1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 85 الى 87

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقِيتاً (۸٥) وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَسِيباً (۸٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (۸۷)


بعد ما بيّن عزّ و جلّ بعض أحوال الطائفتين المؤمنة المستقيمة الثابتة في إيمانها و المطيعة لمولاها، و الطائفة العاصية الزائغة في أقوالها و أفعالها.
يذكر جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة وضع كلّ واحدة من الطائفتين من حيث العمل و الجزاء، فإنّ الشفاعة الحسنة تؤدّي إلى الغاية الحميدة، و هي الشوق الى الطاعة و تحريض المؤمنين على قتال الأعداء، فيترتّب عليها الجزاء الحسن.
و أمّا الشفاعة السيئة فتكون نتيجتها الحرمان و تخذيل الناس عن القتال- بحكم المناسبة مع الآيات السابقة- و يترتّب عليها الجزاء السي‏ء.
ثمّ يذكر سبحانه و تعالى في ضمن هذه الآيات المباركة التحيّة، فإنّ فيها الحياة و نبذ الفرقة و الاختلاف. و ذكر هذه الآية الشريفة في هذا المقام لبيان القاعدة الأساسيّة في الإسلام، و هي السعي إلى السلام، إلّا إذا اضطرّ إلى الحرب و القتال، فهو إنّما يكون وسيلة لإقرار السلام، لا لأجل القتال.
و يذكر عزّ و جلّ القاعدة العريقة في القتل و الجهاد و السلم و الأمان، و هي إقرار توحيد اللّه تعالى، فهو التوجيه العقائدي الصارم في جميع ميادين هذا الدين، و لا يخلو ارتباط هذه الآيات الكريمة بسابقتها، كما عرفت.

قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها.
مادة (شفع) تدلّ على ضمّ شي‏ء إلى شي‏ء، و منه الشفع، أي: ضمّ واحد إلى واحد، و هو الزوج في العدد. و الشفعة، لأنّها ضمّ الشريك نصيبه إلى نصيب شريكه.
و أمّا الشفاعة، فهي الانضمام إلى آخر ليكون ناصرا له أو دافعا عنه، فهو نوع توسّط لترميم نقص أو حيازة مزيّة، و تقدّم في مبحث الشفاعة أنّ لها السببيّة في الجملة لإصلاح شأن من شؤون المشفوع له، و هذا هو مقصد الشفيع، فتكون الغاية من الشفاعة إيصال المنفعة إلى المشفوع له، فلا بدّ و أن يكون للشفيع منزلة عند المشفوع، و يكون له نصيب من الخير أو الشرّ المترتّبين على الشفاعة.
و الشفاعة إمّا تكوينيّة كما في قانون العلل و المعلولات، أو تشريعيّة، و هي الّتي تكون بإذن اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ [سورة الأنبياء، الآية: 28]، فراجع بحث الشفاعة عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة، الآية: ۲٥٤].
و النصيب و الكفل بمعنى واحد، و هو الحظ. و قيل: إنّ النصيب هو الحظّ المنصوب، أي: المعيّن فيشمل الزيادة، و الكفل هو المثل المساوي أو الحظ الّذي فيه الكفاية.
و إنّما ذكر النصيب في الحسنة لأنّ جزاء الحسنة يضاعف، و ذكر الكفل في السيئة لأنّ من جاء بالسيئة لا يجزى إلّا مثلها، فتكون الآية المباركة إشارة إلى لطفه عزّ و جلّ بعباده.
و عموم الحسنة يشمل كلّ ما يطلق عليه الحسنة، و منها الدعاء للمؤمنين.
و المعنى: من يجعل نفسه شفيعا لآخر في حسنة، يكون له حظ وافر ممّا يترتّب على شفاعته من الخير في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة؛ لأنّ الشفيع ذو نصيب من الخير و الشرّ المترتبتين على شفاعته لما كان فيها نوع من السببيّة، كما عرفت.
و اختلف العلماء في المراد من هذه الآية الكريمة، و المستفاد منها أنّها تدلّ على تحريض المؤمنين على مراعاة الحقوق إمّا بدفع الشرّ، أو جلب المنفعة ابتغاء وجه اللّه تعالى، و تنبههم لأن يكونوا على يقظة من شفاعتهم، فلا يشفعوا حتّى يعرفوا الأثر المترتّب عليها، فإذا كانت في خير و حسنة فلا بأس بالشفاعة فيها، و إن كانت في شرّ و فساد فلا بدّ من الاجتناب عنها، فإنّ فيها إشاعة للشرّ و ترويجا للباطل و تأييدا لأهل الظلم و الطغيان و النفاق، و في ذلك الفساد العظيم.
و بمناسبة ذكر هذه الآية الشريفة بعد الآيات السابقة الّتي أمر فيها نبيّه الأعظم بالقتال منفردا لأجل حفظ كيان هذه الامة، تأتي هذه الآية الكريمة و تأمر المؤمنين بنصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الانضمام إليه في هذا الخير العظيم، فإنّ فيه نصرة الحقّ و إقامة شريعة اللّه تعالى، فيكون لهم الشرف و النجاة في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة، ففي الآية الشريفة تحريض للمؤمنين على قتال أعداء اللّه تعالى، و أنّه يكون لهم الجزاء الحسن عنده تعالى.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها.
