1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 88 الى 91

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)


الآيات الشريفة ترتبط بالآيات الكريمة السابقة و كأنّها متفرّعة عليها بعد تعيين الحكم الحقّ و تشريع القتال و بيان الطوائف الّتي كانت في المجتمع الإسلامي، ثمّ التعرّض للشفاعة الحسنة و الشفاعة السيئة و أنّ كلتا الشفاعتين تعطي لصاحبها النصيب و الكفل من حسناتها و مساءتها.
و يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآيات الشريفة الفئات المختلفة داخل المجتمع الإسلامي، و دعا المؤمنين إلى الاتحاد و عدم الاختلاف في أمر المنافقين و التحزّب الى حزبين، فئة ترى قتالهم و فئة تشفع لهم و تحرض على ترك قتالهم و إهمالهم.
كما أنّ الآيات المباركة تحدّد موقف المسلمين إزاء الفئات خارج المجتمع الإسلامي، من الكفّار المخالفين لقوم بينهم و بين المسلمين ميثاق، و هم محايدون لا يريدون الكيد بالمسلمين و الدخول في حرب معهم و لا الحرب مع قومهم الّذين على دينهم، و فئة ثالثة يتلاعبون، يظهرون الإسلام مع المسلمين، و يبطنون النفاق و الكفر ليأمنوا الطائفتين، ثمّ يأمرهم بقطع مادّة الفساد بعد أن ردّهم عزّ و جلّ إلى الضلال؛ جزاء بما كسبوا من السيئات، و من يضلل اللّه فما له من سبيل إلى الهدي، فلا يرجى منهم الخير.

قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.
إنكار على ما حصل من المؤمنين من التفرقة في أمر المنافقين إلى فرقتين مختلفتين، فرقة تتبرّأ من المنافقين و ترى قتالهم، و فرقة اخرى تتولّاهم و تشفع لهم و ترى ترك قتالهم، فلم يتّفقوا على كفرهم و قتالهم، و اختلفت الروايات في شأن نزول الآية الشريفة، و لا بأس بحملها على تعدّد النزول و بيان بعض المصاديق إن صحّت تلك الروايات.
و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على توبيخ المؤمنين على تفرّقهم و عدم اجتماعهم في قطع مادّة الفساد، و الإغماض عن شجرة الضلال بتركها حتّى تنمو و تقف عائقة في سبيل الدين الحقّ و نشر العدل.
كما أنّ الآية الشريفة ترشد المؤمنين إلى كيفيّة التعامل مع الفئات في داخل المجتمع، و تأمرهم بالاتّفاق و الاتّحاد و التعاون بينهم مقابل الفئة، فإمّا الحكم عليهم بالكفر و القتال معهم، أو نبذهم و الإعراض عنهم و عدم التعامل معهم.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا.
تأكيد للإنكار السابق و بيان السبب له، و الجملة حال من المنافقين، أي: كيف تتفرّقون في شأنهم و الحال أنّ اللّه أركسهم و قد ارتدّوا إلى الكفر.
و مادّة (ركس) تدلّ على التحوّل و الانقلاب، أي: قلب الشي‏ء على رأسه و ردّ أوّله إلى آخره، و هو تارة: ظاهري، كالردّ و القلب، كما في النكس الّذي يكون الركس أبلغ منه؛ لأنّ من يرمي منكسا في هوّة، قلّما يتخلّص منها.
و اخرى: معنوي، كالتحوّل من الحالة العاديّة و الفطرة المستقيمة إلى الحالة الرديئة، كما حكى عنها عزّ و جلّ في قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الملك، الآية: 22]، و هذا هو الانقلاب من الفطرة المستقيمة إلى غيرها و هو الركس، أي: التحوّل المعنوي و الانقلاب من الهدي و الصراط المستقيم الى الكفر و الضلالة، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.
