1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 26 الى 28

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (۲٦) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (۲۷) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (۲۸)


الآيات المباركة من جلائل الآيات القرآنيّة التي تبيّن وجوها من الحكم في تشريع الأحكام الإلهيّة، لا سيما تلك الأحكام التي شرّعت في النكاح، و تبيّن أنّها من نعم اللّه تعالى على عباده المؤمنين، التي تهديهم إلى الصلاح و الرشاد و تجلب لهم السعادة في الدنيا و الآخرة، و أنّ اتباعها يوجب التخفيف على الإنسان الذي هو في صراع مرير بين النفس الأمّارة و القوى الشريرة التي تريد الهلاك و الشقاء، و بين القوى الخيّرة التي تريد له الخير و السعادة، و اللّه تعالى بتشريعه الأحكام لا يريد إلا الخير و الصلاح و الرقي للمجتمع الإنساني.

قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ.
جملة استئنافيّة لبيان الغاية في تشريع ما سبق من الأحكام الإلهيّة و وجوه الحكمة فيه. و الإرادة: معروفة، و هي من صفات اللّه تعالى العليا الفعليّة، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صحّ إثبات نقيضها له عزّ و جلّ أو أمكن نفيها عنه تعالى، فهي من النوع الثاني، و إلا كان من النوع الأوّل، فمن صفات الفعل الإرادة، فإنها أطلقت و نقيضها عليه عزّ و جلّ، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، و كذا الحبّ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: ٤]، و قال عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة، الآية: 190] إلى غير ذلك من الصفات.
و من صفات الذات الحياة و العلم و القدرة، و غير ذلك، فإنّه لا يصحّ إطلاق نقيضها عليه عزّ و جلّ، و قد تقدّم التفصيل في آية الكرسي من سورة البقرة فراجع.
كما أنّ الإرادة من أسباب الفعل، و هي المشيئة، و الإرادة، و القدر و القضاء، و سيأتي البحث عنها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
و المعروف بين المفسّرين أنّ اللام في لِيُبَيِّنَ زائدة، و الأصل (يبيّن)، و إنّما أورد في المقام ليجعل المصدر مفعولا.
و قد ذكرنا مرارا في هذا التفسير أنّ دعوى الزيادة في القرآن الكريم باطلة، و أنّه لا شي‏ء فيه بزائد، و إنّ لكلّ حرف و كلمة معنى خاصّ، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.
و إنّما حذف مفعول (يبيّن) ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب و تستخرجه العقول السليمة و ذوي الفطرة المستقيمة، أي: يبيّن لكم امور دينكم و ما يصلح شأنكم و يحقق سعادتكم و فوزكم.
و قد ذكر بعض المفسّرين بعض الحكم في تشريع الأحكام المتقدّمة، و لكنّه من مجرّد آراء خاصّة، لم تثبت بدليل شرعي و لا بدليل عقلي مقبول.
قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
السنن جمع سنّة، و هي المنهاج و الطريقة المتبعة عملا، و المراد من قبلكم هم الأنبياء و الصالحين من عباد اللّه تعالى، و الجملة عطف على لِيُبَيِّنَ.
يعني: يريد اللّه أن يبيّن لكم ما هو سبب لسعادتكم و صلاحكم في الدنيا و الآخرة، و أن يهديكم سنن الماضين.
و المراد من السنن هي الشرائع التي شرّعها اللّه عزّ و جلّ لصالح الأمم الماضين، و قد جعلوها سنّة متّبعة لا يحيدون عنها.
و الدواعي لمعرفة سنن الماضين التي شرّعها اللّه تعالى كثيرة، و المصالح لاتباعها متعدّدة؛ لأنّ دين اللّه واحد موافق للفطرة المستقيمة و لا اختلاف فيه؛ و لأنّ متابعة نهج السلف الصالح ما تدعو إليه فطرة العقول، و للاستفادة من تجارب الماضين الذين لم يقصدوا إلا ابتغاء مرضاة اللّه، ففازوا بسعادة الدارين، فاقتضت المصلحة أن يسنّ عزّ و جلّ لكم شريعة تكون لكم منهاجا.
و قال بعض المفسّرين: المراد من الآية الشريفة الهداية إلى سنن جميع السابقين، سواء كانت سنّة باطلة أم على حقّ؛ لتكونوا على بصيرة منها فتعملوا بما هو الحقّ منها، و تعرضوا عن الباطل منها، و على هذا تكون الجملة: سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قد تنازع فيها الفعلين «يبين» و «يهديكم»، و هذا لا بأس به.
و أورد عليه: بأنّ الهداية في المصطلح القرآنيّ إنّما تستعمل في الإيصال إلى الحقّ، أو إرادة الحقّ، فتكون هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه، و هو بيان سنن الأنبياء و الصالحين التي شرّعها اللّه تعالى، و كانت سبب سعادتهم، و أمّا السنن الباطلة فلا معنى لدعوة اللّه تعالى إلى معرفتها.
و يمكن أن يجاب عن ذلك: أنّ معرفة السنن الباطلة إنّما هي داعية لتركها، فتكون من الهداية إلى الحق؛ لأنّ ترك الباطل حقّ كما أنّ فعل الحقّ حقّ، بخلاف تركه.
و الآية المباركة توطئة للأخبار عن أنّ من يتّبع الشهوات يريد أن يضلّ المؤمنين بإحياء السنن الباطلة، و لبيان أنّ إرادة اللّه غالبة على إرادة المبطلين؛ و لإرشاد المؤمنين إلى مكائدهم، فإنّهم قد يظهرون عملا على اعتبار أنّه من هدى الماضين، و هو على خلاف الواقع.
قوله تعالى: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
التوبة: هي الرجوع، فمن اللّه تعالى الرجوع بالمغفرة و الرحمة، و من العبد الرجوع عن الذنب و الندم مع العزم على عدم العود. أي: أنّ اللّه تعالى يتوب‏ عليكم بغفران ذنوبكم و ما صدر منكم من السيئات، قولا و عملا إذا رجعتم إليه بترك ذلك.
