1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 49 الى 57

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤۹) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥۰) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥۱) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥۲) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥۳) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥۷)


الآيات الشريفة تتعرّض لحال الكفّار و اليهود منهم بالخصوص، و تعرّفنا بعض صفاتهم و طباعهم، و تكشف عن بعض ما تطويه نفوسهم من النوايا السيئة و الصفات الذميمة، و تهددهم حينا و تشهر بهم حينا آخر.
فقد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات أهمّ تلك الصفات، و هي الكبر و الغرور و تزكيتهم و مدحهم لأنفسهم و حسبانهم أنّهم أفضل أهل الأرض و حقدهم بالنسبة إلى الإيمان و أهله و الافتراء و الكذب عليهم، مع إعراضهم عن الحقّ الذي هو الإيمان باللّه و دينه القيم؛ لأنّهم يؤمنون بالجبت و الطاغوت، ممّا أوجب لعنهم و بعدهم عن رحمته عزّ و جلّ، فلا يوفّقون لتكميل أنفسهم بالكمالات، فهم‏ على دناءة من الأخلاق و اتصاف بالرذائل- كالحسد و البخل- و قد أوعدهم عزّ و جلّ العذاب الأليم الأبدي الذي لا ينفكّ عنهم. و أما المؤمنون فقد أوعدهم الأجر الجزيل ليكونوا على بيّنة من أمرهم.
و ليعلم أنّ اللّه تعالى يوصل كلّ عامل إلى نتيجة عمله، فلا يضيع أجر العاملين، و الآيات المباركة لا تخلو من الارتباط بما قبلها.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ التزكية: التطهير و التنمية، و الزكاة، النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى، سواء كان ذلك في الأمور الدنيويّة أو الاخرويّة. بالتطهير عن الأوساخ.
و تزكية النفس تطهيرها عن ما يوجب البعد عنه تعالى، بحيث يستحقّ الإنسان في الدنيا الأوصاف المحمودة لطهارة خلقه، و في الآخرة المثوبة و علوّ الدرجات، و لا تحصل إلا بالعمل على وفق الشريعة و ترويضها على التقوى و العمل الصالح.
و هي قد تنسب إلى العبد إذا كان مكتسبا و متحرّيا لما فيه تطهير نفسه، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [سورة الشمس، الآية: 9].
و اخرى: تنسب إلى اللّه تعالى لكونه الباعث و الخالق و المهدي لذلك في الحقيقة، كقوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ.
و ثالثة: تنسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه واسطة الفيض، و به يصل العبد إلى المقامات العالية، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها [سورة التوبة، الآية: 103].
و رابعة: إلى العبادة التي هي وسيلة لتطهير النفس و تزكيتها، نحو قوله تعالى: وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 13].
و قد تكون التزكية بالخلقة، بأن يجعل بعض عباده طاهر الخلق عالما لا بالتعلم و الممارسة، كما في المعصومين من الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.
و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:
الأول: التزكية بالفعل، و هذه هي التزكية الحقيقيّة المحمودة في القرآن الكريم، و قد حثّ عليها في مواضع كثيرة منه، مثل قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [سورة الأعلى، الآية: 14]، و تقدّم أنّها لا تحصل إلا بإتيان الواجبات و اجتناب المحرّمات و الشرور و الآثام و التوجّه إليه سبحانه و تعالى.
الثاني: التزكية بالقول و الادعاء، كتزكية العادل غيره إن كان مطابقا للواقع. و قد يكون تزكية الإنسان نفسه لنفسه، و هذا قبيح عقلا و شرعا، كما نهى اللّه تعالى عنه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، و لذا قيل: «مدح الإنسان نفسه من أقبح القبائح؛ لأنّه يرجع إلى الغرور و الجهل و الاستكبار.
و عبارة: «لم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار مع الغير و التنبيه إلى شناعة الفعل و ردائته، و قد وردت في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، لا سيما أحوال أهل الكتاب.
و المراد (بالذين) هم أهل الكتاب ممّن تقدّم ذكرهم، خصوصا اليهود، و لم يصفهم عزّ و جلّ بأهل الكتاب، لأنّ من كان عالما باللّه تعالى و بالكتاب، لا ينبغي له أن يتّصف بالرذائل، فإنّه بعيد عن الكتاب و تعاليمه.
و أما تزكيتهم لأنفسهم فقد حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، منها قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ‏ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 111]، و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و غير ذلك ممّا هو من مظاهر تزكيتهم لأنفسهم، فإنّ لها مصاديق كثيرة.
قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم، و الآية الشريفة باسلوبها الجميل و لحنها الجذاب ردّ لهم، و تبيّن أنّها عادة سيئة، و ترشد الناس إلى أنّ التزكية من شؤون الربوبيّة يختصّ بها من يكون عليما خبيرا و غنيّا، فالإنسان الفقير المحتاج الذي لا يملك لنفسه شيئا مهما بلغ من الفضائل و الكمال و الشرف غير قابل لتزكية نفسه، فهي كلّها نعم ربوبيّة فيضها على من يشاء من عباده، فهو يزكي من عباده، لعلمه بأحوالهم و أفعالهم و أخلاقهم و سرائرهم، و قد تعارض تزكيتهم لأنفسهم مع ما فيهم من الصفات و هم يعلمون ذلك، و المزكي لنفسه لا بد من أن تطابق سريرته مع علانيته، فاللّه تعالى يزكي من يشاء من عباده المؤمنين الصالحين الذين تأهّلوا لذلك؛ لأنّه عزّ و جلّ العليم الخبير بالحقائق و خفايا الأمور قد زكى جلّ شأنه في القرآن الكريم أنبياءه العظام و رسله الكرام و بعض أوليائه بالصلاح و التقوى، و من أعظمها ما ورد في شأن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4].
قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الفتيل الخيط الذي في شقّ النواة، و يضرب به المثل في الشي‏ء الحقير، كما أنّ النقير هو الذي في ظهر النواة، و القطمير هو قشرتها الرقيقة، و قد وردت جميعها في القرآن الكريم أمثلة للقلّة و الحقارة.
و قيل: الفتيل هو ما يفتل بين الأصابع من خيط أو وسخ فتدلكه بها.
و الآية المباركة في موضع التعليل للآية السابقة، أي: أنّ اللّه تعالى يزكي من يشاء لأنّه لا يضيع الحقوق، بل يضعها في موضعها، و لا يظلم أحدا فلا يسلبه‏ حقّه، فإن كان زكيّا يصله إلى جزاء عمله، و إن لم يكن كذلك فلا يستفاد من تزكيته لنفسه شيئا.
