخلقه، و يدل على ذلك قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر- ٤۹] و قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏ أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء- ٥۲] مع أنّهم كانوا من سحرة فرعون، فإنّ المنساق من هذه الآيات أنّ مجرد الإيمان باللّه جلت عظمته في مقابل الكفر به يكفي في شمولها له و هو مقتضى الرحمانية و الرحيمية المطلقة له عز و جل.
و في الكلام من العناية و اللطف ما لا يخفى.
قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ.
القرب معلوم. و القريب من أسماء اللّه الحسنى- و جميع أسمائه المقدسة حسنى، و إنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا- و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود- ٦۱]، و قال تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ- ٥۰]، و يبيّن هذا المعنى قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد- ٤]، و قد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.
أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف- ٥٦].
و يطلق القرب بالنسبة إلى المكان، كقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة- 28]، و هو كثير في القرآن. و أخرى: بالنسبة إلى الزمان، قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ [الأنبياء- 1]. و ثالثة: بالنسبة إلى الفعل كالتصرف و غيره، قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الإسراء- ۳٤]، و قال عز و جل: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ [الإسراء- 32]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ [الأنعام- ۱٥۱]. و رابعة: بالنسبة إلى النسب، كقوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى‏ [النور- 22]، و قال تعالى: وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ [النساء- ۳٦].
كما يطلق و يراد به القرب المعنوي من طرف الخلق، قال تعالى: وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء- 172]، و قال تعالى: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران- ٤٥]، و قال تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين- 28].
و القرب المعنوي: إما من اللّه تعالى بالنسبة إلى خلقه و يصح أن يعبّر عنه باللطف، و العناية، و الرعاية، و القدرة، و نحو ذلك. و إما من المخلوق بالنسبة إليه عز و جل و هو حالة انقطاع إلى اللّه تبارك و تعالى بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرّب إليه جلّت عظمته و العبد المتقرّب منه و لا يحيط بها إلّا اللّه عز و جل، و لكلّ ما ذكرناه مراتب كثيرة.
و المراد بقربه تعالى- في المقام-: القرب باللطف و الرحمة و الإجابة الذي لا حد له و لا نهاية لا أن يكون قربا زمانيا أو مكانيا فإنّه تعالى يجلّ عنهما و هو محيط بهما بالإحاطة القيّومية الحقيقية.
و ربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلّة الحقيقية من المعلول المحتاج‏ إليها حدوثا و بقاء، و قد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام): «يا جاري اللصيق، يا ركني الوثيق»، كما ورد في بعض مخاطبات اللّه تعالى مع موسى بن عمران: «يا موسى أنا بدّك اللازم».
و كيف كان و فيه الكناية اللطيفة فإنّ فيه تمثيلا لحاله في سهولة إجابة دعائه و سرعة إنجاح حاجة من سأله بحال من قرب مكانه.
قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ مادة [ج و ب‏] تأتي بمعنى القطع، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، و الجواب يطلق غالبا في مقابل السؤال. و السؤال إن كان لطلب المقال فجوابه المقال، و إن كان لطلب المنال فيكون جوابه المنال. و من الأول قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الأحقاف- 31]. و من الثاني قوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما [يونس- 89] أي أعطيت سؤلكما.
و الاستجابة: التحري و التهيؤ للجواب، يعبّر بهما عن الإجابة لعدم الانفكاك بينهما غالبا لا سيما بالنسبة إلى الغنيّ المطلق و الرحيم بعباده في جميع العوالم، فهذه المفاهيم الثلاثة أي: الدعاء، و الإجابة، و الاستجابة، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عز و جل، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر- ٦۰]، و قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ [آل عمران- 172]، و قال تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‏ [الرعد- 18].
فالآية الشريفة في المقام تشتمل على علل الحكم أي: أنّ الداعين لكونهم عباد اللّه فإنّ اللّه قريب منهم و قربه إليهم موجب لإجابة دعواتهم، و ذلك أنّ عباده ملك له بالملكية الحقيقية، و هذه هي المقتضية لكونه قريبا منهم على الإطلاق و إلا فإنّ ما سواه تعالى فقير بحد ذاته و إنّما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك المالك الحقيقي للأشياء له و هو اللّه سبحانه و تعالى فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد، كما يظهر من قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الفاطر- ۱٥].
ثم ذكر سبحانه أنّ استجابة الدعاء منوطة بأمرين:
أحدهما: أن يكون الداعي داعيا بحسب الحقيقة كما يدل عليه قوله تعالى: إِذا دَعانِ فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالما بحقيقة الدعاء صادقا عليه التوجه إلى اللّه جل شأنه، و متوجها إليه صادرا عن معرفة بحكمته و سعة رحمته دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى، و ترشد إلى ذلك الآيات التي تدل على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة مثل قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن- 29]، و ذلك لأنّ الاستحقاق كان بحسب الذات فالسؤال كان عن الفطرة، و من ذلك يظهر السر في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة و إن لم يكن للسان فيه عمل، و هذا بخلاف الدعاء.
و الأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك: قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي.