و يمكن أن يراد بالتوبة في المقام المعنى العامّ، و هي الرجوع على العباد بالنعمة و الرحمة في تشريعه للأحكام التي يكون العمل بها موجبا لغفران ذنوبهم.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: و اللّه عليم بما أنتم عليه من خطرات قلوبكم و أعمال جوارحكم، و ما يترتّب عليها من المصالح و المفاسد.
و حكيم بمصالحكم و جميع مجعولاته التكوينيّة و التشريعيّة، فيشرّع لكم ما يهديكم و يكون سبب سعادتكم.
ثم إنّ إرادته تعالى في قوله جلّ شأنه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هي الإرادة التكوينيّة الأزليّة، التي لها دخل في التكوين و نظامه، و الهداية التكوينيّة لمعرفة الحسن و القبح بإفاضة العقل إليهم.
و في قوله تعالى: سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، التسلية للمؤمنين ممّا لا قوه من المشركين من المتاعب، و لبيان أنّ ما كانوا فيه من البأساء و الضراء، لقصور عقولهم عن درك مصالحهم و مفاسدهم و تماديهم في ذلك.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
تأكيد لما سبق و بيان بأن الصلاح و اتباع شريعة الحقّ إنّما يكونان بلطفه و عنايته عزّ و جلّ بالمؤمنين، فكانت هذه التوبة لأجل هدايتهم إلى العمل بالشريعة، و التوبة الاولى لأجل ما صدر عنهم من سيئات الأعمال، و هذه الإرادة التشريعيّة التي هي أيضا جزء من نظام التكوين، بل يعتبر من أهمّ أجزائه و الإرادة الاولى هي الإرادة التكوينيّة كما عرفت، فجعل تبارك و تعالى نفس الإسلام توبة لما صدر منهم قبله، كما في‏
قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله»، كما تشمل ما بعد الإسلام أيضا، فيستعدّ المؤمن لتلقّي المعارف و قبول الهداية الربانيّة للعمل بالشريعة، فالإرادتان مختلفتان في المتعلّق، و إن كان لهما الدخل في النظام الربوبيّ.
و إرادته عزّ و جلّ الذاتية منزّهة عن الزمان و الزمانيّات، و إنّما هي أفعاله المقدّسة في الممكنات.
قوله تعالى: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.
اتباع الشهوات هو الرضوخ إلى دواعي الشهوة و عدم الاعتناء إلى ما يحكم به العقل، و الاسترسال في الانقياد إلى الشهوات و اتباع الهوى و التورّط في قبائح الأعمال و رذائل الأخلاق و الموبقات و سفاسف الأمور، و هذا هو الميل العظيم المستلزم لهتك الحدود الإلهيّة و الشريعة المقدّسة و ارتكاب المحارم، بل استباحتها، و يترتّب عليه الخروج عن صراط الفطرة التي تدعو إليها جميع الشرائع الإلهيّة و العقل القويم، فالشريعة الحقّة و الحدود الإلهيّة إنّما هي لكبح جماع الشهوة و الاستجابة إلى دواعي الفطرة المستقيمة، و جعل الإنسان في الصراط المستقيم.
و لكن الذين اتبعوا الشهوات و استجابوا لدواعي الباطل و الفساد، يريدون أن يكون المؤمنون أمثالهم في الغواية و الضلال و ترك جادة الصواب، رغبة منهم في الغي و تكثيرا لأمثالهم من الفساق و المبطلين، فلا يكون من ينكر عليهم أو لتقليل النكير عليهم، و عنادا للحقّ.
و الآية المباركة تبيّن الصراع المرير بين الحقّ و الباطل بكلّ مظاهره و يميّز الحقّ عن غيره، و يدعو إلى الحقّ حتّى يصلوا إلى أرقى مراتب الكمال، و يتفوّقوا على غيرهم ممّن يتبع السبل الباطلة و الأهواء المضلّة.
و المستفاد من كلمة (الميل) أنّ هناك صراطا مستقيما، و هو الذي يدعو إليه العقل و شريعة الحقّ و سبلا باطلة تحفّها الشهوات و الأهواء المضلّة القبيحة، و اتباع الشهوات يوجب الميل عن الأوّل و الدخول في سبل الباطل و الغواية، و بالأحرى هو الميل من الرشد إلى الغي و الضلالة، و هو عب‏ء ثقيل و حامله في تعب دائم، بخلاف شريعة الحقّ التي بنيت على السماحة و التسهيل، و قد جمعت بين الفضيلة و التهذيب و النظم المبني على الحكمة؛ و لذا يكون العمل بها موجبا للتخفيف من أوزار اتباع الشهوات و ثقل الذنوب و المعاصي.
و هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تشتمل على حكمة التشريع، و تدعو إلى تهذيب النفس الأمّارة و التربية، للتحلّي بالفضائل و مكارم الأخلاق.
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ.
ترتّب هذه الآية الكريمة على السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ اتباع الشهوات يوجب ثقلا كبيرا و قيودا باهظة، و شريعة الحقّ ترفع تلك الأوزار، فتعلّقت الإرادة الأزليّة لطفا بعباده و رحمة بهم أن يخفف عن العباد أوزارهم، بارجاعهم إلى الفطرة و داعية العقل و ترك ما يكون سببا في تعبهم و مشقّتهم.
و هذه الآية المباركة تبيّن وجه الحكمة في تشريع الأحكام كلّها، فإنّها موجبة لتخفيف الأوزار التي يتحمّلها الإنسان لأجل ارتكابه الآثام التي هي مراد من يتبع الشهوات، فقد خفّف عزّ و جلّ عن هذه الامة بما لم يخفف عن غيرها من الأمم، قال جلّ شأنه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، و قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78]، فشرّع لهم في النكاح و تكوين الاسرة و تهذيب النسل ما لم يشرّع في سائر الأديان، فحرّم ما يؤتى منه الفساد، مثل البغي و الزنا و نكاح المحارم، و أحلّ ما يجلب الصلاح، و سنّ ما يوجب تهذيب الشهوة العارمة و كبح جماحها، و لم يدع مجالا و جانبا إلا و بيّن الحكم فيه، فحلّل نكاح الإماء في حالة الاضطرار الذي يعتبر أيضا ممّا خفّفه اللّه تعالى عن المؤمنين، فكأنّ هذا الحكم مثل سائر الأحكام الإلهيّة في المقام، التي اجتمعت فيها غايات متعدّدة، مثل التربية و التهذيب.