و يستفاد من ذلك أنّ التزكية الحاصلة من الإنسان لنفسه إنّما هي من الظلم للنفس؛ لأنّه إن لم يهذبها عن الرذائل و لم يزيّنها بالكمالات، رجع ذلك إلى الغرور و التكبّر و الاستعلاء على الغير.
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بيان لبعض ما يتصف به من يزكي نفسه، و قد ذكر عزّ و جلّ ثلاثة أوصاف له: الكذب، و البخل، و الحسد، و يظهر من ذلك أنّ التزكية للنفس أمر مستنكر تستتبع أهمّ الصفات الرذيلة و أشنع الأخلاق الفاسدة، و لمزيد التشنيع عليهم أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بالنظر تأكيدا للتعجّب المستفاد من سياق الآية الشريفة، و أنّهم مع تزكيتهم لأنفسهم و ادعائهم الفضل لها باطلا، يفترون على اللّه الكذب بتلك الافتراءات التي حكاها عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة، كادعائهم النبوّة، و أنّ اللّه تعالى خصّهم بحبّه و ولايته، و غير ذلك ممّا افتروه عليه سبحانه و تعالى.
و يستفاد من الآية الشريفة أنّ التزكية بنفسها كذب؛ لأنّه تصرّف في سلطان اللّه تعالى. و في التصريح بالكذب مع أنّ الافتراء أيضا- كذلك كما عرفت- للتأكيد و المبالغة على شناعة الفعل، فإنّ الكذب على اللّه تعالى يختصّ بمزيّة، و هي أنّه افتراء محض.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي: كفى بالكذب على اللّه تعالى أنّه إثم ظاهر واضح؛ لأنّ في التزكية جرأة على اللّه تعالى و محادّة له عزّ و جلّ و شرك و تصرّف في سلطانه، و وصف الذنب بالمبين لتعظيمه و ذمّه، و هو كاف في استحقاقهم العذاب و الجزاء، و تقدّم أنّ من يشرك باللّه تعالى فقد افترى إثما عظيما (الآية- 48)، و هنا كان إثما مبينا للإرشاد إلى كون فاعله آثما بالإثم الظاهر، و معه كيف تتحقّق التزكية لأنفسهم منه، و لا يمكن أن يكون زكيا عند اللّه تعالى.
و يستفاد منه أنّ التزكية للنفس من الإثم الواضح الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و الوصول إلى الكمالات، فهي مع الشرك متساويان في منع نزول الرحمة و المغفرة، كما عرفت في الآية الكريمة السابقة.
قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ تقدّم أنّ مثل هذا الخطاب ذو الأسلوب الرفيع يدلّ على التقريع و التوبيخ بأنّهم مع إتيانهم النصيب من الكتاب لا بد أن يكون كافيا في ردعهم عن القبائح و الآثام، و للتعريض بأحوالهم بأنّهم على خلاف الحقيقة، فإنّهم مع ادعائهم إيتاء الكتاب لا يكونون كذلك، إلا أنّهم أوتوا نصيبا باعتبار ما بقي من الكتاب الإلهي الذي أنزله عزّ و جلّ لتكميل النفوس و تهذيبها، و لكنهم ضيعوه بالتحريف و التبديل، و في الآية الشريفة التأكيد للتعجيب السابق.
قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ مادة «جبت»، تدلّ على كلّ ما لا خير فيه، و قد استعملها القرآن الكريم في كلّ ما يعبد من دون اللّه سبحانه و تعالى لرجوعه إلى الضلال، و في حديث الدعاء: «اللهم العن الجوابيت و الطواغيت، و كلّ ندّ يدعى من دون اللّه»، و سمّي بالجبت كلّ ضال مضلّ. و الطاغوت مبالغة في الطغيان، يطلق على كلّ متجاوز عن الحدّ في الطغيان و الضلال، مثل الأصنام و الشيطان، و رؤساء الشرك و العناد، و الجبت و الطاغوت يشتركان في إطلاقهما على كلّ ما يكون سببا للخروج عن الحقّ و الصراط المستقيم، سواء كان صنما أو شيطانا أو إنسانا أو العصبية و الأهواء الباطلة، فلها وجود نوعيّ يشمل جميع الأفراد و المصاديق التي تكون ضالّة و مضلّة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لهاتين الكلمتين معان متعدّدة، و الحقّ أنّها مصاديق لهما، و إنّما تعرف من القرائن المحفوفة بالكلام.
و الآية الشريفة تدلّ على خبث باطنهم في أنّهم يتركون الهداية و الإيمان بالحقّ، و يؤمنون بكلّ ضالّ مضلّ، و أنّهم نصروا المشركين و قضوا للجبت و الطاغوت كما حكى عنهم عزّ و جلّ بعد ذلك، فحرموا أنفسهم من كلّ خير و هداية.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لإيمانهم بالجبت و الطاغوت، أي: يحكمون لقومهم الذين كفروا، فاستحقوا بذلك أن يكونوا مؤمنين بهما، فإنّ الحكم للباطل إنّما يكون لأجل أنّه من مصاديق الجبت و الطاغوت.
قوله تعالى: هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا بيان لقولهم و اظهار لعقائدهم، و الآية المباركة إشارة إلى أهل مكة و مشركيها، أي: أنّهم حكموا لهم بأنّهم أهدى من أهل الإيمان و أقوم سبيلا.
و إنّما أوردوا أفعل التفضيل في كلامهم على سبيل الاستهزاء، و إلا فإنّهم لم يلحظوا معنى التشريك فيه. و قد وصف سبحانه و تعالى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتباعه بالوصف الجميل، فإنّهم الذين آمنوا تخطئة لمزاعم الكافرين و ردّا لما وصفوا أهل الإيمان بأشنع القبائح.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لعنهم اللّه و أبعدهم من رحمته، و إنّما أشار إليهم بالبعد لأجل بعدهم عن الحقّ و غورهم في الضلالة و كفرهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و خبث باطنهم.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً بيان لجريان سنّته جلّ شأنه في الذين لعنهم اللّه تعالى و طردهم عن رحمته بأنّه لا ناصر لهم، و من ذا ينصر على اللّه من لعنه، فلا ينصرهم أحد فيمنع عنهم العذاب.
