1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 95 الى 100

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (۹٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (۹٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (۹۷) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)


الآيات الشريفة بأسلوبها البليغ و مضمونها الرفيع ترغّب المؤمنين إلى الجهاد و تحثّهم عليه، و تأمرهم بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
كما تبيّن علو درجات المجاهدين على القاعدين عن الجهاد، و الراضين بالقرار في أرض الشرك دون الهجرة إلى دار الإسلام مع القدرة عليها. و سمّاهم القرآن الكريم ب «الظالمين» لأنّهم رضوا بالظلم، و استثنى المستضعفين الّذين لا حيلة لهم واقعا فعجزوا عن الهجرة.
و يستمر سياق الآيات المباركة في التشجيع على الهجرة من دار الكفر إلى‏ دار الإسلام، و عدم الرضا بالظلم و ببعث الطمأنينة في قلوبهم إذا خافوا الفقر، فإنّ اللّه تبارك و تعالى يبسط الرزق عليهم و يجزل العطاء لهم و يغفر لهم خطاياهم، فكانت الآيات الكريمة تتحدّث في موضوع واحد، و هو موضوع القتال و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و إنّما أضاف عزّ و جلّ على ذلك الهجرة من دار الكفر الى دار الإسلام؛ لأنّ ذلك نوع خاص من الجهاد أيضا.

قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
حثّ على الجهاد بأسلوب بليغ، و تحريض عليه بعبارات فصيحة ليأنف المؤمنون عن تركه و يرغبوا في ما يترتب عليه من الأجر الكبير و الهدف السامي العظيم، فإنّ في الجهاد في سبيل اللّه تعالى إقامة الدين و نشر العدل، و بسط الحقّ، و تطهير الأرض من الظلم و الفساد، و لأجل ذلك لا يستوي القاعدون من المؤمنين- الّذين ليس فيهم عذر و مانع عن القتال و الجهاد- و المجاهدون في سبيل اللّه تعالى؛ لعلو درجة الجهاد في سبيل اللّه عزّ و جلّ و شرفه و بعد منزلته، فإنّ فيه الهداية إلى اللّه الّتي هي أشرف الغايات و أنبل الأهداف، فلا يحدّه شي‏ء و لا يصل إلى درجته أمر.
و هذه القضية فطريّة كشف عنها القرآن الكريم بعد أن طمستها الذنوب و الآثام و دياجير الظلم و المادّة، كما هو الشأن في كثير من القضايا الفطريّة. و قد كان من شأن الأنبياء عليهم السّلام تذكير الإنسان المادّي بمنسي الفطرة لينهض عن سباته و نومه و يرجع إلى رشده.
و المراد بالضرر في المقام الموانع الّتي تمنع المؤمن من القتال، كالعمى و العرج و المرض و غير ذلك ممّا ورد في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ* [سورة الفتح، الآية: 17]، و قد شرحتها لسنّة الشريفة أيضا.
قوله تعالى: وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ.
أي: لا يكون القاعدون مساوين للمجاهدين في سبيل اللّه تعالى، الّذين يبذلون أموالهم و ينفقونها في سبيله تعالى للاستعداد بالجهاد و ما يوهن كيد الأعداء و الظفر بهم، و يبذلون أنفسهم للقتال و حملاتها للكفاح عند لقاء اللّه عزّ و جلّ.
و إنّما أخّر سبحانه و تعالى المجاهدين في الذكر؛ إيذانا بأنّ القصور في عدم الاستواء إنّما هو من جهة القاعدين، لا من جهة المجاهدين؛ و للتصريح بتفضيلهم على القاعدين.
و إنّما قدّم عزّ و جلّ ذكر الأموال على الأنفس و عكس في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] و غيره كما مرّ؛ لأنّ النفس أشرف من المال، فقدّم المشتري النفس للتنبيه على أنّ الرغبة فيها أشدّ و أكثر. و أخّر في المقام؛ لأنّ في البيع تكون المماكسة فيها أشدّ، فلا يرضى ببيعها إلّا مع فائدة جليلة.
قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً.
بيان لجهة عدم الاستواء بين المجاهدين و القاعدين غير أولي الضرر، و هي أنّ اللّه تعالى رفع المجاهدين درجة لا يعرف كنهها و لا قدرها، فالمجاهدون لهم الفضل على القاعدين.
و تنوين الدرجة للتفخيم، و نصبها على المصدرية لتضمّنها معنى التفضيل و وقوعها موقع المرّة، مثل أن يقال: فضّلهم تفضيلا.
قوله تعالى: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏.
أي: أنّ كلا الفريقين وعدهم اللّه تعالى المثوبة الحسنى و هي الجنّة؛ لإيمانهم و حسن عقيدتهم و خلوص نيّتهم، و إن اختلفا في الفضيلة و الدرجة، فإنّه لا يساوي القاعدون المجاهدين أبدا، كما تدلّ عليه الآية الشريفة التالية.
و من ذلك يعرف أنّه لا وجه لحمل القاعدين في هذه الآية الكريمة على التاركين للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة الى الخروج، لخروج غيرهم على حدّ الكفاية، فإنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة، بل تدلّ على الوعد الجميل للمؤمنين جميعهم، القاعدين و المجاهدين؛ لئلّا تحصل لهم حالة الإحباط و الكسل، و المقام يستدعي إيقاظ الهمم و التحريض على القيام بأمر الجهاد و المسارعة إليه و التسابق فيه، و لا ينافي تقديم إحدى الطائفتين على الاخرى.
قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.
تحريض آخر، و فيه التأكيد و بيان لقوله تعالى: دَرَجَةً، و إنّما ترك عزّ و جلّ القيود الّتي ذكرها في ما تقدّم لإغناء حرف التعريف في «المجاهدين» عنها.
أي: فضّل اللّه تعالى المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما.
و في الآية الشريفة تأكيد آخر إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى، بعد وعد اللّه عزّ و جلّ الكلّ المثوبة و الجزاء الحسن. و فيها الإشارة إلى عدم الاكتفاء بالوعد الحسن الّذي وعد اللّه المؤمنين به، فإنّ للوعد منازل و درجات، و يتفاوت المؤمنون فيها، و لا يمكن أن ينال تلك المنازل و الدرجات العالية المتفاوتة إلّا بالجهاد الّذي به تقام أركان الدين و الشريعة و يزهق الباطل، فللمجاهدين الفضل العظيم، و التقرّب الخاص، و المنزلة الرفيعة، فلا يستهان بهم لبذلهم أموالهم و أنفسهم في سبيله و إعلاء كلمة اللّه تعالى، فلا ينبغي التكاسل في نيل تلك المقامات السامية، و لا التهاون بالبعد عن الوصول إلى تلك الدرجات العظيمة، فإنّ الإيمان الكامل لا يتحقّق إلّا بالجهاد- الأكبر منه أو الأصغر- لأنّ شرف النيل إلى جنّة المعارف أو جنّة الزخارف، لا يحصل إلّا به.
قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً.
تفصيل بعد إجمال، و بيان للأجر العظيم الّذي فضّل اللّه تعالى المجاهدين به على القاعدين، أي: أعطى اللّه تعالى المجاهدين أجرا عظيما، و مفضّلا إيّاهم على القاعدين بدرجة عظيمة. و هذه الدرجة متفاوتة لها مراتب، فليست هي منزلة واحدة و درجة فريدة، بل منازل و درجات كثيرة، هي مركبة من المغفرة و الرحمة، فإنّ كلّ ما يفاض على العبد في الدنيا و الآخرة هو من مظاهر رحمته الواسعة، و لا يمكن النيل به أبدا إلّا بإزالة الموانع و الحجب، و هي لا تحصل إلّا بالمغفرة، كما أنّ تلك المنازل المتفاوتة هي رحمة إلهيّة، و هذا هو السبب في اقتران المغفرة مع الرحمة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، قال تعالى: مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ* [سورة المائدة، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا [سورة البقرة، الآية: ۲۸٦]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال، الآية: ٤]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].
و اختلاف هذه الآيات الشريفة في الإبهام و التفسير، و الإجمال و البيان فيه من اللطف ما لا يخفى، و هو من أحد وجوه البلاغة، فإنّه عزّ و جلّ قيّد المجاهدين في الآية الأولى بقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، كما قيّد عزّ و جلّ في الآية التالية بها أيضا، بينما أطلق عزّ و جلّ المجاهدين في الموضع الثالث و لم يقيّده بشي‏ء، و مع ذلك فقد ذكر عزّ و جلّ عدم استواء القاعدين مع المجاهدين، و ذكر أنّ التفضيل إنّما هو درجة، ثمّ ذكر أخيرا أنّها درجات منه و مغفرة و رحمة.
و الوجه في ذلك أنّ الكلام في الآية الأولى مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، و بيّن عزّ و جلّ أنّ الفضل للجهاد إذا كان في سبيل اللّه تعالى و بذل أعزّ الأشياء عند الإنسان و هو المال، و ببذل ما هو أشرف و أعزّ من الأوّل و هو النفس‏ و الروح؛ و لأجل ذلك ذكر عزّ و جلّ بما يرفع اللبس و الإبهام، فقال تعالى: وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، ثمّ ذكر عزّ و جلّ: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏؛ لمسيس الحاجة إلى ذكره، و لما انتفت لم يذكر القيود في قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً، و اكتفى بالتعريف في المجاهدين، و إنّه بمنزلة ذكر تلك القيود.