أي أنّهم إذا أرادوا الإجابة و الاستجابة، و إذا كان اللّه تعالى قريبا منهم لا يحول بينه و بين دعائهم شي‏ء فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه و العمل بما أمرهم من الإيمان و العبادات التي فيها صلاحهم و سعادتهم و رشدهم، و لا بد لهم من الإيمان بما يتصف به من الصفات الحسنى، و لا بد لهم من المعرفة بأنّه قريب يجيب دعوة الداع.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
الرشاد: ضد الغي. أي أنّ الأعمال و الدعاء إذا صدرت عن روح الإيمان يكون صاحبها راشدا مهتديا، و قد تقدم الوجه في إتيان كلمة [لعلّ‏] في أمثال المقام.

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع بأحسن بيان و أرق أسلوب و أبلغ خطاب يلقى إلى السامع و هو يشعر بالعطف و الحنان، و استقرار النفس بأنّ خالقها قريب منها يسمع دعاء من يدعوه بكل ما يدعوه، و هي تتضمن من الأنحاء الأدبية ما يلي:
الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيه من التذكير لهم بالدعاء و الطاعة و التنويه بشرف الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و عظمته.
إلقاء صيغة التكلم للدلالة على كمال العناية بالدعاء و المدعوّين.
دلالة قوله تعالى: عِبادِي على كمال الرأفة و الاعتناء بالخلق و الاهتمام بالأمر، و لو قال: [خلقي أو الإنسان‏] و ما أشبههما لما أفاد ذلك.
إتيان الصيغة المؤكدة في قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ دون الفعل للدلالة على ثبوتها و دوامها، كما أنّه حذف الواسطة و لم يقل: [فقل إنّي قريب‏] ليدل على أنّ الإجابة منحصرة فيه تعالى.
إتيان الفعل في قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ للدلالة على استمرار الإجابة و تجددها. و يأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكلّم مفردا.

يستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأول: إتيان ضمير المتكلم المفرد في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي للدلالة على مزيد العطف و العناية. و من سنته جل شأنه في القرآن الكريم أنّه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار و الكبرياء و الهيمنة يأتي بضمير الجمع غالبا، مثل قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ [ق- ٤۳]، و قوله جلّ شأنه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا [يس- 12]، و قوله عز و جل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ [الأحزاب- 72]، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان- 3]، و قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر- 1]، و غير ذلك مما هو كثير.
و إذا كان في مقام الامتنان و الرأفة و التحنن و إظهار المعية يأتي بضمير المفرد قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى‏ [طه- ٤٦]، و قال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه- ۱٤]، و في المقام قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ، فهو مشعر بالتوجه و الإلفة و تهييج الشوق- كأنّه مما يشبه اختلاط المتكلم مع المخاطبين- ما لا يدركه الإعلام و يقصر دون بيانه الأعلام.
الثاني: الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قائد الأمة و رأسها و رئيسها بل إنّ ذلك ثابت له بالنسبة إلى جميع الخليقة للإشارة إلى أنّ الدعاء لا بد من وروده من بابه و هو خاتم الأنبياء فإنّه الواسطة في الفيوضات الإلهية و خاتمة جميع المعارف الربوبية، فهو الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل.
و فيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأمور الدينية من النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أو من يتبع طريقه علما و عملا، مع أنّ أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب.
الثالث: إنّ شأن العبد بالنسبة إليه عز و جل هو الدعاء، و قد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعا للشرائط إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران- 9]. و أما السؤال عن كنهه و ذاته سبحانه و تعالى فهو مرغوب عنه إذ لا يدرك الممكن كثيره و لا ينفع قليله، بل ربما يضر، و لذا ورد النهي في السنة عن التعمق في ذاته تعالى، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ و لا معنى للسؤال عما هو قريب حاضر.
و من العجائب أن أكون مسائلا عن حاضر لا زلت أصحبه معي‏.

الرابع: تكريم الداعي السائل بالاضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي و فيه من الأدب ما لا يخفى و تعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.
الخامس: تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فإنّه بشارة باستجابة الدعاء ثم التأكيد بقوله تعالى: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي فإنّه سواء كان خاصا بخصوص هذه الآية أم عاما لجميع التشريعات فإنّه يدل على تحقق مفاد الآية و اتباع ذلك بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ و هو تأكيد آخر، و لبيان أنّ الدعاء سبب الرشد الذي هو إصابة الحق و الخير، و إليه يشير قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أعجز الناس من عجز عن الدعاء، و أبخل الناس من بخل عن السلام».
السادس: إنّ قوله تعالى: إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يدل على شروط استجابة الدعاء أحدها سيق لبيان الموضوع، و هو قوله تعالى: إِذا دَعانِ فإنّه معلوم مما قبله و لكنّه ذكر لأجل التنبيه على أنّه ليس كل من يدعو اللّه لحاجة هو داعيا للّه بحقيقة الدعاء لفقد الانقطاع و عدم التوجه إليه تعالى فلا يكون هناك مواطاة بين القلب و اللسان و لا يكون دعاء بل التبس الأمر على الداعي فيسأل ما يجهله أو ما لا يريده لو انكشف الأمر له، أو يكون سؤال لكن لا من اللّه تعالى وحده، و لذا ورد إنّ اللّه لا يستجيب دعاء من قلب لاه متعلق بالأسباب المادية أو الأمور الوهمية فلم يكن دعاؤه خالصا لوجه اللّه تعالى فلم يسأله بالحقيقة، و هذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء و الأحاديث الشارحة لها.