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ بيان لصفة اخرى من الصفات الذميمة التي اتّصف بها من زكّى نفسه بعد أن وصفهم بالإيمان بالجبت و الطاغوت و العداوة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين و تفضيل المشركين عليهم.
و هذه الصفة هي البخل الذي يكون مصدرا لجملة من الرذائل الأخلاقيّة، و كان سبب ذلك أن سبل الهداية بعد ما خفقت في تهذيب النفوس المريضة التي تدعي لنفسها الكمال و تزكّيها بالفضائل و هم بعداء عنها.
و (أم) منقطعة، أي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها، و إن تضمّنت معنى الاستفهام و الإنكار مع ترق و اضراب عن ما قبلها، كما يستفاد من سياق الكلام.
و المراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك و ابطال لما يدعونه في ذلك، أي ليس لهم ذلك. و احتمل بعضهم أن تكون (أم) متصلة، و قد حذفت الهمزة، و التقدير: أهم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك.
و نوقش فيه بأن حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن الكلام.
و كيف كان، فالآية الشريفة في مقام تعداد رذائل ما يتصفون به بعد ادعائهم الكمال في التزكية لأنفسهم، و هكذا شأن التزكيّة الباطلة، فيكون المنساق من الآية المباركة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود، و الإنكار على المزكي لأنفسهم.
و المراد بالملك هو السلطنة على الأمور المعنويّة و الماديّة، كالنبوّة و الولاية و الهداية و الثروة، كما هو المستفاد من سياق الآية الكريمة، فإنّها تحكي عن أحوال اليهود و أهل الكتاب الذين يدّعون لأنفسهم الولاية و القضاء و الانتصار على المؤمنين و رجوع الملك الظاهري إليهم، و غير ذلك ممّا حكي عنهم القرآن الكريم‏ في مواضع مختلفة. و قد ذكر المفسّرون في تفسير الملك وجوها مختلفة لا دليل عليها.
قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً النقير اسم للنقطة التي في ظهر النواة- كما عرفت آنفا- و قيل: إنّه فعيل بمعنى المفعول- كالقتيل أو الفتيل- و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره. و قيل: غير ذلك، و الظاهر أنّ الأوّل تشبيه بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة.
و كيف كان، فهو مثال للشي‏ء الحقير.
و «اذن» تكون جوابا و جزاء لشرط محذوف، و هي ملغاة عن العمل، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بها، و الفاء للسببيّة، أي: إن حصل لهم نصيب لمنعوا الناس من القليل الحقير.
و الآية المباركة تدلّ على زيادة التوبيخ و الإنكار عليهم، حيث يجعلون ما هو سبب الإعطاء- و هو النصيب- سببا للمنع.
و هذه الآية الشريفة مع سابقتها متّحدتان في الإنكار و التوبيخ عليهم و على الكافرين، إلا أنّ الاولى إنكار للوقوع، و الثانية إنكار للواقع، فإنّهم مع ما أنعم عليهم اللّه تعالى من النعم الدنيويّة الظاهريّة من الثروة و الزراعة و العقار و غير ذلك، و لكنّهم عرفوا بالشحّ و البخل و الحرص على المنع من أدنى الأشياء و أحقرها؛ و لهذا اختصّت هذه الآية الكريمة بالملك الدنيويّ لبيان ما هو الواقع.
و أما الاولى، فكانت عامّة تشمل الملك المعنوي و الظاهري المادي، فلا تكون الثانية مخصّصة للأولى كما زعمه بعض المفسّرين.
قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، و من إنكار صفة ذميمة إلى إنكار صفة اخرى أشدّ قبحا، و هي الحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة، و سوق الكلام مع اليهود كالسابق.
و المراد من الناس هو سيدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، الدال على أنّ ما أطلق عليه الناس من آل إبرهيم هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و يمكن شمول الآية المباركة للمؤمنين أيضا، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان واسطة الفيض عليهم بما آتاه اللّه تعالى من الفضل العظيم، و هو الكتاب و المعارف الربوبيّة و الكمالات المعنويّة، و حسدهم عليهم لمنعهم من ذلك الفضل و حصره فيهم غرورا و بخلا به.
قوله تعالى: عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيان لعلّة حسدهم على الرسول الكريم لما آتاه اللّه تعالى من النبوّة و الرسالة، و المؤمنين بما آتاهم من الكرامة و المعارف الربوبيّة التي كانت السبب في حقدهم الأكبر ضدّ الدين الحقّ و الإسلام؛ و لذا كان صراعهم معهم مستمرا إلى أن تقوم الساعة، كما تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: وَ لَنْ تَرْضى‏ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى‏ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة، الآية: 120]، و قال تعالى: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [سورة البقرة، الآية: 217].
و إطلاق الآية الكريمة كما يشمل الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتبار ما اوتي من الرسالة و الوحي و الكمالات، كذلك يشمل أمناء اللّه و أمناء رسوله على وحيه و دينه، باعتبار ما أتوا من المقام الرفيع و المنزلة السامية و وجوب الطاعة و ما حباهم من الفضل العظيم، و يدلّ على ذلك‏ ما ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية الشريفة: «نحن المحسدون»، و روي مثله عن الإمام الصادق عليه السّلام.
و يمكن أن يكون قوله تعالى: ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيانا للملك في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، و القرآن يبيّن بعضه بعضا.
قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ إبطال لمزاعمهم و تعليل للاستقباح و سوق الكلام يفيد كمال الاعتناء بالأمر، كما يستفاد من الفاء- التي قيل فيها إنّها فصيحة- و للالتفات، و إجراء الكلام على سنن الكبرياء.
و المعنى: أن يحسدوا الناس على ما أوتوا من الفضل، فإنّه ليس ببدع، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب الشامل للتوراة و الإنجيل و القرآن الكريم و الحكمة، و هي المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة فهم على خطاء و وهم عظيم.
و في الآية المباركة إيناس لهم في نيل مقصدهم و قطع لرجائهم في زوال النعمة عن المؤمنين، فلن ينفعهم إلا حقدا و غيظا و همّا.
و يستفاد من الآية الشريفة تعظيم آل إبراهيم، الذين آتاهم اللّه تعالى الفضل العظيم، فيختصّ بإبراهيم و ذرّيته الأنبياء و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا يشمل بني إسرائيل الذين يدّعون أنّهم من نسل إبراهيم، فإنّ الآية الشريفة تكون في شأن غير الظاهر المراد.
