1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 60 الى 63

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦۰) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦۱) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (٦۲) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦۳)


الآيات الشريفة تكملة للحديث عن ما نزل في شأن اليهود و المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام، فإنّه تعالى بعد ما ذكر في الآيات السابقة أنّ اليهود يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يحكمون للمشركين بأنّهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، ذكر عزّ و جلّ سوء أحوالهم في الحال و العقبى، و بعد ذلك بيّن تعالى الطريق المستقيم و المنهج، و وضع القاعدة الاولى النظام الحكم و رقي المجتمع و دفع المشاكل التي تصيبه، فأمر المؤمنين بأداء الأمانات إلى أهلها- و هي أمانة الإيمان، ليشمل أساس الاعتقاد و اصول العبادة و قواعد التعامل و سبل العلاقات كلّها بين الناس و الأفراد- و الحكم بالعدل ليطهّر المجتمع من العقاب، فالعدل إحدى الأمانات الكبرى التي يجب أن ينشر بين الناس جميعا بلا استثناء؛ ليعرفوا لذّة الحياة التي أنعم اللّه تعالى بها عليهم، و هو أساس الحكم في الإسلام، و أنّ الأمانة المطلقة و العدل المطلق هما أساس الحكم و أساس الحياة، و طاعة الرسول و اولي الأمر هي الدستور الأساسي لبناء المجتمع الذي فشا فيهم العدل، و ذلك هو الخير و التفسير الأحسن لتحقيق نظام أفضل، و بعد الانتهاء عن بيان هذه القواعد و النظم التي تعطي الحياة للفطرة البشرية الخامدة و تعرّفها، تلتفت الآيات المباركة إلى الذين ينجرفون عنهما، و هم اليهود الذين آمنوا بالجبت و الطاغوت و حكموا بشريعة غير شريعة اللّه تعالى و اصول لم ينزلها اللّه عزّ و جلّ، فاتبعوا الهوى في حكمهم و الضلال في حياتهم، و بيّن عزّ و جلّ فيها أحوال المنافقين و سجّل عليهم بعض الصفات الذميمة التي تكشف عن حقيقتهم، ثم أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم و وعظهم و القول لهم قولا بليغا.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ جملة «الم تر» تدلّ على الإنكار و التعجيب من أحوال من يزعم الإيمان في قلبه، و قد تقدّم في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [سورة النساء، الآية: ٥۱].
و الزعم هو الاعتقاد و الادعاء، سواء طابق الواقع أم لا، و إن غلب استعماله في الثاني حتّى ظنّ بعضهم أنّ عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب، و لهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلين به، قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي [سورة التغابن، الآية: 7]، و قال تعالى: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [سورة الكهف، الآية: ٤۸] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و قد و ردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع كلّها تدلّ على الباطل و الردّ على الزاعمين.
و الآية الشريفة في مقام بيان كذب ادعائهم و زعمهم بأنّهم مؤمنون، و تعقيب الأمر بالطاعة للّه و طاعة الرسول و الحكم بالعدل بهذه الآية؛ للإعلام بأنّ هؤلاء هم الذين تخلّفوا عن الطاعة و أحجموا عن تنفيذ ما أمرهم اللّه به‏ و رغبوا عن التحاكم إلى اللّه و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أرادوا التحاكم إلى الطاغوت، فإنّه من المؤسف أن يكونوا كذلك مع زعمهم الإيمان بما انزل إليك و ما انزل من قبلك على سائر الأنبياء التي ما أنزلت إلا لبسط الحقّ و الحكم بين الناس بالعدل و رفع التنازع بينهم.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ الإيمان بما انزل من قبله؛ لتشديد التوبيخ و التقريع، و لتأكيد التعجيب.
قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الطاغوت مصدر بمعنى كثير الطغيان و التجاوز عن حدّ العبوديّة للّه تعالى و استعلاء عليه، و اطلق على كلّ معبود من دون اللّه تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ [سورة البقرة، الآية: ۲٥٦].
و الآية المباركة ردّ لزعمهم، فإنّهم لو كانوا مؤمنين لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت و لم يسعوا في التحاكم إلى الطاغوت، و لم تنزع نفسهم إليه، فإنّه إلغاء لشريعته و ابطال لكتبه المقدّسة.