السابع: إنّ إفراد الضمير في (عنّي) و (إنّي) و (أجيب) فيه إشارة إلى أنّ إجابة الدعاء منحصرة به تعالى و لا دخل لغيره فيها لأنّه تصرّف من عالم الملكوت الأعلى في عالم الملك الأسفل و لا يليق بذلك غيره عز و جل. نعم الاستشفاع و التوسل بعباد اللّه الصالحين الذين جعلهم اللّه تعالى واسطة الفيض لديه شي‏ء آخر لا ربط له بإجابة الدعاء، كما لا يخفى.
مع أنّ الحنان و الرأفة و جذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحيد الضمير لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة فتشغله عمّا يحتاجه من قليل أو كثير.
كما أنّ في تكرار ضمير الإفراد في (عنّي) و (إنّي) إشارة إلى أنّ المسؤول عنه نفس القريب المجيب و عينه و لا فرق إلا بالاضافة الاعتبارية. فإنّه إذا أضيف إلى السائل يكون مسئولا عنه و إذا أضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريبا مجيبا و إن كانت إضافته من صفات فعله لا من صفات ذاته، و في المقام سرّ آخر، لعله يظهر في الآيات المناسبة.

في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الدعاء».
و في عدة الداعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».
أقول: الروايات في فضل الدعاء و آدابه و كيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية.
في تفسير العياشي عن ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي قال (عليه السلام): «يعلمون أنّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».
أقول: يريد (عليه السلام) أنّه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك، بل الإيمان باستجابة الدعاء.
و في المجمع عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أي: و ليتحققوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي: «لعلهم يصيبون الحق أي يهتدون إليه».
أقول: يظهر وجهه مما سبق.
و عن ابن عباس: «قالت اليهود كيف يسمع ربّنا دعاءنا و أنت تزعم أنّ بيننا و بين السماء خمسمائة عام و غلظ كل سماء ذلك؟ فنزلت الآية: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.
و روي أنّ قوما قالوا للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ قريب ربّنا فنناجيه أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلت الآية المباركة».
و روي أنّ سبب نزولها: «أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) سمع المسلمين يدعون اللّه بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا إنّكم تدعون سميعا قريبا و هو معكم».
أقول: يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كل بحسب طائفة و قوم فتختلف باختلاف الجهات.
أما الأول: فبحسب مزاعم اليهود حيث زعموا أنّ سمع اللّه يكون كسمعنا يحجب بالحجاب، و لكنّه باطل، لأنّ المراد بسمعه تبارك و تعالى: العلم بالمسموعات و الإحاطة بها كما في جملة من الروايات، و لذا لا يشغله سمع عن سمع لأنّ علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه.
أما الثاني: فيكشف عن جهلهم بالحقائق.
و أما الأخير: فهو ناش عن سوء أدبهم، فإنّ الآية المباركة ترشد إلى نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم فيكون مثل قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور- ٦۳]، و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات- ٤].

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب و أعظمها في نيل المقصود و من أشد روابط القرب إلى المعبود و لا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله و أطواره، و جميع نشئاته سواء بلسان الاستعداد و الفطرة أم بلسان المقال، و لا يخلو كتاب إلهيّ من الحث عليه، و هو العبادة التي أمرنا بإتيانها و الراغب عنه عدّ من المستكبرين عن رحمة الرحمن قال تعالى: وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر- ٦۰]،و عن السجاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في صحيفته الملكوتية بعد ذكر الآية المباركة: «فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنّك و شكروك بفضلك، و دعوك بأمرك، و تصدقوا لك طلبا لمزيدك، و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك» و البحث في الدعاء من جهات كثيرة نذكر في المقام الأهم منها، و يأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

للدعاء فضل كبير، و قد أمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و قد عبّر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدمة، و يكفي في فضلها قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان- 77] فهو سبب اعتناء اللّه تعالى‏ بخلقه، و قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة- ۱۸٦] فإنّه كفى فضلا في أنّه تعالى بنفسه الأقدس يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين، و قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر- ٦۰]، حيث رتب الاستجابة على الدعاء، و هذا من عظيم الفضل.
و أما السنة: فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء و استحبابه مطلقا: فعن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدّين و نور السماوات و الأرض».
و عن الصادق (عليه السّلام): «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما».
و عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): «عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء و الطلب إلى اللّه عز و جل يرد البلاء و قد قدّر و قضي فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي اللّه و سئل صرف البلاء صرفه».
و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة، و لا ينال ما عند اللّه إلا بالدعاء، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».
و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «عليكم بالدعاء فإنّكم لا تتقربون بمثله، و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار».
و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه و لكنّه يحب أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك».
و في الكافي عن ميسر عن الصادق (عليه السلام): «يا ميسر أدع و لا تقل: إنّ الأمر قد فرغ منه إنّ عند اللّه عز و جل منزلة لا تنال إلا بمسألة».
و عن الصادق (عليه السلام) أيضا في رواية ابن القداح: «الدعاء كهف‏ الإجابة، كما أنّ السحاب كهف المطر».
و عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه: إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. أدع اللّه عز و جل و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه».
و عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاء ترس المؤمن و متى تكثر قرع الباب يفتح لك».
و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالة طويلة إلى أصحابه: «أكثروا من أن تدعوا اللّه، فإنّ اللّه يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، و قد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، و إليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم في الجنة».
و عن الباقر (عليه السلام): «و لا تمل من الدعاء فإنّه عند اللّه بمكان».