بيان للشفاعة المخالفة للشفاعة الحسنة، و تشمل كلّ ما كان سيّئة، كالانضمام إلى العدو و تخذيل المؤمنين، و الإعانة على السيئات، و الدعاء على المؤمن، و منها الشفاعة في إسقاط حدّ من حدود اللّه تعالى، ففي الحديث: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى، فقد ضادّ اللّه تعالى في ملكه، و من أعان على خصومة بغير حقّ، كان في سخط اللّه تعالى حتّى ينزع»، فمن يشفع الشفاعة السيئة يكن له مثل الوزر المترتّب على تلك السيئة، فإنّ الكفل و النصيب و المثل واحد.
و في اختلاف التعبير في المقامين لبيان أنّ من يجري الشرّ في أفعاله، فله من فعله كفيل يسأله و يحاسبه، فلا يمكن التخلّص من عقوبته.
و كيف كان، فالآية المباركة بعمومها تشمل جميع أنواع الشفاعات الدائرة بين الناس، و هي قسمان الحسنة و السيئة، فيدخل فيها الدعاء للأخ أو عليه، و لعلّ أبرزها التبطئة عن القتال و إظهار الأعذار عن الدخول في الجهاد، فإنّها من الشفاعة السيئة. و لم يبيّن سبحانه و تعالى الحسنة و السيئة في المقام؛ اعتمادا على معروفيّتهما عند الناس.
كما أنّ الآية المباركة تحرّض المؤمنين على الشفاعة الحسنة، و تنهى عن الشفاعة السيئة، الّتي هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و المفسدين في الأرض.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقِيتاً.
تقرير لما سبق، و تأكيد له، و المقيت: المقتدر الحافظ، و من أسمائه جلّت عظمته (المقيت)، أي: الحفيظ، و في الحديث: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقيت»، أي: من تلزمه نفقته من أهله و عياله و عبيده، ممّن هو تحت قدرته، و قال الزبير بن عبد المطلب:
و ذي ضغن كففت النفس عنه و كنت على مساءته مقيتا

أي قديرا. و قيل: إنّ مقيتا من أقته أقاته، فأنا قائت و مقيت.
و كيف كان، فإنّ فيه معنى الحساب، أي: قادر على كلّ شي‏ء على حساب دقيق يعطى على قدر الحاجة، قال الشاعر:
إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت أبي على الحساب مقيت‏

و الآية الكريمة تقرّر مضمون ما قبلها و تؤكّده كما ذكرنا، أي: أنّ اللّه تعالى قادر و شهيد على الشفعاء، يعلم محسنهم عن مسيئهم و يجازيهم على فعلهم.
و الآية الشريفة بمجموعها تقرّر حكما اجتماعيّا و سنّة طبيعيّة، و فيها تلخيص موقف المؤمنين المحسنين المقاتلين في سبيل اللّه تعالى، و موقف المنافقين المسيئين‏ المتخاذلين عن القتال، الّذين حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة و بيّن نهاية كلّ واحد من الفريقين.
قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ.
حكم اجتماعي به تشتدّ أواصر الثقة بين الأفراد، و يظهر حسن الأدب بينهم، و في هذا الحكم تظهر نعمة السلام بعد انتهاء القتال، كما أنّ منه يستفاد القاعدة الأساسيّة في الإسلام، الّذي يسعى إلى السلام الّذي يرضاه اللّه تعالى، و فيه تشيد أركان الدين القويم، و يزال منه كلّ شرك و فتنة. و من ذلك يعرف الوجه في تذييل آيات القتال بهذه الآية الآمرة بردّ التحيّة بمثلها أو بأحسن منها، و هي من سنخ الشفاعة الحسنة أيضا الّتي أرشد اللّه تعالى المؤمنين باتّخاذها وسيلة لتثبيت النظام و تشييد الأركان و ترويض النفس على التخلّق بأخلاق الكرام.
و التحيّة: تفعلة مصدر حيى يحيى تحية، كتزكية و تسمية، فادغموا الياء في الياء، و هي في الأصل الدعاء بالحياة و طولها، و صارت اسما لكلّ دعاء و ثناء، و لها مظاهر مختلفة، و فيها عادات متفاوتة، فلكلّ قوم تحيّة معيّنة، و لكن تحيّة المسلمين السلام، قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النور، الآية: ٦۱] و قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [سورة يونس، الآية: 10]. و قيل: إنّ فيه مزيد على كلّ تحيّة؛ لأنّه اسم من أسمائه المقدّسة و دعاء بالسلامة عن الآفات و العاهات و يستلزم طول الحياة، و لأنّه ينبئ عن أنّ دين الإسلام دين الأمان و السلام، و أنّ المؤمنين به هم أصول السلم و محبّوا السلامة.
و ظاهر الآية الشريفة أنّها تشمل كلّ أنواع التحيّة من السلام المعهود و تسميت العاطس، و أنواع البرّ و الصلات القوليّة منها و الفعليّة، و منها تحيّة السلم و الصلح الّتي تلقى إلى المسلمين، فإنّ جميع ذلك من التحيّة، و قد وردت في ذلك عدّة روايات، كما سيأتي نقلها في البحث الروائي.
قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
يستفاد منه أنّ للجواب مرتبتين، أدناهما ردّها بعينها، و أعلاهما الجواب بأحسن منها. و لم يعيّن سبحانه و تعالى الجواب؛ لأنّه يتبع العادات و التقاليد المعروفة، و إن ورد في بعض الآثار أنّ الأحسن هو أن يقول: «السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته»، و الردّ بالمثل هو أن يقول: «عليك السلام».
و ظاهر الآية المباركة أنّ الجواب فرض و إن كان أصل التحيّة تطوعا و نفلا، و قد ورد في آداب التحيّة و كيفيتها و أحكامها الشي‏ء الكثير، و سنذكر جملة منها في البحوث المناسبة الآتية.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَسِيباً.
