1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 66 الى 68

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦۷) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦۸)


بعد ما بيّن عزّ و جلّ الإيمان الصحيح و عرّف المؤمنين المحكّ الحقيقيّ له، ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة بعض الأمور التطبيقيّة لذلك، اختبارا للمؤمنين لإعلامهم مقدار تأثّرهم بتلك التوجيهات الكريمة، فاستنهضهم بقبول حكم اللّه تعالى، فأمرهم بالقتال و الهجرة من الديار، أو فعل ما يوعظون به، و أخبرهم بأنّ تلك الأحكام إنّما نزلت لصلاحهم و سعادتهم و هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الكمال المنشود، و يبيّن عزّ و جلّ أنّ من يدخل في طاعة اللّه عزّ و جلّ و يقبل أحكامه و ينفذها قليل، فلا بد من الجهاد و الصبر و المثابرة و قبول مواعظه عزّ و جلّ التي لها الأثر الكبير في ترويض النفوس و تهذيبها للدخول في طاعته.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ سياق الكلام و إن كان مع المنافقين، و لكن يمكن تعميمه لجميع المكلّفين اختبارا لإيمانهم، و الكتابة هي الفرض و الوجوب، أي: و لو أنّا فرضنا عليهم قتل أنفسهم بتعريضها للجهاد و القتال مع أعداء اللّه تعالى أو الخروج من أوطانهم و ديارهم المألوفة و الهجرة في سبيل اللّه تعالى، و الغرض من فرض هذين الحكمين اختبارهم لإظهار طاعتهم و انقيادهم لحكم اللّه تعالى و رضائهم به و التسليم لأمره عزّ و جلّ في جميع الأحوال، و لعلّه لأجل ذلك تصدّرت الآية الشريفة بكلمة «لو» الدالّة على الامتناع، فلم يكتب عليهم ذلك، فتكون هذه الآية من موارد تطبيق الآية السابقة.
و إنّما خصّ هذين الحكمين بالذكر لما فيهما من المشقّة و الحرج الشديدين بالنسبة إلى الإنسان، فإنّ الإنسان لشديد الحبّ للنفس و الديار، و يكره فراق الأحبّة و هجران الأخلّة.
قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قرئ «قليلا» على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا قليلا.
أي: لم يطع منهم إلا القليل؛ لأنّ فرض الحكمين إنّما كان لإظهاره قوة إيمانهم و ثبات عزيمتهم و مقدار تقبّلهم لأحكام اللّه تعالى و الطاعة له عزّ و جلّ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، و هم أصحاب العزائم القويّة الذين آثروا رضا اللّه تعالى على رضى النفس و حبّها.
و الآية المباركة تخبر عن امتناعهم عن امتثال الأحكام و التكاليف الحرجيّة و التوبيخ لهم.
و الاستثناء- بناء على التعميم لجميع المكلّفين واضح لا لبس فيه، و هو استثناء متصل. و أما بناء على اختصاص الخطاب بالمنافقين فالاستثناء غير متصوّر، إذ المنافق لا تطيب نفسه لما دون القتل، فكيف به و بالخروج من الديار.
لكن يمكن أن يقال إنّ الاستثناء إنّما هو لدفع توهّم استغراق الحكم و استيعابه للجميع، فإنّ منهم المؤمنين حقّا، المخلصين الذين سلّموا أمرهم إلى اللّه تعالى، فلا يشملهم الحكم المزبور و إنّما دخلوا فيهم تبعا.
بل يمكن أن يقال إنّ الأمر و التكليف اختباري، و إنّه في مقام امتحان المؤمنين و اختبارهم عن إيمانهم و طاعتهم و ثباتهم، فلا فرق حينئذ بين أن يكون الاستثناء متصلا أو منفصلا، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة النساء، الآية: ٤٦] ما يتعلّق بالمقام.
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: و لو أنّهم فعلوا تلك التكاليف لكان خيرا لهم في جميع شؤونهم و أحوالهم في الدنيا و الآخرة.
و في تبديل الكتابة ما يُوعَظُونَ بِهِ لبيان أنّ تلك الأحكام إنّما هي إرشاد لصلاحهم و سعادتهم، فإنّ التكاليف الإلهيّة مواعظ و نصائح يراد لهم منها الخير و الصلاح، فتدلّ على أنّ الحكمين المذكورين في الآية السابقة اختبارهم.
قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً التثبيت: التقوية، و ذلك بجعل الشي‏ء ثابتا و راسخا، أي: و أشدّ تثبيتا لإيمانهم و قلوبهم على طاعة اللّه، و الآية المباركة تدلّ على أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة و تطبيقها لهما الأثر الكبير في تقوية الإيمان، بل هي العلّة التامّة في رسوخه في النفس، فإنّ العمل بالأحكام يزيد العامل قوة و إحكاما على ترسيخ الملكات الفاضلة و الأخلاق الحسنة في النفس، فتقوم بالتكليف بأحسن وجه لا تخاف الضلال و الغواية.
قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً إذن حرف جواب و جزاء، أي: حين ما ثبتوا على الإيمان و قويت فيهم عرى الحقّ و الصواب لاعطيناهم أجرا عظيما لا يعرف أحد مداه و لا يبلغ منتهاه، و سيأتي في الآيات التالية بيان بعض ذلك الأجر العظيم.
قوله تعالى: وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: لهديناهم لسلوك الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى المراتب العالية في القرب، و قد تقدّم في سورة الفاتحة معنى الصراط المستقيم.
و هذه الهداية أجلّ و أعظم من الأجر المتقدّم، كما قال تعالى: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [سورة محمد، الآية: 17]، و الاختلاف في الأجر و الجزاء لاختلاف درجات الإيمان، فبعضهم ينعم عليهم الخير، و آخرون الثبات و العزيمة، و ثالثهم الهداية إلى الصراط المستقيم.