و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مخ العبادة».
و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء، و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».
و عن الرضا (عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام): الدعاء».
و عن الصادق (عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان».
و عن العبد الصالح (عليه السلام): «الدعاء جنّة منجية ترد البلاء و قد أبرم إبراما».
و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح و مقاليد الفلاح، و خير الدعاء ما صدر عن صدر نقي و قلب تقي، و في المناجاة سبب النجاة، و بالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع».
و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم‏ من أعدائكم، و يدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال: تدعون ربكم بالليل و النهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء».
و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين.

الدعاء: هو الوسيلة بين العبد و خالقه، و اتصال من عالم الملك بعالم الملكوت الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية لنجح المطلوب و النيل إلى المقصود، فإنّه كما تترتب المسببات على الأسباب المقتضية لها، فإنّ قانون السببية الذي جعله اللّه تعالى وسيلة لتحقق المسببات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلة من دون اللّه تعالى، كذلك فإنّ للإنسان شعورا باطنيا و حسا وجدانيا أنّ له ملجأ يأوي إليه في حوائجه ليقضيها، و أنّ له سببا معطيا لا ينضب معينه و هو مسبّب الأسباب، و هو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلف عنها أثرها. و هذا الشعور الباطني يمكن أن يشتد عند فرد بحيث لا يرى للمسببات إلا سببا واحدا و ينقطع عن أي سبب دونه، فيعتصم به و لا يتخلّى عنه و يتوكل عليه في كلّ حوائجه، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها و يرى زيف الأسباب.
نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسي الوجداني بعض الظلمات و الأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله و ضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفي‏ء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ‏ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس- 22].
و لا يستفاد من ذلك أنّه حينئذ لا يمكن تخلف المدعو عن الدعاء إذا كان الأمر كذلك فإنّ أمر الدعاء و المسببات الظاهرية في ذلك سواء، فإنّه كثيرا ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب و تمنعها عن الأثر، فكذلك في الدعاء فإنّ هناك موانع كثيرة عن تحقق المدعو به قد ندركها و قد لا ندركها بل الأمر في الدعاء أشد، لفرض أنّه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدقّ و أرقّ، و هذا محسوس في عالم الماديات أيضا، فإنّ كلّما كان الشي‏ء ألطف و أدقّ كان السبب الموصل إليه كذلك.
فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة و الارتباط بعالم لا مبدأ له و لا نهاية، و لا حدّ و لا غاية لسعة رحمته و قدرته و إحاطته بجميع ما سواه، فوق ما نتعقل من معنى السعة و الإحاطة و القدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الدّاعي جميع وسائل نجح طلباته فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية و بين قلب هذا الداعي، فيصير موجدا و فاعلا لما يدعو به، فيتحد الداعي و الدعوة و المدعو به في بعض المراتب، و لا تحصل هذه المرتبة إلا لمن انسلخ عن ذاته بالكلية و فنى في مرضاة الواحدية الأحدية فلا يرى في الوجود سوى المدعو، سواء كان ذلك ملكة أم حالا، فيتحد العاقل و المعقول، كما أثبته بعض أكابر الفلاسفة، و لعله المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب و السّر المحجوب، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع اللّه عز و جل بالشرائط المقررة المذكورة في محالها.

بيّنا أنّ حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان و عالم لا مبدأ له و لا حد، و لكن أورد على الدعاء إيرادات كثيرة أهمها هي:
الأول: ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب أي: ما وراء المادة من المبدإ الحي الأزلي و إنكار ربط الحوادث به و ارتباط العالم بالمادة فقط على‏ نحو العلية التامة و لذلك أنكروا الدعاء و التوسل إليه في نيل المطلوب و نجحه.
و يرده: ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدإ غيبي و أنّ الحوادث جميعها مستندة إليه، و أنّ الشرايع الإلهية قد أثبتت ذلك بألسنة مختلفة و تفصيل البحث موكول إلى الفلسفة الإلهية و علم الكلام. و أنّ المادة و الجهد من قبيل المقتضيات لا العلل التامة، و لذلك لا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه بعد السّعي و الجد لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب.
الثاني: أنّ المبدأ موجود و أنّه حيّ أزليّ و لكنّ الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه بل أصل حدوث العالم و خلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها، و قد تشعب عن هذا الرأي مذاهب: منها: ما عن اليهود كما حكاه اللّه تعالى عنها: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة- ٦٤]. و منها: ما نسب إلى بعض من أنّ مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء، حتى قال: «لو جاز على الواجب العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم». و هناك مذاهب أخرى قد تعرضوا لها كلّ في محله، و لذلك أنكروا الدعاء و قالوا إنّه لا يسمن و لا يغني من جوع.
و يرده: ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أنّ مناط الحاجة الإمكان و هو حليف ما سوى اللّه تعالى حدوثا و بقاء في جميع الأزمنة و الأمكنة، و إذا كان كذلك فلا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالى بلا فرق في تلك المذاهب.
الثالث: أنّ الحوادث معلومة عنده جلت عظمته و لا تغيّر في العلم، فلا تغيّر في الحوادث أيضا، فلا مجال للدعاء حينئذ في الحوادث بعد فرض تعلق علمه تعالى بها.