تأكيد لمضمون الآية المباركة. و الحسيب بمعنى الحفيظ المراقب، و هو من أسمائه تعالى، و قيل: هو فعيل من الحساب. و قيل: إنّه بمعنى الكافي، فعيل بمعنى مفعل، من قولهم: أحسبني كذا، أي كفاني.
و قيل: إنّه بمعنى الكافئ، و الظاهر التلازم بين تلك المعاني، فإنّ المحاسب المراقب لأفعال العباد يكون كافيا في إيصال ما يكافئه.
و كيف كان، فالمعنى: أنّ اللّه تعالى على كلّ شي‏ء رقيب و حافظ، يرقب أفعالكم- و منها الصلة بالتحيّة- فيحاسبكم عليها و على غيرها، فيدلّ على شدّة الاعتناء بهذا الحكم الاجتماعي الّذي يحفظ الترابط و يرفع التنافر بين الأفراد.
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
توجيه عقائدي يهدي الإيمان في قلوب المؤمنين و يثبته، و هو يشتمل على ركنين من أهمّ أركان الإيمان. و هما التوحيد، و الإيمان بالبعث و الجزاء في الدار الآخرة، و هما الركنان اللّذان أمر اللّه تعالى أنبياءه العظام بتبليغهما الناس و إقامتهما، و هما من أهمّ الروابط بين آيات الكتاب المبين، و يكونان وقفة بين الآيات‏ الشريفة، يتوقّف فيها المؤمن بعد السير الطويل في جملة من الأحكام الإلهيّة؛ لبيان أنّها هي الّتي تدعم هذين الركنين.
و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع تلك الأحكام الّتي شرّعها عزّ و جلّ و الإرشادات الربوبيّة و التوجيهات الإلهيّة، فتكون الباعث القوي على العمل بتلك الأحكام، لا سيما أحكام القتال مع أعداء اللّه تعالى، و تكون تثبيتا للمشاعر الإيمانيّة، و تقوية للنفس على احتمال تبعات تلك التكاليف و ثقلها مادامت تؤدّي إلى عبادة اللّه الواحد الأحد، و مادام الجزاء محفوظا عنده عزّ و جلّ، يجازي العباد على ما عملوا في يوم القيامة الّذي سيجمع الناس فيه.
و الآية المباركة بمنزلة القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها جميع التكاليف الإلهيّة، و إنّ كلّ قتال و جهاد لا بدّ و أن يكون على هذا الأساس، فمضمونها قانون عامّ تظهر فيه جميع الأحكام.
و المعنى واضح، فهو اللّه لا إله إلّا هو، لا يعبد غيره، و لا يجوز التقصير في عبادته و يجب الخضوع لأمره، فإنّه شرّع لكم من الأحكام ما يوجب سعادتكم في الدارين.
قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ.
تهديد لمن أعرض عن الأحكام الإلهيّة و عبادة اللّه الواحد الأحد، و توكيد لما ورد في الآيات السابقة، فإنّ من يطع اللّه و يعمل و يجاهد في سبيله يؤمن من فزع يوم الحشر.
الجمع: في المقام بمعنى الحشر؛ و لذا عدّي ب: (إلى)، كما عدّي الحشر بها، قال تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: ۱٥۸]، و قيل: إنّ (الى) بمعنى (في)، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة.
و قيل: إنّ (الى) صلة في الكلام، و المعنى ليجمعنكم يوم القيامة.
و اللام في (ليجمعنكم) لام القسم، و كلّ لام بعدها نون مشدّدة فهي لام القسم.
و القيامة من القيام و التاء فيه مصدرية كزيادة، و كرامة. و سمّيت القيامة قيامة لأنّ الناس يقومون فيه لربّ العالمين، قال تعالى: أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [سورة المطففين، الآية: ٤- ٦]، و قيل: سمّي يوم القيامة لأنّ الناس يقومون من قبورهم، و على هذا يصحّ أن يقال بأنّ الجمع إنّما عدّي بإلى لتضمينه معنى الإفضاء المتعدّى بها، أي: ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضى إليه.
قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ.
تأكيد آخر بعد تأكيده بالقسم الّذي هو من أقوى المؤكّدات؛ لدفع كلّ شكّ و ارتياب في وقوع ذلك الحشر و الحساب و الجزاء على الأعمال، فلا ريب في ذلك كلّه.
و إنّما أتى عزّ و جلّ بالوقت- و هو يوم القيامة- للتحريض على العمل، و الجدّ فيه، و يرغبوا إليه و يرهبوا عن تركه.
قوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً.
استفهام إنكاري، و المقصود تثبيت كونه صادقا، و بيان أنّه يجب أن يكون تعالى صادقا، و أنّ الكذب قبيح بالنسبة إليه، فهو محال عليه.
و التفضيل لبيان شدّة تنزّهه عن الكذب و عدم الخلف لوعده، فليس المقصود منه الكميّة و لا الكيفيّة. و الصدق معلوم، و الحديث أعمّ من القول و الخبر و الوعد، فهو عالم بجميع الحقائق، غني عن العالمين، يستحيل على مثله الكذب و الخيانة، و المعنى: لا أحد أصدق من اللّه تعالى.

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:
الأوّل:
يدلّ قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها على أنّ الآثار المترتّبة على المشفوع لأجله- سواء كانت خيرا و صلاحا، أم كانت شرّا و فسادا- إنّما تلحق بالشفيع؛ لأنّ الشفاعة نوع توسّط و لها السببيّة في إصلاح شأن أو ترميم نقيصة أو حيازة مزيّة، الّتي هي من مقاصد الشفيع و المشفوع له.