فالقول بأنّ نكاح الإماء عند الضرورة لم يكن تخفيفا، لأنّه كان معمولا قبل الإسلام على كراهة و ذمّ، و الإسلام حلّل ذلك لنفي الكراهة و النفرة، ببيان أنّ الأمة كالحرّة إنسان لا تفاوت بينهما.
مردود بأنّ ذلك لا يوجب رفع التخفيف عن هذا الحكم التربوي التهذيبي، فإنّه لو لم يكن للإنسان الطول في نكاح الحرائر، و خاف الوقوع في المشقّة، فأي حالة لو حرّم الشارع نكاح الإماء، فالتحليل كان تخفيفا عليه بأوسع ما بين السماء و الأرض، و لا ضير في أن يجتمع فيه عنوان التربية، فيتربّى على تهذيب النفس و اعتبار جميع أفراد الإنسان على حدّ سواء و ذو لياقة للمصاحبة و المعاشرة.
قوله تعالى: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
بيان لحقيقة من الحقائق التكوينيّة؛ لأنّ الإنسان بفقر إمكانه محتاج إلى من يفيض عليه ما يوجب سعادته، و قد خلقه اللّه تعالى مركبا من قوى متخالفة، تشوّقه إلى المشتهيات و تبعثه إلى ارتكابها، فمنّ اللّه تعالى عليه أن شرّع له أحكاما لتهذيب تلك القوى، و جعل زمامها بإرادة حكيمة تهديه إلى السعادة.
هذا إذا كان المراد بالإنسان ما هو المتعارف بين عامّة الناس، و هذا أمر وجداني لهم؛ لأنّه محاط بحوادث تؤرّقه و تسلب راحته، و كيف لا يكون ضعيفا مع أن الذباب يؤذيه، و البعوض يدميه، و الحرارة تضعفه، و البرودة تسلب قواه و لا يمكن تحصيل مقاصده إلا بصعوبة و مشقّة كبيرتين، و في طريق الوصول إلى مراده من العقبات.
و أمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك و غاية حركات الأفلاك، و ما خلقت الدنيا و الآخرة إلا لأجلها، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال و الجمال المطلقين عليه، و قد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏ صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٤۳]، و من فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه، و قد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه السّلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين، و ما قاله عليه السّلام لكميل.
و أمّا قوله (تعالى): خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [سورة الأنبياء، الآية: 37]، و قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [سورة المعارج، الآية: 19]، فسيأتي تفسيرهما في موضعهما إن شاء اللّه تعالى.

اختلف الأدباء في إعراب قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، فقيل: إنّ مفعول يُرِيدُ محذوف، أي: يريد اللّه تشريع ما تقدّم ذكره لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، فتكون اللام للتعليل و العاقبة.
و بناء على هذا، يكون متعلّق الإرادة غير متعلّق التبيين، حذرا من تعدّي الفعل من مفعوله المتأخّر عنه باللام الذي هو ممتنع، و لكن قال بعضهم: إنّه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف.
و قيل: إنّ الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل في: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فيكون المؤول مبتدأ و الجار و المجرور خبره، أي:
أراده اللّه ليبيّن لكم. و لا يخفى تكلّف هذا الوجه.
و قيل: مفعول يُرِيدُ هو لِيُبَيِّنَ، و ذهب بعضهم إلى أنّ اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن، و هي و ما بعدها مفعول للفعل المتقدّم، و نظير ذلك وقوعها بعد (أمر) كقوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الانعام، الآية: 71].
و لكن منعه آخرون؛ لأنّ وظيفة اللام الجرّ و النصب بأنّ مضمرة بعدها و وقوع (ل) و (أن) المصدريتين بعدها، فلا يمكن أن تكون ناصبة.
و قال آخرون: إن اللام زائدة جي‏ء بها مؤكّدة لإرادة (التبين)، كما زيدت في: لا أبا لك، لتأكيد إضافة الأب، و ليجعل المصدر مفعولا، فتكون اللام زائدة.
و لكن، يرد عليه أنّ دعوى الزيادة باطلة، كما ذكرنا مرارا، يضاف إلى ذلك أنّهم لم يقولوا بالزيادة في نظائر هذا التركيب، كقوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [سورة المائدة، الآية: ٦].
و الصحيح أن يقال: إنّ اللام للتعليل، و مفعول يُرِيدُ محذوف كما عرفت في التفسير، و مفعول (يبيّن) غير مفعول (يهديكم)، و حذف مفعول الأوّل لتفخيمه و تعظيم أمره.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل: إنّما عقّب سبحانه و تعالى الآيات التي تضمنّت تشريع الأحكام في أهمّ موضوع في الإسلام، و هو النكاح و تكوين الاسرة، و تهذيب النسل بالإرادة، و كرّرها عزّ و جلّ لتثبيت تلك الأحكام؛ و للدلالة على أنّها مرادة بالإرادة الأزليّة التي تعلّقت بتكميل النفوس المستعدّة و تهذيبها و إرشادها إلى ما يسعدها في حياتها الدنيويّة و الاخرويّة، فلا يمكن الإغماض عنها و التعدّي عمّا حدّدته تلك الإرادة المتعالية.
الثاني: يستفاد من سياق قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
– حيث ورد في مقام الامتنان و الرحمة- أنّ هذه السنن هي تلك السنن المطابقة للفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، و التي تكون مطابقة للملّة الإبراهيميّة التي أمر الأنبياء باتباعها، لا سيما سيدهم نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فلا بد أن تكون تلك السنن مطابقة للعقل و الفطرة و الملّة الحنيفيّة.
و من ذلك يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة، لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصياتها، فلا يرد عليه أنّ أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها، كازدواج الإخوة و الأخوات في سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين في سنّة يعقوب عليه السّلام.
فإنّ سننهم هي المطابقة للفطرة، و لا نسخ في هذه بشي‏ء منها، فإنّ هذه الآيات عقيب تلك الأحكام يدلّ على أنّها من سنن الذين من قبلكم التي هدانا اللّه تعالى إليها، فازدواج الإخوة بالأخوات محرّم في جميع السنن، في سنّة آدم عليه السّلام و سنّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و كذا الازدواج بالبنات و العمّات و الخالات و بنات الأخ، و الاخت.