و أمّا ما ذكره عزّ و جلّ في الآية الأولى من إطلاق الدرجة، فهو يدلّ على أنّ التفضيل من حيث الدرجة و المنزلة و هي مبهمة، و هي على إبهامها فيه تفخيم تلك الدرجة و تعظيمها، و قد رفع هذا الإبهام قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ، و هو يبيّن قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً، فالمستفاد من المجموع أنّ التفضيل كان في درجة عظيمة، و أنّ فيها منازل و لها درجات من المغفرة و الرحمة، و هي الأجر العظيم الّذي يثاب به المجاهدون.
و من ذلك يعرف أنّه لا تناقض و لا إبهام في الآية الشريفة، و إنّما هي في أعلى درجات الفصاحة، و قد ذكر المفسّرون في بيان هذه الآيات وجوها لا تخلو من المناقشة.
منها: أنّ المراد بالدرجة في صدر الآية المباركة، المنزلة عند اللّه تعالى الّتي هي أمر معنوي، و المراد بالدرجات، المنازل في الجنّة و هي حسيّة.
و منها: أنّ المراد بالدرجة في الآية الأولى المنزلة الدنيويّة، كالغنيمة و حسن الذكر و نحوهما، و بالدرجات المنازل الأخرويّة، و هي أكبر بالنسبة إلى الدنيا، فكانت درجات.
و منها: أنّ المراد بالتفضيل في صدر الآية الكريمة تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر، و في ذيل الآية الشريفة تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
تأكيد لما وعد به آنفا من المغفرة و الرحمة للمجاهدين، فهو تعالى غفور لمن يستحق المغفرة، و رحيم بمن يتعرّض لنفحات رحمته بإعطاء الثواب و مزيد الفضائل و العطايا و رفع الدرجات. و لا يخفى مناسبة الاسمين الشريفين لمضمون الآية الكريمة السابقة.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
بيان حال القاعدين عن الجهاد و المعرضين عن الهجرة.
و الوفاة أخذ الشي‏ء وافيا تامّا، و المراد بها قبض الروح عند الموت، و تقدّم الكلام في اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران، الآية: ٥٥]، و لفظ «توفّاهم» يحتمل أن يكون ماضيا، كما يحتمل أن يكون مضارعا فيكون أصله (تتوفاهم)، نظير قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [سورة النحل، الآية: 28]، و قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل، الآية: 32]، و حذفت أحد التائين من اللفظ تخفيفا، و لا يضرّ التذكير و التأنيث، لجواز كلّ واحد منهما في المقام.
و إنّما نسب الوفاة إلى الملائكة؛ لأنّهم المباشرون في قبض الأرواح بعد أمر اللّه تعالى، فلا ينافي قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [سورة الزمر، الآية: ٤۲]، فإنّ الفعل تارة ينسب إلى نفسه المقدّسة، و أخرى: إلى الملائكة، و ثالثة: إلى ملك الموت، قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [سورة السجدة، الآية: 11]، و رابعة: إلى الرسل و الأعوان أو الملائكة كما تقدّم، قال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [سورة الانعام، الآية: ٦۱]. و الجميع صحيح، فإنّ اللّه تعالى هو الآمر و الفاعل الحقيقي، و الملائكة و الرسل و الأعوان مباشرون قابضون للأرواح، لكن السبب الكامل و العلّة التامّة هو اللّه تعالى.
و المراد بالظلم في المقام ظلم النفس بترك الهجرة في سبيل اللّه تعالى لنصرة الدين، و ترك إقامة شعائره عزّ و جلّ باختيار مجاورة الكفّار الّذين يمنعون من تعلّم معارف الدين و القيام بوظائف العبوديّة لربّ العالمين، و به يفسّر الظلم، حيث يطلق كما في قوله تعالى: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً [سورة الأعراف، الآية: ٤٤- ٤٥]، و سورة هود- 19، فالمراد هو الإعراض عن دين اللّه تعالى و عدم نصرته و ترك إقامته.
و المعنى: أنّ الّذين تتوفّاهم الملائكة بقبض أرواحهم حين استيفاء آجالهم، حال كونهم ظالمين أنفسهم بترك الهجرة في نصرة الدين و تعلّم معارف سيد المرسلين و إقامة الشعائر، فاختاروا المقام عند الكافرين و المشركين و رضوا بالذلّ و الانظلام، فلم يقدروا على القيام بوظائف العبوديّة و نصرة الدين.
قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ.
أي: قالت الملائكة لهؤلاء الظالمين أنفسهم: في أي شي‏ء كنتم من أمر دينكم، و لما ذا تركتم إقامته.
و في الآية المباركة من التوبيخ و الإهانة للظالمين ما لا يخفى، كما أنّها تدلّ على أنّهم لم يكونوا في شي‏ء من الدين، فكان الاستفهام توبيخا على شي‏ء معلوم، لا استعلاما عن شي‏ء مجهول كما لا يخفى، بل يمكن أن تكون الاستفهام للتقرير.
قوله تعالى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ.
اعتذار منهم عن تقصيرهم في ترك الهجرة و نصرة الدين و إقامة شعائره، و إن لم يكونوا على شي‏ء من الدين- كما عرفت- فأجابوا بما يخفى حالهم، فوضعوا السبب موضع المسبّب، فقالوا: «كنّا مستضعفين في الأرض» الّتي كنّا نعيش عليها مقهورين من قبل الأعداء، فلم نتمكّن من نصرة الدين و تعلّم معارفه و إقامة شعائره، و عجزنا عن القيام بوظائف العبوديّة لسطوة الأعداء و شدّة فتكهم و قسوتهم و استضعافهم لنا. و لما كان الاستضعاف حاصلا من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك و تسلّط المشركين على الأرض الّتي كانوا يعيشون فيها، و لم تكن لهم هذه السلطة في أرض أخرى، فلم يكونوا مستضعفين، و إنّما حلّ بهم ذلك لتركهم الخروج و الهجرة من أرض الشرك، فردّت عليهم الملائكة و لم يقبلوا عذرهم، فقالوا كما حكى عزّ و جلّ عنهم.
قوله تعالى: قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها.
أي: أنّ عذركم مردود عليكم بترك الهجرة، فلم تحرّروا أنفسكم من الذلّ و الظلم بالهجرة في أرض اللّه الواسعة، فترحلوا إلى أرض أخرى يمكنكم فيها إقامة الشعائر عليها، فالاستفهام للتوبيخ، فإنّ استضعاف القوم لكم لم يكن هو الموجب للإقامة معهم، بل كنتم قادرين على الخروج و الخلاص من نير المذلّة.
و إنّما أضافت الملائكة الأرض إلى اللّه تعالى؛ إيماء إلى أنّه عزّ و جلّ هيّأ لهم في أرضه سعة و مخرجا، كما يشير إليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً.
و قد وصف سبحانه الأرض بالسعة؛ للإعلام بأنّهم السبب في لزومها لأنفسهم، لا أنّ المشركين يسلبونها عنهم بالكلّية. كما أنّ في هذا التعبير توطئة للأمر بالهجرة من بعضها إلى بعضها، حيث قال تعالى: فَتُهاجِرُوا فِيها، فلو لم يكن كذلك لكان الأولى أن يقال: فتهاجروا منها.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ.
بيان لجزاء القاعدين عن الهجرة و الرضا بالفتنة في دار الشرك و الكفر، و توعيد لهم بنار جهنّم، كما أوعد بها الكفّار. و ترتّب هذا الجزاء على فعلهم من‏ قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإنّهم أوردوا أنفسهم موارد الهلاك في الآخرة؛ لأنّهم رضوا بالظلم في الدنيا و ظلموا أنفسهم بترك الهجرة، و حرموا أنفسهم من خير الدنيا و خير الآخرة.
قوله تعالى: وَ ساءَتْ مَصِيراً.
أي: بئست نار جهنّم و قبحت أن تكون مأوى و مصيرا، فإنّ كلّ ما فيها سوء.
قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ.
استثناء عن حكم الآية الكريمة السابقة، و بيان للمعنى الحقيقي للمستضعفين، و ردّ لما اعتذر به القاعدون في مساءلة الملائكة لهم بأنّهم مستضعفون، فإنّهم غير صادقين فيه، فقد تركوا الهجرة مع القدرة عليها و ادّعوا الاستضعاف؛ حرصا على أموالهم و أهليهم، أو حرصا على أمنهم و سلامتهم، أو حرصا على مكانتهم و جاههم.
و الآية الشريفة تصوّر المستضعف تصوّرا دقيقا، و تعطي المعنى الحقيقي له، بحيث لا تدع مجالا لأيّ ادعاء آخر فيه.
و المستضعفون هم الّذين لا يقدرون على الهجرة لضعفهم، كالولدان و النساء و الشيوخ و سائر العجزة أو الضعفاء، أو لعدم وجود السبيل و الحيلة، فهم يبحثون عن ذلك، بل هم في وضع نفسي مضطرب و شعور مضطرم يختلف تماما عمّن يدّعي الاستضعاف، الّذي هو في حالة الدعة و الرضى و الاستكانة حرصا على الدنيا و شي‏ء من متاع الأرض، كما عرفت.
قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.
مادة (حيل) تدلّ على الحركة و الاضطراب و التخيّر للتخلّص من شي‏ء أو تحصيله، أو ما يتوسّل به للحصول على شي‏ء أو الاحتراز منه، و غلب استعماله على ما يكون في خفاء و في الأمور المذمومة.