و الجملة: تدلّ على أنّ المراد من الناس بعضهم دون الجميع- كما عرفت آنفا- فإنّ آل إبراهيم لا يشمل المؤمنين إلا إذا أدرجناهم في الآية بالعناية كما عرفت آنفا، بل يمكن أن يقال: إنّ ايتائهم الكتاب و الحكمة قرينة اخرى على أنّ المراد منه إبراهيم، و هذا النبي و آله صلّى اللّه عليه و آله، باعتبار أنّهم حفظة الكتاب و مستودع علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله.
قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً تأكيد لاستقباح حسدهم و تقريع لهم بذلك، فإنّهم مهما حسدوا الأنبياء و المؤمنين، فإنّ اللّه تعالى آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فقد آتاهم ملكا عظيما من النبوّة و الرسالة و الولاية، و ليس المراد بالملك هنا الملك الدنيويّ الماديّ، فإنّ اللّه تعالى لم يعهد منه أن استعظمه في القرآن الكريم إلا إذا استتبع فضيلة معنويّة و كان سبيلا في نيل المقامات الرفيعة، فالمراد بالملك العظيم هنا سلطان الرسالة و عظمة الدين و الشريعة و زعامة الإمامة التي منحها لإبراهيم عليه السّلام بعد الابتلاء العظيم، فتشمل الآية الشريفة النبوّة و الإمامة، فإنّهما الملك العظيم.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ الكتاب و الحكمة؛ لأنّهما من مظاهر النبوّة و الإمامة و المبينين لسلطتهما.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الضمير في (منهم) يرجع إلى أولئك الكافرين الذين وصفهم في الآيات السابقة بأوصاف مختلفة، و قيل: يرجع إلى آل إبراهيم، و الضمير في «به» الى الملك العظيم، أو ما اوتي آل إبراهيم، و قيل: يرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه.
و الظاهر أنّه لا نزاع في البين، فإنّ المرجع شي‏ء واحد، و هو الحقّ المتمثّل تارة في إبراهيم و آله، و الملك العظيم أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما ذكره عزّ و جلّ في الآية التالية.
قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الصدّ الصرف، و تستعمل قاصرة بمعنى أعرض، يقال: صرف نظره أو وجهه عن الشي‏ء إذا أعرض عنه، فيكون المعنى: و من هؤلاء الكافرين الذين وصفهم اللّه تعالى بتلك الأوصاف المتعدّدة في الآية السابقة طائفة أعرضوا عن الإيمان أو الملك العظيم، فيتمّ التقابل بين الطائفتين من غير عناية زائدة.
كما تستعمل بمعنى الصرف، يقال: صدّ غيره إذا صرفه عنه و نفّره منه، فيكون المعنى أنّهم لم يؤمنوا به و بذلوا جهدهم في صدّ الناس عن سبيل اللّه تعالى و الإيمان بالملك العظيم، و هذا هو شأن اليهود، كما حكي عزّ و جلّ عن أحوالهم في القرآن الكريم، فتكون المقابلة بين الطائفتين مع عناية زائدة.
و تقسيمه عزّ و جلّ أولئك إلى هاتين الطائفتين تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لبيان أحوالهم في يوم القيامة، فتكون الآية التالية بمنزلة الشرح و التعليل لها، و لبيان‏ الفرق العظيم بينهما، فإنّهما على طرفي النقيض، و على قطبين متخالفين من السعادة و الشقاوة، فأما دخول الجنّات و التنعّم بأنواع النعم، و أما دخول جهنم و الصلي بالنار و العذاب الأبدي، الذي صوّره عزّ و جلّ في الآية التالية بأعظم صورة و أبدع أسلوب.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً توعيد لمن صدّ عن الحقّ و تهديد لهم بعذاب جهنّم التي لا ينقطع سعيرها، فإنّهم عذاب الدنيا، و لكنّه كفاهم سعير جهنم، و السعير بمعنى المسعور، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، يقال: سعر النّار أو أسعرها، إذا أوقدها إيقادا شديدا.
و إنّما كان جزاؤهم ذلك لأنّهم سعّروا نار الفتنة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و على الذين آمنوا، و صدّوا الناس عن الإيمان به.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تقرير لما سبق و تفصيل بعد إجمال، و تعقيب يملك مشاعر النفس و يؤثّر فيها أشدّ التأثير، و عموم الآية المباركة يشمل كلّ من كفر بآيات اللّه تعالى و دينه الحقّ، و إن ذكرت بعد الكفر بما انزل على آل إبراهيم، فإنّهم سوف يصلون نار جهنّم و يدخلونها يوم القيامة.
و إنّما دخلت «سوف» لإمهالهم حتّى يرجعوا إلى دين الحقّ، كما هو دأب القرآن الكريم في بيان العذاب، و ذكر بعضهم أنّ (سوف) للتهديد، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.
قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أعظم آية تثير الرهبة و الفزع في النفس، و هي تملك الحّس و يقشعرّ منها الجلد، فلا تدع مجالا للتفكّر في غير الإيمان و رفع هذا العذاب الأبدي، الذي لا يعرف مداه، فإنّ أعظم ما يصيب الإنسان من العذاب في الدنيا هو الحرق بالنار و الألم الذي يحسّه منه هو شديد، و لكنّه مع ما فيه من القوّة و الشدّة هو هين‏ بالنسبة لعذاب لا أمد فيه و لا ينقطع ألمه و لا يقف عند حدّ، و أوّل ما يتصوّره الإنسان من ملاحظة هذه الآية الشريفة أنّ الاحتراق يصيب الجلد كلّه بما فيه من الإحساس، و أنّ صاحبه لا يجد الراحة، فلا يشفى و لا يموت، فإذا احترق منه الجلد و نضج كما ينضج اللحم بالنّار، فلا بد أن يقلّ إحساسه إن لم نقل بزواله، فإذا له في نفس اللحظة جلد جديد بكامل إحساسه ينقل إليه الحسّ بالعذاب ليذوقه، فهو في احتراق دائم لا يتوقّف و لا يكفّ و لا يقلّ، فنفس تصوّر مثل هذا العذاب و تخيّله أمر فوق الطاقة يثير الخوف و الدهشة، و لا يمكن تحمّله فكيف بالعذاب الحقيقي؟! فما بال الإنسان لا يتذكّر في عواقبه و ما يرد عليه، و ما أعظم غفلته و ما أكثر إعراضه! و الآية الشريفة المباركة تبيّن الحقيقة و الواقع الذي يؤول إليه الكافر، و ليست هي مجرّد تمثيل أو كناية، كما يدّعيه بعض المفسّرين.