و يمكن أن تجعل هذه الآية المباركة من الأدلّة على بطلان القول بالازدواج بين الإخوة و الأخوات: لأنّه من غير السنّة التي هدانا اللّه تعالى إليها. و يشهد له ذيل الآية الشريفة: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، الدالّ على توبة اللّه تعالى على عباده الذين طمسوا نور الفطرة بارتكاب الذنوب و الآثام، فمنّ اللّه تعالى عليهم أن أرشدهم إليها و هداهم إلى سنن الأنبياء الصالحين من قبلهم.
و يدلّ عليه تذييله بقوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أي: عليم بتلك السنن التي طمستها يد التحريف. و ميّز سبحانه و تعالى بين السنّة الصحيحة و الباطلة، فأمرنا باتباع الاولى و ترك الثانية، فهو حكيم في أفعاله يضع الأمور في مواضعها.
و بالجملة: هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّ ما سنّه اللّه تعالى في خصوص النكاح أو الأعمّ، هي من سنن الصالحين الذين من قبلكم فنسبة الجمع بين الأختين و الازدواج بين الإخوة و الأخوات، و غير ذلك ممّا هي محرّمة في سنّة الإسلام هي مخالفة لسنن الماضين، إذ لا فرق بين السنتين إلا ما تناولته يد التحريف و التبديل.
الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً، على أنّ إرادة اللّه تعالى تعلّقت بالإرجاع إلى الفطرة المستقيمة، و في ذلك تأكيد لما سبق، و لبيان أنّ ما هو الموجود في عصر نزول القرآن غير سنن الماضين، وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ، الرجوع عن الفطرة و اتباع الشهوات التي توجب البعد عن الصراط المستقيم و سنن الأنبياء الصالحين، و هو الميل العظيم.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً، أنّ اتباع الشهوات يوجب البعد عن الصراط المستقيم و الاستهانة بالحدود الإلهيّة و الإعراض عن الحقّ.
و تبيّن الآية المباركة أنّ همّ المتبعين للشهوات الأكبر هو صدّ المؤمنين عن متابعة الحقّ، و هذا مظهر آخر من مظاهر غوايتهم و ميلهم عن الحقّ.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً، على تمام النعمة الإلهيّة على هذه الامة، فإنّ الضعف الذي هو المقتضي للتخفيف، و إن كان موجودا في غير هذه الامة، لكن لوجود المانع فيهم و هو الكفر، و اتباع الشهوات و الاستهانة بحدود اللّه تعالى، أوجب ذلك سلب هذه النعمة عنهم، و لكن هذه الامة المرحومة، قد أتمّ اللّه تعالى عليهم هذه النعمة، فلم يجعل لهم في دينهم أي حرج و مشقّة و وضع عنهم أسباب الضيق.
السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً على أنّ الإنسان ضعيف من جهات شتى، فلا بد أن يتدارك ضعفه بفيض إلهي و مدد ربوبيّ في تقوية العزائم الضعيفة في الخروج عن سلطان الشهوات العارمة، و الإعراض عن‏ العادات السيئة التي أفسدت الاجتماع الإنساني و جلبت الدمار و الاستهتار الأخلاقي و أوقعته في الجهد الشديد و المشقّة الكبيرة، فالآية الكريمة بمنزلة العلّة في احتياج الإنسان إلى من يرشده إلى الصراط المستقيم المحفوف بالشريعة الحقّة و العقل الحكيم.

أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس أنّه قال: «ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الامة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، و عدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ- إلى قوله تعالى- وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. و الرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، و الخامسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً، و الآية السادسة: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً، و الآية السابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً، و الآية الثامنة: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
أقول: مضمون الرواية موافق لروايات أخرى وردت في مواضع متفرّقة، و هي مرويّة في كتبنا أيضا.

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة و الحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط و ثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم، و قد شغلت قسطا وافرا من الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة و غيرهما، فإنّ بحث الجبر و الاختيار في‏ الإنسان يرتبط بالإرادة، كما يرتبط بالإرادة الإلهيّة مباحث حدوث العالم و قدمه و اختياره تبارك و تعالى و غير ذلك، و نحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، و ما يتعلّق بإرادة الإنسان، و إرادته جلّت عظمته، و بيان حقيقتها، و أقسامها، و أسباب فعله عزّ و جلّ، و الفرق بين المشيئة و الإرادة، و ارتباطها بعلمه عزّ و جلّ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.
تعريف الإرادة:
الإرادة: من الأمور الوجدانيّة لكلّ ذي ادراك و شعور- إنسانا كان أو حيوانا- حتّى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنّه جسم نام متحرّك بالإرادة، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، و لا يبعد ذلك على نحو الجملة و الإجمال كما ستعرف.
و كيف كان، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم من فسّرها بالقصد، و استدلّ بالتبادر.
و منهم من فسّرها بالطلب.
و أشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.
و منهم من فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.
و قال بعض المحدّثين: إنّها تصميم واع على أداء فعل معين، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، و الإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.
و قال بعضهم: إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.
و الحقّ أنّ هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإنّ الإرادة غير الميل، بل هو من مقدّماتها، و التصميم إرادة مؤكّدة، و لكن ممّا يسهل الخطب أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، و لأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة، فإنّه قد يختلط بينها و بين المقدّمات التي هي الإدراك و توجّه النفس و العزم، أي: التصميم، و تصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام و الشهوة التناسليّة، و هي تدفع الحيوان و الإنسان إلى الفعل، و لكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلا كالإنسان.
إرادة الإنسان:
لا شكّ أنّ المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام:
الأوّل: تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة و الشهوة كالحيوانات الدنية- كالديدان و الهوام و النباتات- فإنّ هذه تفعل و تسعى إلى الفعل لأجل الحاجة، لا الرغبة و الشهوة، فإنّ تغلغل جذور النبات و تفرّع فروعها في الهواء و اتجاه أوراقها إلى الشمس و نمو أصلها، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظير صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفّس و النبض و التثاؤب و النوم و نحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة و الطبيعة دون الإرادة.
نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات و النباتات تصدر الأفعال عن رغبة و شهوة ملحّة، و لعلّ من قال من الفلاسفة: إنّ بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، و إلا ليس كلّ حيوان فضلا عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.
الثاني: المخلوقات التي لها الاحساس و الشهوة- كالحيوانات- فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة و الشهوة المجرّدة عن الرغبة و إرشاد العقل و التعقّل، فهي أيضا لا تكون ذات إرادة إلا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات، فتكون الحيوانات حينئذ كلّها ذوات إرادة.
الثالث: المخلوقات التي لها الإحساس و الشهوة و الرغبة و الإدراك كالإنسان، فإنّه يفعل فعله بحثّ من الشهوة و الرغبة و إرشاد من الإدراك، فهو يفعل و يفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فإنّه يسعى حين تلحّ عليه الحاجة و متى زالت هدأ و سكن، و لا يدرك تلك الحاجة.
و أمّا الإنسان، فهو يفهم و يرغب في السعي و لو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.
و لكن يمكن أن يقال: إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدّماتها. و من نفى عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء و الكلمات.
الرابع: المخلوقات التي لها التعقّل و الإدراك الكامل، فإنّها تفعل عن تعقّل كامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة، فإنّ فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.
و من ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة، فهو الحيوان الحسّاس المتحرّك بالإرادة، و لكنّه قد يغفل عن الإرادة، فلا يلتفت إليها حين توجّه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.
و إرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة اللّه تعالى القهّارة، و لا استقلال لها بوجه من الوجوه، ففي بعض القدسيات: «يا ابن آدم تريد و أريد، و أتعبك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد»، و عن سيد العارفين عليّ عليه السّلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم»، و هذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأنّ مورده نفي الإرادة، و المقام من تخلّف المراد عن الإرادة.
حقيقة الإرادة:
عرفنا أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي يعرفها كلّ فاعل مختار، و من له إدراك و شعور، و لها مقدّمات، و تسمّى مقدّمات الفعل أيضا، و هي: الإدراك، و توجّه النفس، و العزم، و تصوّر الغاية، و القدر و القضاء، و الإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.
و في الفلسفة الحديثة: أنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات و الظروف الخارجيّة، و لكن للفطنة و الحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلّغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.
و هذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، و هي اتحاد الطلب و الإرادة، و سيأتي موجز الكلام فيها.
فالإرادة: جهد نفسي و عملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود و رباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة: إنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. و قد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة و التجربة و التربية.
و بعبارة اخرى: أنّ الإرادة الإنسانيّة ليست غير ما تمليه قوانين الطبيعة و المجتمع، و هذه طريقتهم في تفسيرهم لكلّ الأمور في هذا العالم.
و ما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة و السلوك، و لكن لا يمكن إنكار تأثّر الإرادة الإنسانيّة بما يحيط بها من البيئة و المجتمع.
و الإرادة هي الدافع الرئيسي و العامل النفساني الأوّل في الفعل الإنساني و ما يصاحبه من الانفعالات. و في الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء، و هي محور الأخلاق و السلوك، و سيأتي في بحث إرادة اللّه تعالى أنّ نظام الكون يتقوّم بإرادته عزّ و جلّ، و حينئذ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عزّ و جلّ، أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام و صدور الأفعال.
و لا بد لكل إرادة من متعلّق و هو المراد، و بها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، و تختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلّقات، فلا يمكن حصر أقسامها.
و لكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، التي هي اصول كلّ إرادة، و هي: إرادة الحياة، و هي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة، و بها يحقّق كلّ كائن نموذج نوعه، و هي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور و الرأي.
إرادة القوة: و هي الصراع لأجل الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.
إرادة الخير: و هي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد لفعل الخير، و هذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخيّر عن غيره.
إرادة الاعتقاد: و هي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، و التسليم بمعتقدات و اختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة.
هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.
و لكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإنّ بعضا منه- كالقسم الأوّل- يرجع إلى الغريزة و الفطرة، و الإرادة بمعزل عنها. و البعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذكر كلّ ما يتعلّق به الإرادة. و ممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم، و لا ضير في ذلك.
نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف و قد تشتدّ حتّى تصل إلى حدّ التصميم و العزيمة، و قد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور، و هي التي لا بد فيها من إرادة قويّة و حزم و جزم، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۱٥۹]، و قال تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة آل عمران، الآية: ۱۸٦].
إرادة اللّه تعالى:
لا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له عزّ و جلّ، و قد دلّت الأدلّة الأربعة عليه، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها، و منها قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، و منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [سورة الحج، الآية: ۱٤]، و منها قوله تعالى: إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل، الآية: ٤۰]، و غير ذلك ممّا هو كثير.
و أمّا السنّة فسيأتي نقل بعضها.
و أمّا الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل و النحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزّ و جلّ.
و من العقل حكمه البتّي بأنّ اللّه تعالى عالم حكيم في أفعاله، و هما يقتضيان الفاعليّة بالإرادة و الاختيار، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب، و كلّ من كان كذلك لا بد و أن تكون له إرادة؛ و لذا نرى وجود بعض الممكنات، و حدوثها في وقت دون آخر، بل نرى آثار إرادته في جميع الممكنات، و هذا الدليل يتمّ أيضا حتّى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد و الإحداث، لأنّ العلم و الحكمة من مقتضيات الفاعليّة على وجه الاختيار، و هي الإرادة.
فما ذكره بعض العلماء من أنّ إثبات الإرادة للّه عزّ و جلّ من جهة النقل دون العقل.
مردود، كما عرفت.
و أمّا السنّة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين- إرادة الخالق تعالى و إرادة المخلوق- و نحن نورد جملة منها، و نذكر ما يستفاد منها.
ففي الكافي: عن صفوان قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ قال عليه السّلام: الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي، و لا يهم، و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل‏ لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».
أقول: ليس عليه السّلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتّى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة، و إنّما هو عليه السّلام في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر و الروية في المبدأ و في الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب، و قوله عليه السّلام: «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضا، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، و
قوله عليه السّلام: «فإرادته إحداثه»، أي: أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل، و هي ما قلناه في إرادة المخلوق، و لكن التفرقة في المقدّمات. و يظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة و العلم بالنسبة إلى المراد.