و كيف كان، فإنّ الآية الشريفة تصوّر الحالة النفسيّة للمستضعفين بأنّهم قد ضاقت بهم الحيل و عميت عليهم الطرق، فلم يهتدوا إلى سبيل و حيلة يمكنهم التوسّل بها إلى الخروج من دار الشرك و أرض الكفر و الهجرة إلى دار السلام لإقامة الحقّ.
و لم يبيّن عزّ و جلّ تلك الحيل و السبل، فهي إمّا المرض، أو الزمانة، أو الفقر، أو الجهل بمسالك الأرض، أو لا يهتدي إلى حيلة يدفع بها الكفر، و لا يهتدي سبيلا الى الإيمان، فهو لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر كالصبيان، و لا يقدرون أن يحتالوا حيلة لدفع ما يتوجّه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلا للتخلّص منهم و الفرار عنهم. و جميع هذه المعاني صحيحة؛ لعموم الآية المباركة الشامل لكلّ الحيل الظاهريّة و الباطنيّة.
و المستضعف على قسمين، ادعائي و واقعي، و الثاني هو مورد العفو دون الأوّل؛ لأنّه جلّ شأنه مطّلع على الواقعيّات، فله العذر عن الهجرة، و يجري حكم هذه الآية المباركة إلى يوم القيامة، فمن تمكّن في هذه الأعصار من المسلمين من الخروج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام و تعلّم معالم دينه و العمل بها و لم يفعل، فهو من القسم الأوّل.
و السبيل الحسّي كالطرق و مسالك الأرض، و المعنوي هو: كلّ ما يخلّصهم من أيدي المشركين من أنواع الحجج و المعارف- و قد ورد في بعض الروايات في الثاني- أو المانع الخارجي كالمرض و الهرم و غيرهما، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى‏ وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة التوبة، الآية: 91]، و النصيحة لهما هي الطاعة لهما سرّا و علانية.
و الآية الشريفة تدلّ على أنّ الجهل بدين اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة إذا كان عن قصور و ضعف، ليس للمكلف فيه صنع و لا اختيار، فهو عذر عند اللّه تعالى. أمّا غير ذلك فهو ظلم لا يقبله اللّه جلّ شأنه من أحد و لا يرضى به.
و قد شرّع اللّه تعالى الجهاد- الّذي هو من أفضل العبادات و أسماها- لردّ هذا الظلم، و هو يختلف، فتارة يكون مع أعداء اللّه تعالى في ساحة القتال، و اخرى يكون بالهجرة إلى دار الإسلام الّتي يقام فيها شريعة اللّه تعالى و لا يكون فيها ظلم، فعدم تطبيق شريعة اللّه تعالى يعتبر عند اللّه ظلما و لا يمكن أن يرضى به عزّ و جلّ، و من يرضى به فهو ظالم لنفسه و له العذاب الأليم؛ لما حرّم نفسه من نعمة العمل بالشريعة في الدنيا فأورد نفسه مورد الهلاك في الآخرة، إلّا من أعيت به المذاهب و تقطّعت به السبل و أحاط به أعداء اللّه تعالى أعداء الحقّ و استضعفوه بالعذاب و الفتنة، أو كان مستضعفا بسيطرة الغفلة عليه، فإنّها تسلب القدرة و تسدّ الأبواب عليه، و قد ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «الّذي لا يستطيع حيلة و يدفع بها عنه الكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر»، و هو المستفاد من إطلاق الآية الشريفة الواردة مورد البيان للمستضعف، الشامل لما هو الممنوع عنه بسطوة الكفّار و الأعداء، أو المغفول عنه لاستيلاء الكفر على الأفكار و العقول.
و بالجملة: كلّ ما يكون الفعل مستندا إلى فعل المكلف نفسه و اكتسابه فهو غير معذور، و أمّا إذا لم يكن كذلك فهو معذور، و يدلّ عليه قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: ۲۸٦]، فالجهل عذر إذا لم يكن عن تقصير من المكلّف، و إلّا فليس الجاهل معذورا، و لا فرق في المعذوريّة بين أن تكون بسطوة جبّار كافر، أو باستيلاء الغفلة عليه.
و الحاصل: فإنّ المستضعف لا يطلق على من بلغته الحجّة و سمعتها أذنه و وعاها قلبه و فهمها و أمكنه إقامة دينه، فمن كان كذلك فهو ليس بمستضعف و إن ادّعاه و اعتبر نفسه منهم، و إلّا فهو مستضعف.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ.
بيان أنّ المستضعفين الموصوفين بما تقدّم من صفات العجز، لا شي‏ء عليهم؛ لعدم كسبهم أمرا، فهو تعالى يتفضّل عليهم بالعفو؛ لعلمه تعالى بحقيقة ضعفهم و عدم قدرتهم، و يعلم ما في ضمائرهم.
و ذكر كلمة الإطماع (عسى) منه تعالى حتم، لا سيما بعد تعقيبه بقوله عزّ و جلّ: وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً، إلّا أنّ استثناء المستضعفين من الظالمين الّذين أوعدوا بالنار و سوء المصير يكفي في بعدهم و شقائهم؛ لأنّهم حرموا أنفسهم من نيل السعادة، فلا غنى لهم عن العفو الإلهي الّذي يمحو به أثر الشقاء، كلّ ذلك كان سببا لذكر اللّه تعالى لهم و رجاء عفوه.
و يستفاد منه أنّ العفو مشروط بحسن النيّة و قصد الهجرة من أرض الشرك الى دار الإسلام، الّتي يمكنه إقامة شعائر اللّه تعالى عليها، فإنّ ترك الهجرة أمر خطير لا بدّ للمؤمن أن يعدّه ذنبا، و يلزمه أن يتركه، و يترصّد الفرصة في الهجرة و يعلّق قلبه بها أبدا.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.
تقرير لما سبق بأتمّ وجه و أحسن أسلوب، أي: أنّ اللّه تعالى عفو كثير الصفح عن ذنوب عباده غفور ساتر عليهم ذنوبهم، و هو يدلّ على أنّه تعالى يتفضّل على المستضعفين بالعفو و المغفرة، و قد سبقت رحمته غضبه، فله كامل العفو و تمام الغفران.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً.
تشجيع على الهجرة، و تحريض عليها بالاعتناء بها و تنشيط الهمم في استنباط الحيل لها بعد أن ندّد تعالى بالقاعدين و هم قادرون عليها، فإذا كان في البين مخاوف في النفس بشأن الهجرة و أخطارها و أهوالها، بأن لا يجد رزقا في المسير، أو أن يدركه الموت في الطريق أو غير ذلك، فإنّ اللّه تعالى يعطي الضمانات‏ الّتي تيسّرها في النفس و تجعل الإنسان مجدّا في عمله يقبل عليها بلا إبطاء، و يكون مخلصا للّه تعالى.
و قد وعد عزّ و جلّ في هذه الآية المباركة بأنّ المهاجر سوف يجد في الأرض سعة و بسطة، و اللّه هو الكفيل ما دامت الهجرة في سبيل اللّه تعالى، و إذا وقع عليه الموت فإنّ الأجر يقع عليه عزّ و جلّ.
و سبيل اللّه تعالى ما أمر بسلوكه مطلقا، سواء استلزمه تعظيم الشعائر و إبلاغ الأحكام، أو لم يستلزم ذلك، فقد أوجبت المهاجرة الخروج عن الضعف و الإذلال، و نيل رضاه جلّ شأنه.
و قد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية مخافة الضيق و الفقر و عدم الرزق في مسيره، كما ذكر المخافة الثانية: و هي الموت في الطريق في الآية التالية.
و المراغم من الرغام، و هو التراب الرقيق، و لم ترد هذه المادّة في الآيات الكريمة إلّا في هذه الآية الشريفة، و أصله لصوق الأنف بالرغام مشعرا بالذلّ و الهوان، يقال: رغم أنف فلان رغما، أو يقال: أرغم اللّه أنف فلان؛ لأنّ الأنف من جملة الأعضاء في غاية العزّة، و التراب في غاية الذلّة، فجعل ذلك كناية عن الذلّة، و يعبّر عنه بالسخط، قال الشاعر:
إذا رغمت تلك الأنوف لم ارضها و لم أطلب العتبى و لكن أزيدها

و المراغمة: المنازعة و المساخطة، أي: ما يوجب سخطه، فيكون المعنى: يجد في الأرض مخلصا من الضلال و ممّا يوجب سخطه كثيرا و يصل إلى الخير و النعمة، فكلّما منعه مانع من إقامة دينه ينتقل إلى تربة أخرى.
و يمكن أن يكون المراد بالمراغم في المقام الرقيق في السفر، و إنّما عبّر تعالى بذلك لأنّ السفر خصوصا في الأزمنة القديمة كان ملازما للرغام و التعب و المشقّة، و في هذا التعبير تسلية للمهاجرين بأنّه لو أصابهم تعب و مشقّة و رغام فلا يتأثّروا كثيرا بذلك، فإنّها نوعي «و البلية إذا عمّت طابت».
و قد اختلف المفسّرون في معنى هذه الآية الشريفة، و الحقّ أنّها ترجع إلى شي‏ء واحد و إن اختلفت في اللفظ، فقيل: المراغم المتزحزح، أي: ينتقل من أرض إلى أخرى، و قيل: إنّه المتحوّل، و قيل: المهاجر و قيل غير ذلك، و هي كما ترى متّفقة في المعنى.