و المعنى: أنّ اللّه تعالى رماهم منكّسين إلى الضلالة، و حوّلهم من الإيمان إلى الكفر؛ جزاء بما كسبوا من الخطايا و السيئات الّتي أفسدت فطرتهم، فارتدّوا إلى الكفر و أوغلوا في الضلال و بعدوا عن الحقّ، فلا يرجى منهم الخير و الهداية، و مثل هذا التعبير لم يرد في غير المنافقين، و هو يكشف عن شدّة غيّهم و ضلالهم و غورهم في الكفر، و قد اهتمّ سبحانه و تعالى بالمنافقين و ذكرهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و أفرد لهم سورة خاصة، و بيّن جميع ما يتعلّق بهم و كشف عن نواياهم و سوء سرائرهم.
و إنّما نسب عزّ و جلّ الركس إلى نفسه اهتماما بهم، و لبيان أنّ الأعمال الاختياريّة الّتي ارتكبوها ما كانت لتؤثّر في نفوسهم إلّا بإرادة منه عزّ و جلّ و لسلب التوفيق منهم.
قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.
توبيخ آخر لهم و بيان للركس الوارد في صدر الآية المباركة و تعجيز لهم، أي: أنّ ذلك محال، فإنّ الّذي ردّ إلى الضلالة و الكفر ليس في استطاعتكم هدايته و تغيير سنة اللّه تعالى فيه، فلا تفيد شفاعتكم في هداية هؤلاء الّذين أضلّهم اللّه تعالى.
و توجيه الإنكار إلى الإرادة لبيان شدّته و المبالغة فيه، ببيان أنّ إرادة الهداية ممّا لا يمكن، فضلا عن إمكان نفسها.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
التفات من خطاب المؤمنين إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و فيه إشارة إلى أنّ من تشفّع من المؤمنين في حقّهم لا يدرك هذه الحقيقة، و إلّا فلم يشفع لهم.
و هذه الآية الكريمة تبيّن حقيقة من الحقائق الواقعيّة الجارية في خلقه تعالى، و هي أنّ الّذي أخزاه اللّه تعالى بسبب سوء أعماله الاختياريّة فصار ضالا عن الحقّ، لم يكن له سبيل إلى الهداية.
و إنّما نفى عزّ و جلّ وجود السبيل فضلا عن نفس الهداية مبالغة، و لانسداد الطرق بالنسبة إليه؛ لأنّه خرج عن الفطرة المستقيمة، فلا تؤثّر فيه أيّة حجّة و دليل، فليس له من سبيل آخر يؤثّر فيه و يرجعه إلى رشده ليهتدي إلى الصراط المستقيم.
قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً.
وصف لنفسياتهم الضالّة المضلّة، و بيان لتماديهم في الكفر و تصدّيهم لإضلال غيرهم بعد ما ضلّوا و كفروا كما حكى عنهم عزّ و جلّ في ما سبق، فتكون الآية المباركة بيانا لقوله تعالى: وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، فهم يتمنّون أن يكون المؤمنون مثلهم في الكفر و النفاق على سواء، فلا أثر للهداية فيه؛ لأنّهم ليسوا من الكفّار الّذين يقتنعون بكفر أنفسهم فقط، بل ردّهم اللّه‏ تعالى و حوّلهم من الصراط المستقيم و الفطرة المستقيمة الّتي تدعو إلى تكميل النفوس و الثبات على الحقّ.
و هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ اللّه تعالى صرف الهداية عنهم؛ لأجل اختيارهم الكفر و اقترافهم السيئات.
قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
إرشاد إلى المؤمنين بالبراءة منهم، و عدم اتّخاذهم أولياء في الخلّة و الصداقة و إلقاء المودّة، بعد ما عرفتم نفسياتهم من الوداد للكفر و النفاق حتّى يؤمنوا إيمانا صحيحا بالهجرة في سبيل اللّه تعالى.
و المراد من الهجرة الأعمّ من ترك المعاصي و النفاق و نبذ الأهل و الأوطان؛ لأنّها على أقسام، أهمّها الهجرة عمّا يوجب سخط اللّه تعالى و الدخول في ما يرضيه، و هي هجرة الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام و الصالحين، ففي الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه»، و هي على مراتب متفاوتة و درجات مختلفة. و مثل هذه الهجرة واجبة بظاهر الآية الشريفة، و إن كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان متوقّفة على تحقّق شروطها المذكورة في كتب الفقه.