و يرده أولا: أنّ هذا مبنيّ على كون علمه تعالى علة تامة منحصرة لمعلوماته عز و جل، و هو باطل عقلا و نقلا كما ثبت في الفلسفة الإلهية و سنتعرض في الآية المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.
و ثانيا: العلم تعلق بها متغيّرا، فالتغير في المعلوم بالعرض لا في العلم‏ و المعلوم بالذات إذن لا إشكال في صحة التوسل إليه تعالى و الدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.
الرابع: أنّ الحوادث التي ترد على عالمنا مقدّرة و مقضية أزلا و لا تغيّر و لا تبدل في القضاء و القدر فلا معنى للدعاء و التوسل بعد نزول الحادثة، و قد عبّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى.
و يرده: أنّ القضاء و القدر من مراتب فعله جلّ شأنه و ليسا في مرتبة الذات، و فعله تعالى قابل للتغير مطلقا، و قد ورد في بعض الروايات أنّ الدعاء يرد القضاء و قد أبرم إبراما. فيصح التوسل إليه لأجل زوال الحادثة أو تغيير الحال.
الخامس: أنّ الدعاء من قبيل تحقق المعلول بلا علة، و هو محال كما ثبت في محله.
و يرده: أنّ الدعاء لا ينافي قانون العلية و المعلولية أو سائر نواميس الطبيعة بل إنّه يكون سببا لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص.
السادس: أنّ الآيات الشريفة الدالة على الحث على العمل و نيل الأجر به تنافي سبل الدعاء، مثل قوله تعالى: وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة- ۱۰٥]، و قوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف- 30] و قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ [النجم- ٤۰]، و غيرها من الآيات المباركة فإنّ ظاهرها حصر التأثير في العمل و أنّ الأجر منحصر فيه.
و يرده أولا: أنّه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة و بين ما أمر بالدعاء مثل قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً [الأعراف- ٥۳]، و قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر- ٦۰]، لأنّ الدعاء بلا عمل لا أثر له و إنّه مما لا يستجاب، كما يأتي في الروايات.
و ثانيا: أنّ الدعاء بنفسه عمل خاص و توجه إليه تعالى فلا تنافي بين ما دل على الترغيب بالعمل و بين أن يأمر بالدعاء. و هناك دعاوى أخرى نسبت إلى من لم يعتقد بالدعاء أدلتها موهونة جدا أعرضنا عن ذكرها.

ذكرنا أنّ حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدإ لا نهاية لعظمته و قدرته و مالكيته و قهّاريته، و التوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي و المدعو. يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه و قضاء حاجته فيلهم اللّه تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه، فيكون الدعاء ضربا من التأثير الروحي، و ذلك يتوقف على معرفة اللّه جلّ شأنه رب الأرباب و له السلطان التام و أنّ جميع الأسباب راجعة إليه عز و جل، و الإذعان بأنّها الواسطة في التأثير فقط و أنّ المؤثر هو اللّه وحده، و إلى ذلك يشير ما ورد عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لو عرفتم اللّه حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال».
و الوجه في ذلك واضح فإنّ الجهل بمقام الربوبية العظمى و الإعتقاد بقانون السببية التامة في الأسباب و المسببات الخارجية يوجب البعد عن ساحة الرحمن، و الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية، و ينتهي إلى الغفلة عنه و يقابل ذلك التوجه إليه و معرفته تبارك و تعالى فإنّ مقتضى مالكيته جلّت عظمته لجميع ما سواه، و ربوبيته العظمى لها و استغناؤه عز و جل عن الكل و احتياج الكل إليه هو سؤال الكل منه عز و جل، و دعاؤه له بلسان الحال و الاستعداد، لأنّ مناط السؤال و الدعاء إنّما هو الحاجة، و هي من لوازم الإمكان. و كلّ ممكن، سواء كان من المجردات أم الماديات بجواهرها و أعراضها، جميعا داع له وسائل منه بلسان الافتقار إليه و الانقهار لديه و إن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات. نعم السؤال، و الدعاء القصدي الاختياري و التوجه الفعلي من شؤون الإنسان فإنّ له شأنا و منزلة عنده تعالى يحب السماع إليه فيلتذ أولياء اللّه تعالى بالدعاء و المناجاة، و يبتهج اللّه جلّت عظمته بذلك ابتهاجا لا يحيط به غيره، ففي الحديث: «إنّ اللّه يعلم حاجتك، و ما تريد و لكن يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمّ حاجتك» و في أخبار كثيرة أنّ اللّه تعالى قد يؤخر إجابة دعاء عبد لأن يسمع صوته‏ و تضرّعه، و يعجّل إجابة بعض الدعوات لأنّه تعالى لا يحب سماع صوت داعيه و تضرعه.
و لكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلية و المعلولية بين الأشياء، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أنّ هذا القانون حق لا ريب فيه و أنّه‏ «أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها» إلا أنّ الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار و الدعاء داخل تحت هذا القانون و أنّه من طرق العلية للأشياء و التقريب بين الأسباب و المسببات واقعا و إن لم ندركه ظاهرا، و إليه يشير ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام): «ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته و استمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء إجابته».

للدعاء شروط كثيرة جدا مذكورة في القرآن الكريم و السنة المقدسة و هي تنقسم إلى شروط الصحة فلا يصح الدعاء بدونها، و شروط كمال له. أما شروط الصحة فهي:
الأول: الإيمان باللّه تعالى قال عز و جل: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة- ۱۸٦].
