1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 2 الى 6

وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (۲) وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى‏ أَلاَّ تَعُولُوا (۳) وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) 


الآيات المباركة من جلائل الآيات التي تتعلق بالقواعد النظامية و هي تبين أهم القوانين التي لها دخل في حياة الاسرة و المجتمع الانساني من تنظيم الروابط بينهم و حفظ العلاقات- بين افراد الاسرة- التي أهمها رعاية اليتامى و حفظ أموالهم و تحديد النكاح باليتيمات اللواتي تحت الوصاية بعدم التقصير في حقوقهن. و تعدد الزوجات المراعى بعدم الجور و الظلم عليهن و حفظ حق المرأة في صداقها و عدم التعدي فيه.
و المنع من تصرف السفهاء- الذين لا يحسنون التصرف- في أموالهم و ان كان لهم الحق منها في الرزق و الكسوة الا إذا تبين الرشد و الأهلية منهم فيرجع إليهم أموالهم. و الآية الكريمة تقرر الاشهاد حين تسليم المال إليهم دفعا للشبهة و الخصومة، فهذه الآيات في مقام الردع عن الأخلاق الجاهلية و من يحذو حذوهم في الإسلام.
و من أجل اهمية هذه القوانين و ارتباطها بنظام الاسرة و المجتمع سبقت الآيات الشريفة بانه جل شأنه رقيب و ختمت بانه تعالى محاسب ما يصدر عن عباده من الأعمال.
و ارتباط هذه الآيات الشريفة بما قبلها هو ان القيام بشئون الأيتام‏ و غيرها مما تقدم من أهم مصاديق التقوى و في عرض صلة الأرحام بلا فرق بين ان يكون اليتيم من الأرحام أ و لم يكن منهم مع انها توطئة لما يأتي من احكام الإرث.

قوله تعالى: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ.
هذه الآيات الكريمة مشتملة على اصول نظامية فطرية متينة ترتبط بحياة الاسرة و المجتمع كما تقدم و قد قررها الوحي المبين و هي امور:
الاول: ما يتعلق بأموال اليتامى. و الخطاب في الآية الشريفة عام يشمل الأوصياء و الأولياء- الجعليين و الشرعيين- و غيرهم المتصدين بشئون اموال اليتامى.
و الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم من التفصيل لموارد الاتقاء و انما بدأ بهم إظهارا لشأنهم و عناية خاصة بهم لأنهم الضعفاء في الاسرة و المجتمع و اليتيم من اليتم و هو الانفراد عن المثل و في الإنسان هو: الصغير الذي مات أبوه و في سائر الحيوانات هو فاقد الام.
و المراد بالإيتاء إيصال أموالهم إليهم- اما صرفا عليهم أو عينا- و التعبير باليتيم حين الإيصال باعتبار ان الاستيلاء على المال كان حين اليتم اي كان يتيما. و يمكن ان يراد باليتامى كل مظلوم و مقهور استولى على ماله- يتيما كان بالمعنى المصطلح أولا- ثم ارتفع عنه ذلك كما يأتي في البحث العرفاني.
و المعنى: ان من استولى على اموال اليتامى- بحق كان كالوصي‏ و الولي أو بغير حق كالظالم- يجب دفعها إليهم ان بلغوا الرشد و الكمال بقرينة الآية الآتية.
قوله تعالى: وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.
الثاني من تلك الأصول: ما يتعلق بتبديل الخبيث بالطيب الذي هو من المستنكرات الفطرية العقلية.
و التبديل هو جعل شي‏ء مكان الآخر و الخبيث هو ما تتنفر عنه الطبائع و الطيب ما رغبت اليه الطبائع.
و المعنى: لا تبدلوا الردي من أموالكم بالطيب من اموال اليتامى أو لا تأكلوا اموال اليتامى فهو الخبيث اي الحرام بدلا عما طيب اللّه لكم من أموالكم اي الحلال.
و القدر الجامع بين الاحتمالين هو عنوان تبديل الحرام بالحلال سواء كان بالمعنى الاول أو بالثاني فيوخذ به و ان كان المعنى الاول اقرب الى الذهن و لكن ذيل الآية المباركة كالقرينة للمعنى الثاني.
قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ.
الثالث من الأصول المتقدمة: الخلط بين اموال اليتامى و اموال المتصدين ثم أكل الجميع و هذا ايضا من المستنكرات.
و النهي في الآية الشريفة تعلق بمطلق التصرف و هو المراد بالأكل فيها.
و المعنى: لا تتصرفوا في اموال اليتامى سواء كان التصرف بالأكل أو الانتفاع أو المشاركة مع أموالكم لان الواجب عليكم حفظ اموال اليتامى و صيانتها و استثمارها لصالح الأيتام.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً.
الضمير يرجع الى مطلق التصرف. و الحوب: هو الإثم و توصيفه بالكبر للتهويل و العظمة لأن في الفعل و الارتكاب جرأة عظيمة.
و المعنى: من تصرف في اموال اليتامى- اي تصرف كان- فقد ارتكب إثما كبيرا الا إذا كان باذن من الشرع كما فصل في الفقه.
قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.
الرابع: مما تقدم من الأصول كيفية القسط و المعاشرة بين نفس اليتامى.
و القسط هو النصيب بالعدل بعد ما بين سبحانه و تعالى حكم اموال اليتامى شرع فيما يتعلق بأنفس اليتامى و انما اخره لان الاول اكثر شيوعا من الثاني.
و الآية الشريفة تحتمل صورا: الاولى: ان يكون المراد التزويج من اليتيمات- اللواتي لهن مال- واحدة كانت أو متعددة- و كان التزويج موجبا لتحقق القسط بين اليتامى في انفسهن و أموالهن فلا ريب في جواز هذه الصورة و صحتها و حينئذ لا اشكال في ارتباط صدر الآية الشريفة مع ذيلها.
الثانية: التزويج بيتيمة ليس لها مال مع تحقق القسط من قبل الرجل بنفسه في التزويج سواء تعددت الزوجات منهن أم لم تتعدد و حكمها حكم الصورة الاولى.
الثالثة: التزويج باليتيمات مع خوف عدم القسط سواء كان التزويج بواحدة منهن أو بمتعددة و ان كان الخوف في صورة التعدد أشد و الآية الشريفة تنفي هذه الصورة.
الرابعة: التزويج بامرأة ذات أب و عندها يتيم.
الخامسة: ما إذا كانت اليتيمات في معرض الزواج و كانت نساء من غيرهن في معرض الزواج ايضا و يخاف الإنسان إن تزوج من اليتيمات ان لا يقسط بينهن فيدعهن و يتزوج من سواهن و هذه الصورة هي المشهورة بين المفسرين.
السادسة: ان تكون الآية المباركة في مقام الإرشاد و دفع التوهم اي: انكم لو خفتم من التزويج باليتيمات و لأجله منعتموهن من التزويج بأنفسكم أو بغيركم خوفا من ان لا تقسطوا فيهن و تظلموهن فتزوجوا منهن و ان كنتم ذوي زوجات فإنهن حلال لكم و لغيركم فان اللّه تعالى يرشدكم الى ذلك.
و هذه الصور الثبوتية تتوافق مع ذيل الآية الشريفة و هو «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ».
و اما في مقام الإثبات و الظهور فيجتمع مع اكثر الصور و ان كانت الخامسة مشهورة بين المفسرين كما قلنا.
و ظهر مما ذكرنا فساد ما ذهب اليه بعض المفسرين من عدم ارتباط صدر الآية الشريفة بذيلها و قد عرفت كمال الربط بينهما.
قوله تعالى: مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ.
هذه الألفاظ تدل على اعداد مكررة و هي: اثنين اثنين، و ثلاثا ثلاثا؛ و أربعا أربعا. و انها ممنوعة من الصرف.
و الخطاب متوجه الى الجميع و العطف بمعنى التخيير فيكون المعنى المراد بلحاظ الخطاب و العطف و بقرينة ذيل الآية الكريمة: لكل واحد من المؤمنين ان يختار واحدة ان خاف من الجور و التعسف و الا اثنتين أو ثلاث أو اربع.
