1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 44 الى 47

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى‏ بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤۷)


تتضمّن الآيات الشريفة بعض أحوال أهل الكتاب و لا سيما اليهود، و تبيّن سوء أخلاقهم و مظالمهم و خيانتهم بالنسبة إلى دين اللّه تعالى و المؤمنين به، و التأليب عليهم.
و قد كان من دأب القرآن الكريم ذكر أحوال أعداء الدين و أقاصيصهم، لتنبيه المؤمنين من دخائل أنفسهم و دوافعهم الخبيثة الشريرة لحرب الدين و المؤمنين به.
و قد تعرّض عزّ و جلّ سابقا لجملة من أحوالهم لهذا الغرض، ثم ذكر أحكاما شرعيّة لبيان الدين الحقّ و تثبيت عزيمة المؤمنين به و تنشيط قواهم في مقاومة زيغ المبطلين و مكرهم و خيانتهم، و هذا من الأسلوب البديع الذي طالما يستعمله القرآن الكريم في تنشيط النفوس و إصلاحها، فإنّ الدين القويم يحتاج إلى معرفة السبل لدفع كيد المبطلين و خيانة أعدائه، كما يحتاج إلى معرفة حقائقه و معالمه، فهما أمران لا بد لهما في كلّ دين.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.
جملة مستأنفة لبيان سوء حال من اوتي نصيبا من الكتاب- و خاصّة اليهود الذين يدعون لأنفسهم الكمال- من حسدهم و حقدهم، فقد قال عزّ و جلّ في حقّهم: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النساء، الآية: ٥٤]، و سيأتي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [سورة النساء، الآية: ٤۹]، بعض الكلام، فإنّ الحسد الذي نبت في قلوبهم لأجل أنّهم يحسبون أنفسهم أفضل أهل الأرض و يدّعون الكمال و يرون أنّهم جديرون بالخير.
و الخطاب و إن كان متوجّها لسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و فخر الموجودات، لكنّه متوجّه إلى التابعين له أيضا باعتبار أنّه سيدهم.
و التعبير بالنصيب للدلالة على أنّهم لم يحفظوا ذلك و لم يتعهّدوا بالعمل به، فقد احتفظوا بالاسم دون العمل به، و أنّهم أهملوا الشي‏ء الكثير ممّا أوتوا و لم يبق إلا النزر القليل الذي لا بد من الاحتفاظ به.
و التنوين في قوله تعالى: نَصِيباً للتفخيم أو للتكثير، و كلاهما يثبت التشنيع.
و المراد بالكتاب جنسه، ليشمل كلّ من أوتي علما ينتهي إلى الوحي، فيشمل اليهود و النصارى و المجوس و المنافقين، و إن كان ظاهر السياق يختصّ باليهود، فإنّ هذا الخطاب يستعمل في حقّهم في القرآن الكريم، و هم الذين عرفوا بالعداء و الحقد لكلمة اللّه تعالى و دينه و المؤمنين به.
و الخطاب لا يختصّ بعصر النزول، فإنّ ما ورد في هذه الآية الشريفة لبيان أحوال أعداء الدين و كيدهم للإسلام و المسلمين، و هو ليس من شأن‏ المضي، فلا يختصّ بوقت معين، بل هو حديث الماضي و الحاضر و المستقبل، أي الزمن كلّه إلى أن تظهر دولة الحقّ و يمحق الأعداء و كيدهم و خيانتهم، فإنّ الصراع بين الحقّ و الباطل مستمر من أوّل الخليقة حتّى تقوم دولة الحقّ و يمحق الباطل كلّه، و لهذا كان التوكيد الشديد في القرآن الكريم على الأعداء و كيدهم.
و الآية المباركة في مقام التشنيع عليهم و التشهير بشنائع أعمالهم و مفاسد أخلاقهم و إظهارها في سلك الأمور المشاهدة، و هذا الأسلوب له الوقع الكبير في النفوس و تنشيطها و استلفاتها إلى ما يجري حولها من الحوادث، و لهذا أتى الخطاب في صورة التعجّب و الاستفهام الإنكاري.
قوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ.
تعليل للتشنيع السابق عليهم، و بيان لمناط التعجّب منهم؛ لأنّهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يبذلون بإزاء ذلك أغلى الأمور و هو التوحيد و أسباب السعادة و الكمال و الصلاح و الهدي.
و الضلال هو الخروج عن الطريق المستقيم أو المنهج القويم، عمدا كان أو سهوا، كثيرا كان أو قليلا، و سيأتي توضيح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى و يضاده الهداية.
قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ.
ترتّب هذا على السابق ترتّب المعلول على العلّة، فإنّ من اشترى الضلالة و باع أعلى الأشياء و أغلاها و أعظمها بأخسّ الأشياء و هو الضلالة، لأجل أنّهم على الضلالة، و قد تمكّنت في نفوسهم و انهمكوا في الضلال و الغي، فهم يطلبونه للمؤمنين الذين هداهم اللّه تعالى للصراط المستقيم، الذي أوضح اللّه اعلامه و أحكم حججه، فقد جنّدوا أنفسهم لذلك و كتموا الحقّ الذي آتاهم اللّه تعالى و أظهروا النفاق و خدعوكم بإظهار النصيحة و المودة، و لقوكم ببشر الوجه و زي الصلاح، و لكن لا يريدون لكم إلا الفساد و الخديعة و الإضلال عن السبيل المستقيم الموصل إلى الحقّ.
و ذكر الفعل المضارع في الموضعين، لبيان استمرارهم على ذلك و تجدّدهم عليهما.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ.
تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة و بيان للتحذير منهم، فإنّ العدو قد أظهر نفسه بمظاهر الصلاح و المودّة، فالتبس الأمر على المؤمنين، و اللّه يعلم العدو من الصديق الناصح، و قد أخبركم بعداوة هؤلاء، و بيّن لكم حقيقتهم، فإيّاكم أن تطيعوا لهم أمرا و تأخذوا منهم النصيحة.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَلِيًّا.
فإنّه القادر على نصرة أوليائه و هو يكفيهم أعداءهم.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِاللَّهِ نَصِيراً.
يدفع شرّهم و مكائدهم، و التكرار مع إظهار الاسم الجليل للتأكيد على كفايته عزّ و جلّ، و فيه إيماء بالعلّية، فإنّه اللّه الخالق القادر.
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ بيان لأهمّ أفراد الذين اتّصفوا بالضلالة و الغواية، و قد ذكر سبحانه و تعالى جملة من أحوالهم، بين البيان و المبين، لمزيد الاعتناء بذكر محلّ التشنيع، و الاهتمام بحثّ المؤمنين على الابتعاد عنهم و الاكتفاء بولاية اللّه تعالى و نصرته، و مثل هذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم، فإنّه قد يعترض بجمل بين أطراف الكلام مع اتساق الكلام و تناسب أطرافه، و قد ذكر المفسّرون وجوها في إعراب هذه الجملة.
و المراد من الَّذِينَ هادُوا اليهود، لأنّهم ينتسبون إلى مملكة يهودا بعد أن تشتت سائر الأسباط من بني إسرائيل و اضمحل و باد ملكهم الوثني باستيلاء الآشوريين عليهم و قتلهم لهم.
و قد وصفهم تعالى بتحريف الكلام عن مواضعه، و التحريف إمالة الكلام‏ عن مواضعه. و قد ذكرنا في احدى مباحثنا السابقة أنّ تحريف الكلام له وجوه متعدّدة فقد يكون بتلبيس الحقيقة بالكذب، و قد يكون بستر الواقع و الحقيقة و حجبها عن الناس، و قد يكون بالتبديل إما بالزيادة و إدخال بعض الكلام فيه، أو بالنقصان، أو بتغيير مواضع الألفاظ، و قد يكون بالتأويل المخالف للواقع و التفسير الباطل و غير ذلك، و قد بيّن القرآن الكريم جملة من موارد تحريفهم، و الإطلاق يشمل جميع أقسام التحريف و وجوهه، من التحريف الظاهري اللفظي و التحريف المعنوي.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا.