و مسألة نضج الجلود أثّرت في النفوس و غلبت على مشاعر المؤمنين، فآمنوا بما أنزله تعالى و استرهبوا قدرته و استوهبوا مغفرته و رضوانه، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في مسألة تبدّل الجلود إلى جلود اخرى، فأثاروا مسألة اخرى، و هي كيفية استحقاق الجلود الجديدة للعذاب، و ذكروا وجوها في دفع هذه المشكلة، جميعها لا تجدي شيئا، و هذه المسألة من فروع المعاد الجسماني الذي دلّت عليه آيات كثيرة، قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا* وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هُوَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [سورة الاسراء، الآية: 48- ٥۱]، و قد غفلوا عن أمر القيامة و بقاء الأجسام في النّار العظيمة المهولة، مع أنّها لا تقلّ عن تبديل الجلود إلى جلود اخرى، فهي جلود جديدة مكوّنة من نفس البدن المستحقّ للعذاب، و قد أوضح ذلك‏ الإمام الصادق عليه السّلام فقال عليه السّلام: «هي هي، و هي غيرها»، و شبّهها عليه السّلام باللّبنة إذا كسرت و دقت فصارت ترابا ثم صبّ عليها الماء فصارت لبنة اخرى، فهي هي في المادّة، و إنّما حدثت المغايرة في الصورة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي: إنّما كان ذلك ليدوم ذوقهم للعذاب فلا ينقطع، و التعبير بالذوق لبيان الإحساس المرير.
و قيل: لبيان أنّه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للاشعار بمرارة العذاب، و للإعلام على حدّة تأثيره.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً تعليل لما سبق، أي: إنّما عذّبهم اللّه تعالى بذلك العذاب المرير؛ لأنّ اللّه تعالى عزيز لا يمنعه مانع إذا أراد العذاب، و هو قادر عليه حكيم في أفعاله، لا يعذّب أحدا من دون سبب و لا علّة، كما لا يجزى المحسنين إلا كذلك، و أما العفو و مضاعفة الحسنات، فهو فضل منه جلّت عظمته.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحسن حال المؤمنين، و تنبيه لمعرفة التفاوت العظيم بين الطائفتين- المؤمنين و الكافرين- في الجزاء. و في تعقيب تلك الطائفة بالمؤمنين لتتميم الرهبة بالرغبة، و لتكميل المساءة بالمسرة.
و المراد بالموصول هم الذين آمنوا بالرسول الكريم و ما انزل عليه من المعارف الإلهيّة و الأحكام، التي هي لصالح البشرية و صلاحها.
و عقّب سبحانه و تعالى الإيمان بالعمل الصالح، للدلالة على أنّ الجزاء العظيم الذي يناله المؤمنون إنّما يكون بالأمرين، الإيمان و العمل الصالح، فلا جدوى في أحدهما مع انتفاء الآخر، فإنّ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية النفس و إعدادها لذلك الجزاء العظيم، كما أكّد على ذلك القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.
نعم، في الإيمان المجرّد قد يكون بعض الآثار- كما هو معروف- فهو يكفي في تخفيف العذاب أو لنيل الشفاعة و غير ذلك.
قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
السين و سوف يدلان على التنفيس وسعة الاستقبال و اختلفوا فيهما، فقيل: إنّ (سوف) أبلغ في الاستقبال و التنفيس من السين، و قيل: هما متساويان.
و كيف كان، ففي دخول السين في جزاء أهل الجنّة، و سوف في جزاء أهل النّار من البلاغة ما لا يخفى، فإنّ رحمته الواسعة اقتضت أن يعجّل لأهل النعيم نعيمهم، و لا يعجّل لأهل العذاب عذابهم، بل يمهل لهم حتّى يتوبوا، فكان ذلك سببا في دخول (سوف) الدال على التراخي و التنفيس و السعة في جزائهم.
و توصيف الجنات بجريان الأنهار من تحتها، لبيان روعة تلك الجنّات و صفائها.
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً الخلود: دخول المكث، و تأكيده ب: «أبدا» لزيادة المنّة، و لبيان أنّ نعيم الجنّة لا ينقطع، فتطمئن إليها نفوس المؤمنين، و يذهب عنها الخوف و الحزن، كما دلّت عليه آيات اخرى.
قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ بيان لترادف نعمه و آلائه على المؤمنين في أنّ لهم حياة هنيئة في تلك الجنّات، منها أنّهم يعيشون مع أزواج متعدّدة مطهّرة من كلّ عيب و دنس، خلقا و خلقا، كما يدلّ عليه إطلاق التطهير، فلا ينافي ذلك‏ ما ورد في بعض الأخبار عن الصادق عليه السّلام: «اللاتي لا يحضن و لا يحدثن»، فإنّه في مقام بيان أكبر القذارات الملازمة لنوع النساء.
قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الراغب: «الظل أعمّ من الفي‏ء، فإنّه يقال: ظل الليل و ظل الجنّة، و يقال لكلّ موضع لم تصل إليه الشمس: ظل، و لا يقال الفي‏ء إلا لما زالت عنه الشمس، و يعبّر بالظل عن العزّة و المنعة و عن الرفاهة».
و الظليل: صفة اشتقّت من الظل تؤكّد معناه، أي: ظل الجنّة دائم لا حرّ فيه، و لا تنسخه شمس كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في هذه الدنيا، قال تعالى: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ* وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ* وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة، الآية: 30- 33].
و يمكن أن يكون المراد من الظلّ قرب الوصول إليه تعالى في الجنّة، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا و إن كان قريب الوصول إليه تعالى، و لكنّه في عالم الجنّة أقرب، فادخله في ظلاله و إن ظلّه جلّ شأنه عليه دائما لا ينفع.
كما يمكن أن يكون المراد من الظلّ خلع المؤمن الكثافات الجسمانيّة عن نفسه و تنزّهه عنها في ذلك العالم، فكما أنّ الظلّ شي‏ء، و لكنّه مجرّد عن الكثافة كذلك المؤمن لتناسب المكين مع المكان، و إنّ شرف المكان بالمكين، فيدخل اللّه تعالى المؤمن الجنّة بعد تطهيره عن الكثافات الجسمانيّة، كما دلّت عليه آيات شريفة و روايات كثيرة في وصف أهل الجنة يأتي التعرّض لهما إن شاء اللّه تعالى.