فلا بدّ أن يلاحظ الآثار المترتّبة على الشفاعة قبل وقوعها.
كما أنّ الآية المباركة تدلّ على قبول كلّ شي‏ء للشفاعة، إلّا ما خرج بالدليل، ممّا لا تقبل الشفاعة و لا يسقط إلّا بفعل الإنسان نفسه، مثل ما ورد في أنّه لا شفاعة في حدّ، و نحو ذلك.
كما أنّ الآية الشريفة تثبت الشفاعة التكوينيّة، و تقرّر قانون الأسباب و المسبّبات الّذي يبتني عليه النظام الكياني لهذا العالم، و تثبت الشفاعة التشريعيّة، و تزيد درجات الشافعين في الشفاعة الحسنة، و من ذلك يعلم درجة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله في يوم القيامة، لما منحه اللّه تعالى من الشفاعة العظمى، فتكون له حسنات تلك الشفاعة ممّا تزيد بها درجته.
الثاني:
يدلّ قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقِيتاً على أنّ الشفاعة كسائر الأمور، لا تؤثّر أثرها إلّا بإذن من اللّه تعالى المقتدر و الحافظ للحدود و الجزاء، و تفسّر هذه الآية الكريمة الآيات الثلاث الشريفة الّتي تدلّ على أنّ الشفاعة لا بدّ أن تكون بإذن اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ [سورة الأنبياء، الآية: 28]، و قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة الزمر، الآية: ٤٤].
الثالث:
يستفاد من قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها وجوب ردّ كلّ تحيّة، سواء كان بالكلام أم بالفعل، ممّا هو المتعارف عند كلّ قوم، أم بالإشارة، بل عمومها يشمل كلّ برّ، إلّا أنّ تحيّة الإسلام هو إلقاء السلام الّذي هو علامة السلم و المسالمة، و قد أمر اللّه تعالى نبيّه الكريم بإلقائه على المؤمنين، فقال عزّ و جلّ: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [سورة الانعام، الآية: ٥٤]، و هو من بقايا الدين الحنيف قال جلّ شأنه حكاية عن إبراهيم عليه السّلام فيما يحاور أباه: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [سورة مريم، الآية: ٤۷]، و قال تعالى حكاية عن الملائكة الّتي جاءت إبراهيم: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‏ قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [سورة هود، الآية: ٦۹].
و يستفاد من الآيات الواردة في مقامات مختلفة أنّ السلام كان قبل ذلك، و أنّه ممّا جعله اللّه تعالى تحيّة لنفسه، و أنّه من تحيّة الأنبياء، قال تعالى: سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [سورة الصافات، الآية: 79]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ [سورة الصافات، الآية: 109]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى‏ مُوسى‏ وَ هارُونَ [سورة الصافات، الآية: 120]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى‏ إِلْ‏ياسِينَ [سورة الصافات، الآية: 130]، و قال تعالى: وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات، الآية: 181].
و أنّه من تحيّة الملائكة، قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة النحل، الآية: 32]، و أنّه من تحيّتهم للمؤمنين في الجنان، قال تعالى: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة الرعد، الآية: 23- ۲٤]، و هو من تحيّة المؤمنين بعضهم على بعض في الجنان، قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [سورة يونس، الآية: 10]، و قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [سورة الواقعة، الآية: ۲٥- ۲٦].
و عموم الآية الشريفة يشمل وجوب الردّ على كلّ تحيّة، إلّا إذا أسقط الشارع الأقدس احترامه، مثل تارك الصلاة، و ظاهرها أنّ السلام تطوع و الردّ فريضة، و أنّ الردّ الأولى هو أن يكون بالأفضل، و الثانوي أن يكون بالمثل.
الرابع:
يدلّ قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ أنّ الأصل في كلّ تشريع إلهي- بل المقصود من فروع الدين- هو إقامة أصوله من الإيمان باللّه تعالى و توحيده و الاستعداد ليوم الجزاء، فبهما تتمّ تحقيق الشريعة و إقامة الحقّ و تثبت الإيمان.

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها، قال: «يكون كفل ذلك الظلم الّذي يظلم صاحب الشفاعة».
أقول: الكفل (بالكسر) الحظّ الّذي فيه الكفاية أو النصيب، كما في قوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [سورة الحديد، الآية: 28]، أي: كفلين من نعمته في الدنيا و الآخرة، و المراد من الرواية التنبيه على أنّ من ينضمّ إلى غيره معيّنا له في فعل سيئة، يناله منها حظّ من الشدّة و الظلم؛ لأنّ ذلك من التسبيب للوقوع في السيئة، و هو منهي عنه.
و في الخصال عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به، فهو شريك، و من أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به، فهو شريك».
أقول: لا بدّ من حمل الرواية على التسبيب للوقوع في الحرام، و إلّا فمجرّد الإشارة إلى السيئة أو الأمر بها لا يترتب عليه إثم.
و في الجوامع عن الصادق عليه السّلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، استجيب له، و قال له الملك: و لك مثلاه، فذاك النصيب».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و هي نوع من الشفاعة الحسنة الّتي تقدّم البحث عنها.
و في الكافي عن علي بن الحسين عليهما السّلام: «انّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب و يذكره بخير، قالوا: نعم الأخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير و هو غائب عنك و تذكره بخير، قد أعطاك اللّه تعالى مثلي ما سألت له، و أثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه و لك الفضل عليه، و إذا سمعوه يذكر أخاه المؤمن بسوء و يدعو عليه، قالوا: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه و أربع على نفسك و احمد اللّه الّذي ستر عليك، و اعلم أنّ اللّه أعلم بعبده منك».
