1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة البقرة
  10. /
  11. الآية 124

وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (۱۲٤)


شرع سبحانه و تعالى في بيان بعض أحوال إبراهيم (عليه السلام) تمهيدا لبيان بناء البيت و تشريع القبلة للمسلمين، و أهمية البناء و عظمته تنبئان عن عظمة الباني و أهميته؛ و لذا خصه اللّه تعالى- و بعض ذريته- بالإمامة الكبرى، كما أنّ في تأخير ذكره عن أهل الكتاب ترغيبا لهم بالإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أنه ليس من حق اليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه السلام) أن يعرضوا عن الأساس الذي بني عليه الإسلام، بل أساس النبوة العظمى و الإمامة الكبرى، فهو (عليه السلام) محور الكمالات الإنسانية، فلا عذر في الإعراض عن تعاليمه.

قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ. مادة «بلي» تأتي بمعنى الخلق الذي هو ظهور لحمته و سداه، و بروز واقعه و حقيقته للناس و لصاحب الثوب، و استعملت في الامتحان و الاختبار من هذه الجهة، لأنهما يظهران حقيقة الشي‏ء و واقعه.
و المراد بهذا الظهور هو الظهور للنفس و لمن يجهل الحقائق، لا بالنسبة إلى اللّه الذي هو علّام الغيوب، و المطلع على كل سر محجوب.
و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى:وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف، الآية:۱٦۸]، و قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ۳٥] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
و يصح استعمال هذه المادة في الخير و النعمة لتظهر كيفية الشكر عليهما. و في الشر و النقمة ليعلم كيفية الصبر عليهما.
و إبراهيم كلمة سريانية تفيد معنى الأب الرحيم على ما قيل، و يشهد له التأمل في أحوال هذا الرجل العظيم من حبه للضيوف و المساكين و كثرة مداراته مع المعاندين، و رأفته بأطفال المؤمنين في عالم البرزخ كما في النصوص الى غير ذلك من الصفات الحسنة مما تأتي الإشارة إليها.
و قد تكرر اسمه الشريف في الكتب السماوية، ففي القرآن المجيد في ما يقرب من سبعين موردا. و هو الذي دعا إلى عبادة الإله الواحد الأحد القيوم خالق السموات و الأرض، فلقي ما لاقاه من قومه المشركين، و كان من انقطاعه إلى رب العالمين، ما أوجب تحير الملائكة فيه أجمعين، و كان من بذل نفسه للرحمن و ماله للضيفان و ولده للقربان أن اتخذه اللّه تعالى خليلا لنفسه، و أراه ملكوت السموات و الأرض و جعل النبوة و الحكمة و الملك العظيم في ذريته، و فدى ولده بذبح عظيم.
و هو أول من رفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان و أول من أتى بشرائع الإسلام، و أول من قاتل في سبيل اللّه تعالى و أول من اتخذ الرايات في الدعوة إلى رب السموات، فحقيق له أن يكون خليلا للّه تعالى، و حق للّه سبحانه و تعالى أن يتخذه خليلا.
و إنّما قدّم على الفاعل في الآية الشريفة اهتماما به، و لاتصال الفاعل بضمير المفعول الموجب لتقديم الأخير عليه.
و إنما بدأ سبحانه و تعالى في ذكر قصة إبراهيم (عليه السلام) بذكر الابتلاء و الامتحان، إعلاما لخلقه بأنّ الأنبياء و الأوصياء إنما وصلوا إلى‏ مراتبهم العالية بالاختبار و الامتحان، و أن إبراهيم (عليه السلام) قد خرج عن هذا الابتلاء و الامتحان بأحسن وجه، و بأن فضله و كماله بإتمام ما كلفه اللّه سبحانه و تعالى به.
قوله تعالى: بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. الكلمات جمع كلمة. تظلق على الأثر الحاصل غالبا للسمع أو البصر. فمن الأول عامة الكلمات الشايعة المستعملة. و من الثاني الجرح المحسوس بالبصر، فالألفاظ المسموعة كلمات و المعاني التي تحتها كلمات أيضا، لمكان الاتحاد بينهما في الجملة من هذه الجهة. كما أن المعاني كلمات اللّه تعالى من حيث دلالتها عليه سبحانه و مظهريتها له تعالى، سواء وجدت بالوحي، أم الإلهام، أم القذف في القلوب و غير ذلك من وجوه المعرفة و الاتصال مما لا يعلمها إلّا اللّه تعالى.