و قد تضمّنت الآية المباركة أهمّ حكم تربوي إصلاحي يعالج به الفئات الضالّة في داخل المجتمع، فإنّ البراءة منهم و ترك اتّخاذهم أولياء، أو بالأحرى هجرة أهل الإيمان عن أهل النفاق، لها الأثر النفسي الكبير في إصلاح نفوسهم المريضة المضلّة، و ترويضها على قبول الحقّ؛ و لذا كانت البراءة منهم مقدّمة على هجرة أهل النفاق، فإنّها بدون البراءة لا يكون لها ذلك الأثر الكبير في إصلاح النفوس، فلا بد و أن يكون الإرشاد و التوجيه على طبق ما ورد في الآية الشريفة؛ ليرجى منه الخير و الصلاح و الرشاد.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
أمر بالقتال حيث تحقّق شروطه، و هي الإعراض عن الإيمان المصاحب بالهجرة المستقيمة الّتي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب، و نبذ النفاق و العداء للحقّ و أهله، و قد أمر اللّه تبارك و تعالى المؤمنين بقتلهم حيث ما وجدوهم في الحلّ و الحرم، كسائر الكفّار بعد نقض العهد منهم.
و الآية الكريمة تأمر المؤمنين أن يطلبوا منهم الهجرة و مراقبة أعمالهم، و تبيّن العلّة في قتالهم و العذر في جهادهم، و قد ذكر عزّ و جلّ بعض أحكام جهادهم في سورة التوبة كما سيأتي.
قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً.
حكم اجتماعي تربوي لإصلاح النفوس و تهذيبها بالأمر بمقاطعتهم مقاطعة كلّية، و المجانبة عنهم أبدا بعدم قبول الولاية و لا النصرة منهم، و بدأ بالنهي بلفظ المضارع الدالّ على الاستمرار، و تكرار أداة النفي الدالّ على التأكيد على أهميّة الحكم، و تشجيع الهمم عليهم.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ.
استثناء من الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ؛ لبيان أنّ القتال مع المنافقين إنّما كان لضرورة، فلا بد و أن تتقدّر بقدرها، و قد استثنى عزّ و جلّ طائفتين.
إحداهما: من ترك المحاربين و لحق بالمعاهدين مع المؤمنين. أي: إلّا أولئك المنافقين الّذين ينتهون إلى قوم معاهدين مع المسلمين و يدخلون فيهم، و قد عاهدوكم على مفارقة المحاربة معكم.
و الصلة أعمّ من الجوار و الحلف و الالتجاء و العهد، ممّا كان متعارفا في ذلك العصر ممّا يستجار و يؤمن به.
الثانية: الّذين لحقوا بالمؤمنين و هم يتحرّجون عن مقاتلة قومهم و مقاتلة المؤمنين، كما سيأتي.
و ذكر بعض المفسّرين أنّ الاستثناء يرجع إلى المؤمنين الّذين لم يهاجروا، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الهجرة على كلّ من أسلم، فاستثنى من كان له عذر، و هم الّذين قصدوا الرسول للهجرة و النصرة إلّا أنّه منعهم الكفّار الّذين يخافونهم، فصاروا إلى قوم بينهم و بين المسلمين عهد و ميثاق، و أقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة.
و استثنى أيضا من صاروا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين و لكن لا يقاتلون المسلمين و لا يقاتلون الكفّار معهم؛ لأنّهم أقاربهم أو تركوا عندهم الأهل و المال، فيخافون الفتك بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين.
و هذا الوجه بعيد عن ظاهر الآية المباركة كما هو معلوم؛ لأنّ الكلام مع المنافقين الّذين أركسهم اللّه تعالى، سواء كانوا في دار الكفر أو في دار الهجرة.
قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ.