و لا يستفاد من الآية الشريفة الجمع بين التسع منهن كما توهمه بعض لعدم دلالتها بوجه على ذلك، بل انه غير محتمل أصلا فلو قال احد جاء القوم مثنى و ثلاث و رباع لا يستفاد أصلا مجيئهم تسعة مع ان لفظ (و) بمعنى التخيير بقرائن قطعية منها ضرورة الدين كما يأتي في البحث الفقهي.
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً.
المراد من الخوف في هذه الآية المباركة العلم العادي المعبر عنه بالاطمينان، و انما عبر بالخوف لكون المورد و المتعلق منشأ للخوف عرفا.
و المعنى: ان حصل لكم الاطمينان في عدم تسوية حقوقهن و ان لا تعدلوا بين المتعددات فانكحوا و تزوجوا واحدة منهن.
قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ.
اي: من خاف من عدم التقسيط فيهن فينكح واحدة من الحرائر أو ما يختار من الإماء ما شاء إذ ليس لهن شي‏ء من حقوق الزوجية الثابتة للحرائر حتى يستلزم الجور و التعسف الا إذا كان نكاحهن على وجه الزوجية كما فصل في الفقه.
و الآية الشريفة لا تدل على تجويز الظلم و التعدي على الإماء- فانه تعالى ليس بظلام للعبيد فلا يرخص بالظلم- و انما في مقام بيان ان الإماء ليست محدودة بحد الحرائر لان الإماء يتحملن من المشاق و المتاعب ما لا تتحمل الحرائر فليست الآية الكريمة في مقام تجويز الظلم عليهن.
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى‏ أَلَّا تَعُولُوا.
العول: هو الميل اي تميلوا الى الجور و المشار اليه في «ذلِكَ» ما تقدم من الاحكام النظامية فيتضمن نكاح الإماء و غيره.
و المعنى: انكم إذا عملتم بما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية تكونون اقرب الى الحق و عدم الميل الى الباطل.
و يمكن إرجاع الخطاب «ذلِكَ» الى خصوص تملك الإماء لعدم التحديد في تملكهن و التمتع بهن و عدم لزوم التسوية بينهن و ان كان الاولى ما تقدم لشموله لهن بالعموم ايضا.
قوله تعالى: وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً.
الخامس من الأصول النظامية المتقدمة: ما يتعلق بمهور النساء- اللواتي كاليتامى في الضعف- دفعا و أخذا منهن.
و الأمر متوجه الى من استولى على صدقاتهن و مهورهن زوجا كان أو غيره بدفع ما استولى منها إليهن.
و الصدقات: جمع صدقة بفتح الصاد و ضم الدال و هي كالصداق بمعنى المهر و هو المال- أو اي شي‏ء له اعتبار عرفي و لم ينه الشرع عنه- يملّكه الزوج المرأة عند الازدواج لعادة استمرت بين الناس و قررتها الشرائع السماوية الا عند بعض المليين.
و النحلة هي العطية المقصود منها الانتفاع بلا عوض و التعبير بها للترغيب.
و المعنى: اعطوا النساء مهورهن التي جعلتم لهن نحلة و عطية أو جعل اللّه تعالى لهن عطية و لا تمنعوهن من مهورهن شيئا.
قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً.
إي ان وهبن لكم شيئا من صداقهن و طابت نفوسهن إلى الهبة لكم- غير كارهات و لا لشكاسة أخلاقكم أو لسوء معاشرتكم- حل لكم اخذه و اكله.
و الضمير في (منه) يرجع إلى الصداق و الأمر للاباحة المشروطة بطيب النفس.
و الهني‏ء و المري‏ء صفتان الاولى النعمة بلا نكد و لا تعب، و الثانية السائغة بلا غصة. و في حديث الاستسقاء «اللهم اسقنا غيثا مريثا».
قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً.
بيان للأصل السادس من الأصول الفطرية العقلائية المطابقة للوجدان و هو التحفظ على المال عن الفساد و الانهيار إذ لولاه لاختل النظام و قد علل هذا الأصل في الآية الشريفة بأمتن تعليل و شهد به العقل و هو ان المال قيام لمعاش الناس، و مع وقوع الاختلال فيه يختل المعاش و مع اختلال المعاش يختل المعاد أيضا لقولهم (عليهم السّلام): «من لا معاش له لا معاد له».