أقول: هذه الرواية لا تنافي قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الانعام، الآية: ۱٦۰]، لأنّها في مقام بيان استجابة دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب، و إنّ للداعي مثلي ذلك، منحا منه جلّت عظمته له؛ للترغيب أو للجزاء، أو يكون من قبيل الأمر الوضعي للدعاء له.
و ربع كمنع بمعنى وقف و اقتصر، و منه المثل المشهور: «حدّث امرأة حديثين فإن أبت فأربع»، أي: حدّثها حديثين فإن أبت فامسك و لا تتعب نفسك، و قيل: كرّر القول عليها أربع مرات، فهو مثل يضرب للبليد الّذي لا يفهم إلّا بالتكرار.
و في تفسير علي بن إبراهيم: «في قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقِيتاً، أي: مقتدرا».
أقول: و الروايات في تفسير الآية المباركة بذلك كثيرة، فعن نافع أنّه سأل ابن عباس عن قوله تعالى: مُقِيتاً، قال: «قادرا مقتدرا».
و في الدرّ المنثور عن مجاهد في قوله تعالى: مُقِيتاً، قال: «شهيدا حسيبا حفيظا».
أقول: الرواية لا تنافي ما تقدّم؛ لأنّها من باب ذكر المصاديق للقدرة.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَسِيباً، قال: «السلام و غيره من البرّ».
و عن الصادقين عليهما السّلام: «إنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام».
أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق لما تقدّم في الرواية الأولى، و في الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السلام تطوّع، و الردّ فريضة».
أقول: أمّا كون السلام تطوّعا؛ لأنّه تحيّة و أنّ المجتمع البشري- مهما كان حضارته أو تخلّفه- لا يخلو من تحيّة يتعارفون بها عند ملاقاة بعضهم مع بعض، و هي على أقسام و أنواع، من رفع اليد و ضرب الرجل على الأرض أو الإشارة بالرأس أو رفع القلنسوة من الرأس، أو غيرها من الأمور الّتي تختلف حسب العرف و العادة السائدة في ذلك المجتمع الإنساني، و جميعها تكشف عن نوع من الخضوع و الاحترام للطرف المسلّم عليه. و قرّر الإسلام هذه الطريقة و حبّبها و جعل التحيّة إلقاء السلام الّذي ينبأ عن الأمن بين المتلاقيين، فإنّ الأمن هو الأساس و الركيزة الأولى للمجتمع مهما كان شأنه و رقيّه، فيأمن بعضهم بعضا في عرضه و نفسه و ماله عند التلاقي، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النور، الآية: 27]، و قد فسّر الاستيناس في الروايات بوقع النعل، و هو تفسير بأحد المصاديق، و قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [سورة النور، الآية: ٦۱].
و أمّا كون الردّ فريضة، لعلّ الحكمة فيها أنّ العقل و الفطرة يحكمان بأنّه لا بدّ من إبراز قبول التحيّة الملقاة على الإنسان و هو يردّها، و لا تكون إلّا بتحيّة قوليّة مثلها، و الأدلّة الشرعيّة منزلة عليهما.
و في كشف الغمّة بسنده عن إسحاق بن عمّار قال: «دخلت على‏ أبي عبد اللّه عليه السّلام و كنت تركت التسليم على أصحابنا في مسجد الكوفة، و ذلك لتقيّة علينا فيها شديدة، فقال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك تمرّ بهم فلا تسلم عليهم؟ فقلت له: ذلك لتقيّة كنت فيها، فقال: ليس عليك في التقيّة ترك السلام، و إنّما عليك في الإذاعة، إنّ المؤمن ليمرّ بالمؤمنين فيسلّم عليهم فتردّ الملائكة: سلام عليك و رحمة اللّه و بركاته».
أقول: تستفاد من هذه الرواية أمور:
الأوّل: استحباب التسليم على المؤمن و لو كان في حال التقيّة، و أنّ استحبابه ثابت في الجملة في ظرفها إن لم يطرأ عليه عنوان آخر من الإيذاء و الوقوع في الضرر و غيرهما؛ لأنّه نوع من الموادّة و الخضوع للمسلّم عليه كما تقدّم، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ [سورة الزخرف، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [سورة الفرقان، الآية: ٦۳].
الثاني: أنّ ترك التحيّة و السلام نوع من الجفاء، و هو لا يكون بين المؤمنين؛ لأنّه تعالى يبغضه، و للجفاء مراتب، و لكلّ مرتبة درجات.
الثالث: أنّ الروحانيّين يردّون تحيّة المؤمنين، و إن كانت الحجب ساترة و تمنع عن السماع، و قد ترتفع لبعض أوليائه كما ثبت في محلّه.
الرابع: أنّ الأفضل في جواب التحيّة و ردّها أن يكون بالأحسن، و إلّا فبالمثل، كما دلّت عليه الآية المباركة أيضا.
في الكافي بإسناده عن علي بن رئاب عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ من تمام التحيّة للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة».
أقول: يستفاد منه أنّ التحيّة و السلام من الأمور الإضافيّة الّتي تتّصف بالكمال و النقصان و الأكمل و الأتمّ، و أنّ المستحبّ فيها مجرّد وجودها، و أنّ الكمال و الأكمل فضل.
و في تفسير القمّي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فإن‏ كان فيه أحد يسلّم عليهم، و إن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [سورة النور، الآية: ٦۱]».