هذه الفئة الثانية من المنافقين الّذين استثناهم عزّ و جلّ من القتل.
و الحصر (بفتحتين) هو الضيق و الانقباض، و حصرت الصدور أي: ضاقت، و الحصر في القول هو الضيق في الكلام- و منه الحصر بالفتح فالكسر- أي: الكتوم للسرّ، و الجملة حال من الضمير المرفوع في «جاءوكم»، فلا بد من إضمار «قد»، أي جاءوكم و قد حصرت صدورهم، و قيل غير ذلك كما يأتي في البحث الأدبي.
و المعنى: إلّا الّذين جاءوكم و لحقوا بكم كافّين عن القتال و قد ضاقت صدورهم عن قتالكم و قتال قومهم، و يمكن أن يراد بهؤلاء هم المتحرّجون عن القتال لا مع المؤمنين و لا عليهم، فنفاقهم إنّما يكون بالولاء.
و كيف كان، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور في صدر الآية الشريفة.
و المستفاد منها اهتمام الإسلام بالعهود و مراعاة المواثيق و مجانبة القتال مهما أمكن، إلّا إذا دعت الضرورة إليه، فحينئذ تتقدّر الضرورات بقدرها، كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ.
منّة على المؤمنين، أي: من رحمته بكم أنّه تبارك و تعالى صرف تلك الفئتين عنكم لأسباب عديدة، و لو شاء عزّ و جلّ لسلّطهم عليكم بوجوه، منها إزالة الرعب عنهم و تقوية عزيمتهم و بسط صدورهم لقتالكم فلم يكفّوا عنكم و لم ينصرفوا عن قتالكم، فإنّه على كلّ شي‏ء قدير، فهو قادر على أن يسلّط من يشاء على من يشاء إذا اقتضت حكمته المتعالية ذلك.
قوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ.
أي: فإن لم يتعرّضوا لكم و لم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم و الصلح، بأن استسلموا و نبذوا العداء لكم.
قوله تعالى: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
أي فما أذن اللّه لكم في الاعتداء عليهم و قتالهم، فإنّ اللّه تعالى لم يشرّع القتال إلّا إذا اعتدي على المؤمنين. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا و قد تنحّى عنه و اعتزله حتّى نزلت سورة التوبة و أمر بقتل المشركين، اعتزلوه أو لم يعتزلوه، إلّا من قد كان على عهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5].
قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ.
إخبار عن قوم لم يهتدوا بهدى الإسلام و لم يستقر الإيمان في قلوبهم، فقد أسلموا رياء ليأمنوا بطش المؤمنين، و كفروا بالحقّ ليأمنوا قومهم، فهم مذبذبون لا يهمّهم إلّا حفظ أنفسهم و سلامة أبدانهم، و قد أخبر عزّ و جلّ بأنّهم منافقون؛ ليحذر المؤمنون منهم فلا يوادعونهم كما لا يواعدونهم.
و مضمون الآية المباركة لا يختصّ بعصر النزول، فإنّ أهل الحقّ على ابتلاء بمثل هؤلاء الطائفة في كلّ عصر، و أنّهم يعانون من نفاقهم و عدم خضوعهم أمام الواقع و عدم إذعانهم بالحقّ و اتباعه.
قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها.
أي: كلّما سنحت لهم الفرصة إلى الفتنة- و هي الكفر و مساعدة الكفّار على المؤمنين- تحوّلوا إليها بسهولة شرّ تحوّل، و انتكسوا من العهد و الإيمان و عادوا إلى الكفر أقبح عود.
و الارتكاس هو: الانتكاس و القلب أقبح قلب و أشنعه. و هذا الوصف يكشف عن شدّة غيظهم و بعدهم عن الحقّ، كما يكشف عنه الآية التالية أيضا.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ.
بيان لشروط قتال هذه الطائفة، و تبديل الكلام فيها من الإثبات إلى النفي، و اختلافه عمّا ذكره تعالى في الطائفة السابقة، قال تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ؛ لإرشاد المؤمنين إلى خبث هذه الطائفة و أخذ الحيطة عن هؤلاء و تشديد الحذر منهم.