كما تطلق الكلمات على الذوات قال تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى‏ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [سورة آل عمران، الآية: 39].
و المراد بكلمة اللّه تعالى أو كلماته حيث تطلق في الكتاب و السنة ما أنشئ عن ذاته المقدسة، سواء أ كان جوهرا بحسب مراتبه أم عرضا و إنما أطلق لفظ الكلمة عليه من باب ضيق التعبير، و إلّا فإن منشآته عزّ و جل تكفي فيها الإرادة و الأمر التكويني، كما قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82].
و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في بعض الأدعية المأثورة: «مضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة».
و أن أمره التكويني عبارة عن إرادته تعالى، كما أن إرادته فعله.
و المراد بالكلمات في المقام الأعم من المظاهر الأخلاقية النفسانية أو التكليفية، أو الذوات الخارجية الذي هم مظاهر الحقيقة الإنسانية كالأنبياء و الأوصياء الذين هم من نسل إبراهيم (عليه السلام).
فلا بد أن تكون الكلمات هي ما تقع في طريق الاستكمال الإنساني لأنه المقصد الأسنى من خلق الإنسان، و من اتخاذ إبراهيم خليلا، و موسى كليما، و محمدا مرسلا إلى العالمين. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الكلمات، و يأتي التعرض لها في البحث الروائي.
و مادة (ت م م) تستعمل في انتهاء الشي‏ء بحيث لا يحتاج إلى شي‏ء آخر خارج عنه، و هو ضد النقص. و قد استعملت في القرآن كثيرا، قال تعالى: وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: ۱٥۰] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و إتمام الصّلاة إتيانها بحيث لا نقص فيها و لا قصر؛و في الحديث «اللهم رب هذه الدعوة التامة» أي لا نقص فيها في ربط العبد بمعبوده، و لو كان نقص في البين فإنه من نفس العبد.
و المراد به في المقام أي: أكملهنّ كما هو حقها و وفّاها كمال الوفاء بلا نقص فيها و لا خلل.
قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. الجعل من الألفاظ العامة؛ و هو أعم من الفعل و الصنع و نحوهما.
و يستعمل في موارد شتى منها: الخلق و التكوين، و التشريع، و الحق، و الباطل و غير ذلك، فمن الأول قوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [سورة الأنعام، الآية: 1]، و قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً [سورة يونس، الآية: ٥] و قوله تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ [سورة النحل، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة.
و من الثاني قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [سورة البقرة، الآية: ۱٤۳]، و قوله تعالى: وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87]، و غيرهما من الآيات المباركة.
و من الثالث: قوله تعالى: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف، الآية: 100]، و جميع ما مر من الآيات المباركة و نظائرها.
و من الأخير قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ [سورة الرعد، الآية:33]، و قوله تعالى: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ [سورة النحل، الآية: ٥۷]، إلى‏ غير ذلك من الآيات المباركة.
و المراد به في المقام الجعل التشريعي، نظير قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً [سورة ص، الآية: ۲٦]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية:۳٥].
و الجعل التكويني ما ليس لاختيار الغير دخل فيه بخلاف التشريعي فإنه في مورد اختيار الغير، و يصح كل منهما بالنسبة إلى اللّه تعالى و بالنسبة إلى الإنسان، فالفعل الاختياري الصادر منه كالقيام و القعود مثلا جعل تكويني، و أمره الغير بشي‏ء و نهيه عنه جعل تشريعي.
و الإمام كل ما يقتدي به النّاس سواء أ كان كتابا سماويا، قال تعالى: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً [سورة هود، الآية: 17]، و قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]. أم رجلا إلهيا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: ۳٥].
و يستعمل في كل من الحق و الباطل، قال تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [سورة الفرقان، الآية: ۷٤].