و في الآية المباركة كمال اللطف بالمهاجرين و تطييب نفوسهم و بثّ الطمأنينة فيها بأنّ اللّه تعالى كفيل لرزقهم، فإنّهم سيجدون في الأرض سعة و بسطة إذا كانت الهجرة في سبيله تعالى و خالصة لوجهه الكريم، و يقصد منها رضاء اللّه تعالى و إقامة دينه، و لعلّ في قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً إشارة إلى ما ذكره عزّ و جلّ سابقا من قوله تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [سورة النساء، الآية: 97]، و فيها وعد منه. و في المقام بيان لوعده الكريم بمزيد السعة بالمهاجرة، و أنّه يجد مراغما كثيرا، أي: خلاصا من ورطته، و قدرته على الانتقال من مكان إلى آخر حيث وجد ضيق في الأوّل و شدّة.
و الحقّ أنّ قوله تعالى: مُراغَماً كَثِيراً من لوازم السعة في الأرض لمن يريد السلوك فيها و الهجرة في سبيل اللّه تعالى.
و المعنى: و من يهاجر في سبيل اللّه طلبا لمرضاته و إقامة دينه، يجد في الأرض مخلصا و نجاة من الضلال و الضيق، في التحوّل من أرض إلى اخرى كلّما منعه مانع من إقامة دينه، وسعة في الرزق إذا خاف الضيق في مسيره.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ.
بيان للمخافة الأخرى الّتي تدور في النفس بشأن الهجرة، و هي درك الموت في الطريق أو السلوك إلى الحقّ.
و درك الموت كناية عن وقوعه عليه و مفاجأته به قبل الوصول إلى المقصد، و المهاجرة إلى اللّه تعالى و الرسول هي الهجرة إلى دار الإسلام لتقوية الحقّ و نصرة دين اللّه تعالى و رسوله الكريم و العمل بأركان الشريعة.
و الآية المباركة وعد من اللّه تعالى لمن يهاجر في سبيل اللّه تعالى ثمّ يحلّ به الموت و هو في الطريق قبل بلوغ دار الهجرة.
قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
كناية عن اللزوم و الثبوت أو الاستقامة، أي: وجب عليه الأجر و الثواب و لزم بمقتضى وعده الجميل و لطفه العميم، و في الآية الكريمة كمال اللطف و مزيد الرضا من اللّه تعالى له، حيث اعتبر عزّ و جلّ أنّ الموت كالهديّة منه سبحانه و تعالى؛ لأنّه السبب الموصول إلى الأجر الجزيل و النعيم المقيم.
كما أنّه جلّ شأنه اختار: مَنْ يَخْرُجْ دون «من يهاجر»؛ لكمال العناية بأنّ الموت إن وقع عليه قبل الوصول، فهو ينال هذه المرتبة و إن لم يصل إلى المقصد.
و في إبهام الأجر و اختيار اسم الجلالة للدلالة على عظم الأجر الّذي لا يقدّر بقدر و لا يعلم كنهه و لا حقيقته إلّا هو؛ لأنّه من الذات المقدّسة.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
فهو يغفر له جميع ذنوبه، و يجزل له في العطاء، و إنّما أتى بصيغة المبالغة للدلالة على أنّه يغفر له ما فرّط فيه من الذنوب الّتي منها القعود عن الهجرة، فيرحمه بإكمال ثواب هجرته.
و في الآية المباركة تأكيد للوعد الجميل بلزوم توفية الأجر و الثواب، فهو يغفر الذنوب الّتي ارتكبها قبل الخروج للهجرة، رحيم يجزل لهم العطاء و يغمرهم بإحسانه.

(غير) في قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع صفة لقوله تعالى: الْقاعِدُونَ، و هي و إن لم تكن معرفة و لا بد من التطابق بين الصفة و الموصوف في المعرفة، لكنّه غير مقصود في المقام؛ لأنّ المراد من القاعدين جنسهم، و يصحّ وصف الجنس بها. و ذكر الرضي أنّ المعرّف باللام المبهم و إن كان في حكم النكرة، لكنّه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعيّن أن تكون صفته جملة فعليّة و فعلها مضارع، كما في قوله: و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني فأصدّ ثمّ أقول ما يعنيني‏. و لأجل تلك المناقشة جعل بعضهم «غير» في المقام بدلا من «القاعدون»؛ لأنّ (ال) فيه موصولة. و لكنّه ليس بشي‏ء كما لا يخفى.
و قرأ بعضهم (غير) بالجرّ صفة لقوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، و قرئ بالنصب على أنّه استثناء من قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أو حال، و هو نكرة لا معرفة.
و (درجة) في قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، منصوب على المصدر؛ لتضمّنها معنى التفضيل- كما عرفت سابقا- كأنّه قيل فضّلهم تفضيلة، كما في قولهم: ضربته سوطا، أي: ضربة.
و قيل: على الحال، أي: ذوي درجة، و قيل: على التمييز، و قيل: على حذف الجارّ، أي: بدرجة، و قيل: هو واقع موقع الظرف، أي: في درجة و منزلة.
و (كلا) في قوله تعالى: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏ مفعول أوّل لما بعده، قدّم لإفادة القصر تأكيدا للوعد، و تنوينه عوض المضاف إليه، أي: كلّ واحد من‏ الفريقين. و قرئ (كلّ) بالرفع على الابتداء، و المفعول الأوّل هو العائد في جملة الخبر محذوف، أي: وعده، و القراءة الأولى هي الأشهر، و على كلتا القرائتين (الحسنى) المفعول الثاني، و الجملة اعتراض جي‏ء بها لدفع ما يتوهّم من تفضيل أحد الفريقين على الآخر، و حرمان المفضول البتة.
و إنّما لم يذكر عزّ و جلّ القيود في قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً؛ لاغناء «ال» في «المجاهدين» عن ذكرها، و إنّما لم يذكر القيد في القاعدين، أي: «غير أولي الضرر» في الموضعين و لم يفعل ما فعله بالقيود مع المجاهدين الّتي ذكرها على سبيل التدرج؛ لأنّ قيد «غير اولي الضرر» كان بعد السؤال، بخلاف القيود مع المجاهدين.
و (أجرا) في قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً مفعول ثان، لتضمّنه معنى الإعطاء، و قيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: فضّلهم بأجر.
و (درجات) في قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ، إمّا أن يكون منصوبا على الحاليّة، أي: ذوي درجات، أو يكون بدلا من (أجرا)، بدل الكلّ مبيّنا لكميّة التفضيل، واقعا موقع الظرف، أي: في درجات. و (منه) متعلّق بمحذوف صفة لدرجات تدلّ على فخامتها و علو شأنها.
و (ظالمي) في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ منصوب على الحاليّة من ضمير المفعول في (توفاهم)، و الأصل (ظالمين أنفسهم)، و الإضافة لفظيّة لا تفيد تعريفا.
و الاستفهام في قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ للتوبيخ و التقريع، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ (ما) الاستفهاميّة المجرورة تحذف منها الألف حسب القاعدة؛ فرقا بين الاستفهام و الخبر؛ و تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة؛ و لذا تكتب الألف في (الى) و (على) و (حتّى) في قولهم: إلام، و علام، و حتّى م، ما لم يوقف على- م- بالهاء.
و قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جملة مركّبة من مبتدأ أوّل، و هو اسم الإشارة، و (مأواهم) مبتدأ ثان، و (جهنّم) خبره الثاني، و الجملة خبر للمبتدأ الأوّل.
و الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ منقطع؛ لأنّ المستضعفين لم يندرج في الموصول و ضمائره، و المشار إليه بأولئك.
و (يدركه) في قوله تعالى: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ مجزوم، لأنّه جواب الشرط، و قرئ برفع الكاف: «يدركه» على أنّه فعل مضارع مرفوع لتجرّده من الناصب و الجازم، و الموت فاعله، و الجملة خبر لمبتدأ محذوف، أي: (ثمّ هو يدركه الموت)، و الجملة الاسميّة معطوفة على الجملة الشرطيّة، و إنّما قدّروا المبتدأ ليصحّ رفعه مع العطف على الشرط المضارع، و قال بعضهم: يجب حينئذ جعل (من) موصولة؛ لأنّ الشرط لا يكون جملة اسميّة. و لكنّه تطويل لا حاجة إلى تقدير المبتدأ. و قرئ بنصب الكاف بإضمار (ان)، فتكون الآية الكريمة على الحثّ آكد، و ذكر بعضهم في وجه النصب أيضا أنّ الفعل الواقع بين الشرط و الجزاء يجوز فيه الرفع و النصب و الجزم لو وقع بعد الواو و الفاء.
و كيف كان، فالآيات الشريفة من أعلى درجات الفصاحة و البلاغة، و هي تحثّ على الجهاد و الهجرة في سبيل اللّه تعالى بأسلوب حسن، تشوّق النفس إلى الثواب الجزيل المعدّ لهم، و تحبط آمال المتقاعدين عن الجهاد و المستقرّين في دار الكفر و ترك الهجرة منها، و تبيّن سوء عاقبتهم.
و قد اشتمل قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً على وجوه من البلاغة:
منها: أنّ اختيار وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً على وَ مَنْ يُهاجِرْ؛ للدلالة على أنّ من آثر الخروج و المهاجرة على الاستقرار، يكون له هذا الثواب و إن كان ذلك خارج بيته، و هو مزيد فضل لا يدانيه شي‏ء.