و الشروط الّتي ذكرها عزّ و جلّ لترك قتالهم، هي اعتزالهم عن المسلمين، و عدم التحريض على قتلهم، و استسلامهم بالمصالحة و الموادعة مع المسلمين، و الانقياد لهم و كفّ أيديهم عن قتال المسلمين، فإنّ بهذه الشروط يؤمن جانبهم فلا يخاف غدرهم و شرّهم، و إن لم يتحقّق شرط من هذه الشروط فقد تمّت الحجّة عليهم، فيحلّ عليكم قتالهم، كما أخبر عزّ و جلّ.
قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
جواب للشروط المزبورة، أي: فإن لم تتحقّق تلك الشروط و لم يفعلوا ذلك، فأسروهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم و تمكنتم منهم؛ لتمامية الحجّة عليهم.
قوله تعالى: وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً.
أي: جعلنا لكم على هذه الطائفة حجّة واضحة في التعرّض لهم بالسبي و القتل، لظهور عدوانهم و كفرهم و خبث سرائرهم و إصرارهم على الغدر و الإضرار بالإسلام و أهله، و يمكن أن يراد بالسلطان المبين هو التسلّط الظاهر عليهم، حيث أذن عزّ و جلّ في أخذهم و قتلهم، و يؤيّده تقابل هذه الآية الكريمة بقوله تعالى في الآية السابقة: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.

«ما» في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ استفهام إنكار و هو مبتدأ، و «لكم» خبره، و «فئتين» منصوب إمّا على أنّه حال من ضمير «لكم» المجرور، و العامل فيه إمّا الاستقرار أو الظرف. و إمّا منصوب على أنّه خبر (كان) مقدّرة، أي: ما لكم في شأنهم كنتم فئتين.
و أشكل على الوجهين بأمور ذكروها في كتب النحو فراجع.
و جملة: وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين تفيد تأكيد الإنكار السابق، و الباء للسببيّة، و (ما) إمّا موصولة أو مصدريّة.
و «لو» في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا مصدريّة لا جواب لها، و الفاء في قوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَواءً للعطف لا للجواب، كقوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم، الآية: 9]، فيكون من عطف المصدر المقدّر على الملفوظ.
و قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عطف على صلة الَّذِينَ يَصِلُونَ، و التقدير: (أو الّذين جاؤكم). و حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار (قد)، أو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤكم»، أي: جاؤكم قوم حصرت، أو في موضع خفض على النعت لقوم.
و اللام في فَلَقاتَلُوكُمْ لام المجازاة و الازدواج كما ذكره جمع، أو لام الجواب لعطفه على الجواب؛ و لا حاجة لتقدير (لو).
و «يكفوا» في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عطف على المنفي لا النفي، بقرينة سياق الآية المباركة، و سقوط النون‏ الّذي هو علامة الجزم لا يدلّ على كون العطف على النفي؛ لأنّ الجملة مبدوءة ب أن الشرطية، و هي جازمة مطلقا سواء كان العطف على النفي أو المنفي.

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:
الأوّل:
يستفاد من الآيات الكريمة حكم الإسلام مع الفرق المخالفة للمؤمنين، و تثبيت أركان القانون العامّ. و يؤكّد على الوفاء بالمواثيق، و يربّي المؤمنين على احترام العهود، و يأمرهم بالاتّحاد أمام الفرق المخالفة، و ينهاهم عن الاختلاف في شأنهم بعد اشتراكهم في الكفر، و يأمرهم بالرجوع إلى الحقّ و الدخول في صفوف المؤمنين و إلّا كان القتل، كما يأمرهم بعدم اتّخاذهم أولياء و أنصارا إلّا من كان بينكم و بينهم عهد و ميثاق فلا بدّ من احترامه و عدم نقضه، فإنّه يؤمن جانبهم ما داموا على العهد، أو من كان منهم من لا يريد القتل و يشمئز منه، فإنّه يؤمن أيضا ما دام معتزلا عنه.