الثاني: الإخلاص في الدعاء و عقد القلب عليه، و حسن الظن بالإجابة، قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ و قال تعالى: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس- ۱۰٦].
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، و لا يكون له رجاء إلا عند اللّه فإذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه»، و عن الصادق (عليه‏ السلام): «إذا دعوت فأقبل بقلبك و ظنّ حاجتك بالباب» و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، لعلي (عليه السلام): «لا يقبل اللّه دعاء قلب ساه».
و في الكافي عن سليمان بن عمرو قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه عز و جل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة».
و في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «إنّ العطية على قدر النية».
و في عدة الدّاعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه: «ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه. و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمّنت السموات و الأرض رزقه فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له»، و الحديث ظاهر في أنّ إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.
و في الحديث القدسي: «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا» و هو ظاهر في أنّ في التردد و اليأس لا تكون إجابة فلا بد من العزم على السؤال.
و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ادعوا اللّه و أنتم موقنون بالإجابة» إلى غير ذلك من الأخبار، و قد تقدم الوجه في ذلك أيضا بأنّ في الإعراض و السهو و الغفلة لا تتحقق حقيقة الدعاء.
الثالث: اليأس من غير اللّه تعالى لأنّه ربّ السموات و الأرض عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يريد و يمنع عمن يريد، و العلم بأنّه تعالى إنّما يقضي الحوائج حسب المصلحة فإنّ الإنسان لا يعرف الحقائق و يجهلها و ربما يسأل ما هو شرّ و أنّ اللّه تعالى يبدّله إلى الخير، و ربما يسأل الخير فيؤخره إذ المصلحة في التأخير، ففي نهج البلاغة عن عليّ (عليه السلام): «و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الآمل، و ربما سألت الشي‏ء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله و ينفى عنك و باله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له».
و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه عز و جل: من سألني و هو يعلم أنّي أضرّ و أنفع استجبت له»،
و ذلك لأنّ إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة و العناية التامة المحيطة بالحقائق كلياتها و جزئياتها لا على طبق مشتهيات الداعين و السائلين، قال تعالى: وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة- ۲۱٦]. فإنّ الإنسان كثيرا ما يهتم بشي‏ء حتى إذا ما تحقق وجده ضارا أو يكره شيئا حتى ما إذا تحقق وجده نافعا، و هذا وجداني محسوس لدى كل فرد فالدعاء بما يتخيله الإنسان أنّه نافع شي‏ء و ما هو الواقع الذي في علمه تعالى شي‏ء آخر. فإنّ التسرّع في إجابة الدعاء و قضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم و الملزومات و الآثار نقض في الحكمة و هو محال بالنسبة إليه تعالى. نعم نفس الدعاء و المسألة من سنن العبودية و لا بد من تحققها من العبد، و أما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة و العلم الأزلي.
الرابع: أن يكون المراد خيرا ممكنا بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية، و مما لا نفع له أو مما يضرّ بحال الآخرين، أو نهى عنه الشارع و نحو ذلك، فإنّ مثل هذا الدعاء مما لا يستجاب و ذلك لأنّ اللّه تعالى: «أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها».
و قد تقدم في أحد المباحث السابقة أنّ المستحيلات و إن كانت تحت قدرته تعالى و لكنّه عز و جل لم يفعلها لاستلزامه نقض الحكمة، ففي الحديث عن علي (عليه السلام): «اثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل و لا يكون».
و في الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «لا تمل من الدعاء فإنّه من اللّه بمكان، و عليك بالصبر و طلب الحلال، و صلة الرحم»، إلى غير ذلك من الروايات.
الخامس: طيب المكسب و العمل الصالح، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «من سرّه أن تستجاب دعوته فليطب مكسبه»، و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لأبي ذر: «يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر مثل الذي يدعوه بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر، يا أبا ذر إنّ اللّه يصلح بصلاح العبد ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و الدور حوله ما دام فيهم».
و عن زرارة عن الصادق (عليه السلام): «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».
و في عدة الداعي: «إنّ اللّه أوحى إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني و السحت تحت أقدامكم، و الأصنام في بيوتكم، فإنّي آليت أن أجيب من دعاني، و إنّ إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا».
و في الحديث القدسي: «لا تحجب عنّي دعوة إلا دعوة آكل الحرام».
و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لرجل حين ما قال له: أحب أن يستجاب دعائي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «طهّر مأكلك، و لا تدخل بطنك الحرام».
السادس: أداء مظالم الناس و حقوقهم، فقد ورد عن الصادق (عليه السلام): قال اللّه عز و جل «و عزتي و جلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».
و في عدة الداعي: «أوحى اللّه إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل إنّي لا أستجيب لأحد منهم دعوة و لأحد من خلقي عندهم مظلمة» و تقدم في بحث التوبة ما يتعلق بالمقام.

تقدم أنّ من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له، و لا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة التي يرغب الداعي استجابة دعواته و هي كثيرة.
الأول: الطهارة من الحدث و الخبث لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة- 222].
الثاني: الدعاء بالمأثور عن المعصومين لأنّه تكلم مع اللّه عز و جل كما أنّ القرآن تكلم اللّه مع العبد فينبغي في الدعاء أن يكون مأثورا و مستندا إلى الشرع، قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر- 10]، و قال عز و جل: وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج- ۲٤].