و الخطاب (النهي) متوجه إلى الناس بأجمعهم وليا كان أو غيره كان المال للسفيه أو لغيره مخلوطا كان المال الذي هو مال السفيه مع غيره أو خالصا، ففي جميع ذلك لا يجوز دفع المال إلى السفيه فهذه الآية المباركة تشمل الآيات الشريفة المتقدمة شمول الكلي لأفراده.
و السفهاء: جمع سفيه، و السفه الخفة في العقل على نحو لا يضع‏ الأمور في مواضعها و ليس عنده حالة باعثة على حفظ ماله و الاعتناء به يصرفه في غير موقعه و يتلفه بغير محله و ليست معاملاته مبنية على المكايسة و التحفظ عن المغابنة و لا يبالي بالانخداع فيها و تقدم في آية ۱٤۲ من سورة البقرة ما يتعلق بالمقام.
و اضافة الأموال إلى المخاطبين في قوله تعالى «أَمْوالَكُمُ» أعم من ان يكون للولي أو غيره مال و يريد ان يدعه عند سفيه أو يكون المال للسفيه و هو وليه يصرفه عليه يريد ان يعطيه و يرده اليه فحينئذ تكون الاضافة بالعناية و التنزيل أو غيرها. و في جميع ذلك يراعى فيه المصالح المقررة الشرعية التي أوجبها اللّه تعالى على عباده و حينئذ ان لم يراع فيه تلك المصالح المقررة الشرعية يكون من الصرف في الباطل و يستلزم الاختلال و حينئذ يخرج النظام عن الاستقامة إلى الانحراف و نظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ»* النساء- 29 و قوله تعالى: «وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» الأعراف- 31.
و المعنى: لا تعطوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما و سببا لمعاشكم و قضاء مآربكم.
قوله تعالى: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
الأصل السابع من تلك الأصول المتقدمة يتضمن العناية الخاصة منه جلّ شأنه بالنسبة إلى السفهاء لئلا يقعوا في الحرج و الشدة- و لا يقع الناس منهم في الحرج- لحرمانهم في التصرف في أموالهم فأمر جلت عظمته بالقيام بشئونهم من أموالهم.
و المراد من رزقهم فيها الانفاق عليهم و تغذيتهم و تنظيم معاشهم. كما ان المراد من كسوتهم هي اللباس و المقصود من القول المعروف هو المعاملة الحسنة تألفا لهم و رفعا لحزازة حبس الأموال عنهم لأنهم بشر أمثالكم يتأثرون بالقول الخشن و قد تغير المعاملة الحسنة و الأخلاق الحميدة سلوكهم و يزيل السفه عنهم و هذا هو الأصل الثابت من الأصول المتقدمة.
قوله تعالى: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ.
الثامن: من الأصول المتقدمة في تمحيص اليتامى و اختبارهم لإحراز صلاحيتهم و اهليتهم لدفع أموالهم إليهم و هو متقوم بأمرين:
الاول: البلوغ في السن و هو المراد ببلوغ النكاح اي المرحلة التي جعلها اللّه تعالى لنوع البشر و هي الحالة التي تحدث فيها مادة النسل في الذكر و دم الحيض في الأنثى بحيث يكونان صالحين للأزواج و الانجاب و لها امارات كالاحتلام و الإنبات و السن على ما فصلناه في الفقه فراجع كتاب الحجر من (مهذب الاحكام) اي: امتحنوا اليتامى بعد بلوغهم و اختبروا حالاتهم.
قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
الأمر الثاني: احراز الرشد و الاهتداء لحفظ المال.
و الجملة جواب لإذا الظرفية الذي هو «إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» اي: إذا وجدتم من اليتامى البالغين رشدا و اهتداء في حفظ أموالهم و ضبطها بعد كبرهم و بلوغهم فادفعوا إليهم أموالهم، فدفع الأموال لا يكون إلا بعد البلوغ و وجدان الرشد فيهم.
قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا.