قوله تعالى: وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي: و الحال أنّهم أمروا أن يكفروا بالطاغوت، كما صرّح عزّ و جلّ به في قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سورة النحل، الآية: ۳٦]، و في الآية المباركة تأكيد التعجيب السابق.
قوله تعالى: وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً بيان لأمر واقعي و كشف عن حقيقة مستورة، و هي أنّ إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت إنّما هي من إرادة الشيطان الذي لا يريد إلا الشرّ و الباطل، و لا يكون قصده و توجيهاته إلا الضلال البعيد.
و ضلالا مصدر مؤكّد إما للفعل المذكور، أو لفعله المدلول عليه بالمذكور، أي: فيضلّون ضلالا. و إنّما وصفه بالبعد إما لأجل أنّه بعيد عن الحقّ بعدا كبيرا لا التقاء معه بوجه من الوجوه، أو لأجل المبالغة في التنزّه عنه و عن سبل غوايته.
و الآية الشريفة سجّلت عليهم أمورا أربعة تحدّد وصفهم تحديدا دقيقا، و بها يحكم عليهم بوضوح بأنّهم ليسوا مؤمنين، و هي: ادعاء الإيمان بما انزل اللّه تعالى، و إرادة التحاكم إلى الطاغوت، و أنّهم مأمورون أن يكفروا به، و أنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا، فحقّ أن يكونوا غير مؤمنين، إلا أن يتحاكموا إلى شريعة اللّه كما أمر اللّه المؤمنين به في الآية السابقة.
قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً الآية الشريفة تبيّن بعض علاماتهم، و هي أنّهم في حال السلم و الأمن يظهرون الإعراض و الصدود إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل اللّه تعالى من القرآن و ما أنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الحقّ، و إذا أصابتهم المصيبة تلمّسوا المعاذير و ادعوا أنّهم أرادوا الإحسان.
و تعالوا: طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمّم. و الصدّ: هو الإعراض، و صدودا مصدر مؤكّد لفعله المذكور، و يبيّن أنّ الإعراض كان صريحا و عن عمد منهم، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.
و إنّما ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الذي انزل إليه هو حكم اللّه تعالى، للتأكيد على أنّ الإيمان باللّه تعالى إنّما يتم بالإيمان بالرسول و ما انزل إليه. و الآية تثبت مضمون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
كما أنّ تخصيص الرسول بالإعراض مع أنّ الذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معا، لأنّ الخطاب مع المنافقين الذين يدّعون الإيمان بالكتاب و لم يتجاهروا بالإعراض عن كتاب اللّه تعالى و لكنّهم يخالفون رسوله، و يصدون عنه صدودا متعمّدا.
و إنّما أظهر «المنافقين» في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، و لبيان العلّة في ذمّهم.
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً بيان لسخافتهم و أنّ هذا الإعراض عن حكم اللّه و رسوله و الإقبال إلى غيرهما- الذي هو الطاغوت- إنّما سيعقب السوء الذي هو نتيجة تصرّفهم، أي: فكيف يكون حالهم إذا نالتهم مصيبة و نكبة نتيجة تصرّفهم و نفاقهم، و بسبب الإعراض عن حكم اللّه تعالى و الرسول، و بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت، و الآية الشريفة تبيّن أنّ تلك المصائب ليس لها سبب إلا الإعراض عن حكم اللّه و الرسول و التحاكم إلى الطاغوت، قوله تعالى: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً.
و حكاية الاعتذار منهم مخادعة بأنّهم أرادوا من الإعراض و التحاكم إلى الطاغوت، الإحسان و التوفيق، و بيان أنّهم لم يطيقوا الثبات على ذلك الإعراض و الصدود. أي: لما رأوا المصائب تحدق بهم جاؤك مخادعة حالفين لك باللّه العظيم نفاقا قائلين: إنّهم إنّما أرادوا من التحاكم إلى الطاغوت و الإعراض عن حكم اللّه و الرسول الإحسان لكم و التوفيق بينكم و بين الخصوم و قطع المشاجرة، لا الإعراض عن حكمك.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لقولهم، فإنّ اللّه تعالى الذي يعلم ما في الأرض و السماء، و ما في قلوب الناس جميعا، يعلم ما في قلوب أولئك المنافقين، و إنّما حذف المتعلّق لبيان خبث ضمائرهم، و أنّها فاسدة لا يتأتّى منها إلا الشرّ.