و منها:
صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: «قال الرضا عليه السّلام: المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد».
أقول: هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة و المشيئة هي الفعل، و إنّما يفرّق بينهما بالجزئيّة و الكلّيّة، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات و المشيئة تتعلّق بالكلّيات.
و أمّا قوله عليه السّلام: «فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد»، فلأنّه لو كانت المشيئة و الإرادة في مرتبة الذات و هما يقتضيان المراد- لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد- فحينئذ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء فينتفي التوحيد مع أنّهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كلّ عصر و زمان، فيلزم التجدّد في الذات و التغيّر و الحدوث فيها، و كلّها باطل بالضرورة.
و منها:
صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السّلام قال: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».
أقول: ذكرنا أنّ المشيئة و الإرادة حقيقة واحدة، و إنّما تختلفان بالكليّة و الجزئيّة، و الحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة، و ليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجودا جوهريّا خارجيّا، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.
و منها:
رواية أبي سعيد القمّاط عنه عليه السّلام أيضا: «خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».
أقول: المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعيّة لا الزمانيّة، و هكذا في «ثمّ».
و منها:
رواية بكير بن أعين قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: علم اللّه و مشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال عليه السّلام: العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى إنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول: سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، و علم اللّه السابق المشيئة».
أقول: الحديث يدلّ على أنّ المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة، كما هو الأمر في علمنا و مشيئتنا.
و منها:
صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: «المشيئة محدثة».
أقول: لأنّ كلّ ما كان منبعثا عن مرتبة الذات محدث لا محالة، و المراد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، و إن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.
و منها:
صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «قلت: لم يزل اللّه مريدا؟ قال عليه السّلام: إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد».
أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك و تعالى بمقدّماتها، و بيّن أيضا أنّ من مقدّمات الإرادة العلم و القدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة و لم يبيّن عليه السّلام أنّها الفعل، لأنّه عليه السّلام ليس في مقام بيان ذلك.
و منها:
حديث الاهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال في جواب الطبيب: «إنّ الإرادة من العباد الضمير و ما يبدو بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ، فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول: كن فيكون، بلا تعب و كيف».
أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام.
و منها:
رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا عليه السّلام مع أهل الملل و النحل، قال عليه السّلام: «مشيئته و اسمه و صفته، و ما أشبه ذلك، كلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر- إلى أن قال عليه السّلام-: و اعلم أنّ الإبداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة».
أقول: الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا من أنّه لا فرق بين المشيئة و الإرادة، و إنّما جعل عليه السّلام الإبداع هي الإرادة و المشيئة؛ لأنّها عبارة عن الفعل و الإحداث، فتكون محدثة. و لكن الفلاسفة فرّقوا بين الإبداع و الخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، و الخلق أعمّ من ذلك، و هذا لا يرتبط بالمقام.
و منها:
رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كان (عزّ و جلّ) و لا متكلّم، و لا مريد، و لا متحرّك، و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا، فجيمع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».
أقول: الحديث يدلّ على أنّ الإرادة هي الفعل، و هي حادثة، و أنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.
و منها:
صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «قلت: فما معنى شاء؟ قال عليه السّلام: ابتدا الفعل، قلت: فما معنى أراد؟ قال عليه السّلام: الثبوت عليه».
أقول: الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة و الإرادة هو الفرق بين التقدير و الإيجاد، و يمكن ارجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكليّة و الجزئيّة؛ لأنّ الكلي مقدّم على الجزئي بالإضافة، و يفسّره الحديث الآتي.
و منها:
صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «أ تدري ما المشيئة؟ فقال: لا، فقال: همّه بالشي‏ء أو تدري ما أراد؟ قال: إتمامه على المشيئة».
أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة اللّه عزّ و جلّ و إرادته تعالى، بل إنّما هو في مقام بيان طبيعة المشيئة و الإرادة بالنسبة إلى الخلق، و إلا فليس له تعالى «همّ» و لا رويّة، كما تقدّم في الحديث، و يمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ» الكليّة، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى و إرادته عزّ و جلّ.
هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ، و الذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتيّة أو أنّها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فإنّهم عليهم السّلام بيّنوا ذلك فيها. فلا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلا و نقلا، بل يعدّ ذلك من الضروريات، كما عرفت.
معنى الإرادة فيه عزّ و جلّ:
ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته، و في صفاته تعالى مطلقا، سواء كانت صفات الذات أم صفات الفعل؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عين ذاته تبارك و تعالى أيضا.
و أمّا صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته و صفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضا.
و الإرادة من الصفات التي هي من أتمّ مظاهر الجلال و الجمال و تجليات الذات قولا و فعلا، و لا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتّصافه عزّ و جلّ بها؛ للزوم كونه محلا للحوادث، و هو منزّه عنها، إلا إذا قلنا بأنّ الإرادة في الإنسان أيضا هي فعله- كما هو الحقّ- فيتّحد معنى الإرادتين حينئذ.
و لكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة اللّه تعالى، و عمدة الأقوال فيها ثلاثة:
الأوّل: أنّها ابتهاج الذات بالذات، و قد اختاره جمع من محقّقي العلماء، و قال بعض الفلاسفة:
فحيث ذاته أجلّ مدرك أتم إدراك لأبهى مدرك‏
مبتهج بذاته بنهجه أقوى و من له بشي‏ء بهجة
مبتهج بما يصير مصدره من حيث إنّه يكون أثره‏

و عن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، قال قدس سرّه في بيان هذا القول: «و من البيّن أنّ مفهوم الإرادة- كما هو مختار الأكابر من المحقّقين- هو الابتهاج و الرضا و ما يقاربها مفهوما، و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، و السرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى إنّما لمكان أننا ناقصون غير تامّين في الفاعليّة، و فاعليّتنا لكلّ شي‏ء بالقوّة، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى امور زائدة على ذواتنا، من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد، المملية جميعا للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوّة و النقصان، فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، و حيث إنّه صرف الوجود، و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج و ذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا، و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي- و هي الإرادة الذاتية- ابتهاج في مرحلة الفعل، و هي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام اللّه تعالى عليهم) بحدوثها»، و بناء على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عزّ و جلّ، و في مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة.