الأصل التاسع في المنع عن التعدي في اموال اليتامى. و الاكل معروف و المراد منه مطلق الاستيلاء. و الإسراف: تجاوز الحد.
و البدار: المسارعة إلى الشي‏ء.
و المعنى: لا تأكلوا اموال اليتامى بالتجاوز و التعدي و لا تبادروا في أكلها بحيث لو بلغ اليتيم رشيدا لمنعهم عن ذلك.
قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
الأصل العاشر: في تحديد تملك من يتصدى لأموال اليتيم من أموالهم لاجرة عمله اي من كان غنيا ذا مال و ثروة فليكف عن الاكل و التصرف في اموال اليتامى و من كان فقيرا و كان عمله في صلاح اموال اليتامى فليأكل منها و ليتصرف بالمعروف بحسب اجرة مثل عمله.
و الأمر و ان كان للاباحة إلا انه مقيد بالمعروف فالاكثار منه فيه محذور فولي اليتيم- أو من يتصدى لأمواله- ان استغنى عف و ان افتقر أكل بالمعروف.
قوله تعالى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ.
الأصل الحادي عشر: في الاستيثاق عند دفع الأموال إليهم و هو الشهادة تحكيما للأمر و دفعا للاختلاف.
و المعنى: إذا سلّمتم إليهم أموالهم بعد توفر الشروط السابقة و قبضوها منكم فاشهدوا عليهم بالقبض.
و الأمر ارشادي محض لأنه لو فرض الاستيثاق و الاستيمان في القبض بلا الشهادة لا تجب شهادة حينئذ كما هو واضح.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِاللَّهِ حَسِيباً.
تعليل لجميع ما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية و في ذكر اسم اللّه تعالى تنبيه على انه محيط و مسلط على جميع ذلك و كفى به محاسبا عليكم في جميع أعمالكم و ما صدر و يصدر منكم.

اليتامى في قوله تعالى: «وَ آتُوا الْيَتامى‏» جمع يتيم و هو فعيل- صفة- و هي قد تجمع على فعال- مثل كريم و كرام- أو على فعلاء- كشريف و شرفاء- أو فعل كنذير و نذر أو فعلى مثل مريض و مرضى و لا يأتي على فعالي إلا في مثل هذه الآية الشريفة و في قوله تعالى: «وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏»– سورة البقرة- ۸٥ و لعله انه جمع أولا على يتمى كمرضى ثم جمع يتمى على يتامى.
أو يكون ذلك بالقلب فان يتيم صفة جار مجرى الأسماء فجمع يتيم يتائم ثم قلب إلى يتامى كنديم و ندامى و جميع ذلك على وجه السماع.
و التبدل في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا» من باب التفعل و مجيئه بمعنى الاستفعال غير عزيز.
و الباء في قوله جلّ شأنه «بِالطَّيِّبِ» للبدلية دخلت على المبدل منه كما في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ» البقرة- 108.
و إلى في قوله تعالى: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ» بمعنى مع كما في قوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ»* آل عمران- ٥۲ اي مع اللّه و قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» المائدة- ٦.
و ما في قوله تعالى: «ما طابَ» كما تقع لما لا يعقل كذلك تقع لنعوت ما يعقل و في المقام وقعت لنعت ما يعقل اي فانكحوا الطيب من النساء.
و مثنى و ثلاث و رباع في موضع نصب بدلا من (ما) و قد وردت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين أحدهما المقام و الثاني قوله تعالى: «جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» فاطر- 1 و يستفاد من الآية الاخيرة ان هذه الكلمات الثلاث نكرات لأنها جاءت صفة للنكرة و النكرة لا توصف بالمعرفة.
و النصب فيها بدل عن التنوين فان كل منهما تمييز و حق التمييز النصب بالتنوين و لكنها ممنوعة من الصرف للتأنيث و العدول فإنها معدولة عن الاعداد المكررة اثنين اثنين، و ثلاث ثلاث، و اربع اربع فنصب بالفتح فقط، و قيل انها صفة.
و المشهور ان العرب لا تجاوز في هذا الباب عن رباع الى ما فوق فلا يقولون خماس.