ثمّ يبيّن عزّ و جلّ حكم الطائفة الاخرى الّتي تريد الغدر بالإسلام و أهله، و اختلف الحكم فيهم عن الحكم في الطائفة الأولى، فاعتبر في قتلهم أمور عدميّة بخلاف السابق، و هي عدم الاعتزال، و عدم إلقاء السلام، و عدم كفّ الأيدي؛ لاختلاف الموردين، فإنّ الأولى كانت عازمة على قتال المسلمين، و أمّا الثانية فقد كانت على غدر و خيانة و تريد القضاء على الإسلام. و من هنا جاء اختلاف السياق في الموردين.
الثاني:
يستفاد من قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أنّ اختلاف المؤمنين في شأن المنافقين إنّما كان لأجل حبّهم لهدايتهم و رجوعهم إلى الحقّ و التجنّب عن سفك الدماء لا خوفا و لا جبنا، أو الإعراض عن حكم اللّه‏ تعالى، بدليل قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، و مع ذلك فقد وقعوا موقع التوبيخ؛ لأنّه يرجع إلى تولّي أعداء اللّه تعالى.
الثالث:
يدلّ قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا، على أنّ الأعمال لها الشأن الكبير في النكوص عن الحقّ و الإعراض عن طاعة اللّه تعالى و الدخول في سلك أعدائه عزّ و جلّ و انسلاكه في زمرة المنافقين.
الرابع:
يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أنّ جميع ما يعدّه الإنسان في هداية شخص و ما يبذله من جهد في إراءة الطريق، لا يجدي نفعا إذا لم تسبقه هداية من اللّه تعالى و توفيق منه عزّ و جلّ، فهي كالعلّة المادّية لقبول الصور الواقعة عليها، الّتي تحصل من إيمان الفرد و جهده و عمله.
الخامس:
يستفاد من مجموع الآيات الشريفة في المقام أنّ المنافقين الّذين ورد ذكرهم فيها على فريقين: فريق دخلوا في الإسلام خوفا من الحسام، و قد أبطنوا الكفر، يتربّصون بالمسلمين الدوائر، يظهرون المودّة لهم إذا ظهر لهم قوّة، و إذا تبيّن ضعفهم انقلبوا عليهم و أظهروا العداوة و البغضاء، و فريق آخر يظهرون الولاء للمسلمين طمعا للمال أو المادّة، فهم يتبعونه أينما وجد، مذبذبون بين ذلك، لا إلى المسلمين و لا إلى الكفّار فيأمنوا الجانبين، تراهم يردّون إلى الفتنة شرّ تحوّل مرة بعد أخرى، و هناك فريق ثالث دخلوا في الإسلام و لم يهتدوا بهديه، تراهم ينكصون عن الطاعة و يتمرّدون على الشريعة، و لم يستسلموا لأحكام اللّه تعالى و رسوله، و فريق رابع لاحظوا الجوانب المادّية و البعد المادّي في الإسلام، و لكنّهم يعرضون عن الجانب المعنوي الروحاني فيه، فتراهم يعملون و يطيعون لأجل البعد المادّي، قد فقد فيهم الخلوص، و هم منافقون في الأعمال، بخلاف القسم الأوّل الّذي كان النفاق في الإيمان و الأعمال، و هذان الفريقان و إن لم يذكرا في هذه الآيات المباركة و لكن سبقت الإشارة إليهما في الآيات الكريمة السابقة، و سيأتي أقسام‏ أخرى نشير إليها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى، و يستفاد من مجموعها اختلاف أغراض المنافقين و تعدّد سبل كيدهم و غدرهم.
السادس:
تدلّ الآيات المباركة على شروط ترك القتال مع المنافقين، و هي مضافا إلى كونها شروطا لاعتزال القتال، هي في نفس الوقت أسس تربويّة لإصلاح النفوس المريضة، فلم تكن مجرّد شروط يفرضها الحاكم على المحكوم للنيل منه أو دحره و احتقاره، بل هي أحكام تربويّة إصلاحيّة، فتكون من موارد تطبيق نظرية الإسلام في تشريع الأحكام.