و منها: وضع (يدركه الموت) على (يمت)؛ للدلالة على مزيد الرضا من اللّه تعالى، و أنّ الموت هديّة منه عزّ و جلّ، و هو السبب للوصول إلى ذلك الأجر الجزيل، و يؤكّد ذلك مجي‏ء (ثم) دون الواو، و لبيان أنّ مرتبة الخروج من البيت دون هذه المرتبة.
و منها: قيام قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ مقام (يثبه) و نحوه؛ للدلالة على أنّ هذا الثواب لازم و ثابت عليه؛ وفاء لما عهد على نفسه.
و منها: اظهار اسم الجلالة لبيان أنّ الأجر عظيم لا يدرك كنهه و لا حقيقته أحد، لأنّه وقع على الذات الأقدس.
و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على لطف اللّه تعالى بهؤلاء الّذين أدركهم الموت بعد انقطاعهم عن الوطن و الأهل، فإنّه تعالى هو الّذي يعطيهم الأجر و يتكفّل جزاءهم لطفا بهم و عطفا عليهم بسبب انقطاعهم إليه، و مثل هذا التعبير لم يرد إلّا في بعض الطاعات كالصوم، فإنّه ورد فيه: «الصوم لي و أنا أجزئ به»؛ لأنّ في الصوم مزيد الانقطاع إلى اللّه تعالى و الإعراض عن الملذّات.
هذا بعض ما يمكن أن يقال في هذه الآية الشريفة الّتي هي في غاية الفصاحة، فسبحان من جلّت آياته.

تدلّ الآيات المباركة على أمور:
الأوّل:
تدلّ الآيات الكريمة على عظيم الفضل للجهاد و المنزلة الكبرى له؛ لأنّ به يقام دين اللّه تعالى و يبسط العدل و ينشر الحقّ و يبثّ الصلاح و الإصلاح.
و به يذلّ الكفر و الشرك، و يزال الظلم و العدوان، و تخذل كلمة الكفر، و تطهر الأرض من الفساد.
و الآيات الشريفة بأسلوبها اللطيف و مضمونها الرفيع و فصاحتها الكاملة قد اقترنت بأمور جعلتها من أهمّ الآيات الّتي ترغّب إلى الجهاد و تنشّط عليه و تحفز الهمم إليه و تنفّر النفوس من القعود عنه، و التكاسل و التواكل منه، فقد نفى عزّ و جلّ المساواة بين المجاهدين و القاعدين غير أولي الضرر، من غير أن يبيّن جلّ شأنه جهة التفاوت صريحا ليذهب ذهن السامع أي مذهب.
و قدّم تعالى القاعدين لبيان أنّ فيهم جهة القصور لا من جهة مقابليهم، ثمّ اردفه ببيان فضل المجاهدين و أنّه درجة، ثمّ بيّن عزّ و جلّ أنّه درجات و أنّ فيه فضلا زائدا، فكان المجاهدون هم المفضّلين ابتداء.
كما أنّه عزّ و جلّ قيّد المجاهدين بقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، ثمّ بقوله: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ، ثمّ أطلقه عزّ و جلّ من غير تقييد، كلّ ذلك لأجل التفنّن في العبارة، و الحثّ و التحريض، و بيان هذا الأمر العظيم بأسلوب حسن يقبله الطبع؛ لأنّ بذل أعزّ الأشياء عند الإنسان أمر ليس بالهين اليسير.
و بالجملة: الآية المباركة صريحة الدلالة على أفضليّة الجهاد، و أنّ فيه الأجر العظيم، و للمجاهدين منازل و درجات في الآخرة، و أنّ لهم مقام القرب عند اللّه عزّ و جلّ.
الثاني:
يستفاد من قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أنّ جهة التقصير إنّما كان من جهة القعود عن الجهاد، و لعلّه السبب في عدم الاستواء بينهم و بين المجاهدين. و يفهم من تقييد القاعدين بكونهم غير أولي الضرر أنّهم على قسمين: من لا ضرر به لكن قعد للإذن له في ذلك، أو لقيام من فيه الكفاية، و من به الضرر الّذي يمنعه من الخروج و لولاه لخرج، و الآية الكريمة مع كونها صريحة الدلالة في نفي المساواة بين القسم الأوّل و بين المجاهدين، تتضمّن أيضا نفي المساواة في الثاني، و قيّدهم بكونهم من المؤمنين؛ لبيان أنّ قعودهم عن الجهاد لا يخرجهم عن الإيمان، و للإشعار بقلّة استحقاقهم للثواب و العاقبة الحسنى في ما سيأتي.
الثالث:
يستفاد من قوله تعالى: وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أنّ سبب استحقاقهم لهذا الفضل العظيم إنّما هو الجهاد، و أنّ القعود إنّما كان عنه، و قد ترك التصريح به في صدر الآية الشريفة رعاية للمجاهدين و اهتماما بشأنهم و فضلهم على القاعدين و علو رتبتهم، كما يستفاد ذلك من القيود الاخرى.
و إنّما قيّده بكونه في سبيل اللّه تعالى؛ لبيان أنّه السبب في فضلهم و رفع شأنهم، كما يستفاد من القيود الاخرى أنّ لها المدخليّة في ذلك كلّه.
الرابع:
يدلّ قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ على أنّ كلّ من به ضرر في البدن أو المال يسقط عنه الجهاد، و يفسّره قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى‏ وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فيشمل كلّ عاجز عن الجهاد و ما يمنع عن الخروج إليه، فلا يكون الجهاد واجبا عليهم.
الخامس:
يدلّ قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ على أنّ الجهاد فرض كفائي، و إلّا لما كان القاعد لا لضرورة معذورا، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى‏، فإنّ القاعد إذا وجب عليه الجهاد و يكون آثما، لا معنى لوعد اللّه تعالى له بالحسنى.
السادس:
يستفاد من تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، و تحديده تارة بدرجة، و أخرى بدرجات مع اتّحاد المفضّل و المفضّل عليه- كما هو ظاهر الآية- أنّ درجة المجاهدين بمحلّ لا يمكن أن تدركه العقول؛ و لبيان الاختلاف الذاتي في الدرجات الّتي تشتمل على الرحمة و المغفرة و الثواب الجزيل؛ و للإعلام بأنّ المجاهدين يختلفون في نيل تلك الدرجات المتفاوتة.
السابع:
يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً على سؤال القبر و أنّ الملائكة تسأل عن دين الميت، و تدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة و النصوص الكثيرة، قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى‏ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل، الآية: 28]، و قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل، الآية: 32]، و يستفاد منها أنّ ظلم الإنسان نفسه يوجب السؤال و الاستجواب و شدّة العتاب.
الثامن:
يدلّ قوله تعالى: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ على وجوب الهجرة من بلاد الكفر و الشرك إذا لم يمكن إظهار شرائع الله جلّ شأنه و إقامة أحكامه و فرائض دينه، فإنّ الّذي يقعد عن هذا القسم من الجهاد- أي: الهجرة إلى دار الإسلام من دار الكفر- و هو قادر عليه و يعرّض نفسه للافتتان عن دينه، و العجز عن إقامة شرايعه و إتيان فرائضه، فهو ظالم لنفسه، و أنّ التعلّل بأنّه كان مستضعفا لا يملك شيئا غير مفيد؛ لأنّ ظلمه لنفسه كان لأجل تركه العمل بالحقّ خوفا من الأذى و فقد عشيرته و إعراضهم عنه، فهو عذر باطل كما يتعذّر به كثير من الزيغ و المفسدين.
التاسع:
يدلّ قوله تعالى: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرض أنّ استضعافهم هذا كان ادعائيّا، كما يدله عليه ذيل الآية الشريفة، و يستفاد منه لو لم يكن بهذه المثابة كما لو كان له عشيرة تحميه من المشركين و يمكنه إظهار دينه و يكون آمنا على نفسه، فإنّ المهاجرة غير واجبة عليه.
العاشر:
يستفاد من قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، بيان لشروط المستضعفين في‏ القرآن الكريم، و هي كون الإنسان ضعيفا في بدنه من جهة الكبر مثلا أو الصغر أو عدم القابلية كالنساء، ففي الحديث: «علم اللّه ضعفهن فرحمهن»، و عدم وجود حيلة يحتال بها للخروج، كالمال و العدّة و الصديق و نحو ذلك، و عدم الاهتداء للطريق و سبل الصحارى و الأرض، أو عدم اهتداء ذهنه إلى التفكّر في المعارف الحقّة، و لتزاحم المذاهب و الأفكار أوجبت خفاء الحقّ عليه فلم يهتد إليه سبيلا، فهو مستضعف لا يستطيع حيلة، قد سلبته المذاهب مذهب الحقّ بأفكارهم و حيلهم، فاستولى عليه الغفلة و وقع الجهل المركّب، و من المعلوم أنّه لا قدرة معه، و لعلّه إلى ذلك يشير قول علي عليه السّلام: «لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه».
الحادي عشر:
يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ تعظيم أمر ترك الهجرة و تغليظ جرمه، فإنّ المضطر من حقّه أن لا يأمن غضب اللّه تعالى و يسأله العفو عنه، و يترصّد الفرصة، فكيف بمن تركها من غير عذر.