و من في قوله تعالى «مِنْهُ نَفْساً» للتبيين و ليس للتبعيض مثل قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» الحج- 30 و النصب في (نفسا) للتمييز.
و افراد (التي) في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» لان الأموال جمع لا يعقل و يجري فيه لفظ الواحد كقوله تعالى: «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي» سورة هود- 101 و قال‏ تعالى: «جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي»* مريم- ٦۱ بخلاف ما لو كان لما يعقل كقوله تعالى: «وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي» النساء- 22 و قوله تعالى: «وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي». النساء 22 و الباء في قوله تعالى: «كَفى‏ بِاللَّهِ حَسِيباً» للحصر.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول‏:
ان التعبير بآتوا في قوله تعالى «وَ آتُوا الْيَتامى‏» يدل على عناية خاصة منه تعالى للأيتام لم تكن في التعبير بغيره مثل اعطوا أو ارجعوا لان الإيتاء هو إعطاء خاص لا مطلق الإعطاء.
الثاني‏:
انما عبر جلّ شأنه بالخبيث دون غيره حتى يشمل الفاسد و المحرم و غيرهما فانه كما تقدم عام يشملهما و يشمل الردي و الفاسد و ما سواهما و كذا الطيب يشمل المباح و الواجب و المندوب.
الثالث‏:
ان الاختلاف في التعبير بقوله تعالى: «أَلَّا تُقْسِطُوا» و قوله تعالى: «أَلَّا تَعْدِلُوا» لان الاول وقع موقع الخوف من عدم الاقساط الذي هو بمعنى العدل اي: خفتم من ترك العدل في اموال اليتامى و نسائهم و الثاني بمعنى الجور يعني: ان خفتم ان تجوروا و تميلوا في النفقة عن الحق فواحدة منهن.
الرابع‏:
يستفاد من الآية الشريفة «مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» الجمع في الحكم اي يجوز للرجل التزويج بتسع نساء طولا لان الواو و إن بقيت على حالها لكنها لا يستلزم الجمع بين تسع نسوة عرضا لان الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان الواحد و ذلك بقرينة ما ورد في الكتاب و السنة من عدم جواز الجمع بأكثر من اربع منهن.
الخامس‏:
يدل قوله تعالى: «مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» على مشروعية تعدد الزوجات و التخيير بين التزويج بواحدة منهن أو اثنتين أو ثلاث أو اربع و هذه الآية من الآيات المعدودة التي تقرر مبدأ تعدد الزوجات الى اربع و تبيح ذلك و لكن الاباحة مقيدة بقيود تحددها الى الحد المطلوب و الذي تستقيم به الحياة كما تدل عليه الآية الشريفة و سيأتي الكلام في هذا المجال في البحث الآتي.
و انما عدل سبحانه و تعالى عن الاثنين و الثلاث و الأربع الى مثنى و ثلاث و رباع لان الخطاب للجميع فالمعنى ان كل من يريد الجمع من المخاطبين اثنتين اثنتين فقط أو ثلاث ثلاث أو اربع اربع و لو أفردت لما أفاد هذا المعنى.
و من ذلك يعلم الوجه في إتيان حرف العطف ب (و) دون (او) فانه يدل على جواز الجمع بين انواع القسمة التي دلت عليه الواو اي: ان شاء الجميع ان يتفقوا في اي عدد من تلك الاعداد أو يختلفوا في تلك الاعداد.
و ذهب بعض الى ان الآية الكريمة تدل على جواز الجمع بين تسع نسوة التي هي مجموع اثنتين و ثلاث و اربع لمكان الواو و لكنه مردود بما ذكرناه.
السادس‏:
انما خص النهي عن أكل مال اليتامى مع اموال الأولياء أو الأوصياء أو غيرهما و لم ينه عن الاكل وحده مع ان ذلك حرام أيضا لان أكل مال اليتيم كذلك أقبح لان فيه الاستغناء حيث لغير اليتيم مال و هو مستغن به و لذلك خصه بالنهي. و ان الاكل كذلك فيه نحو خفاء و تستر بخلاف الاكل وحده، كما أنه جاء النهي على ما وقع منهم.