و الإمامة في عرف المليين هي الزعامة الإلهية و الرئاسة الربانية على النّاس، و الإمام هو الزعيم و المقتدى في أمور الدين و الدنيا، فهو القوة المجرية لأحكام اللّه تعالى و تدبيراته في خلقه من حيث التشريع فتكون رئاسته من الحق و بالحق.
و إذا لوحظت مطلقا من غير شرط فهي تجامع النبوة و الرسالة، و إذا لوحظت (بشرط لا) فهي تختص بغيرهما فإنّ مجرد إنزال التشريعات السماوية على من يختاره اللّه تعالى يكون نبوة، و امره تعالى ذلك النبي أن يرسل و يبلغ‏ ما أنزل عليه إلى النّاس يكون رسالة. كما أنّ أمر اللّه تعالى ذلك الرسول بإخراجها في النّاس و إقامته فيهم يكون إمامة، و بين الجميع تصادق في الجملة و الحقيقة واحدة و لكن لها مراتب مختلفة.
و يصح انفكاك الأول عن الأخيرين كما في جمع كثير من الأنبياء (عليهم السلام) مثل لوط، و يونس، و هود و غيرهم. كما يصح انفكاك الأخير عن الأولين، كخلفاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و يصح اجتماع الجميع كما في إبراهيم و موسى و عيسى و خاتم النبيين (صلّى اللّه عليهم). فلا ملزم أن يكون كل نبي أو رسول إماما كما لا ملزم أن يكون كل إمام نبيا أو رسولا. و لها فروع منها القضاوة التي هي الحكم بين النّاس بالحق بإذن من إمام الأصل (عليه السلام)، كما فصل في الفقه.
فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية، و لا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية لكونه أمين اللّه تعالى في خلقه و أمين الخلق بينهم و بين اللّه تعالى؛ فلا بد أن يكون أعلم النّاس بأحكام اللّه تعالى، و أتقاهم في دينه، و أعقلهم و أسوسهم في ترتيب أمور العباد و تنظيم البلاد بما يفاض عليه من اللّه تعالى، كما في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و إبراهيم (عليه السلام)، أو من الشريعة التي يتدين بها، كما في الأئمة الهداة المعصومين (عليهم السلام).
ثم إنه ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالإمامة في المقام النبوة لأن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من يقتدي به النّاس و يؤتم به فليست الإمامة شيئا زائدا على النبوة و الرسالة الإلهية.
و لكن التأمل في الآية المباركة و سائر الآيات الشريفة النازلة في سياقها يرشد إلى أنها غير الرسالة، و أن الإمامة كانت بعد الرسالة.
أما أولا: فلأن ظاهر قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ أن الابتلاء و الامتحان كان بعد وجدان ابراهيم (عليه السلام) لمرتبة النبوة و خروجه عن الامتحانات الإلهية و إتمامه لهنّ، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً إذ الظاهر أنّ الجعل تعلق بأمر جديد و كان بعد خروجه عن‏ الامتحان و الابتلاء، و إلّا لا معنى لأن يتعلق الجعل بأمر كان حاصلا له.
و ثانيا: ظاهر قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يدل على كون الجعل في المستقبل، و صرفه إلى معنى (جعلت) في الماضي خلاف الظاهر و يحتاج إلى دليل، و قد ذكر علماء الأدب أن اسم الفاعل إنما يعمل إذا كان بمعنى المستقبل.
و بالجملة أنّ توهم كون المراد بالإمامة هي النبوة خلاف الظاهر المنساق من الآيات المباركة الواردة في القصة. و قد وردت روايات مستفيضة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على أن إمامة إبراهيم (عليه السلام) كانت بعد النبوة يأتي التعرض لها في البحث الروائي.
و المستفاد من جميع ما تقدم أن النسبة بين النبوة و الإمامة هي العموم من وجه، فليس كل نبي إماما كما أنه ليس كل إمام نبيا، و مورد الاجتماع إبراهيم (عليه السلام)، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله).
قوله تعالى: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي. مادة (ذرأ) تأتي بمعنى الفرق و التفرق، و أبدلت الهمزة ياء، سواء كان أصلها من ذرأ بمعنى الخلق، أم ذرر من لفظ الذر، أم من ذري أو ذرو بمعنى الإلقاء و التفريق؛ يقال: ذريت الحب، أو ذروته. و هي بمعنى النسل سمي ذرية، للاختلاف في الخصوصيات و الهيئة، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم كثيرا لا سيما في قضايا إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام): رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128]، و قال تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم، الآية: 37].