كما أنّ تخصيص قلوب أولئك بالذكر مع أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء، لبيان أنّهم مهما حاولوا استخفاء حقيقتهم عن الناس، و مهما تظاهروا بالإيمان، فإنّ اللّه تعالى يعلم ما في قلوبهم و لا تخفى عليه خافية و ستظهر حقيقتهم.
و الآية المباركة تدلّ باسلوبها البليغ على تعظيم الأمر و تهويله و فظاعته.
قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ بيان لفساد ضمائرهم، إذ لو لم يكن كذلك لما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عمّن يقول الحقّ: في قوله، و إنّما كان توجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم مطلقا، سواء في قبول عذرهم أم غير ذلك، و أمره صلّى اللّه عليه و آله بوعظهم ليرجعوا عن غيّهم و عنادهم و يكفّوا عن النفاق و يستقيموا على أمر اللّه تعالى، و يقبلوا حكم اللّه و حكم الرسول.
قوله تعالى: وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً توعيد لهم، فإنّ الأسلوب يحمل النذير، أي: قل لهم قولا يبلغ من نفوسهم الأثر الذي ترجوه منه، و هو الرجوع عن غيّهم و فسادهم، و ترك النفاق و الرجوع إلى الحقّ.
و الظاهر أنّ الأمر بالإعراض و الموعظة إنّما كان قبل نزول الأمر بقتالهم، فإنّ بهما تجلب النفوس اللائقة و المتأهّلة للحقّ إلى الصراط المستقيم، فإذا لم تنفعها تصل النوبة إلى القتل لأجل الرضوخ إلى الحقّ.
و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية الشريفة، فقيل: قل لهم منفردا بهم لا يكون معهم أحد؛ لأنّه ادعى إلى قبول النصيحة، فإنّ النصح بين الملأ تقريع.
و قيل: قل لهم في شأن أنفسهم قولا مؤثّرا.
و على كلا القولين يكون الظرف فِي أَنْفُسِهِمْ متعلّقا بالأمر «قل».
و قيل: إنّه متعلّق ب «بليغا»، أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، و لا يضرّ تقديم معمول الصفة على الموصوف الذي هو جائز عند جمع كثير من النحويين.
و قيل: المراد أنّه أمر بالقول البليغ.
و كيف كان، فإنّ الآية الكريمة تأمر بالموعظة سواء بالقول أم بالفعل، ثم الأمر بالقول الذي يؤثّر في النفس تأثيرا بليغا، و قد فوّض الوعظ إلى الرسول الكريم و النصح لهم بكل ما يراه مؤثّرا في نفوسهم التي خبثت و فسدت، فلا بد من إصلاحها لتصلح سائر القوى و الأعضاء.
و في الآية الشريفة شهادة من اللّه تعالى على قدرة رسوله صلّى اللّه عليه و آله في الكلام البليغ، كيف و هو القائل: «أنا أفصح من نطق بالضاد»، و هو سيد الفصحاء و إمام البلغاء، و هو الرسول الكريم الذي علّمه اللّه تعالى ما لم يعلم، و من نزل في شأنه: وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: ٤]، فيكون لكلامه الأثر البليغ في النفوس و لم يكن في كلام غيره مطلقا هذا الأثر العظيم، و إنّ على كلامه مسحة ربانيّة يقع في القلب و يصلح ما أفسده صاحبه، و هو الترياق الأكبر و الأكسير الأعظم، و قد كان العرفاء و الصلحاء المتألّهون يرجعون إلى كلامه صلّى اللّه عليه و آله و يحفظونه عند ما تتكّدر نفوسهم.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا على أنّ السبب في بطلان إيمانهم هو إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فيؤخذ بعموم السبب، و هو أنّ كلّ من يرغب في حكم الطاغوت فهو ليس مؤمنا و لو زعم ذلك، و أنّ التحوّل من حكم اللّه تعالى و رسوله إلى حكم الطاغوت يوجب خروج الناس عن الإيمان.