«قليل» في قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ بدل من الضمير المرفوع في «فعلوه»؛ لأنّ الكلام غير موجب. و أمّا الضمير المنصوب في «فعلوه» راجع إلى أحد الأمرين من القتل و الخروج؛ لأنّ العطف ب (او) يستلزم ذلك، أو يرجع إلى المكتوب الشامل لهما.
و قرئ بالنصب «الا قليلا» إما على أصل الاستثناء، و إما على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا فعلا قليلا.
و أشكل على هذا الوجه بأمور مذكورة في كتب النحو، من شاء فليرجع إليها.
و إذا في قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مقحمة و جواب لسؤال مقدّر، و قد اختلف العلماء في أنّها لمعنيين في حال واحدة، أي: الجواب و الجزاء في كلّ حال، أو أنّها قد تأتي لمعنى واحد كالجواب، و قد تأتي لمعنيين الجواب و الجزاء، و هي مسألة يبحث عنها في علم النحو.
و اختلف القرّاء في (ان) و (او) في قوله تعالى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا فقرئ بكسر نون (ان) و ضمّ واو (أو)، و قرأ بعضهم بكسرهما و آخرون بضمّهما، فأما الكسر فللتخلص من التقاء الساكنين، و أما الضمّ فاجراؤهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل التي تنتقل حركة ما بعدها إليها.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول: إنّما جمع عزّ و جلّ بين القتل و الخروج من الدار و الجلاء عن الوطن في ما فرضه تعالى عليهم؛ لأنّهما أشدّ شي‏ء على الإنسان، و لأهمية الوطن عنده، و لأنّ الجسم مستقرّ الروح كما أنّ الوطن دار الجسم و البدن.
و كيف كان، فتدلّ الآية الشريفة على أهمية الهجرة في سبيل اللّه تعالى.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أنّ الأحكام الإلهيّة و التكاليف الربانيّة إنّما هي مواعظ تصلح النفوس المريضة، و تهدي المكلّفين إلى ما فيه الصلاح و السعادة، و لعلّ هذه الآية الشريفة تبيّن المراد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً، فالإعراض عنهم كان حكما أدبيا و خلقا رفيعا اتصف به نبيّ الرحمة، ثم الوعظ بإنزال التكاليف و الأحكام لتهذيب النفوس و هدايتها إلى الصلاح و السعادة، و القول البليغ هو الوعد و الوعيد اللذين وردا في هذه الآية الكريمة و الآية التالية.
الثالث: لعلّ ما ورد من تعدّد الجزاء و اختلافه، و هو الخير و الثبات و الأجر العظيم و الهداية، إنّما هو لأجل اختلاف درجات الإيمان التي وردت في الآية السابقة من التحكيم، و الرضا بالحكم، و التسليم الكامل و لما كان التسليم من أعلى تلك الدرجات، كان الجزاء أيضا عظيما، و هو الأجر العظيم و الهداية إلى الصراط المستقيم.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً على أنّ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة لها الأثر الكبير في تثبيت النفوس على الإيمان و رفع الشكوك و الأوهام و تزكية القلوب و ترويضها على مكارم الأخلاق، و رفع كلّ ما يوجب البعد عن اللّه تعالى.
الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً أنّ الأحكام الإلهيّة هي الثابتة، و أما غيرها من القوانين الوضعيّة فليست لها ثبات، و إنّما هي تختصّ بزمان معين لا دوام لها.

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: «عبد اللّه بن مسعود و عمّار بن ياسر، يعني من أولئك القليل».
أقول: الرواية من باب التطبيق.
و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ و سلّموا للإمام تسليما، أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ رضا له، ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ و لو أنّ أهل الخلاف فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت و يسلّموا للّه الطاعة تسليما».
أقول: المراد من الإمام المعصوم الذي وجب طاعته، سواء كان نبيّا أو إماما، و الرواية من باب التطبيق، و هناك روايات اخرى واردة عن أئمة الهدى عليهم السّلام، تدلّ على أنّ الآية المباركة نزلت في حقّ علي عليه السّلام هكذا: «و لو أنّهم فعلوا ما يوعظون به في علي عليه السّلام لكان خيرا لهم»، و لكنّها من باب التفسير و التطبيق لأجلى المصاديق.
و الحمد للّه ربّ العالمين، و له الشكر على ما أنعم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"