الثاني عشر:
إطلاق قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ يشمل من خرج لمعرفة الإمام الحقّ و طلب الدين و التفقّه فيه و الحجّ و الزيارات أو ابتغاء الرزق الطيّب و طلب كلّ كمال لم ينه عنه الشرع المبين، و غير ذلك ممّا يقصد بالذهاب إليه طلب مرضاته و امتثال أمره، فإنّ المقصود مرضاته في أي مورد تحقّقت، و يدلّ عليه جملة من الروايات، منها ما رواه العياشي عن محمد بن أبي عمير قال: «وجه زرارة ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى عليه السّلام و عبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيدا ابنه، قال محمد بن أبي عمير:
«حدثني محمد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: فذكرت له زرارة و توجيه ابنه عبيدا إلى المدينة، فقال أبو الحسن: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
الثالث عشر:
يدلّ قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ على أنّ العمل يوجب الثواب، فيكون مستحقّا على اللّه تعالى- كما يذهب إليه علماؤنا بخلاف الأشاعرة- فإنّ الأجر عبارة عن المنفعة المستحقّة، و أمّا الّذي لا يكون مستحقّا لا يسمّى أجرا، بل عطيّة وهبة.
الرابع عشر:
يستفاد من قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً أنّ الخروج إلى البلاد و المهاجرة في الأرض يستلزم ملاقاة أفراد كثيرين و أشخاص متعدّدين مختلفين من حيث ضيق المعاش و السعة فيه، فيستدلّ بذلك على قدرة اللّه تعالى، فيعلم أنّ ما يعتمد عليه الإنسان لتحصيل رزقه باطل عاطل، و لا ينبغي الاعتماد إلّا عليه تعالى.

عن البيهقي في سننه عن ابن عباس: «أنّ أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
أقول: و في رواية أخرى: «كان قوم من أهل مكّة أسلموا و كانوا يستخفون بالإسلام».
و كيف كان، فإنّ ما أصابهم كان جزاء لنفاقهم و لإعانتهم للمشركين، و أنّ الروايات من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق و إن كانت التعبيرات فيها مختلفة، و كلّها من طرق أهل السنّة.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: وَ ساءَتْ مَصِيراً: «كانوا قوما من المسلمين بمكّة فخرجوا مع قومهم من المشركين في قتال، فقتلوا معهم، فنزلت: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ، فعذر اللّه أهل العذر منهم، و هلك من لا عذر له، قال ابن عباس: و كنت أنا و أمّي ممّن كان له عذر».
أقول: لا بدّ من حمل الرواية على أنّ العذر لم يكن عن تقصير، و أنّه ممّا يقبله اللّه و رسوله، كما تقدّم في التفسير.
و في تفسير علي بن إبراهيم في الآيات المباركة قال: «نزلت في من اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتل معه، فقالت لهم الملائكة عند الموت: فيما كنتم، قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، أي: لم نعلم مع من الحقّ؟ فقال: ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها، أي: في دين اللّه و كتاب اللّه واسع فتنظروا فيه، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، ثمّ استثنى فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.
أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، و يستفاد منها أنّ المستضعف الممنوع عن الهجرة أعمّ من أن يكون في العقيدة أو في غيرها، و المراد من الأرض الأعمّ من التكوينيّة و غيرها.
و في الكافي بسنده عن هشام بن حمزة بن الطيار قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: الناس على ستّة أصناف، قلت له: أ تأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم، اكتب أهل الوعدين، أهل الجنّة، و أهل النار، قال: اكتب: و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، قلت: من هؤلاء؟ قال: وحشي منهم، قال: و اكتب: و آخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم، و إمّا يتوب عليهم، قال: و اكتب: المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان، فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، قال: و اكتب: و أصحاب الأعراف، قلت: و ما أصحاب‏ الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته».
أقول: الحصر في ذلك عقلي، إذ لا يوجد صنف آخر غيرهم، و الاستدلال بالآيات المباركة من باب الجري و التطبيق كما تقدّم، و وحشي هو قاتل حمزة عليه السّلام و ذكره من باب المثال.
و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «و سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف؟
فقال: هو الّذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان- لا يستطيع أن يؤمن و لا يستطيع أن يكفر- فمنهم الصبيان و من كان من الرجال و النساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم».
أقول: اختلفت الروايات في تحديد المستضعف و تعيينه، فمنها ما حدّدته بضعفاء العقول، كغالب الصبيان، فإنّهم لا يميّزون الحقّ عن الباطل، و لا الضلالة عن الهداية، كما تقدّم في الرواية السابقة و غيرها من الروايات المستفيضة.
و منها: ما حدّد المستضعف ب من لا يعرف سورة من القرآن، كما في رواية ابن إسحاق قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام ما حدّ المستضعف الّذي ذكره اللّه عزّ و جلّ؟
قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، و قد خلقه اللّه عزّ و جلّ خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن»، و المراد من خلقه الفطرة، يعني نزل القرآن حسب الفطرة المستقيمة.
و منها: ما حدّدهم بالبلهاء، كما في رواية سليمان بن خالد عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن المستضعفين؟ فقال: البلهاء في خدرها و الخادم في خدرها تقول لها: صلّي، فتصلّي لا تدري إلّا بما قلت له، و الكبير الفاني و الصبي الصغير، يا سليمان هؤلاء المستضعفون، فأمّا رجل شديد العنق جدل خصم يتولّى الشراء و البيع لا تستطيع أن تعينه في شي‏ء، تقول: هذا مستضعف؟! لا و لا كرامة»، و المراد من البلهاء- الّتي هي جمع أبله- الغافل عن الشرّ و البعيد عنه، المطبوع على الخير، يظنون بالناس حسنا، يجهلون حذق التصرّف في الدنيا، و قد أقبلوا على آخرتهم، عيشهم قليل الغموم، يتجبّرون عليهم في الدنيا لفقرهم و رثاثة حالهم، و لذلك استحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنّة، كما ورد في الخبر: «أكثر أهل الجنّة البلهة»، و ما ذكره عليه السّلام من بعض المصاديق، و ليس المراد الأبله الّذي لا عقل له، و في الحديث: «عليك بالبلهاء، قلت: و ما البلهاء؟ قال: ذوات الخدود و العفائف».
و الفرق بين السفه و البله واضح كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).
و منها: ما حدّده بمن لا يعرف اختلاف الناس، كما في رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف»، و المراد من اختلاف الناس معاشرتهم على طريق الشرع، أو اختلاف مذاهبهم.
و منها: ما حدّده بأهل الولاية على وجه العموم، كما في رواية حمران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ، قال: هم أهل الولاية. فقلت: أي ولاية؟ فقال: أما إنّها ليست بولاية في الدين، و لكنّها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفّار، و هم المرجون لأمر اللّه».
و لكن ذكرنا في التفسير أنّ المراد من المستضعف مطلق من لا حول له و لا سبيل، سواء كان في النفس أو في البدن أو في الرأي أو في الحال، و لجميع ذلك مراتب، و بذلك يمكن الجمع بين الأخبار. فإنّ ما ورد فيها من باب ذكر المصاديق لا المعنى الحقيقي.
و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام قال: «المستضعفين من الرجال و النساء لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، قال: لا يستطيعون سبيل أهل الحقّ فيدخلون فيه، و لا يستطيعون حيلة أهل النصب فينصبون، قال: هؤلاء يدخلون الجنّة بأعمال حسنة و باجتناب المحارم الّتي نهى اللّه عنها، و لا ينالون منازل الأبرار».
أقول: الرواية مطابقة للعقل و الفطرة؛ لأنّ اللّه تعالى لا يكلّف أحدا أكثر من قدرته و عرفانه ما لم يتحقّق تقصير منه فيهما، و أنّ للّه منازل حسب درجات الإيمان و مدارج الأعمال، و يدلّ على ما ذكرنا رواية ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: جعلت فداك ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله من المذنبين الّذين يموتون و ليس لهم إمام و لا يعرفون ولايتكم؟ فقال:
أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها، فمن كان له عمل صالح و لم يظهر منه عداوة، فإنّه يخد له خدا إلى الجنّة الّتى خلقها اللّه بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى اللّه فيحاسبه بحسناته، فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر اللّه، قال: و كذلك يفعل بالمستضعفين و البله و الأطفال و أولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم»، و المراد من الخد: أنّه يشقّ له طريقا إلى الجنّة الّتي توارت في مغيبها عن الناظرين، أي خلقها اللّه تعالى بالمغرب.
كما أنّ المراد من قوله عليه السّلام: «يدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة»، نحو من الإدراك و قسم من الشعور الّذي تحسّ النفس، يعني من بدء وضعه في حفرته تشعر الروح بالسعادة أو الشقاء. و تقدّم معنى البله، و أمّا الأطفال فهم الموقوفون لأمر اللّه تعالى، أي: يمتحنهم في يوم القيامة كما في كثير من الروايات.
و في الكافي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام: «أنّه سئل عن الضعفاء؟ فكتب عليه السّلام: الضعيف من لم ترفع له حجّة، و لم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف».
أقول: هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه سابقا.
و عن علي عليه السّلام في كلام له في الإيمان و وجوب الهجرة: «و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة و معلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه».