و قد عبّر عن المجرّدات بالظلّ في لسان الأئمة عليهم السّلام كثيرا؛ للإشارة إلى أنّ المجرّدات قد يكون من الجواهر، فإنّها شي‏ء لا كالأشياء، فعبّر عن عالم الذرّ بعالم الظلّ، ففي حديث مفضل: «كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة، قال: يا مفضل كنّا عند ربنّا في ظلّ خضراء»، فهو كناية عن قدسية أرواحهم الشريفة، و أنّها كانت من القرب المعنوي الى المبدأ الأعلى، و في حديث صفات الباري جلّ شأنه: «أزليّا صمديّا لا ظلّ يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلّتها».
و كيف كان، فإنّ الآية المباركة تبيّن عظيم جزاء أهل الجنّة، و تصوّره‏ بأعظم صورة في أحسن أسلوب و أبدع عبارة، تنشرح النفوس عند سماعها، و يشتاق الإنسان الى تلك النعمة العظيمة، رزقنا اللّه تعالى التفيؤ في تلك الظلال الوارفة برحمته الواسعة، فإنّه أرحم الراحمين.

تقدّم مكرّرا أنّ جملة: «الم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار على الغير، و التنبيه على رداءة الفعل، و إنّما عدّيت بكلمة (الى) لتضمّنها معنى ألم يصل الى علمك.
و (فتيلا) في قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا منصوب على أنّه مفعول ثان ليظلمون.
و قيل: منصوب على التمييز، كقولك: «تصبّبت عرقا».
و انتصاب «إثما» في قوله تعالى: إِثْماً مُبِيناً على التمييز.
و «أم» في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ منقطعة، و هي التي لا تكون معادلة كهمزة الاستفهام في اللفظ و إن تضمّنت في الأكثر الاستفهام الإنكاري مع ترق و اضراب عن ما قبلها، فتدلّ على إبطال مدخولها.
و «إذا» في قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ملغاة عن العمل، كما هو المعروف، و اختلفوا في أنّه على سبيل الجواز أو غير ذلك، فقيل بالأوّل إذا وقعت بعد الواو و الفاء، مع اتفاقهم على أنّ عملها- و هو نصبها المضارع- مشروط بتصديرها، أي: يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها المذكور في الكلام.
و كيف كان، ف (إذا) تكون جزاء و جوابا في الأكثر كما يقال لك: أحبّك، فتقول: إذا أظنّك صادقا، و التفصيل يطلب من كتب النحو.
و (سوف) في قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تسويف و تنفيس وسعة الاستقبال كالسين، و قيل: تأتي سوف للتهديد و تنوب عنها السين، و استشهدوا بهذه الآية الكريمة، و لكنّه بعيد، و استفادة التهديد إنّما تكون بقرائن خارجيّة.
و كيف كان، فالمعروف أنّ (سوف) أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخله؛ نظرا الى القاعدة المعروفة: «إن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك، فراجع.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية للنفس بغير حقّ مذموم لا تصدر من عاقل، و قد وصف اللّه تعالى المزكّين لأنفسهم في الآيات الكريمة بأمور تدلّ على بعدهم عن الكمال و سفاهة أحلامهم و اتصافهم برذائل الأخلاق، منها الكذب على اللّه تعالى، و منها الإيمان بالجبت و الطاغوت، و الإعراض عن الحقّ، و الازدراء بالذين آمنوا و ترجيح الكافرين و الباطل عليهم. و منها: البخل ممّا آتاهم اللّه تعالى الذي أخذ العهد منهم بالبذل، و منها: الحسد لأهل الفضل و من حباهم اللّه بالفضل العظيم، و لعلّه لأجل اتصافهم بهذه الصفات الذميمة أوجبت استحقاقهم بأشدّ العذاب، و أرشدهم عزّ و جلّ الى نبذهم هذه العادة السيئة، فإنّ اللّه تعالى يعلم حقيقة الأمر و واقع الحال، و كلّ يرجع الى عمله و ما استحقّه من الجزاء، و لا يظلمون في أقلّ ما يمكن أن يتصوّر، و لا عبرة بتزكيتهم لأنفسهم.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية حقّ من حقوق اللّه تعالى، و لا يحقّ لأحد التدخّل في شؤون الخالق و ما يخصّه عزّ و جلّ، و قد بيّن عزّ و جلّ في القرآن الكريم شروط التزكية الحقّة الحقيقيّة، و خصّ بها أولياءه الكرام و أنبياءه العظام و المؤمنين المخلصين.
الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أنّ التزكية للنفس بغير حقّ ظلم للنفس و تضييع لحقوق الآخرين، فإنّ كلّ تزكية إنّما تكون في سلب حقّ و تضييعه، و اللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و أنّه لا يظلم حقّ أحد و يصله الى جزاء عمله.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، على أنّ التزكية التي كانت من حقوقه سبحانه و تعالى إذا انتحلها أحد غيره كان كاذبا على اللّه تعالى، و يختصّ الكذب على اللّه تعالى أنّه افتراء محض يقطع الرابطة الموجودة بين الإله و عبده، و يوجب البعد عنه عزّ و جلّ، و يوجب استحقاق صاحبه العذاب العظيم و أشدّ العقوبات، كما ذكره عزّ و جلّ في الآيات التالية، و لهذا ترى أنّه عزّ و جلّ يصف الكذب عليه بأنّه افتراء.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ على أنّ الإيمان بالجبت و الطاغوت يوجب طمس الفطرة التي تقضي باتباع الحقّ و الحبّ لأهله، و أما اتباعهما، فهو يقضي تعظيم غير اللّه تعالى و الإذعان له بالطاعة، و القول بأنّ الكافرين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، و لا يكون قولهم هذا إلا لأجل أنّهم أحبّوا طمس الحقّ و أيّدوا ستره، فاتبعوا من اتّصف بذلك و عظّموه، و ليس ذلك إلا لسبب إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فابتعدوا عن الحقّ و طمسوا نور فطرتهم، فيكون قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا مبيّنا لبعض مظاهر إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فاستحقّوا اللعنة و الطرد عن مظاهر الرحمة الإلهيّة.
السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً على أنّ من استحقّ اللعنة بسبب سوء اعتقاده و أعماله لا تشمله الرحمة الإلهيّة، فهو في عذاب‏ الخذلان و البعد عن ساحة الرحمن دائما، و كيف تشمل الرحمة من أبعده اللّه عن ساحته و طرده عن قربه إليه، فلا ناصر له من الشفاعة و غيرها حتّى ينجيه من العذاب الذي استحقّه باختياره و يهديه الى الرشاد.
و إطلاق الآية المباركة يشمل عدم النصرة و الخذلان في الدنيا و الآخرة، و إن كانت الاولى أهون بالنسبة الى الثانية، و سواء كان الناصر هو تعالى بالأسباب أم غيره.
السابع: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ على الذمّ و التشنيع عليهم بأنّ كونه ذوي نصيب من الكتاب لا بد أن يكون مانعا عن الإيمان بالجبت و الطاغوت، فيكون إيمانهم بهما مع الكتاب لهم أشنع و أفظع.
الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً غاية بخلهم و شدّة حرصهم على منع الناس من أدنى النفع و أحقره، فالآية الشريفة تبيّن ما تقتضيه طباعهم لو حصل لهم ملك ن فهم بعيدون عن الملك المعنوي و ليس لهم أي نصيب منه، و إنّ الذي هو موجود في أيديهم إنّما هو الملك المادّي من المال و التجارة، و لا ضير في ذلك بعد ما تكفّل عزّ و جلّ أرزاق عباده و ما هو موجود في أيديهم، ضرره عليهم أكثر من انتفاعهم منه، فقد امتحنهم اللّه تعالى به و ظهر سوء سرائرهم و أوجب ابتعاد الناس عنهم.
التاسع: ترتّب قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإن اتّصف بالبخل و شدّة الحرص و تزكية النفس بالادعاء الباطل و كتمان الحقّ و عدم الايمان به و عدم الإذعان للفضل و الفضيلة، يستتبع الحسد العظيم و تمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة، الآية: 109]، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه، و هو البخل و كتمان الحقّ و تزكية النفس بالادعاء الباطل و الإيمان بالجبت و الطاغوت، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض، و كيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب و إزالتها و تخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض، و إذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.
العاشر: يستفاد من قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ شدّة الألم، لأنّ النضج هو المرتبة الدانية من الطبخ، الذي يوجب زوال الحسّ، بخلاف النضج، فإذا تعدّى عن مرتبة النضج تبدّلت جلودهم الى جلود اخرى.
الحادي عشر: لا تنافي بين قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها و بين قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف، الآية: 29]؛ لاختلاف طبقات السعير حسب الجرائم، و يمكن الاختلاف حسب اختلاف الأزمنة أو الحالات التي تمر عليهم.
الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ، أنّ السبب في تبديل الجلود التي نضجت و احترقت الى جلود اخرى هو ذوق العذاب و مقاساته؛ لأنّهم انغمسوا في الرذائل و اتصفوا بصفات مهلكة.
و التعبير بالذوق لبيان شدّة إحساسهم بالعذاب و دوامه، و يدلّ ذلك على بقاء أبدانهم على حالها مصونة، و لا بد أن يكون كذلك حتّى يدوم مقاساة أهوال النّار و يدوم ذوقهم للعذاب، و هو يدلّ على إياسهم عن النجاة.
و تبيّن الآية المباركة تمام قدرته عزّ و جلّ على بقاء الأبدان و تبديل الجلود المحترقة، مع أنّ احتراق الجلود يستلزم احتراق الأبدان، لكنّ لجهنّم حياة خاصّة كما هي ثابتة بالأدلة الكثيرة.
الثالث عشر: يستفاد من الآية المباركة أنّ التبديل بما هو تبديل أيضا نحو عذاب و مشقّة لهم، و إن لم يكن باختيارهم.
الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ حيث أضاف التبديل الى نفسه الأقدس كمال القدرة و القهّارية، و أنّ ذلك لا يمكن لغيره جلّ شأنه.
الخامس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً أنّ الخلود إنّما يكون للبقاء في الجنّة، و الأبديّة إنّما هو لدوام النعمة المتنعّم بها المؤمن فيها، أي: يخلد في الجنّة و يدوم في النعمة، و هذا الاحتمال أولى، حملا للكلام على التأسيس الذي هو خير من التأكيد.
السادس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ التطهير عن كلّ ما يشوب المادّة، فتكون مطهّرة عن الأنجاس و الأرجاس و ملابسات المادّة و غيرها، و يقتضي الإطلاق ذلك كما مرّ في التفسير.
السابع عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا على كمال العناية بالمؤمنين، حيث شرّفهم اللّه عزّ و جلّ أن أدخلهم في ذلك الظلّ الوارف.
و يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أنّ كلّ شي‏ء في الجنّة ظلّ لا مادّة له للطافته، بخلاف ما في الدنيا.
و التكرار في كلمة (ندخل) في قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي، و في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا، إنّما هو للتأكيد و التشريف لرفع شأن المؤمن حين دخوله الى الجنّة.

في الكافي بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ و جلّ».
أقول: و قريب منه غيره، و الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، و لعلّ الوجه في ذلك عدم إمكان إجراء صاحبها الحقّ المحض و العدالة الاجتماعيّة الكاملة، فتكون الدعوة حينئذ إلى خلاف الواقع بزيّ الواقع، و تلبيس غير الحقّ بلباس الحقّ مع العلم و الاختيار، فيكون ذلك عبادة من دون اللّه عزّ و جلّ، بخلاف ما لو ظهرت دولة الحقّ و ورث الأرض و من عليها من أراده اللّه تعالى، و هو الإمام المعصوم المؤيّد منه جلّ شأنه، فلا يبقى حينئذ للباطل مجال و لا للجور مكان بعد ظهوره إما لتكميل نفوسهم و عقولهم بالسير الاستكمالي، أو بشروق ربانيّ كما في بعض الروايات، و ما ذكرنا لا ينافي وجوب القيام لتبليغ الأحكام و تطبيقها قبل قيام الحجّة الثابت بالأدلّة الأربعة، إن لم يناف المقرّرات الشرعيّة من جهة اخرى.