و الآية المباركة تثبت هذه الحقيقة لكلّ من يريد هذا التحوّل و يرضى بحكم الطاغوت؛ لأنّ الإرادة القلبيّة تبعث الإنسان إلى الرضا و تدفعه إلى تنفيذ حكم الطاغوت. و إنّها تكشف عن عدم ثبات الإيمان في قلب المرتد، فيكون‏ إيمانا مزعوما، و هذا من المواضع القليلة التي يترتّب الأثر على الإرادة. و إنّها تكشف الإيمان الباطل و تميّزه عن الإيمان الصحيح الثابت، و تبيّن علامات الإيمان الباطل، و هي: إرادة التحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، و مخالفة حكم اللّه تعالى، و إنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا لا التقاء فيه مع الحقّ و الإيمان الصحيح.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً على أنّ التسليم لحكم اللّه تعالى و التوقّف في حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله نفاق.
الثالث: يدلّ قوله تعالى: إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ على أنّ المصائب تكون كسبية، يكتسبها الإنسان من فعل الذنوب و الآثام، و تدلّ عليه آيات اخرى، إلا أنّ ذلك هل يكون جزاء و عقوبة (كفّارة) و يكون لطفا و رفع درجة؟ و الظاهر أنّه يختلف باختلاف الأفراد أو باختلاف العمل.
و الأمر الذي لا بد من الإذعان به أنّ ذلك نتيجة للأعمال و الذنوب، و تكون موافقة لنوع الذنب، لقانون توافق الجزاء مع الذنوب، و أنّ التوبة ترفع تلك الآثار و تمحوها، كما تقدّم في مبحث التوبة و غيره.
الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أدب الاحتجاج و مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فأوّل ما يبدأ به هو الإعراض عمّا صدر منهم من مخالفات و سوء في القول و الفعل، ثم الوعظ و الإرشاد و إصلاح النفوس بهما، ثم القول البليغ، و لم يرد في تحديده من قبل الإسلام شي‏ء، فالأمر موكول إلى المرشد و المصلح بما يراه من المصلحة و ما يوجب الوصول إلى بغيته، و هي الصلاح و الرشاد و تأثّر النفوس بالمواعظ و النصائح، و قد يصل إلى التهديد و التوعيد، و لكن لا بد أن يكون كلّ ذلك موافقا لظاهر الشرع، و أن لا يخرج عن أدب الإسلام في هذا المضمار.

على بن إبراهيم في تفسيره لقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إنّه نزل في الزبير بن العوام، فإنّه نازع رجلا من اليهود في حديقة. فقال الزبير: ترضى بابن شيبة اليهودي؟ و قال اليهودي: ترضى بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى الآية».
أقول: الرواية من باب التطبيق، إذ لا خصوصية للمورد؛ لأنّ فعل ابن العوام كان ممّا يوجب تأييد المنكر و تقوية الطاغوت، و قد نهى سبحانه و تعالى عن ذلك، و كلّ من يكون كذلك تشمله الآية الشريفة.
و في أسباب النزول للواقدي: عن المروزي في كتابه قال: «أخبرنا محمد بن الحسين بإسناده عن الشعبي، قال: كان بين رجل من المنافقين و رجل من اليهود خصومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، و دعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم؛ لأنّه علم أنّهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل اللّه تعالى في ذلك: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ- يعني المنافق- وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ- يعني اليهودي- يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ- الى قوله تعالى- وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».
أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد يكون للنزول مناشئ متعدّدة، كما تقدّم وجه ذلك، و هي تدلّ على أنّ أمانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بوجهها العامّ في كلّ شي‏ء كانت محرزة و متيقّنة حتّى عند اليهود و المنافقين، و كان يعرف صلّى اللّه عليه و آله بالأمين.
و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال: «أيما رجل كان بينه و بين أخيه منازعة فدعاه إلى رجل من أصحابه يحكم‏ بينهما، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة التي قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.
أقول: الروايات في ذلك مستفيضة دالّة على حرمة الرجوع في القضاء إلى حكام الجور.
و في الكافي بإسناده عن أبي جنادة الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن و رقاء بن حبشي بن جنادة السلولي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال: «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب و وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً».
أقول: المراد من السبق بالاختيار، أي: أنّهم باختيارهم اختاروا العذاب و الشقاء، و لذا عقّبه بالقول البليغ لعلّه يؤثّر في نفوسهم و يرجعوا عن غيّهم.