بيان لبعض وجوه التحريف، و هو استعمال القول بوضعه في غير المحلّ الذي ينبغي أن يوضع فيه، و إنّما خصّ هذا القسم لأنّه يكشف عن شدّة غيهم و ضلالهم و تماديهم في العناد، فإنّهم يحرّفون الكلام بمحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أي: يقولون له صلّى اللّه عليه و آله و هم يعلمون أنّه على الحقّ بما عرفوا من أوصافه الواردة في التوراة: سمعنا قولك و عصينا أمرك عنادا، مع أنّ السمع لا يكون إلا في موضع الطاعة، فلا بد و أن يقولوا: سمعنا و اطعنا، و يمكن أن يكون قولهم ذلك تهكّما و استهزاء بالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.
قوله تعالى: وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ.
المسمع بفتح الميم الثانية، و هذا الكلام يستعمل على وجهين للخير و الشرّ، و الأوّل اسمع غير مسمع مكروها، فكانوا يخاطبون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و هم يضمرون المعنى.
الثاني: أي الشرّ و هو: اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أو آفة، فأرادت اليهود من هذا القول الدعاء على المخاطب، أي: معنى الشرّ، و المعنى الخير الظاهر فيه هو (اسمع لا سمعت مكروها)، و لكنّهم يضمرون السوء منه.
قوله تعالى: وَ راعِنا.
كلمة ذات وجهين أيضا، و هي عطف على ما قبلها، فقد كشف سبحانه و تعالى مظهرا آخر من مظاهر تحريفهم للكلام، و سوء سرائرهم و نفاقهم، و تقدّم تفسير هذه الكلمة في سورة البقرة آية (10٤)، و قلنا: إنّ اليهود كانوا يناسبون بكلمة (راعينا)، و قد ورد في توراة كلمة (راع) مشالة إلى الألف، و تسمّى عندهم (قامص)، و هو بمعنى الشرّ أو القبيح، فتكون بمعنى شريرنا و نحو ذلك من الصفات، أما المؤمنون فكانوا يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحفظ و المراعاة أو المراقبة أو غيرها من الصفات الحسنة، و قد سمعها اليهود و أرادوا منها غير المعنى المقصود الصحيح.
و قد نهى اللّه سبحانه و تعالى في آية البقرة أن يستعملها المسلمون؛ لئلا يستغلّها اليهود في ذمّ الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.
قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ تعليل لما تقدّم، و انتصاب لَيًّا على العليّة، أي: يقولون ذلك ليّا. و اللي: الانحراف و الفتل، يقال: ليّ الحبل، أي: فتل.
و المعنى: يظهرون الكلام بصورة الحقّ و يريدون خلافه و يميلون به إلى المعنى الباطل، سواء في القلب أو باللسان، و يقولون ذلك طعنا في الدين و قدحا فيه، و قد عرفوا بذلك في مرّ الزمن.
قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ أي: و لو أنّهم اختاروا الهدى على الضلال، و قالوا: سمعنا قولك و أطعنا أمرك، و اسمع منا ما نقول في مقام الاهتداء و انظرنا باللطف، لكان خيرا لهم من القول الباطل المموه و أعدل في نفسه و أضرب؛ لأنّ الكلام قد اشتمل على أدب الدين و طلب الهداية و الخضوع للحقّ، و هو خير لهم و أقوم ممّا قالوه، و قد بدّل‏ اللّه سبحانه سماع الردّ منهم بسماع القبول، و قد جعل الإطاعة مكان العصيان و طلب السماع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله لهم بدلا من قولهم: «و اسمع غير مسمع»، و جعل وَ انْظُرْنا بهمزة الوصل و ضم الطاء المعجّمة، بدل قولهم: (راعنا)، و هو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه، فإنّ جميع ذلك خير لهم؛ لأنّهم جعلوا قيادهم إلى الرسول و الطاعة له و يلقون بسعادتهم عنده، و هو الهادي إلى الصلاح و السعادة، و كان ذلك أقوم لهم و أعدل لما فيه من الأدب و الفائدة العظيمة و حسن العاقبة.