و في الدرّ المنثور: عن ابن عباس قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلّون بهم و يقرّبون قربانهم و يزعمون أنّهم لا خطايا لهم و لا ذنوب، و كذبوا قال اللّه تعالى: «إني لا أطهّر ذا ذنب بآخر لا ذنب له»، ثم أنزل اللّه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
أقول: الرواية أيضا من باب التطبيق و مطابقة للآية المباركة: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ [سورة الأنعام، الآية: ۱٦٤].
و عن السدّي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، قال: نزلت في اليهود، قالوا: إنّا نعلّم أبناءنا التوراة صغارا، فلا يكون لهم ذنوب، و ذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل».
أقول: لا ينافي ذلك التطبيق و الجري على غيرهم؛ لأنّ منشأ النزول تلك الصفات السيئة و العادات الذميمة و الأخلاق الفاسدة التي كانت عند اليهود، فلو كان السبب أو العلّة موجودة في غير اليهود تجري الآية عليه و تنطبق.
و في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فكان جوابه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، يقولون الأئمة الضلال و الدعاة الى النّار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، يعني: الإمامة و الخلافة، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً، نحن الناس و النقير النقطة التي في وسط النواة، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ نحن الناس المحسودون على ما آتانا اللّه من الإمامة دون خلق اللّه أجمعين، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، يقول: جعلنا منهم الرسل و الأنبياء و الأئمة، فكيف يقرّون به في آل إبراهيم و ينكرونه في آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً».
أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أجلى المصاديق، و إلا فالآيات الشريفة عامّة تنطبق على كلّ شخص يدعو الى الحقّ و الواقع، و أفاض اللّه تعالى عليه من فضله و إن كان ذلك منحصرا في محمد و آله.
و في الأمالي للشيخ، بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: «نحن الناس»، و عنه عليه السّلام في رواية بريد: «نحن الناس المحسودون».
أقول: الروايات في هذا المضمون متواترة في جوامع الشيعة، بل ورد من طرق أهل السنّة أيضا، ففي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، قال: «نحن الناس دون الناس».
و عن ابن المغازلي في مناقبه بسنده عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فقال: «نحن الناس»، و في المقام قال ابن الأعرابي في كتاب معجم الشيوخ: «انبأنا الغلابي، انبأنا ابن عائشة، انبأنا إسماعيل بن عمرو البجلي، عن عمرو بن موسى، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي قال: «شكوت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس إياي، فقال: يا عليّ أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنّا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرارينا خلف أزواجنا و أشياعنا من ورائنا»، و رواه أحمد بن حنبل و ابن الجوزي في تذكرة الخواص باختلاف يسير.
و في تفسير العياشي: عن حمران، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ، قال: «النبوّة» و «الحكمة»، قال: الفهم و القضاء، «و ملكا عظيما» قال: «الطاعة».
أقول: الروايات في ذلك متواترة، و المراد من الطاعة الطاعة المفترضة في الأئمة عليهم السّلام، كما في بعضها.
و عن ابن المغازلي في مناقبه و ابن حجر في الصواعق في الآية الشريفة عن هشام بن الحكم عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، قال: جعل فيهم أئمة، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه».
و في الاحتجاج للشيخ: عن حفص بن غياث، قال: «شهدت المسجد الحرام و ابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ، ما ذنب الغير؟ قال عليه السّلام: و يحك هي هي، و هي غيرها، قال: فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا، قال: نعم، أ رأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها و هي هي و هي غيرها».
أقول: و في هذا المعنى روايات اخرى مرويّة عنه عليه السّلام، و يستفاد منها امور:
الأول: أنّ المادّة الأوّلية موجودة في هذه التبدلات، و أنّها تذوق العذاب جزاء لما كسبت و إن تبدّلت بهيئات مختلفة و صور متعدّدة، و بهذا يرتفع كثير من الشبهات الواردة على المعاد الجسمانيّ، كشبهة الآكل و المأكول و غيرها.
الثاني: يستفاد منها أنّ تغيير الهيئة يوجب الاختلاف في ألم العذاب و طعمه الشدّة أو الضعف أو النوع؛ لأنّ للحادث أثرا خاصّا غير ما هو السابق، كما ثبت في محلّه.
الثالث: أنّ التبديل إنّما يكون من نفس الجسم، لا من جلد خارجي.
الرابع: أنّ التبديل استمراري و تدريجي، لا أن يكون دفعيا كخلع الثوب و تبديله بثوب آخر؛ لأنّه تابع للنضج و هو يختلف حسب اختلاف الجلد، و لعلّ ذلك أشدّ عذابا من غيره، أعاذنا اللّه تعالى منه.
الخامس: يختلف زمان التبديل حسب اختلاف نضج الجلد، و ذلك حسب شدّة النّار و اختلاف الطبقات المعدّة للمجرمين، ففي بعض الروايات كما في الدرّ المنثور: «في ساعة مائة مرّة»، و في الاخرى: «مائة و عشرين»، و هذا الاختلاف لا يضرّ بما ذكرنا، و لا فصل في العذاب عند التبديل لأنّه بنفسه عذاب.
السادس: يستفاد منها التقريب الذهني بتمثيل ما في الآخرة بما في الدنيا، سواء كان في الجنّة كما في كثير من الروايات، أم في النّار كما في المقام.
السابع: يستفاد منها أنّ تبديل الجلد بالآخر إنّما يكون مثل الجلد السابق و بأوصافه، لا أن يكون أسمك مثلا أو بلون آخر غير الأوّل.
نعم، في الدرّ المنثور أنّه يكون بيضاء، و لعلّ ذلك بملاحظة لون الجلد السابق بعد النضج، فالمراد من الغير الوارد فيهما الغير في نفس الجلد و ذاته، لا في ما يتعلّق به من الصفات؛ لأنّ في ذلك نوعا من الإعجاز، فلا مجال لدعوى الإطلاق.
و في الفقيه: قال: «سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ؟ قال: الأزواج المطهّرة لا يحضن و لا يحدثن».
أقول: هذا من باب ذكر بعض الصفات، كما تقدّم في التفسير.
و هناك روايات ذكرها الواحدي في أسباب النزول، تدلّ على أنّ الآيات المباركة نزلت في شأن جماعة من اليهود و غيرها من الأشخاص، و تقدّم منّا مكرّرا أنّ ذلك من باب التطبيق لا التخصيص.
و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا، هو ظلّ العرش الذي لا يزول.
أقول: هذا تفسير بأجلى المصاديق، كما مرّ في التفسير.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"