و هذه الشروط هي: الاعتزال عن القتال و تركه، و الصلح و الانقياد، و كفّ الأذى عن المؤمنين، و كلّ ما يوجب الإهانة بالإسلام و المسلمين، و هذه الشروط الثلاثة من أهمّ الطرق لإصلاح النفوس و ترويضها على الطاعة و الانقياد.
السابع:
يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ كناية عن ترك جميع ما يمسّ بكرامة الإسلام و المسلمين من الأذى و النبز و الإهانة و التعريض و جميع الدسائس، و بذلك يؤمن شرّهم و يترك القتال معهم بالصلح و الانقياد معهم تصلح نفوسهم.

في المجمع في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا قال: «اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة؛ لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أنّ يغزوهم فاختلفوا، فقال بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون، و قال آخرون: إنّهم مشركون، فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية، و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام.
أقول: قريب منه ما رواه في الدرّ المنثور، و معنى: «استوخموا المدينة» استثقلوها و لم يوافق هواؤها أبدانهم لمرض، كالوباء أو غيره، و في الحديث: «من أضلّه اللّه و أعمى قلبه، استوخم الحقّ»، أي: استثقله و لم يقبله و صار الشيطان وليّه و قرينه.
و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و ذكر المصداق للآية المباركة.
و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا قال: «خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس فقال: من لي بمن يؤذيني و يجمع في بيته من يؤذيني؟ فقام سعد بن معاذ فقال: إن كان منّا يا رسول اللّه قتلناه، و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال: ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول اللّه، و لكن عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال: إنّك يا ابن عبادة منافق تحبّ المنافقين، فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا أيّها الناس، فإنّ فينا رسول اللّه و هو يأمرنا فننفذ لأمره، فانزل اللّه تعالى الآية».
أقول: لعلّ وجه استنصاره صلّى اللّه عليه و آله بهم لامتحانهم بعد إتمام الحجّة عليهم، فبيّن اللّه تعالى ما كان في ضمائرهم و كشف عن حقيقتهم. و الرواية من باب التطبيق و الجري لا التخصيص و الحصر.
و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ- الآية-، أنّها نزلت في أشجع و بنى ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنّه لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى غزاة الحديبية أتى بدرا لموعد مرّ قريبا من بلادهم، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هادن بني ضمرة و وادعهم قبل ذلك، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، هذه بنو ضمرة قريبا منّا و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة، أو يعينوا علينا قريشا، فلو بدأنا بهم؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلا، إنّهم أبرّ العرب بالوالدين و أوصلهم للرحم و أوفاهم بالعهد.
و كانت أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة من بطن كنانة، و كان أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة، فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيّأ للمسير إلى أشجع ليغروهم للموادعة الّتي بينه و بين بني ضمرة، فأنزل اللّه تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً، ثمّ استثنى بأشجع فقال: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، و كانت أشجع محالها البيضاء و الحال و المستباح، و قد كانوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهابوا لقربهم من رسول اللّه أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهمّ بالمسير إليهم، فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع سنة ست من الهجرة، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع، فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلّم على أسيد و على أصحابه، فقالوا: جئنا لنوادع محمدا صلّى اللّه عليه و آله، فرجع أسيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم، ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه، ثمّ قال: نعم الشي‏ء الهدية أمام الحاجة ثمّ أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قريب دارنا منك و ليس في قومنا أقل عددا منّا، فضقنا لحربك لقرب دارنا منك و ضقنا لحرب قومنا لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعهم، فقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منهم و وادعهم، فأقاموا يومهم ثمّ‏ رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ- إلى قوله تعالى- فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.
أقول: الرواية من باب التطبيق لا التخصيص، و يستفاد منها أمور:
الأوّل: إنّما وداع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبيلة بني ضمرة و عاهدهم لما فيهم من الصفات الحسنة الّتي تقرّبهم إلى الفطرة السليمة و الإسلام، و لعلّ صلحه صلّى اللّه عليه و آله معهم صار سببا لإسلامهم فيما بعد.