و الظاهر من سياق الآية المباركة أنّ إبراهيم (عليه السلام) كما بشر بالإمامة العظمى بعد الابتلاء العظيم من ربه دعا اللّه تعالى أن يجعل هذه الموهبة العظيمة في ذريته أيضا إما جزاء لابتلائه، أو رغبة منه فاستجاب تعالى ذلك له بقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: ٥٤].
و إنما طلب الإمامة لبعض ذريته كما تقتضيه (من) التبعيضية و لم يطلبها لجميعهم، لأنه كان يعلم بحسب العادة أن ذريته مختلفون في الصلاح لعدمه، و قد طلبها للصالحين من ذريته، و طلب هذا المقام الخطير لغير الأهل لا يليق بمقام إبراهيم، بل هو خلاف أدب الدعاء و لم يكن جديرا بالإجابة.
أو لأنّ اللّه تعالى أعلمه أسماء الأئمة (عليهم السلام) من ذريته في ضمن الكلمات، كما تدل عليه الأخبار. و سيأتي نقلها في البحث الروائي، فحينئذ لم يكن يطلب الزيادة على ما أخبره تعالى، فيكون دعاؤه مزيدا للاستبشار و البهجة، أو الشكر.
قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. يستفاد من هذه المحاورة كمال الخلة و المحبة بينه تعالى و بين عبده إبراهيم (عليه السلام) و كيف لا يكون كذلك، و هو خليل الرحمن.
و النيل نظير الإدراك و اللحوق. و المراد بالعهد الإمامة.
و إنما عبر به لبيان كمال أهمية مرتبة الإمامة، و أنّ جعلها مختص باللّه تعالى دون غيره، كما يأتي في تفسير قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: ٦۸].
و الظلم هو التجاوز عن الحد المقرر شرعا، و له مراتب متفاوتة، و لهذه المادة استعمالات كثيرة يمكن حصرها في أنواع ثلاثة:
الأول: ظلم الإنسان لنفسه.
الثاني: ظلمه بينه و بين اللّه تعالى الثالث: ظلمه لغيره. و العقل مستقل بقبح الجميع و قررته الكتب السماوية، و القرآن الكريم، و المراد به في المقام جميع ذلك.
ثم إنّ هذه الجملة تدل على عدم إمكان اجتماع عهد اللّه تعالى مع الظلم، بل فيها إشارة إلى غاية بعد الظلم عن اللّه تعالى، و الظالم ليس بأهل‏ لأن يقتدى به فكيف يليق لأن يعهد إليه منصب إمامة الناس و تعهد الرعية، و إرشادهم إلى الصلاح، و كف الظلم عنهم. فاجتماعهما في شخص من قبيل اجتماع النقيضين، و التنافي بين الإمامة و بين صرف وجود الظلم واضح. و لا يعدو عن كونه أمرا فطريا و حكما عقليا يجري عليه عامة النّاس في شؤونهم الدنيوية، فمنصب الإمامة كالنبوة من هذه الجهة في أنهما لا تعهدان إلى الظالم، و أن الظلم ينافي العصمة التي دلت الأدلة العقلية على اعتبارها فيها.
و ظاهر الآية المباركة أن صرف وجود الظلم يكون مانعا، و أن التلبس به يخرجه عن القابلية لهذا المنصب بسبب النقص الحاصل فيه، و الناس بالنسبة إلى الظلم و عدمه على أربعة أقسام:
الأول: من اتصف بالطاعة و الارتباط مع اللّه تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله.
الثاني: من اتصف بالظلم و المخالفة كذلك.
الثالث: من يكون مثل الأول في أول عمره، و مثل الثاني في آخر عمره.
الرابع: من يكون مثل الثاني في أول عمره، و مثل الأول في آخر عمره.
و لا يليق بمنصب الغيب المكنون، و السر المصون و الإمامة العظمى إلّا الأول، و إنّ إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره. و ما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق.
و مما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية و الأصولية و أطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ و ما انقضى عنه المبدأ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب، و أما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب و آمن.