أقول: يستفاد منه أنّ استحباب التحيّة و السلام لا يدور مدار وجود الطرف المقابل أو المسلّم عليه، بل السلام أو التحيّة مستحبّ سواء كان المسلّم عليه موجودا أو لم يمكن، أي: يسلّم على نفسه كما في الحديث، و يمكن أن يكون السلام المذكور فيها دعاء خاصّ للدخول في البيت الّذي لم يكن فيه احد لا التحيّة الخاصة.
و في الحديث: «ما من عبد يمرّ بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا عرفه و ردّ عليه السلام».
أقول: يستفاد من هذا الحديث- مع قطع النظر عن السند- أمور:
الأوّل أنّه متى جاء الزائر علم به المزور و سمع كلامه و ردّ عليه، و هذا بالنسبة إلى الشهداء في طريق الحقّ و نصب العدل و الأولياء من المؤمنين، لا إشكال فيه؛ لاستيناس أرواحهم الشريفة مع عالم الشهادة و إن كان مقرّها في العليّين و عند الرفيق الأعلى كما تقدّم سابقا، و أمّا بالنسبة إلى غيرهم من الكفّار و المنافقين و العصاة، فلا يكون كذلك؛ لأنّ أرواحهم معذّبة إلى يوم القيامة، فيلحق بها أجسامهم، و إنّ انقطاعهم عن عالم الشهادة نحو تعذيب لأرواحهم.
الثاني: أنّ الجواب إنّما يكون بلسان الحال لا بالتلفّظ و المقال، و في بعض الأخبار أنّهم يتأسّفون على انقطاع الأعمال عنهم حتّى يتحسّرون على ردّ السلام و ثوابه، فكما أنّ تأسّفهم حالي لا مقالي كذلك سائر حالاتهم.
الثالث: أنّ الكمالات لا تنسلخ بالموت، و أنّ العلوم و المشاعر الروحيّة تكون مع الإنسان في جميع العوالم.
الرابع: أنّهم يسمعون السلام و يستأنسون به، و في بعض الآثار يسمعون صوت نعلكم و حكاياتكم، و لذا ورد في زيارة أهل القبور من السلام عليهم و أنّهم‏ يردّون الجواب و الحجب مانع عن سمع جوابهم، و تقدّم في شهداء أحد و غيرهم أنّهم كانوا يردّون السلام.
الخامس: وصول السلام إلى صاحب القبر إن مرّ على قبره، فإذا لم يمر عليه و سلّم، فإنّ وصوله يدور مدار إحاطة الروح و علو شأنها، فقد يصل إليه كما ورد في السلام على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو بعض الشهداء، و قد لا يصل؛ لأنّ أرواحهم مستأنسة بمحلّ قبورهم و لم تحط، فإنّ عالم الشهادة هو عالم تربية الروح و تزكيته.
و في الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن الصادق عليه السّلام قال: «يسلّم الصغير على الكبير، و المارّ على القاعد، و القليل على الكثير».
أقول: و مثله ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما في الدرّ المنثور، و لعلّ ذلك من باب تأكد الاستحباب و تعدّد المطلوب؛ لأنّ توقير الكبير و إجلال الكثير أو القاعد و احترامهم، مطلوب في الجملة عند الشارع في حدّ نفسه إن لم يطرأ عناوين اخرى، فلو وقع العكس لم يخرج السلام عن استحبابه، و يستفاد من الحديث أدب الإسلام.
و في الدرّ المنثور عن عبد اللّه بن مسعود قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفشوا السلام بينكم، فإنّها تحيّة أهل الجنّة، فإذا مرّ رجل على ملأ فسلّم عليهم، كان له عليهم درجة و إن ردّوا عليه، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم، الملائكة».
أقول: ورد في كثير من الروايات أنّ أهل الجنّة يتزاورون و لهم تحية، و هي السلام كما في الدنيا، قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً، و أمّا إفشاء السلام فهو من الوقار و الأدب الكامل للمسلم، و يوجب رفع التشاح و التباغض كما هو المعروف.
و في الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام قال: «لا تسلّموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شرب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنث، و لا على الشاعر الّذي يقذف المحصنات، و لا على المصلّي لأنّ‏ المصلّي لا يستطيع أن يردّ السلام؛ لأنّ التسليم من المسلّم تطوّع و الردّ فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط، و لا على الّذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه».
أقول: لعلّ الحكمة في النهي عن السلام على هؤلاء الأقوام إمّا لأجل النهي عن تولّيهم، كما قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: ٥۱]، و قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [سورة هود، الآية: 113]، و إمّا لأجل أنّ ترك السلام يوجب ردعهم عن المعاصي، فهو أفضل من تطوّع السلام عليه، و إمّا أنّه لا يحبّ أن يراه أحد على ما عليه من الحالة، فالسلام عليه يوجب إيذائه، و إمّا لأجل أنّ السلام يوجب التقرّب له و الشارع لا يحبّ التقرّب إليه، كالتقرّب إلى الظالمين، إلّا إذا كان لإلقاء الحجّة عليهم و اسماعهم كلمة الحقّ، كما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك.
في الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:
من بدء بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه، و قال: ابدءوا بالسلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه».
أقول: المراد من السلام مطلق التحيّة، و أنّ النهي تنزيهي يختصّ بصورة العمد و الاختيار، فيكون ذلك من النهي عن المنكر عملا؛ لأنّ تركه خلاف الأدب الّذي يهتم به الإسلام. و قد ورد في بعض الأخبار أنّ ذلك نوع من البخل.