و أشكل عليه: بأنّ الإرادة غير الشوق و الابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية و الأفعال العادية و الجزافيّة و العبثيّة، و أمّا الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بري‏ء عنه؛ لأنّه منزّه عن الجسم و الجسمانيّات، إلا أن يراد فيه عزّ و جلّ معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.
و فيه: أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة، و لكن ابتهاجه عزّ و جلّ مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع و البصير و نحوهما، و لا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.
الثاني: أنّ إرادته عزّ و جلّ علمه بالنظام الأحسن و الأصلح.
و قد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، و على هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عين ذاته.
و قال بعض مشايخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأوّل: «و الوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير و بالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا، و هو ليس العلم بلا رضا، و إلا كانت الرطوبة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريّة، و كذلك ليس الرضا بلا علم، و إلا كانت جميع الآثار و المعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها و عللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل عن شعور و رضا، فمجرّد الملائمة و الرضا المستفادين من نظام الخير و الصلاح التامّ، لا يوجبان الاختياريّة، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختياريا منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير».
أقول: و هو توجيه حسن.
الثالث: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و به يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأنّ كلّ من تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنّها ترجع إلى شي‏ء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم و الحكمة المتعالية في إرادة اللّه عزّ و جلّ، فمن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدّها، و من نظر إلى النتيجة مجرّدة عن المقدّمات حدّها بغير ذلك، فيصحّ أن يقال: إنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمّى إيجادا و إرادة، و من حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلا.
و هذا المعنى لا يختصّ به عزّ و جلّ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضا، و ممّا يؤكّد ذلك أنّ الأئمة عليهم السّلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.
و من ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثّر التامّ لصدور الأشياء و وجودها، حتّى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة، و إن كان القول بذلك صحيحا في الجملة، بمعنى المنشئيّة و المصدريّة، كما ذكرنا.
و قد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل: من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشرّ و الظلم و الكفر و القبائح؛ لأنّه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتباريّا محضا، و لا يرجع إلى نفس العلم لتعلّقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، و هو يرجع إلى كون شي‏ء واحد مؤثّرا و متأثّرا.
و الكلّ باطل؛ لأنّ علمه تعالى إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقا يلزم ما ذكر، و لكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي، فالعليّة التامّة تتوقّف على امور كثيرة اخرى، فمن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عزّ و جلّ، و يدلّ على ذلك‏
ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «علم اللّه سابق للمشيئة»، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة و الإرادة.
و الحاصل: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و هي فعله، فتكون من صفات الأفعال، و لا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم و الحكمة.
و يمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول و إلى العلّة، كما في قولك: أحرقته النّار فمات، أو مات بالنّار، كما لا فرق بين‏ قولهم عليهم السّلام: «الطهور نور»، أو: «الوضوء نور»
و أمثال ذلك كثير، و في المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق و إرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المريد باعثة لصدور المراد و الفعل.
فمن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، و من نظر إلى أنّها لا تحصل إلا بالعلم و الحكمة جعلها منهما، و من نظر إلى توسّط الإرادة بين العلم و المراد، جعلها ابتهاجا و شوقا، فيرجع الجميع إلى شي‏ء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.
و لعلّ من قال من الفلاسفة الأقدمين: إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل.
فإن كان نظره إلى ذلك، و هذا هو المرتكز في النفوس، فإنّ الإنسان لا يرى حين ارادته شيئا إلا المراد فقط، غافلا عن نفس الإرادة و مقدّماتها، و إن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ.
أقسام الإرادة:
قسّم الحكماء و الفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة و إرادة تشريعيّة، و عرّفوا الاولى بأنّها ما تعلّقت بفعل نفس المريد، و الثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته، و هما تتصوّران بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالى و إرادة الإنسان معا.
أمّا بالنسبة إلى إرادته عزّ و جلّ، فقد تقدّم، و قد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة الحجرات، الآية: 13]. فإنّها إرادة تكوينيّة. و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: 1] و هي إرادة تشريعيّة.
و أمّا في المخلوق، فمثل قولك: «ذهبت إلى المسجد»، فإنّها إرادة تكوينيّة، و قولك لولدك: «اذهب إلى المسجد»، و هي إرادة تشريعيّة، و في القرآن الكريم‏ القسمان من الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة معا، و السنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة و بيّنت خصوصياتها.
و هذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلّق، و إلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.
ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل و لم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، و إلا فهي الندب و الاستحباب، و إن كانت بالنسبة إلى الترك و لم يستظهر من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، و إلا فهي الكراهة، و بذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة، و قد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.
و إرادة اللّه التشريعيّة ليست إلا لتكميل الإنسان، فلو قلنا: بأنّ الإرادة التشريعيّة منه عزّ و جلّ غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها و أساسها، لم يكن به بأس، و عليه الشواهد الكثيرة، و يصحّ العكس أيضا لشدّة ارتباطهما، فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلّى اللّه عليه و آله: «خلقت الأشياء لأجلك، و خلقتك لأجلي»، و قال اللّه تعالى بالنسبة إلى موسى بن عمران: وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: ٤۱].
و لذا جعل بعض مشايخنا قدس سرّهم الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن، و هو متين جدا.
و قيل: إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلّقت بفعل الغير يتحقّق لا محالة، فيتحقّق الجبر، و حينئذ يكون فعله تعالى لا فعل الغير، فالإرادة التشريعيّة باطلة.
و فساده واضح؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته و اختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد و الاختيار، و أنّه فاعل مختار، و لعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين، فإنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بالفعل من دون تخلل اختيار آخر، و في التشريعيّة تتعلّق بالفعل مع اختيار آخر.
مضافا إلى ذلك أنّ إرادة اللّه التشريعيّة عين جعله التشريعي، كما أنّ إرادته المقدّسة التكوينيّة عين فعله الخارجي، فتتفق الإرادتان في عدم تخلّف المراد عن الإرادة، فإرادته التشريعيّة عين التشريع و جعل القوانين الإلهية المبتنية على المصالح الواقعيّة، و قد تحقّق فلا يمكن تخلّف المراد فيها أيضا، كإرادته التكوينيّة ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة.