قوله تعالى: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي: أنّهم لم يقولوا ذلك لخبث سرائرهم و تمرّدهم على الحقّ و إعراضهم عنه، فلعنهم اللّه تعالى و طردهم عن رحمته بسبب كفرهم و لجاجهم و عنادهم مع اللّه تعالى و رسوله. و الباء في بِكُفْرِهِمْ للسببيّة.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: فلا يؤمنون باللّه و رسوله بسبب جحودهم و لجاجهم إلا قليلا منهم، الذين لم يتمرّدوا على الحقّ و لم يتوغّلوا في المحاورة مع اللّه و رسوله، و في الكلام ايئاس المؤمنين، و يستفاد من كلمة (لو) المشعرة باستحالة وقوع المتمنّى به أيضا، فإنّهم ملعونون لا يوفقون للإيمان، و الاستثناء من ضمير المفعول في لَعَنَهُمُ.
أي: أنّ اللّه تعالى أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم و عنادهم، فلا يؤمنون بعد ذلك إلا فريقا قليلا ممّن اختار الطريق الأنفع و الأقوم، فشملته العناية الربانيّة فآمن.
فالاستثناء إنّما يكون بالنسبة إلى الأفراد و خروج بعض الأفراد من الحكم المترتّب على المجتمع و هو عدم الإيمان المستفاد من قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ، فاستثنى منه قليل الأفراد، و مثل ذلك كثير بالنسبة إلى المجتمعات، لا سيما المجتمع اليهوديّ الذي استحقّ كثيرا من اللوم و الغضب و اللعن، إلا بعض الأفراد.
و قيل: إنّ قَلِيلًا صفة لموصوف محذوف، أي: لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و لكن اتصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو بلحاظ المتعلّق، فيرجع إلى ما ذكرناه.
و القول: بأنّ المراد حينئذ قليل الإيمان مقابل كامله، أي: لا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان الذي لا يعتدّ به لجحودهم و عنادهم و غيّهم؛ لأنّ اللعن إنّما كان على الأفراد، و لعنة اللّه تعالى إيّاهم لا يجوز أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم، فاستوجب أن يكون المراد قليل الإيمان الذي لا يعتدّ به، و هو لا يوجب رفع اللعنة عنهم.
فاسد: أما أوّلا، فلان الإيمان يتّصف بالكامل و الناقص و المستقرّ و المستودع، كما ورد في القرآن الكريم، و لم يرد فيه اتصاف الإيمان بالقلّة و الكثرة.
و ثانيا: فلأنّ الإيمان القليل- سواء كان صوريّا أم قلبيّا- ممّا يعتني به الإسلام، قال تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [سورة النساء، الآية: 94]، و هو يوجب رفع اللعنة عنهم.
و ثالثا: لا فائدة في هذا الاستثناء بعد استحقاقهم اللعنة مطلقا.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا خطاب عامّ لجميع أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل اللّه تعالى على عبده و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و آله من القرآن و الشريعة و صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، التي عرفوها بأوصافه في كتبهم.
و إنّما نسبهم إلى إيتاء الكتاب باعتبار أسلافهم الذين أوتوا الكتاب مصونا من التحريف و عرفوا حقائقه و أحكامه، و هو يكفي في الداعويّة إلى الإيمان بالرسول الكريم.
قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ممّا ورد في الكتاب من التوحيد و البشارة برسوله صلّى اللّه عليه و آله و بعض الحقائق التي لم تصل إليها يد التحريف و النقصان، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى لِما مَعَكُمْ دون أن يذكر اسم التوراة، مع كون الخطاب معهم، إيذانا بكمال وقوفهم على حقيقة الحال، فإنّ التوراة قد بشّرت برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ القرآن الكريم المنزل عليه مصدّق لها.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها مادة (طمس) تدلّ على محو أثر الشي‏ء و استئصاله، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في خمسة مواضع. و الدائر و الدارس متقاربة المعنى، و نطمس- بكسر الميم و بالضم لغة- مضارع طمس بفتحها يستعمل قاصرا، و متعدّيا كما في الآية الشريفة، و في قوله تعالى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 37]، و يعدّى ب (على) كما في قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى‏ أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ [سورة يونس، الآية: 88]، و قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى‏ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ [سورة يس، الآية: ٦٦] و طمس البصر هو محو أثره، أي: أعميناهم، قال الشاعر:
من يطمس اللّه عينيه فليس له نور يبين به شمسا و لا قمرا

و الوجوه: جمع الوجه، و هو ما يستقبل من الشي‏ء و يظهر منه، و في الإنسان الجانب الظاهر المقدّم من الرأس الذي يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور الحسيّة، كما يستعمل في الأمور المعنويّة، فيقال: وجه الشي‏ء، أي: حقيقته.
و التنوين في الوجوه لتهويل الأمر مع لطف، حيث إنّ العذاب لا يلحق إلا ببعضهم، و يحتمل الانطباق على كلّ فرد من القوم، فلا يأمن أحدهم من هذا العذاب.
و الأدبار جمع دبر- بضمتين- و هو القفا، و جملة: فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها عطف تفسيري للطمس و بيان له، فيكون الطمس محمولا على ظاهره، أي: نمحي أثر الوجه و نجعله كالادبار، بتغيير الخلقة الأصليّة، و هو يوجب عدم قيام الإنسان بوظائفه الحيويّة و عدم تحقّق المقاصد التي فطر عليها الإنسان لو كان على غير الصورة التي خلقها اللّه تعالى، فإنّ الإنسان على خلقته الأصليّة يسعى‏ للكمال و تحقيق مقاصده الدنيويّة و الاخرويّة، و إصلاح شؤون نفسه و نيل سعادته و كلّ ما يراه خيرا، و لا يتحقّق ذلك في طمس الوجه و الردّ على الأدبار، فيستلزم الضلال و عدم الفلاح حينئذ.
و قد ذكر المفسّرون في معنى الآية الكريمة وجوها اخرى، فقيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى الأقفية في آخر الزمان أو في يوم القيامة، فتصير عيونهم مثلا في قفاهم.
و قيل: إنّ المراد بالطمس هو الخذلان الدنيويّ، فلا يزالون على الذلّة و المسكنة، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [سورة آل عمران، الآية: 112].
و قيل: يردّهم عن الهداية إلى الضلالة، قال تعالى: وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ [سورة الجاثية، الآية: 23].
و قيل: إنّ المراد من الطمس إجلاؤهم من الحجاز و ردّهم إلى الشام.
و قيل: إنّ المراد من الوجه هو الوجهاء و الأعيان، و من الطمس مطلق التغيير، أي: نجعل رؤوسهم أذنابا، و ذلك أعظم سبب البوار و الدمار.
و هذه الوجوه خلاف ظاهر الآية الشريفة التي تدلّ على أنّ الطمس تصرّف إلهي في الإنسان يوجب تغيير طبعه عن قبول ما يوافق الفطرة و الارتداع عن مطاوعة الحقّ، الذي كان حاصلا من تغيير البيئة الأصليّة للإنسان، و عدم وصوله إلى الكمال اللائق بحاله، و هو يستلزم عدم تحقّق السعادة الدنيويّة و الاخرويّة.