في الكافي بإسناده عن ابن درّاج عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا سلّم أحدكم فليجهر بسلامه و لا يقول سلمت فلم يردّوا عليّ، ثمّ قال: كان عليّ عليه السّلام يقول: لا تغضبوا و لا تغضبوا و أفشوا السلام و أطيبوا الكلام و صلّوا الليل و الناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام، ثمّ تلا عليهم قول اللّه عزّ و جلّ: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ».
أقول: يستفاد منه أنّ الجهر في كلّ من السلام و الردّ مستحبّ، كما في البسملة، و الحمل على الإرشاد بعيد عن السياق، و أمّا النهي عن الغضب، فلما تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ، و أنّه يوجب البعد عن الرحمن و اتّباع الشيطان، و ما ذكر فيها من الأسباب لدخول الجنّة توجب أيضا تزكية النفس في هذه الدنيا و رقيّها كما مرّ.
في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بقوم فسلّم عليهم، فقالوا: عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت».
أقول: لعلّ الحكمة في النهي عن ذلك و التحديد بالسنّة المأخوذة من حنيفيّة إبراهيم عليه السّلام كما قالت الملائكة؛ لبيان أنّ الردّ- كالتحيّة في الإسلام- ورد فيها كيفيّة من الشرع، فاتباعها أولى و أفضل، أو لأجل دفع شبهة الغلو لو صدر عن بعض العوام.
و في الكافي بإسناده عن الحسن بن المنذر قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من قال: السلام عليكم، فهي عشر حسنات، و من قال: السلام عليك و رحمة اللّه، فهي عشرون حسنة، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، فهي ثلاثون حسنة».
أقول: و مثله ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و البيهقي في شعب الإيمان، و لعلّ زيادة الحسنات إمّا لأجل زيادة الصفات الّتي يلقيها المسلّم على المسلّم عليه الّذي يستحق تلك الصفات لإيمانه كما هو الظاهر، أو لأجل كثرة الإخلاص و التقرّب إليه تعالى؛ لأنّ احترام المؤمن بذلك يكون أكثر فيحصل به التقرّب أزيد.
و في الكافي بإسناده عن منصور بن حازم عن الصادق عليه السّلام قال: «ثلاثة تردّ عليهم ردّ الجماعة و إن كان واحدا، عند العطاس يقول: يرحمكم اللّه و إن لم يكن معه غيره، و الرجل يسلّم على الرجل فيقول: السلام عليكم، و الرجل يدعو للرجل فيقول: عافاكم اللّه و إن كان واحدا، فإن معه غيره».
أقول: التعبير بصيغة الجماعة في الموارد المذكورة إمّا نحو احترام للطرف المقابل، و إمّا لأجل أنّ المؤمن دائما معه الملائكة إمّا الحفظة- كما في بعض الروايات و الدعوات المأثورة- أو الملائكة، الكرام الكاتبون، و يدلّ على ذلك ذيل الرواية، و المراد بالردّ الأعمّ، فيشمل الابتداء أيضا.
و في الكافي بإسناده عن جميل عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا كان قوم في مجلس ثمّ سبق قوم فدخلوا، فعلى الداخل أخيرا (الأخير- كما في الوافي) إذا دخل أن يسلّم عليهم».
أقول: الرواية من باب الإرشاد إلى الآداب الإسلاميّة.
و في الخصال عن الصادق قال: حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «إذا عطس أحدكم فسمّتوه، قولوا: رحمكم اللّه، و هو يقول: يغفر لكم و يرحمكم، قال اللّه عزّ و جلّ وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها».
أقول: يستفاد منه أنّ التحيّة الواردة في الآية المباركة أعمّ من السلام و التسميت و غيرهما كما تقدّم في التفسير، و تدلّ عليه الرواية الآتية.
و في المناقب: «جاءت جارية للحسن عليه السّلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه اللّه تعالى، فقيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: أدّبنا اللّه تعالى فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها، و كان أحسن منها إعتاقها».
أقول: هكذا تكون الفضائل، و الطاق: الفرد الواحد من الشي‏ء.
و يستفاد منه أنّ التحيّة أعمّ من التحيّة القوليّة و الفعليّة و من السلام و غيره، و يأتي ما يدلّ على ذلك.
و في عيون أخبار الرضا بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «من لقي فقيرا مسلما فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني، لقى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و هو عليه غضبان».
أقول: و قريب منه غيره، و الوجه في ذلك أنّه نوع من النفاق و الإهانة و التحقير للمؤمن، و أنّها مبغوض عند اللّه تعالى.
و في تفسير الصافي: «انّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السلام عليك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه، فقال: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني، فأين ما قال اللّه، و تلا الآية: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تترك لي فضلا و رددت عليك مثله».
أقول: روي قريب منه في الدرّ المنثور عن سلمان الفارسي، و يستفاد منه أنّ الردّ إذا كان بالأحسن، لا بدّ و أن يكون من سنخ التحيّة الحنيفيّة الإبراهيميّة كما تقدّم، و إلّا كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يردّ بالمغفرة و الرضوان و العافية و غيرها للأخير.
و كيف كان، فالرواية تدلّ على عظيم خلقه.
و في الكافي بإسناده عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «ردّ جواب الكتاب واجب، كوجوب ردّ السلام».
أقول: و أخرج البيهقي عن ابن عباس قال: «إنّي لأرى جواب الكتاب حقّا كما أرى حق السلام»، و قد تقدّم أنّ التحيّة الممدوحة أعمّ من اللفظيّة و الفعليّة أو الكتابيّة، و المراد من الحقّ المجاملي و الأخلاقي.