فإنه لا ربط للآية المباركة بمسألة المشتق، و إنّ سياق الآية الشريفة كما ذكرنا يدل على أن صرف وجود الظلم ينافي جعل هذا المنصب الخطير؛ لأن الإمام أمين اللّه تعالى على خلقه، و منشأ الاتصال بينه و بين عباده، و الظلم موجب لسقوطه عن هذا المنصب، سواء كان سابقا عليه أم مقارنا أم لا حقا.

يستفاد من الآية المباركة أمور:
الأول: إنّ فصل قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً عن الجملة السابقة، و من إضافته إليه تعالى يرشد إلى شرف الإمامة و أنّها فضل من اللّه تعالى و لطف إلهي، و هي لا تنال بالكسب.
الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الإمامة كانت بعد النبوة، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما طلب الإمامة لذريته بعد أن صار له أولاد يرجو أن يكون لهم ذرية، و أما قبل ذلك فقد كان نبيا. و «جاعل» بمعنى أجعلك في المستقبل لا بمعنى جعلت في الماضي كما لا يخفى.
الثالث: أن قوله تعالى: لِلنَّاسِ إشارة إلى الامتنان عليهم و أن الإمامة هبة و لطف إلهي و من أكبر مصالحهم.
الرابع: يستفاد أدب الدعاء من سؤال إبراهيم (عليه السلام) فإنه كان عالما و متوجها إلى أن في ذريته من لم يكن أهلا للإمامة فلم يطلبها لجميع ذريته و إلّا لا يناسب مقامه (عليه السلام).
الخامس: في الآية المباركة تنبيه إلى أن المانع عن الإمامة منحصر في الظلم و أن فيه تنفير ذرية إبراهيم (عليه السلام) من الظلم و تبغيضه إليهم ليجتنبوا عنه.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ شرف الإمامة و فضيلتها العظمى و عظيم مقامها، فإنها عهد من اللّه تعالى بما فيها من القيام بمصلحة النّاس و التعهد بهم و سياسة الأمة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «قد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا و ليس بإمام حتّى قال اللّه تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. من عبد صنما، أو وثنا لا يكون إماما». و مثله ما رواه الشيخ المفيد لكن بزيادة «أو مثالا».
أقول: يأتي إن شاء اللّه تعالى أن إمامته (عليه السلام) إنما جعلت له في أواخر عمره و بعد رسالته و اصطفائه تعالى له كما في قوله سبحانه و تعالى: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].
و أما عدم لياقة من عبد الصنم، أو الوثن، أو المثال للإمامة فهو قريب من الفطريات، لأن صرف وجود الإشراك به تعالى يسقطه عن هذا المقام الرفيع.
إن قيل: روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الإسلام يجبّ ما قبله» فكيف لا يليق بالإمامة بعد الإسلام. (يقال): الجب عما قبل الإسلام، و قبول الإسلام و التوبة شي‏ء و وصول النفس إلى مقام الإمامة العظمى شي‏ء آخر، ينبو عنه الطبع حتّى مع توبته كما هو المشاهد بالوجدان.
و ما ذكر في الحديث إنما هو من باب المثال لكل ظلم كما هو الظاهر من إطلاق الآية الشريفة، و ليس المقام من باب الإطلاق و التقييد، لإباء الإطلاق- في مقام إفاضة هذا المنصب العظيم الإلهي الأبدي المستلزم لتشريع القوانين الإلهية- عن التقييد بهذه الثلاثة.
في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه عزّ و جل اتّخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا. و إن اللّه تعالى اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. و إن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. قال (عليه السلام):لا يكون السفيه إمام التقي». و قد روي بطريق آخر أيضا.
أقول: جمع أبو عبد اللّه (عليه السلام) في هذه الكلمة الوجيزة أصول ما جمعه الفلاسفة في الفلسفة الإلهية العملية، و ما جمعه العرفاء بعد نهاية جهدهم في شرح مقامات الإنسانية، و هو قوله (عليه السلام): «إن اللّه تعالى اتخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا».