أقول: يبيّن عليه السّلام غرض الهجرة و معناها، و أنّ من أراد الفوز بمعارج اليقين و النيل إلى أعلى مراتب الإيمان فليهاجر إلى أئمة الدين عليهم السّلام، فإنّ الهجرة باقية على أصولها الأوليّة و حدّها الّذي كان في أوّل البعثة؛ لأنّ الغاية من الهجرة ليست إلّا الدنو إلى الحضور بالوصول إلى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هي بعد باقية، فإنّ الأئمة المعصومين قائمون مقامه و هم خلفائه. و ليس للّه في طلب الهجرة من عباده حاجة؛ لأنّه الغني المطلق و العزيز المقتدر، و إنّما طلب منهم ذلك لأجل إيصال النفع إليهم و نجاتهم عن المهالك و الشدائد بالإيمان به و الركون إليه جلّ شأنه، و لا يقع اسم المهاجر إلّا بمعرفة حجّة اللّه في أرضه و الإيمان به- سواء كان نبيّا أو وصيّا- لتحقّق الغرض، و هو الوصول، و يؤكّد عليه السّلام ذلك من أنّ من بلغته الحجّة و عرفها لا يكون مستضعفا و إن لم يتجشم عناء السفر و كان في وطنه، كما يدلّ على ذلك ما تقدّم من الروايات، و ما عن الصادق عليه السّلام: «أنّه سئل ما تقول في المستضعفين؟ فقال شبيها بالفزع: فتركتم أحدا يكون مستضعفا، و أين المستضعفون؟! فو اللّه لقد مشى بأمركم هذا العوانق إلى العوانق في خدورهن، و تحدّثت به السقاآت في طريق المدينة»، يعني: لا يسوغ له التقصير في الإيمان بالحجّة بعد الظهور و السماع و المعرفة لكلّ أحد، فلا يقع عليه اسم الاستضعاف حينئذ. و العوانق جمع عنق الرقبة.
و في الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: «سألت أبا جعفر عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله؟ قال: الدين واسع و لكن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال: نعم، فقلت: اشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند اللّه تعالى، و أتولّاكم و أبرأ من أعدائكم و من ركب رقابكم و تأمرّ عليكم و ظلمكم حقّكم، فقال: و اللّه ما جهلت شيئا هو و اللّه الّذي نحن عليه، فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلّا المستضعفين، قلت: من هم؟ قال: نساؤكم‏ و أولادكم. ثمّ قال: أ رأيت أم أيمن؟ فإنّي اشهد أنّها من أهل الجنّة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه».
أقول: إنّها تدلّ على أنّ الدين يطيقه كلّ أحد و ليس فيه ما يوجب الشدّة و الحرج، إلّا أنّ بعض الأقوام شدّدوا على أنفسهم بالضيق لجهلهم بواقع الدين، فإنّ أصوله موافقة للفطرة، و ما كان كذلك لا ضيق فيه، و لا يسلم أحد لا يعرف الدين إلّا المستضعفون الّذين لا سبيل لهم إلى المعرفة إلّا بمقدار إدراكهم، كما تقدّم.
و في معاني الأخبار بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، و من لم يكن من أهل القبلة ناصبا، فهو مستضعف».
أقول: و الروايات في ذلك مستفيضة، و إنّما لم يكن الناصب من المستضعف؛ لأنّ النصب لا يتحقّق إلّا عن عناد و تقصير كما هو واضح، و هناك روايات أخرى متّفقة المضمون مختلفة التعبير، جار فيها ما ذكرناه.
و عن علي عليه السّلام: «من مات في سبيل اللّه فهو ضامن على اللّه أن يدخله الجنّة؛ لقوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
أقول: المراد من سبيل اللّه مطلق مرضاته و ما يوجب التقرّب إليه، سواء كان في طلب العلم و الكمال أو الجهاد في سبيله أو في السفر إلى الحج أو الخروج لأجل صلة الرحم أو غير ذلك، فهو تعالى ضامن، أي: يتكفّل أن يدخله الجنّة و يعطيه الأجر الجزيل؛ لأنّ ذلك نوع من الهجرة إليه تعالى، الّتي تلازم السعادة الأبديّة و العاقبة الحميدة.
و في المجمع عن أبي حمزة الثمالي قال: «لما نزلت آية الهجرة سمعها رجل من المسلمين و هو جندب بن عمرة و كان بمكة، فقال: و اللّه ما أنا ممّن استثنى اللّه، إنّي لأجد قوة و إنّي لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه ما أبيت‏ بمكّة حتّى أخرج منها، فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتّى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية».
أقول: ذكر الواقدي في أسباب النزول أنّ المهاجر كان حبيب بن حمزة، و السيوطي في الدرّ المنثور: جندع بن حمزة أو رجل من بني ليث أو أكثم.
و كيف كان، فالمورد إمّا من باب التعدّد في القضية، أو اختلاف الاسم، فمهما كان فما ورد في تلك الروايات إنّما هو من باب التطبيق و الجري، لا التخصيص.
و في الدرّ المنثور عن ابن زيد قال: «هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمات في الطريق فسخر به قوم و استهزءوا به، و قالوا: لا هو بلغ الّذي يريد، و لا هو أقام في أهله يقومون عليه و يدفن، فنزل القرآن: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
أقول: الرواية إمّا من باب التطبيق، أو من باب تعدّد النزول، و لا إشكال فيه كما تقدّم. و هناك روايات أخرى متّفقة المضامين و مختلفة التعابير، كلّها تدلّ على أنّ الهجرة هي الحجّة البالغة للإنسان، سواء وصل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو لم يصل، و سواء خرج معه صلّى اللّه عليه و آله الى الجهاد أو لم يخرج، فقد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه لما رجع من غزوة تبوك و دنا من المدينة قال: إنّ في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا قطعتم من واد إلّا كانوا معكم، قالوا: يا رسول اللّه و هم بالمدينة! قال: نعم و هم بالمدينة حبسهم حابس العذر. و هم الّذين صحّت نياتهم و تعلّقت قلوبهم بالجهاد، و إنّما منعهم عنه الضرر».
و في تفسير العياشي عن أبي الصباح قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في رجل دعي إلى هذا الأمر فعرفه و هو في أرض منقطعة، إذ جاءه موت الإمام عليه السّلام، فبينما هو ينظر إذ جاءه الموت، فقال: هو و اللّه بمنزلة من هاجر إلى اللّه و رسوله فمات، فقد وقع أجره على اللّه».
أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرناه كما مرّ، و هي مطابقة لما دلّ من أنّ الناس يحشرون حسب نياتهم.

الهجرة و هي الانتقال و الرحيل سواء كان من الوطن إلى غيره أو من حال الى غيرها. و إنّها من أكمل الصفات الحسنة و أجلّها إن كانت ناشئة من الحبّ الحقيقي الواقعي للّه سبحانه و تعالى و الانقطاع إليه جلّ شأنه، و بها يحصل الودّ و الحبّ له عزّ و جلّ، و منه تعالى لعبده.
بل أنّ الهجرة من الفناء في ذاته جلّت عظمته؛ لأنّ بها يخرج الإنسان عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة و يبعد عن المعاصي- الّتي تحصل عن الأهواء الشيطانيّة- كالكبر و الحسد و البطر و الجهل و غيرها.
و بالهجرة يفوز الإنسان و ينال الكمالات بأنواعها و أقسامها الظاهريّة و المعنوية، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت هجرته إلى اللّه و رسوله فهجرته إلى اللّه و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
و بالهجرة يرتقي الإنسان عن حدود البشريّة في طلب حضرت الربوبيّة إلى منتهى السعادة بصفاء القلب و تزكيته و العروج إليه جلّت عظمته؛ لأنّ البقاء و السكون فيها الّذين لا يرضاهما تعالى من آثار الحجب و البعد عن ذاته المقدّسة و القرب من الشيطان.
و بها يستغني المهاجر عن ما سواه تعالى، و يذوق لذّة العبوديّة للّه جلّ شأنه، و ينال شرفها بالخضوع الحقيقي له عزّ و جلّ. فالهجرة الواقعيّة من أسمى الصفات الكريمة و أجلّ الكمالات الواقعيّة و أرفع المنازل العظيمة، و أشرف الحقائق بل هي غاية السير و السلوك إليه عزّ و جلّ؛ لأنّها مبايعة اللّه تعالى مع عبده بالهجرة إليه عزّ و جلّ.
أقسام الهجرة:
للهجرة أقسام مختلفة تنشأ من علو الهمّة الّتي هي تختلف باختلاف الأشخاص و مراتب الإيمان و منازل الأوطان:
الأوّل:
الهجرة من الوطن إلى غيره لنيل الدنيا، فإنّ هجرته إلى ما هاجر إليه، كما تقدّم عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و لا شرف فيها، بل في التعبير بها تسامح، و الآيات الشريفة و السنّة المباركة بمعزل عنها.
الثاني:
الهجرة بترك الأوطان و البعد عن الإخوان لنيل الكمال المنشود في رضائه تعالى بصحبة عالم عامل أو حكيم عارف أو معلّم مشفق. و لها مرتبة من الشرف، و قد يحصل بها الرقي إلى المنازل الرفيعة و الدرجات الساميّة، و تسمّى بهجرة الأخيار.
الثالث:
الهجرة من وطن الملك بالسعي في ترك جميع الحظوظ النفسانيّة للوصول إلى عالم الملكوت. أو من وطن المعصية إلى شرف الطاعة و السكون فيه بمعرفة الحقّ و تجليه له، و هي من أكملها و أعلاها و تسمّى بهجرة الخواص، و بها يبلغ المقصود و يخضع له ما في عالم المشهود لخضوعه الواقعي له عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب»، و قد تقدّم في التفسير مكرّرا أنّ الرزق أعمّ من الإفاضات الظاهريّة و المعنويّة.