و الآية المباركة صريحة في عدم تحقّق هذا النوع من التصرّف الإلهي، و إنّما هو وعيد يكشف عن شدّة سخطه بأبلغ وجه، حيث لم يعلّق وقوع المتوعّد به بالمخالفة، و لم يصرّح بوقوعه عندها، تنبيها على أنّ ذلك أمر واقع لا محالة غني عن الإخبار به الحقّ، فإنّه تعالى بعد أن دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزل‏ مصدّقا لما معهم فوعدهم بأحسن وجه، و لكنّهم خالفوا اللّه تعالى و رسوله و امتنعوا عن المطاوعة للحقّ، و كان جزاء ذلك أن حرموا من العناية الربوبيّة إلا قليلا منهم ممّن وفّق للإيمان، و هنا أوعدهم بالسخط و العذاب.
قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ.
توعيد آخر مترتّب على الوعيد الأوّل، أي: إن لم يتحقّق الأمر الأوّل، يتحقّق هذا لا محالة. و اللعن هو الطرد عن الرحمة.
و التشبيه بأصحاب السبت لبيان تهويل الأمر و الإغراق في الوصف، و قد ذكر سبحانه و تعالى أصحاب السبت في آية اخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ* فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: ٦٥- ٦٦]، و أصحاب السبت الذين ذكرهم اللّه عزّ و جلّ في قوله: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف، الآية: ۱٦۳]، و سيأتي ذكر أخبارهم إن شاء اللّه تعالى.
و (أو) في الآية الكريمة على ظاهرها من التنويع و الترديد، و الاختلاف بين الوعيدين ظاهر، فإنّ الأول يوجب تغيير الخلقة الأصليّة بأن ينصرف عن فطرته التي فطر اللّه عليها الإنسان في كفاحه و جهاده في الدنيا، نظير ما ورد في آكل الربا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة، الآية: ۲۷٥]، فراجع ما ذكرناه هناك، و أمّا هذا الوعيد- و هو اللعن كلعن أصحاب السبت- فهو يوجب البعد عن الرحمة و سلب التوفيق و الرجوع إلى الخلقة الحيوانيّة، التي ليس لها غرض إلا الأكل و النوم و السفاد، فقد سلب عنه الكمالات المعنويّة المعدّة للإنسان، مضافا إلى أنّ الوعيد الأول لا يعمّ الجميع، و إنّما يختصّ ببعض القوم، بخلاف الثاني فإنّه سيعمهم إن تمرّدوا عن الامتثال، كما هو المستفاد من إرجاع ضمير الجماعة «نلعنهم» الى جميع الأفراد.
قوله تعالى: وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا جملة مستأنفة تقرير لما سبق و إخبار بجريان عادة اللّه تعالى بوقوع الأمر لا محالة، و أنّه سينفذ فيهم ما توعّد به، و قد وقع ما توعد به بالنسبة إليهم من نزول اللعنة و السخط عليهم و وقوع العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كما أخبر به عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.
و المراد بالمفعول النفوذ، و حكم الآية المباركة عامّ لا يختصّ بقوم دون قوم، و إن كان أظهر مصاديقه ما تقدّم في صدر الآية المباركة.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ على أنّ الذين أوتوا الكتاب كانوا يستميلون المؤمنين إلى الضلال بوجوه كثيرة، و هذا هو من شعب نفاقهم، و قد بيّن عزّ و جلّ حقيقة الأمر للمؤمنين، و أعلمهم بأنّ الذين أوتوا الكتاب على عداوة و بغضاء لهم، فلا يغترّوا بمظاهرهم، و قد أكّد عزّ و جلّ ذلك بالأمر بالنظر إليهم، فلا يركنوا إلى ما يظهرونه لهم من العطف و حسن الكلام، فإنّهم يبالغون في تحريف الكلام، كما بيّن عزّ و جلّ شطرا منهما في الآية الشريفة.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى‏ بِاللَّهِ نَصِيراً على عدم الاكتفاء بالمظاهر، و لا بد من الرجوع إلى ما بيّنه عزّ و جلّ من حالات الذين أوتوا الكتاب، فإنّه تعالى أعلم بما في الضمائر و ما تحمله قلوبهم من العداوة و البغضاء، فلا ينبغي التخطّي عن تعاليم القرآن في دفع كيد الأعداء و مكرهم و التصدّي لنفاقهم و ضلالهم.