و عن صدر المتألهين (قدس اللّه نفسه الشريفة): «فكما أنّ أجساد البشر تكرّم بكرامة الروح فكذلك أصوات الكلام تكرم و تشرف بشرافة الحكمة التي فيها» فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين و مهبط شريف و إرساله من نفوس زكية ذكية حتى يناسب الخطاب مع العظيم كما تدل عليه روايات كثيرة.
نعم، فرق بين الدعاء و المسألة فإنّ الأخيرة لا يشترط فيها ذلك بل يكفي بكل ما جرى على اللسان حتى يوجهه تعالى إلى الطريق الصحيح أو يقضي حوائجه و يحل مشاكله، قال زرارة للصادق (عليه السلام): «علمني دعاء فقال (عليه السلام): إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك» و المراد به المسألة و طلب الحاجة.
الثالث: أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى و غيرها من أسماء اللّه تعالى، فعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للّه عز و جل تسعة و تسعون اسما من دعا اللّه بها استجيب له و من أحصاها دخل الجنة، و قال اللّه عز و جل: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها.
و عن الصادق (عليه السلام): «و أكثر من أسماء اللّه عز و جل فإنّ أسماء اللّه كثيرة».
الرابع: تقديم تمجيد اللّه و الثناء عليه و الإقرار بالذنب و الاستغفار منه، ففي الكافي عن الحارث بن المغيرة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا و الآخرة حتى يبدأ بالثناء على اللّه عز و جل، و المدح له، و الصلاة على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم يسأل اللّه حوائجه».
و عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «إنّما هي المدحة ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة إنّه و اللّه ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار».
و عن علي (عليه السلام): «السؤال بعد المدح فامدحوا اللّه عز و جل ثم اسألوا الحوائج، أثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج».
و المراد بالثناء و التمجيد مطلق ما يكون ثناء و تمجيدا.
الخامس: أن يشتمل على ذكر محمد و آل محمد، لأنّهم وسائط الفيض و وجهاء الخلق، ففي الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد» و عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): «لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلّى على محمد و آل محمد».
و عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد».
و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم و زكاة لأعمالكم».
السادس: أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عز و جل و رقة القلب و البكاء، ففي الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص».
و عن الصادق (عليه السلام): «إذا اقشعر جلدك و دمعت عيناك فدونك دونك فقد قصد قصدك».
و عن سعد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إنّي أتباكى في الدعاء و ليس لي بكاء قال (عليه السلام): نعم و لو مثل رأس الذباب».
و عن عنبسة العابد عن الصادق (عليه السلام): «إن لم تكن بكّاء فتباك».
و قد اعتبر بعض العلماء (رحمهم اللّه تعالى) أنّ بعض مراتب الانقطاع التام إليه عز و جل إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم و قد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت اللّه الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه.
فكان ما كان مما لست أذكره فظنّ خيرا و لا تسأل عن الخبر

السابع: الدعاء في الأوقات المعينة، و هي كثيرة منها السحر و آخر الليل‏ فعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خير وقت دعوتم اللّه الأسحار».
و عن الصادق (عليه السلام): «من قام من آخر الليل فذكر اللّه تناثرت عنه خطاياه، فإن قام من آخر الليل فتطهّر و صلّى ركعتين و حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه و إما أن يدخر له ما هو خير له منه».
و منها: الصباح و المساء، فعن الصادق (عليه السلام): «إنّ الدعاء قبل طلوع الشمس و قبل غروبها سنة واجبة مع طلوع الشمس و المغرب».
و منها: عند نزول المطر، و زوال الشمس، و هبوب الرياح، و قتل الشهيد، و قراءة القرآن، و الأذان، و ظهور الآيات، ففي الكافي عن زيد الشحام قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، و زوال الأفياء، و نزول المطر، و أول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإنّ أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء».
و عن الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «اغتنموا الدعاء عند أربع، عند قراءة القرآن، و عند الأذان، و عند نزول الغيث، و عند التقاء الصفين للشهادة».
و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كان أبي إذا كانت له إلى اللّه حاجة طلبها في هذه الساعة يعني زوال الشمس».
و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من أدى للّه مكتوبة فله في إثرها دعوة مستجابة».
و منها: الأزمنة المتبركة مثل ليلة الجمعة، و ليالي القدر، و شهر رمضان، و شهر رجب، و ليلة النصف من شعبان، و ليلة عرفة و يومها، و العيدين و غيرها مما هو كثير كما في كتب الأدعية.
الثامن: الدعاء في الأمكنة المتبركة مثل الحرم الإلهي المقدس، و المسجد الحرام، و مسجد النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و عند الأئمة الكرام، أو المساجد الأربعة و غيرها من المساجد.
التاسع: الدعاء بعد تقديم الصدقة و شم الطيب، فعن الصادق (عليه السلام): «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئا فتصدّق به و شمّ من طيب و راح إلى المسجد و دعا في حاجته بما شاء اللّه».
العاشر: مراعاة الأدب و تجنب اللحن في الدعاء، ففي عدة الداعي عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قط إلا كان أفضلهما عند اللّه عز و جل آدبهما قال: قلت جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجالس فما فضله عند اللّه عز و جل؟ قال: بقراءة القرآن كما أنزل، و دعائه اللّه عز و جل من حيث لا يلحن، و ذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى اللّه عز و جل».
و يمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي فإنّ في الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم و الأئمة الهداة غنى و كفاية فهم أعرف بالأدب مع اللّه تعالى و كيفية التكلّم معه من سائر الرعية لأنّهم سدنة الملك و عيبة علم اللّه و خزان وحيه.
الحادي عشر: رفع اليدين حال الدعاء، ففي عدة الداعي: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين».
و عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ. قال (عليه السلام): الاستكانة هي الخضوع و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما».
و عن الباقر (عليه السلام): «ما بسط عبد يده إلى اللّه عز و جل إلا استحيى اللّه أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه» و الروايات في رفع اليدين و التبصبص بالأصابع كثيرة مروية عن الفريقين. و كل ذلك من جهة حصول الخضوع و الخشوع للدّاعي و تقرّبه إلى المدعوّ لا لأجل أنّه تعالى يختص بمكان دون مكان و زمان دون آخر.
الثاني عشر: الدعاء سرّا، ففي الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «دعوة العبد سرّا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية».
و الوجه في ذلك لأنّه أحفظ في الإخلاص و أبعد عن شوائب الرياء.
الثالث عشر: العموم في الدعاء فإنّه آكد في الاستجابة، ففي الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا دعا أحدكم فليعمّ فإنّه أوجب للدعاء».
و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من صلّى بقوم فاختص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم» ، و قد وردت روايات كثيرة على أنّ دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب و أنّ للداعي مثل ما يدعو لأخيه و أكثره.
الرابع عشر: لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج‏ فقد روى ابن بابويه عن الصادق (عليه السلام): «ما رفعت كفّ إلى اللّه أحبّ من كفّ فيها عقيق».
و في عدة الداعي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). قال اللّه عز و جل: إنّي لأستحيي من عبدي يرفع يده و فيها خاتم فيروزج فأردها خائبة».
الخامس عشر: أن يكون الدعاء لتكميل النفس و الحوائج الشرعية و سؤال المغفرة و رضوان اللّه و نعم الجنة، أي يكون جامعا للدنيا و الآخرة بحيث يكون نفعه غير منقطع و أثره لا يضمحل، و في الدعوات المقدسة المأثورة من ذلك شي‏ء كثير منها: ما يسمى بدعاء الفرج و هو مذكور في كتب الأدعية.
ثم إنّ الدعاء مطلوب لنفسه و محبوب لذاته و لا تختص محبوبيته بوقت دون وقت و لا مكان دون آخر و لا بلغة دون أخرى بل هو محبوب في جميع الأحوال و الأوقات و الأمكنة. نعم لبعض الأيام و الليالي و الأمكنة المقدسة دخل في مراتب فضله لا في أصل صحته و محبوبيته و إذا توفرت شروط صحة الدعاء و شروط كماله و وقع الدعاء مورد الاستجابة فإنّه قد يوجب التغيير في العالم مما يوجب تحيّر ذوي الألباب و لا ريب في ذلك كما مر فإنّ الدعاء عظيم أثره لأنّه حضور العبد الذليل لدى المولى الجليل، و توجه نحو التوحيد الفطري فلا تغفل عنه و لا تعرض بوجهك عنه فإنّ المحروم من حرم من الدعاء، و لا تجعل للشيطان على عقلك سبيلا بشبهاته فإنّه عدو للإنسان يحاول أن يجنب العبد عن الدعاء لأنّه من أعظم السبل في رده و اللّه الهادي و هو المولى و نعم النصير.

لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى اللّه جلت عظمته و أهم مقامات سيرهم و سفرهم إنّما هو السفر من الخلق إلى الحق أي: التوجه التام بحيث ينقطع عما سواه تعالى و هو السير في الحق بالحق. و هذا السفر الروحاني يصح أن يعبّر عنه: بأنّه سفر من المحدود من كل جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات، و عطف و حنان ممن لا حد لرحمته و حنانه و عنايته إلى ما هو المحتاج على الإطلاق و هذا السفر و هذه الرحمة و العطف يتحققان في حقيقة الدعاء مع الإيمان باللّه جلت عظمته و بما جاء به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل و طهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة و الأهواء الشريرة و ارتباط روحي مع عالم الغيب.
و إن قلت: إنّها تجلّي الرحمة الرحيمية و الرحمانية بالنسبة إلى الداعين.
أو قلت: إنّها عروج النفوس المستعدة عند الانقطاع عما سوى رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أعدت لها، و لذا قال تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان- 77]،
و قال الصادق (عليه السلام) كما تقدم: «الدعاء مخ العبادة» و لذا كان الأنبياء و الأوصياء و العلماء العارفون باللّه تعالى يواظبون عليه أشد المواظبة في جميع أحوالهم حالا و مقالا.
و هناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
بقي هنا أمران:
الأول: الفرق بين الدعاء و غيره من الأسباب المؤثرة مثل السحر و العين مثلا فإنّ الأول- أي الدعاء- تأثير غيبي في عالم الشهادة كما مر و لما سواه تأثيرات من هذا العالم و فيه و هي غير مرتبطة بعالم الغيب و الملكوت أصلا بل بعضها منهي عنه شرعا.
الثاني: أنّ الدعاء إنّما يؤثر بحسب معتقدات الداعي فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدإ يؤثر بحسب معتقده و هو خلاف الواقع قال تعالى: وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد- ۱٤]، و تدل عليه السنة المقدسة بل التجربة و يأتي التعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"