الرابع:
الهجرة من وطن الغفلة إلى شرف اليقظة، أي: من وطن الحسّ إلى وطن المعنى بمكاشفة الأفعال و مشاهدة الصفات في ترك إقبال الخلق و العزل عن طلب الكرامة فيهم، و لا ينال هذا القسم إلّا من امتحن اللّه قلبه بالإيمان.
و بهذه الهجرة ينال العبد أسمى صفات العبوديّة و أجلّها، و هي كما عن الصادق عليه السّلام: «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة»، و بها يستغنى عن ما سواه تعالى و لا يعظم غيره عزّ و جلّ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت الآخرة نيّته جمع اللّه‏ عليه أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا، و هي صاغرة»، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، و تسمّى هذه الهجرة بهجرة الأبرار.
الخامس:
الهجرة من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أي من الأكوان إلى المكوّن، و هي تختصّ بأخصّ الخواص، و تسمّى بهجرة المقرّبين و من أجلّها الإسراء و المعراج: وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ [سورة النجم، الآية: ٤۲].
و الجامع بين الأقسام الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين، و منه إلى حقّ اليقين، أو من الشهود إلى المعرفة و منها إلى المعاينة. فمن هاجر من هذه المواطن قاصدا بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة و أشرف منازل الكرامة.
أسباب الهجرة:
تنشأ الهجرة النفسانيّة و عروج القلب إلى المشاهدة بتجاوز حدود البشرية من أسباب عديدة، أهمّها المحبّة للّه تعالى، و الغنى به جلّت عظمته، و الصدق في العبوديّة- بالاستسلام لما يورد عليه و الاستعانة منه جلّ شأنه- و اليقين في أحكام الربوبيّة، بتزكية النفس و مخالفة هواها؛ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و لكلّ من هذه الأمور مراتب و درجات و حدود، و لو لا قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمن ملجم»، لكان لغور البحث فيها مجال.
آثار الهجرة:
لكلّ من أقسام الهجرة آثار تختلف حسب الهجرة الّتي هاجرها المهاجر، بهجران الصفات الرذيلة و تبديل الأخلاق الفاسدة بالحسنة و ترك الحظوظ النفسانيّة و قهر الهوى بالمقامات العالية، فقد ينقّى الأثر بالرقي إلى مكارم الأخلاق، و الوصول إلى أقصى مراتب الكمال بسعادة الدارين، و نيل رضاه عزّ و جلّ، و يبلغ القصد بالشهود بشرف العبوديّة في السير و السلوك حتّى لا يحتاج إلى دليل و برهان في إثبات صفات الجمال و الجلال، تبعا للهجرة الموصلة إلى المطلوب، بل قد ينال من الحياة الأبدية في هذه النشأة، كما ورد في شأن بعض الخواص من أصحاب الصادق عليه السّلام.
و لو مات المهاجر قبل أن يصل إلى مراده و مسعاه، فله نصيب من بلغ إلى ذلك المقام، ففي الأثر: «أنّ المؤمن إذا مات و لم يحفظ القرآن، أمر حفظته أن يعلموه في قبره حتّى يبعثه اللّه يوم القيامة مع أهله»، و قد ثبت في محلّه أنّ الرقي في عالم البرزخ موجود لأهله. و أمّا قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ [سورة الإسراء، الآية: 72]، إنّما هو بالنسبة لمن لا معرفة له أصلا، لا من انكشف عنه الغطاء بالهجرة و ارتفع العمى و الحجاب بالسير و السلوك إلى حضرة الربوبيّة في رضاه تعالى برؤية آثاره و صفاته جلّت عظمته. و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله»، هذا بالنسبة إلى أعماله الخارجيّة و أمّا بحسب فضله تعالى فلا يتصوّر فيه حدّ حتّى ينقطع، و المهاجر الحقيقي كان من نيته دوام الهجرة و التوطّن في المقامات العالية؛ و لأجل ذلك أضاف جزاءه إلى نفسه الأقدس بقوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في القدسيات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي، و إنّما يسعني قلب عبدي المؤمن».
موانع الهجرة:
و هي العوائق الموجودة في النفس، المستندة إلى الأهواء الشريرة المتوطّنة في النفس البشرية الحاصلة من الوساوس الشيطانيّة، كالتخويف بالموت أو الفوت أو المحبّة لما سواه تعالى من الأهل و المال و الجاه، فهذه حجب شيطانيّة تمنع عن الهجرة بالسير و السلوك، و تحجب عن مشاهدة التجلّيات و هو جمال الحقّ، فحسن الأعمال نتائج حسن الأحوال من صلاح القلب و التوجّه إلى اللّه، و بذلك تصلح الهجرة و الرحيل، وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ، أي: بيت بشريته بترك الدنيا و قمع الهوى مُهاجِراً الى التقرّب به جلّ شأنه بمبايعة رسوله، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل وصوله إلى مطلوبه و مسعاه، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ، أي: بذمّة كرمه و فضله و رحمته فيبلغه إلى أقصى مقاصده إن كان المانع أجله، «فإنّ نيّة المؤمن خير من عمله»، و «يحشر الناس على نيّاتهم»، هذا إذا لم يأت بما يوجب بطلان الهجرة و البعد عن تشرّف الوصلة بالتقرّب إليه، وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للذنوب خصوصا ذنب أنانيّة الوجود، رَحِيماً بتجلّي صفة جوده حتّى يبلغ العبد إلى كمال مقصوده و مسعى غايته بمنّه وجوده و كرمه.

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهيّة التالية:
الأوّل:
يستفاد من قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ، أنّ الجهاد واجب كفائي يسقط عن أولي الضرر، و عمّن تقوم به الكفاية، و إلّا لما كان القاعد لا لضرورة غير آثم، و لما استحقّ الوعد الحسن، و تدلّ الآية الكريمة و غيرها على أفضليّة الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و الأخبار في ذلك كثيرة.
الثاني:
يدلّ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً، على وجوب المهاجرة من أرض لم يتمكّن فيها من إقامة الشريعة، بلا فرق بين أن تكون الإقامة فيها موجبه‏ لارتكاب محرّم أو ترك واجب، فإنّه محرّم أيضا، و يدلّ عليه بعض الأخبار، ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام: «في رجل أجنب و لم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا، قال عليه السّلام: يتيمم به و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الّتي توبق دينه»، فإنّ عموم العلّة يشمل جميع ما ذكرناه. و يدلّ على العموم أيضا قوله عليه السّلام: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كانت شبرا من الأرض استوجبت له الجنّة و كان رفيق أبيه إبراهيم و نبيّه محمد (صلوات عليهم عليهما)، فالمهاجرة واجبة على كلّ من لم يتمكّن من إقامة دينه، أو كانت الإقامة موبقة لدينه و يسقط الوجوب لو كان له ظهر يحميه من المشركين من عشيرة و نحوها، فيمكنه إظهار إيمانه و يكون آمنا على نفسه.
و يظهر ممّا ذكرنا أنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بعصر النزول، و أنّ وجوب الهجرة باق ما دام المقتضي موجودا، و هو الكفر و الشرك و عدم التمكّن من إقامة شعائر الإسلام. و أمّا الحديث المروي عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا هجرة بعد الفتح»، فإنّه محمول على نفي وجوب الهجرة عن مكّة المكرّمة بعد فتحها؛ لأنّها صارت من بلاد الإسلام، و لإمكان إقامة الشعائر فيها كما في كلّ بلاد الشرك إذا فتحت و دخل أهلها في الإسلام، فإنّه لا يجب الهجرة منها لعدم المقتضي.
و يستفاد من الآية الشريفة استحباب الخروج من أرض يعصى اللّه تعالى فيها، و يدلّ عليه قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [سورة العنكبوت، الآية: ٥٦]، و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا عصي اللّه في أرض و أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»، المحمول على الاستحباب.
و هل تشمل الآية الكريمة الهجرة من الأرض الّتي لا يتمكّن فيها من إقامة شعائر الإيمان؟ فيه بحث مذكور في الكتب المفصّلة.
الثالث:
يستفاد من إطلاق الآية المباركة أنّ الهجرة باقية مادام الكفر باقيا، و أنّها غير مقيّدة بزمان خاص و لا بمكان معين، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التوبة حتّى تطلع الشمس من مغربها»، مضافا إلى الإجماع.
الرابع:
مقتضى أدلّة وجوب الهجرة أنّها تنقسم إلى الهجرة الواجبة و المستحبّة و المباحة، أمّا الأولى فكما تقدّم، و أمّا الثانية كما إذا كان في بلاد الشرك و يمكنه إظهار الشعائر الدينيّة و العمل بها، و مع ذلك تستحبّ الهجرة لئلّا يكثر به عددهم أو يترتّب عليه عنوان يوجب رفع شأنهم، و أمّا الثالثة كما في موارد وجود العذر في الهجرة.
الخامس:
يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ على أنّ كلّ هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حجّ أو جهاد أو الفرار من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو الهجرة من الباطل إلى الحقّ، ففي الحديث: «من دخل إلى الإسلام طوعا، فهو مهاجر»، و كذا الفرار إلى بلد يزداد فيه طاعة اللّه تعالى أو زهدا في الدنيا أو قناعة أو ابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى اللّه تعالى و رسوله و إن أدركه الموت في طريقه فأجره يكون على اللّه تعالى؛ لأنّ المستفاد من الآية الشريفة هو طلب مرضاة اللّه و رسوله، فأين ما تحقّق المقتضي شملته الآية الكريمة.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"