الترافع إلى قضاة الجور و من لم يوجد فيه شرائط القضاء حرام بالأدلّة الأربعة، فمن الكتاب آيات شريفة، منها ما تقدّم، و منها قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ [سورة البقرة، الآية: 188]، بتقريب أنّ حكام الجور لا اعتبار لحكمهم؛ لأنّهم يتعاطون الرشوة، و هذا الملاك لو وجد في حكّام العدل تسقط ولايتهم، و غيرهما من الآيات المباركة.
و من السنّة: روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر، تدلّ على الحرمة وضعا و تكليفا، و تقدّم بعضها.
و من الإجماع: ما هو مسلّم بين جميع الفقهاء على حسب اختلاف آرائهم، بل مذاهبهم.
و من العقل: أنّه تأييد و تقرير للباطل، و هو قبيح، فإذا ترافع إليهم كان‏ عاصيا، سواء كان معه الحقّ في الواقع ام لا، بل لا يحلّ ما أخذ بحكمهم إن كان دينا، و كذا في العين على إشكال فيها تعرّضنا له في الفقه، و من شاء فليرجع إلى كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).
إلا أنّه استثني من ذلك ما لو توقّف استيفاء الحقّ و عدم ضياعه على الترافع إليهم على سبيل الانحصار، و لم تكن مفسدة اخرى في البين؛ لانصراف ما تقدّم من الأدلّة عن مثل ذلك و شمول ذلك، و شمول أدلّة نفي الضرر له، و لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ خصوصا في صورة الحرج بشمول أدلّته لذلك.
و لا فرق فيما تقدّم بين المسلم و غيره؛ لإطلاق الأدلّة، و لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع، كما أنّهم مكلّفون بالأصول و أنّ الواقع حجّة على جميع الناس، و قد تعرّضنا في الفقه لما يتعلّق بتكليف الكفّار بالفروع، و من شاء فليرجع إلى (مهذب الأحكام).

النفاق من الصفات الذميمة، بل هو أمها؛ لأنّه يوجب تأنيب النفس في هذه الدنيا، و الجحيم الابدي في الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء، الآية: ۱٤٥]، و أنّه يوجب تغيّر الفطرة المستقيمة الخالصة عن الشوائب، كما خلقها اللّه تعالى إلى فطرة غير مستقيمة متلوّنة لا يمكن الاعتماد عليها، كما أنّه يوجب هدم النظام الاجتماعي؛ و لذا لم يذمّ سبحانه و تعالى صفة خبيثة أشدّ من هذه الصفة، فجعل المنافقين شرّا من الكافرين، كما في الآية المتقدّمة.
و هو التلبّس بالشرع ظاهرا و الخروج عنه واقعا، أو التظاهر بالواقع و الحقيقة، و البعد عنهما في النفس و الضمير. و للنفاق مصاديق كثيرة- كالكذب، و المكر، و الحيلة و غيرها- متفاوتة لا يخلو إنسان- ما عدا المعصومين- عن‏ الابتلاء و لو بأدنى مرتبته و إن لم يترتّب عليها ذنب، لعدم إظهارها و عدم ترتّب أثر شرعيّ عليها.
و له أسباب كثيرة، لعلّ أهمّها حبّ النفس، و الحرص على الدنيا و طول الأمل، و حبّ الرياسة، و البغض و العداوة مع أولياء اللّه تعالى، و غيرها من الأسباب، لعلّنا نتعرض لبعضها إن شاء اللّه تعالى في الروايات المناسبة.
و قد أكّد سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة بالإعراض عن المنافقين في المرحلة الاولى؛ لما فيهم من الصفات الذميمة التي قد توجب السراية إلى غيرهم بإغواء الشيطان، ثم إصلاحهم إما بالوعظ و الإرشاد حتّى يرجعوا إلى أنفسهم و يصلحوا ما رسبت في نفوسهم من الصفات الذميمة و الأخلاق الفاسدة، و هذه هي المرحلة الثانية، و إما بالقتل و القتال معهم، و هذه هي المرحلة الأخيرة، و لكلّ من المرحلتين الاوليتين مراتب متفاوتة، و الآيات الكريمة المتقدّمة تبيّن المراحل المتقدّمة بوضوح، و سيأتي في المباحث الآتية ما يرتبط بهذا البحث.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"