الثالث: يدلّ قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، أنّ اهتمام اليهود هو تحريف الكلام، و هو من أهمّ ما اتّصفوا به في العصور، و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم وجوها مختلفة لذلك، و في المقام ذكر سبحانه و تعالى وجها آخر، و هو تغيير الكلام و إظهاره بصورة الدعاء و الخير، و هم يقصدون وراء ذلك شيئا آخر، كالطعن في الدين و الحطّ من منزلة سيد المرسلين أمام أتباعه من المؤمنين، و قد بيّن عزّ و جلّ للمؤمنين هذه الخديعة، و أمرهم بالحيطة منهم و أرشدهم إلى ما يصحّ أن يقال في مقام التخاطب، ليفوزوا بالخير و السعادة.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، على أنّهم غيّروا مواضع الآيات المباركة، و به تغيّر المعنى و اختلف، و نظير ذلك قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: ٤۱]، و لعلّ الأخير يدلّ على أنّ التحريف كان بحذف الكلام أصلا، بخلاف الأوّل، فإنّه يدلّ على أنّ التحريف بتبديل مواضع الكلمات.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أنّ في القرآن الكريم الشي‏ء الكثير ممّا ورد في كتبهم التي لم تنله يد التحريف، فهذا الدين يتفق مع سائر الأديان الإلهيّة في الأصول و كثير من الفروع، فهي تدعو إلى التوحيد و العدل بين الناس و النهي عن المعاصي و الفواحش، و تأمر بالتحلّي بمكارم الأخلاق، كما يدعو القرآن إلى ذلك، فلا يجوز الإعراض عن مطاولة الحقّ و الإيمان بالإسلام و إلا فإنّ الجزاء المعدّ لهم يكون عظيما، و قد ذكر عزّ و جلّ نوعين من الوعيد، الطمس و اللعنة، و هما يوافقان العمل العظيم الذي هم كانوا عليه، فكان الجزاء موافقا للعمل، و هو أنّ القوانين الإلهيّة المعروفة هي مشاكلة العقوبة مع الجناية.
السادس: تدلّ نوعية الجزاء- و هي الطمس و اللعنة- على نوع العمل‏ الذي يعملونه، فإنّ الجناية عظيمة، و هي التحريف و التغيير و عدم الإيمان بما يعملونه أنّه حقّ، فاستوجب طمس فطرتهم و بعدهم عن الرحمة الإلهيّة و اختلاف الجزاء باختلاف الأشخاص و نوع العمل.
السابع: انّما وصف الذين كفروا بأهل الكتاب؛ لإعلامهم بأنّ من تلبّس بالكتاب لا ينبغي أن يعرض عمّا في الكتاب الذي أتوه، و أنّ العلماء باللّه و آياته لا بد أن يتلبّسوا بما أنزله اللّه تعالى، فالإصرار على الإعراض يوجب الانسلاخ عن الكتاب و علمه.

في تفسير العسكري: عن الكاظم عليه السّلام: كانت هذه اللفظة: «راعنا» من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقولون: «راعنا»، أي: ارع أحوالنا و اسمع منا كما نسمع منك، و كان في لغة اليهود معناه: اسمع لا سمعت، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا» و يخاطبون بها، قالوا: كنا نشتم محمدا إلى الآن سرّا، فتعالوا الآن نشتمه جهرا، و كانوا يخاطبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا»، يريدون شتمه، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه، أراكم تريدون سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جهرا، توهمونا أنّكم تجرون في مخاطبته مجرانا، و اللّه لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، و لو لا أنّي أكره أن أقدم عليكم قبل التقدّم و الاستيذان له و لأخيه و لوصيه عليّ بن أبي طالب القيم بأمور الامة نائبا عنه فيها، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا. فأنزل اللّه: يا محمد مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا، و أنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا، فإنّها لفظة يتوصّل بها أعداؤكم من اليهود إلى سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبّكم و شتمكم، وَ قُولُوا انْظُرْنا، أي: قولوا سمعنا و اطعنا، لا بلفظة راعنا، و اسمعوا ما قال لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قولا و أطيعوه، و للكافرين- يعني اليهود الشاتمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله- عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم، و في الآخرة بالخلود في النّار.
أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ اليهود كانت تستعمل النفاق و بالإهانة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكشف اللّه خبث سرائرهم بما تفطّن به معاذ فهدّدهم، و لعلّ الرواية من باب ذكر أحد الموارد أو التطبيق.
و في الدلائل للبيهقي: عن ابن عباس قال: «كان رفاعة بن زيد التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوى لسانه و قال: ارعنا سمعك يا محمد حتّى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه، فأنزل اللّه فيه الآيات الكريمة».
أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، فلا تنافي بينها و بين ما تقدّم.
و في الدلائل للبيهقي- أيضا-: عن ابن عباس قال: «كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رؤساء من أحبار يهود، منهم كعب بن أسد و عبد اللّه بن صوريا، فقال لهم: يا معشر اليهود، اتقوا اللّه و أسلموا، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّ الذي جئتكم به الحقّ، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، فأنزل اللّه فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا.
أقول: الرواية من باب ذكر أحد الموارد، و إنّ إنكارهم لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان عن خبث سرائرهم و لجاجهم، فكشف اللّه تعالى ما حوت به قلوبهم من الصفات الذميمة.
و هناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الكريمة نزلت في حقّ علي عليه السّلام، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا في علي نورا مبينا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ، و لكنّها من باب التطبيق و التفسير.

لا شكّ أنّ الجزاء المترتّب على الأعمال- قبيحة كانت أو صالحة أو الملكات النفسانيّة التي لها أثر في الخارج، أو ما لا تكون كذلك إلا أنّها قابلة للزوال و لم يعالجها آنها، فرسخت في النفس بالاختيار- لا بد و أن يكون مطابقا لها و يناسبها، و يدلّ على ذلك كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات، أو حسب الأزمنة المعيّنة أو حسب الصفات النفسيّة، بلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ و الاخرويّ، و أما مسألة الخلود في النّار، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة، و يأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و الطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة، فإنّ المسخ قلب الشي‏ء أو تبديله إلى أسوء منه، و هو تارة: في العين، أي: مسخ الخلق، كما يمسخ اللّه الإنسان المتمرّد المنهمك في المعصية إلى القرد.
و اخرى: مسخ الخلق، و هو يحصل في كلّ زمان و مكان، و ذلك أن يصير الإنسان- نستجير باللّه- متخلّفا بخلق ذميمة فاسدة من أخلاق بعض الحيوانات، نحو أن يصير في شدّة الحرص كالكلب، و في الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خلق ذميمة و صفات سيئة.
بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة و الوجه، بمحو محاسنها و زوال تخطيطها من العين و الأنف و الحاجب، و جعل الوجه على هيئة الأدبار، و في المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحقّ و متابعته بعد إقامة الحجّة عليهم، فقد طمس اللّه تعالى على وجوههم و غيّرهم عن تلك الخلقة الأصليّة، جزاء لأعمالهم الفاسدة و لإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم و نفوسهم، و سيأتي في الآيات الآتية ما يرتبط بالبحث إن شاء اللّه تعالى.
ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم- أو على فرد- لا يمكن رفعهما؛ و ذلك لا لأجل القصور في القدرة، فإنّه تعالى قادر على كلّ شي‏ء و إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، بل لأنّهما من مظاهر غضبه و الطرد من رحمته و ساحته، و من حلّ به غضبه فقد هوى، فالموضوع غير قابل، و لا يكون لائقا للعود إلى رحمته.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"