فما ذهب إليه جمع من إمكان تخلّف المراد في التشريعيّة و وقوعه في الآثام و الفسوق و العصيان، يمكن الخدشة فيه بأنّ وقوع المعصية من الغير لا يرتبط بتخلّف المراد، و هو التشريع عن الإرادة التشريعيّة، فإنّه مستحيل كما عرفت، و لكن تعلّقت إرادته- عزّ و جلّ- التشريعيّة بفعل الغير مع اختياره، لتصحيح قانون الجزاء و الثواب و العقاب، فتكون الإرادة مطلقا هي الفعل، سواء كان تكوينيّا أو جعلا للقوانين التي هي لتكميل الإنسان و إيصاله إلى السعادة الدائمة.
و قد نسب ذلك إلى بعض قدماء الفلاسفة اليونانيين مثل فرفوريوس و أصحابه، الذين قالوا باتحاد العاقل و المعقول، و التفصيل يطلب من محلّه.
و من ذلك يظهر بطلان القول باختلاف الطلب و الإرادة في إيمان العباد، و أنّ تخلّف المطلوب عن الطلب ممكن و واقع، بخلاف تخلّف المراد عن الإرادة، فإنّه مستحيل كما عرفت؛ لأنّ تخلّف المراد عن الإرادة في كلتا الإرادتين مستحيل، و إرادته عزّ و جلّ للإيمان و الطاعة لا يستلزم أن لا يتحقّق كافر و لا فاسق، فإنّه تبارك و تعالى أرادهما من العبد باختياره، فيكون اختيار العبد فاصلا بين الإرادة و المراد، و قد ذكرنا ما يرتبط بهذا البحث في كتابنا (تهذيب الأصول) أيضا.

للإرادة و المراد شأن عجيب في الدلالة على المريد و ما له من الشؤون، فتدلّان عليه دلالة المعلول على العلّة التامّة، و يكشفان عنه كشف الأثر عن المؤثّر، سواء كان المراد قولا أو فعلا أو كتابة أو غيرها.
و من هذا الباب كشف جميع الآيات الكونيّة و الآيات القرآنيّة، عن وجود اللّه تعالى و صفاته العليا و أسمائه الحسنى، و هي بمجموعها تدلّ على عظمة هذا الموجود الذي تاهت العقول في معرفته، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: ٥۳].
و كذلك تكشف تأليفات المؤلّفين و شعر الشعراء، و اختراعات العلماء عن مراتب كمال من تصدّى لها، و قد ورد في الحديث: «يعرف قدر الرجل من رسوله و عبده».
و العقلاء يدركون ذلك أيضا، بل يمكن أن تصل النفس الإنسانيّة إلى مرتبة الخلاقية للمراد، فتصل إلى غاية المال و تصير محلّ خوارق العادات و صدور الكرامات، و ذلك شي‏ء يسير في مرتبة العبوديّة، التي كنهها الربوبيّة، كما في الحديث عن الصادق عليه السّلام.

ذكرنا أنّ الآيات الثلاث المتقدّمة- التي تكرّر فيها كلمة «يريد»، إنّما هو لكثرة أهمية الإرادة- من أهمّ الآيات التي اشتملت على الجوانب المادّية و المعنويّة للأحكام الشرعيّة التي شرّعها اللّه تعالى لتكميل الإنسان.
و ذكر هذه الآيات الشريفة بعد سرد جملة كثيرة من الأحكام الاجتماعيّة، و منها محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، لبيان أنّ جميع ما ذكر من‏ سنن الذين من قبلنا، و أنّ هذه الأحكام سنّة الهيّة في شرع من قبلنا، و هي غير قابلة للنسخ أصلا لما عرفت من أنّها امور فطريّة قرّرتها الشرائع السماويّة.
و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع من قبلنا من الأنبياء و المرسلين من لدن آدم عليه السّلام حتّى عصر نزول القرآن، فنكاح الام حرام في جميع الشرائع الإلهيّة و كذا نكاح الاخت و الجمع بين الأختين، بلا فرق بين شريعة آدم عليه السّلام و سنّة يعقوب و شريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها تشتمل على مصالح واقعيّة و حكم حقيقيّة، لا تختصّ بشريعة دون اخرى، و أنّ غير ذلك ممّا يريده من يتبع الشهوات، الذين يسعون في صدّ المؤمنين عن الوصول إلى الكمال و إخراجهم عن الصراط المستقيم.
و لكن هذه السنّة الإلهيّة قد تناولتها يد التحريف و زيغ المبطلين و شبهات الكاذبين المفترين، شأنها شأن الفطرة المستقيمة التي لحقتها كثير من الشبهات و التأويلات، حيث طمست نور الفطرة و بقيت هكذا، حتّى ظهرت شريعة الحقّ و بيّنت الصحيح من تلك السنن و أمرت المؤمنين باتباعها، و لكن بقي الصراع بينهم و بين من يريد اتباع الشهوات، و أمرتنا تلك الآيات الشريفة بالابتعاد عن مكائدهم و خدعهم، فإنّهم يتوسّلون بأشدّ الأشياء تأثيرا على الإنسان، و هي الشهوات، و قد منّ اللّه على المؤمنين أن وفقهم للتوبة و الرجوع عن الباطل إلى الحقّ، و لعلّ تذييل تلك الآيات الشريفة بقوله تعالى: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً إشارة إلى ما ذكرناه.
و كيف كان، فهذه الآيات المباركة ظاهرة في أن تلك الأحكام الاجتماعيّة كانت سنن الأنبياء و المرسلين، و لا تختصّ بهذه الشريعة، و لا نظر لها إلى سائر الأمور التي كانت في الشرائع الإلهيّة السابقة التي نسختها شريعة الإسلام.
فما قيل: إنّ ازدواج الإخوة بالأخوات كان سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين كان سنّة يعقوب عليه السّلام.
باطل؛ لأنّه ليس من السنن التي من قبلنا، التي هدانا اللّه تعالى إليها.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"