و المراد به- مضافا إلى العبودية التكوينية التي هي من لوازم جميع المخلوقات- العبودية العملية أيضا لا خصوص الأولى فقط، فإنها لا تختص بإبراهيم (عليه السلام) بل تشمل الكل. و العبودية العملية مفتاح السعادة البشرية و مبدأ جميع الكمالات المعنوية التي تفاض عليه، بل هي الحياة الأبدية من حيث البقاء فيصير العبد بذلك ظلّ الحي القيوم بقاء و إن لم يكن كذلك حدوثا، لفرض المسبوقية بالعدم، فالنبوة و الرسالة. و الخلّة، و الإمامة متشعبة عن هذا المقام الشريف.
و ما ذكره علماء الكلام في الإمامة من الشروط السبعة- أي: العصمة الإلهية، و الجعل من اللّه تعالى، و عدم حجب أعمال العباد عنه، و علمه بجميع ما يحتاج النّاس إليه، و استحالة وجود أفضل منه، و كونه مؤيدا من اللّه تعالى، و عدم خلو الأرض عنه- متشعبة من ذلك. و تشهّد المسلمين في صلواتهم كل يوم و ليلة: «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله» إشارة إلى هذا المقام الأجل الأكمل الذي هو رمز السعادة الأبدية بين الأمة و بين الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و بينهما و بين اللّه تعالى، لأن العبودية المطلقة للّه تعالى بالنسبة إلى القائد و المقتدى (بالفتح) من أبرز المفاخر للتابع و المقتدي (بالكسر) و كذلك من تلبس بالإمامة من ذرية خليل الرحمن المتفانين بجميع شؤونهم في العبودية المحضة للحي القيوم فإنهم المرآة الأكمل لرؤية الخلق خالقهم على نحو ما بينت الكتب السماوية في صفات جماله و جلاله و أفعاله و تفصيل البحث بأكثر من ذلك يطلب من الكتب الموضوعة له.
و أما قوله (عليه السلام): «لا يكون السفيه إمام التقي» السفه: عدم كمال العقل في الدين أو الدنيا أو هما معا. و من جعل الإمام (عليه السلام) هنا السفيه في مقابل التقي يستفاد أن كل من ترك التقوى و لم يتصف بها يكون‏ سفيها و إن لم يكن سفيها بالمعنى المصطلح في الفقه، و قد أطلق لفظ السفه في كثير من الأخبار على كل من أحب الدنيا من حيث هي، و هو كذلك لأن حب الدنيا بأية مرتبة من المحبة و أية مرتبة من الدنيا رأس كل خطيئة، كما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).
ثم إنّ ما ذكره (عليه السلام) قضية طبيعية يعرفها كل أحد بعد ما يرجع إلى فطرته الأولية، فمن ستر عنه الواقع و تلبس بالظلم أو السفاهة لا يصير سببا لإراءة طريق الحق للغير فضلا عن أن يكون موجبا للوصول إليه.
و الإمامة التي هي الغاية للنبوة و الرسالة لا يعقل أن يهملها اللّه تعالى في الخلق و إن إهمالها نقصان في حكمته جل شأنه، فكما يجب عليه لطفا بعث الأنبياء و الرسل، يجب عليه كذلك جعل الإمامة أيضا و إلّا لاختلت حكمة بعث الأنبياء و الرسل. و سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.
العياشي عن صفوان الجمال في قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال (عليه السلام): «أتمهنّ بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و علي (عليه السلام) و الأئمة من ولد علي (عليهم السلام)».
أقول: صفوان بن يحيى من أجلاء أصحاب الكاظم (عليه السلام) و هو ثقة عين فكل ما يروي فهو عن الإمام (عليه السلام).
و الرواية تدل على أن الإمامة تتم في ذرية إبراهيم (عليه السلام) إلى الحجة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف). كما يأتي في الحديث اللاحق.
القمي في قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال (عليه السلام): «هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمها إبراهيم (عليه السلام) و عزم عليها و سلم، فلما عزم قال تبارك و تعالى ثوابا لما صدق و سلّم و عمل بما أمره اللّه: إني جاعلك للنّاس إماما فقال إبراهيم: و من ذريتي. قال جلّ جلاله: لا ينال عهدي الظالمين أي لا يكون بعهدي إمام ظالم، ثم أنزل عليه الحنفية و هي الطهارة و هي عشرة أشياء خمسة في الرأس و خمسة في البدن- الحديث».