يستفاد من سياق الآية الشريفة: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها جملة من الأحكام الشرعيّة:
الأوّل: أنّ التحيّة هي نوع من العبادة، فيثاب عليها إن لم يتحقّق مانع من ذلك، و يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «المراد من التحيّة في الآية السلام و غيره من البرّ»، و تقدّم ما يدلّ على تحديد الثواب على اختلاف التحيّة بالسلام.
الثاني: أنّ السلام من المستحبّات الكفائيّة لظاهر سياق الآية المباركة؛ و لقول الصادق عليه السّلام: «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم»، فلو كان الداخلون جماعة فسلّم أحدهم، يسقط استحبابه عن الباقين.
و لكن مقتضى إطلاق بعض الروايات بقاء استحباب السلام بالنسبة إلى الباقين، مثل قول أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ إفشاء السلام»، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، وضعه اللّه في الأرض فأفشوه بينكم»، مع أنّه من الآداب المجامليّة الممدوحة عقلا و شرعا.
الثالث: وجوب ردّ التحيّة لظاهر الآية الشريفة، و لجملة من الروايات أيضا كما مرّ بعضها، و عمومها يشمل كلّ أنواع التحيّة و في جميع الحالات، إلّا أنّ في الصلاة تختصّ الرد ب (سلام عليكم) فقط كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام)، فلا تشمل غيره من أنواع البرّ و الإحسان، و إن كان الأفضل و الأولى الردّ؛ لما مرّ من قول الصادقين عليهما السّلام: «المراد من التحيّة في الآية السلام و غيره من البر»، و تقدّم التسميت في التعطيس، و ذكرنا في (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.
الرابع: يجب أن يكون الردّ في أثناء الصلاة بمثل ما سلّم، فلو قال «سلام عليكم»، يجب في الجواب و الردّ أن يكون كذلك، ففي صحيح ابن مسلم قال: «دخلت على أبي جعفر عليه السّلام و هو في الصلاة، فقلت: السلام عليك، فقال عليه السّلام: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أ يردّ السلام و هو في الصلاة؟ قال عليه السّلام: نعم، مثل ما قيل له»، و المسألة محرّرة في كتب الفقه بشقوقها.
الخامس: يجب الردّ فورا؛ لأنّه المنساق من الأدلّة عرفا، كما أنّه مقتضى المتركزات في ردّ التحيّات القوليّة، مضافا إلى الإجماع.
السادس: ردّ السلام واجب كفائي، فيسقط بردّ واحد عن البقية، و يدلّ عليه الإجماع، و النصوص الكثير، منها ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام: «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم، و إذا ردّ واحد أجزأ عنهم»، هذا بالنسبة إلى الوجوب.
و أمّا بالنسبة إلى استحباب الردّ، فالظاهر بقاؤه و عدم سقوطه عن الباقين؛ لأنّه نحو مجاملة و تودّد و تحبّب، و لا ريب في رجحان ذلك كلّه.
السابع: مقتضى عموم الآية الكريمة جواز سلام الأجنبي على الأجنبيّة و بالعكس إذا لم يكن هناك ريبة أو خوف فتنة، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة.
و ما دلّ على الخلاف مثل خبر غياث: «لا تسلم على المرأة»، أو «لا تبدؤوا النساء بالسلام»، فمحمول على ما إذا تحقّق عنوان الريبة أو الخوف أو الفتنة، جمعا و إجماعا.
الثامن: يجوز السلام على الكافر، خصوصا إذا استلزم ترغيبه للإسلام، فإنّه من مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام أشدّ الاهتمام و دعى إليها الناس، و ما ورد في بعض الأخبار من النهي عن السلام عليهم ابتداء، كما في خبر غياث، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تبدؤا أهل الكتاب بالتسليم، و إذا سلّموا عليكم فقولوا: و عليكم»، و نحوه غيره، يمكن حملها على الكراهة بقرينة ما ورد في بعض الأخبار: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: أ رأيت إن احتجت إلى الطبيب و هو نصراني، أسلّم عليه و ادعوا له؟ قال عليه السّلام: نعم، إنّه لا ينفعه دعاؤك»، فإذا لم ينفعه السلام و لا الدعاء، لا وجه للحرمة. نعم هو مرجوح؛ لأنّه نحو اعتناء بالمسلّم عليه، فلا يليق‏ بمن يعادي اللّه و رسوله ذلك لو لم يكن جهة راجحة في البين، كالدعوة إلى الإسلام و الضرورة و نحوهما، و أمّا جواب سلام الكافر فواجب لما مرّ.
التاسع: استحباب الردّ بالأحسن في غير حال الصلاة، بأن يقول في (سلام عليكم): «سلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته»، كما مرّ في البحث الروائي، و يجوز الردّ بالمثل و لو كانت التحيّة بالشرّ، فالردّ الأحسن بالحلم و العفو أو المكافأة بالخير، و لو أراد المثليّة تكون جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، و لكن في وجوب ردّ مثل هذه التحيّة منع؛ لأنّ المنساق من أدلّة التحيّة و وجوب ردّها أن تكون التحيّة من الخير و البر كما مرّ، و أمّا لو كان غير ذلك كما لو سلّم تحقيرا للمؤمن أو تهديدا للقتل أو قصد بسلامه إيذاء الطرف المقابل، لا تشمله الأدلّة المتقدّمة، و إنّ التمسّك بالعموم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح.
و هناك فروع كثيرة متعلّقة بالسلام و التحيّة مذكورة في الكتب الفقهيّة و الأخلاقيّة، و من شاء فليرجع إليهما.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"