الثاني: يستفاد من تقريره صلّى اللّه عليه و آله للموادعة و المعاهدة الّتي كانت بين بني ضمرة و أشجع، أن كلّ معاهدة تكون بين الرهطين و القبيلتين تجوز إن لم تناف مع الأحكام الشرعيّة. و المراد من «ليغروهم» في الرواية، أي: ليظهر صلّى اللّه عليه و آله عجبه و رضاه للموادعة الّتي بين أشجع و بين بني ضمرة.
الثالث: يستفاد منها أنّ إهداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحمال التمر لهم لأجل تأليف قلوبهم و ترغيبهم لمناصرة الحقّ، أو لأجل أنّه صلّى اللّه عليه و آله علم أنّ القوم بحاجة إلى ذلك، فأرسل إليهم ليسدّ حاجتهم حتّى يعرفوا بذلك خلقه الكريم و معالم دينه الحنيف.
و في المجمع: المروي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «المراد بقوله تعالى: قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ هو هلال بن عويمر السلمي و أوثق عن قومه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال في موادعته: على أن لا نحيف يا محمد من أتانا، و لا تحيف من أتاك. فنهى اللّه تعالى أن يتعرّض لأحد عهد إليهم».
أقول: المراد من الحيف الظلم و الجور، و في الحديث: «إنّا معاشر الأنبياء لا نشهد على الحيف»، أي: على الظلم و الجور، و الرواية من باب ذكر أحد المصاديق أو التطبيق.
و في الكافي بإسناده عن الفضل أبي العباس عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ قال:
«نزلت في بني مدلج؛ لأنّهم جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّا قد حصرت‏ صدورنا أن نشهد أنّك لرسول اللّه، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟! قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثمّ يدعوهم فإن أجابوا و إلّا قاتلهم».
أقول: الرواية من باب التطبيق، و إن المعاهدة الّتي قرّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت ماداميّة لمصلحة هي أهمّ من مقاتلتهم، كما مرّ في التفسير.
العياشي عن سيف بن عميرة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى: يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ قال: كان أبي عليه السّلام يقول: نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يكونوا مع قومهم، قلت: فما صنع بهم؟ قال: لم يقاتلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى فرغ من عدوه ثمّ نبذ إليهم على سواء، قال: و حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ و هو الضيق».
أقول: الرواية من باب التطبيق كما مرّ، و المراد من قوله عليه السّلام: «ثمّ نبذ إليهم على سواء»، خالفهم و جاهر معهم الحرب.
البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ قال: نسختها براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
أقول: إنّ الأمر بقتل المشركين بعد إتمام الحجّة عليهم، و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يبتدأ بقتال أحد من المشركين إلّا إذا اعتدى المشركون على المؤمنين و تمّت الحجّة عليهم، فليس المراد من النسخ معناه المصطلح، بل هو نوع من التخصيص كما مرّ.
و في تفسير القمّي عن الصادق عليه السّلام: «كانت السيرة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة البراءة ألّا يقاتل إلّا من قاتله، و لا يحارب إلّا من حاربه، و قد كان نزل في ذلك من اللّه سبحانه: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه‏ و اعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة و أمر بقتل المشركين، من اعتزله و من لم يعتزله، إلّا الّذين قد كان عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة إلى مدّة».
أقول: الحديث طويل و يأتي بيانه في سورة براءة إن شاء اللّه تعالى، و المراد من قتل المشركين المعاندون الّذين تمت الحجّة عليهم، كما مرّ.
و في المجمع عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها قال: «نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الّذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع في قومه».
أقول: الرواية من باب التطبيق، و المراد من بطن نخل، موضع بين مكّة و طائف.
و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ- الآية عن مجاهد قال: «ناس من أهل مكّة كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيسلمون رياء ثمّ يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا و هاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا و يصالحوا».
أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"