أقول: مثل هذه الروايات و جملة من الآيات المباركة ظاهرة في أنّ اللّه تعالى لا يدع أجر عمل عامل في الدنيا و الآخرة، كما أنّ الظاهر أنّ تفسير الكلمات في هذه الروايات بما ذكر بالعشرة المذكورة إنما هو من باب المثال لكل تكليف إلهي بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام).
و عن الشيخ في الأمالي عن ابن مسعود قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) «أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام) قلنا: يا رسول اللّه و كيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى اللّه عزّ و جل إلى إبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فاستخف إبراهيم الفرح. فقال: يا رب و من ذريتي أئمة مثلي- إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله)- فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي علي لم يسجد أحد منّا لصنم قط فاتخذني اللّه نبيا و عليا وصيا». و مثله ما رواه ابن المغازلي في كتاب المناقب.
أقول: تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فيكون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم السجدة للصنم، مثالا لعدم صدور أي ظلم منه (صلّى اللّه عليه و آله).
و في الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا طاعة إلّا في المعروف».
أقول: المراد بالمعروف هو إطاعة اللّه تعالى فتصير كل معصية من غير المعروف و هي مسقطة لهذه المرتبة العظيمة، كما بينه في‏ حديث آخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

تقدم أنّ الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد و تنظيم أمورهم الدينية و الدنيوية بما يريده اللّه تعالى، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق و إلّا لزم الخلف. و الآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: ۲٤] فذكر الصبر و الثبات يشعر بما تحملوا- في إيصال الخلق إلى المطلوب- من المتاعب و البلايا، و كذا قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، 73] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.
إن قيل: لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة النّاس الى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم و ضلالهم.
يقال: إنّ الإيصال الى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة و إلّا لبطل الجزاء، فمهما تخلل الإختيار في البين يكون الإيصال بنحو الاقتضاء، كما هو معلوم. و سيأتي التفصيل في المباحث الآتية.
ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله و أعماله و يدبر له‏ أموره الدينية و الدنيوية و لم يختلف أحد في ذلك و إنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية و الحديثية، و غيرهما حتّى ألّفوا فيها كتبا و رسائل مستقلة. و المتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.
و بعد التدبر في مجموع الآيات المباركة و الروايات يظهر أن الإمامة- كالنبوة- فتارة: يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام). و أخرى: عن الإمامة الخاصة.
أما الأولى فهي كالنبوة العامة فإنها و إن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضا، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين، و لا يتم ذلك إلّا بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و إنزال التشريعات الإلهية، و جعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو، و هو قبيح بالنسبة إليه عزّ و جل.
فالإمامة هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام و هذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا و لا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل و العقلاء فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة و مع غلبة النفس الأمّارة و الأهوية الشيطانية كيف يصلح أن يكون العقل و العقلاء قوة مجرية لوحي السماء.
و لا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام لا أن يكون من العلة التامة و إلّا فإن الإمامة شي‏ء و اقتضاء الظروف و الحالات و سائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شي‏ء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر.
يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان و المتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا و الآخرة لا بد أن يستند إلى اللّه تعالى رب السموات و الأرض، أو عقل من ملكوته الأعلى و إلّا فلا يكون التشريع جامعا أو نظاما إنسانيّا لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة، و قد قال تعالى: وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ [سورة الأنبياء، الآية: 71] فإذا كان حدوث التشريع من قبل اللّه تعالى على‏ السنة الأنبياء الحافظين للشريعة و العالمين بها فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله).
و مما ذكرنا يظهر أنّ هذا الجعل تكويني تشريعي فتكوينه يكون دخيلا في تشريعه، و أنّ تشريعه له دخل في تكوينه. و أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و إلّا استلزم الخلف، و يدل عليه ظاهر الآية المباركة: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة و النبوة من أنهما منصبان مجعولان من اللّه تعالى، و أنه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع، و أنهما مرتبطان بعالم الغيب كل ذلك صحيح و مطابق للقواعد العقلية، كما عرفت و يأتي التفصيل في محله.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"