السابع‏:
يدل قوله تعالى: «وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» على ان النكاح ليس من المعاوضة الحقيقية فالصداق نحو نحلة و هدية من الزوج إلى المرأة.
كما ان التعبير ب (طبن) يدل على اعتبار ان يكون اعطائهن الصداق للزوج عن جزم و عزم نفساني غير قابل للتبدل لا مجرد الاذن الظاهري فذلك لا يتحقق إلا بهذا التعبير (طبن).
الثامن‏:
يدل قوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» على كثرة المعاشرة مع اليتامى و معاشرة اليتامى معهم بحيث صار ذلك مغروسا في النفس و حصل الاطمينان الكامل بالرشد كما في قوله تعالى حكاية عن موسى بن عمران (عليه السّلام): «إِذْ قالَ مُوسى‏ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً».
التاسع‏:
يدل قوله تعالى: «وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» على اختلاف كيفية المقاولة معهم بحسب الازمنة و الأمكنة و الحالات كما في قوله تعالى: «وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» فان ذلك يختلف اختلافا كثيرا و كذا في قوله تعالى: «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ».
العاشر:
يدل قوله تعالى: «وَ كَفى‏ بِاللَّهِ حَسِيباً» على التهويل و اهمية ما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية على نحو ان الحي القيوم المحيط بجميع العوالم بكلياتها و جزئياتها هو يتكفل الحساب و يحاسبكم على أعمالكم و ما صدر منكم.

في تفسير علي بن ابراهيم في قوله تعالى: «وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» يعني: «لا تأكلوا مال اليتيم ظلما فتسرقوا و تبدلوا الخبيث بالطيب» و الطيب ما قال اللّه: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ … وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ» يعني مال اليتيم إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً. اي إثما عظيما».
أقول: هذه الروايات من باب بيان أهم المصاديق للآية الشريفة و كذا في تبديل الخبيث بالطيب.
و في نهج البيان للشيباني في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» قال ابن عباس: «لا تتبدلوا الحلال من أموالكم بالحرام من أموالهم لأجل الجودة و الزيادة فيه قال و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام)».
أقول: ما ورد في الرواية من باب ذكر احد المصاديق و أهمها و انطباق الكلي عليه و الا فالآية الشريفة عامة لها مصاديق اخرى يأتي في البحث العرفاني و تقدم في التفسير أيضا.
و في مجمع البيان قال: «روى انه نزلت هذه الآية» (وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ».
كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانزل اللّه سبحانه: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» قال و هو المروي عن السيدين الباقر و الصادق «عليهما السلام».
أقول: هذه الرواية و أمثالها ارشاد إلى لزوم الجادة الوسطى في كل الأمور و عدم الإفراط و التفريط.
و في تفسير العياشي عن سماعة عن الصادق (عليه السّلام) قال: «سألته عن رجل أكل مال اليتيم هل له توبة؟ فقال يؤدي الى اهله‏
لان اللّه يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» و قال: «إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً».
أقول: هذه الرواية موافقة للقاعدة لان التوبة لا تتحقق الا بعد أداء حق الناس إليهم.
و في الفقيه باسناده عن أبى بصير قال: «قلت لأبى جعفر (عليه السّلام) ما أيسر ما يدخل العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهما و نحن اليتيم».
أقول: هذه الرواية من باب بيان أهم المصاديق.
و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ- الآية-» نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا الى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية فلما سمعها العم قال: اطعنا اللّه و اطعنا الرسول، نعوذ باللّه من الحوب الكبير فدفع اليه ماله فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) من يوق شح نفسه و يطع ربه فانه يحل داره يعني جنته فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) ثبت الأجر و بقي الوزر فقالوا يا رسول اللّه قد عرفنا انه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر و هو ينفق في سبيل اللّه فقال (ص): ثبت الأجر للغلام و بقي الوزر على والده».
أقول: لا ريب في ان ذلك من باب بيان بعض المصاديق فيجري الحكم في الجميع مطلقا و ذيل الرواية موافق لقوله تعالى: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏» النجم- 39 فكأن والده حمل أوزارا في جمع المال.
و في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليه السّلام) «إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» قال: «هو مما قال يخرج الأرض من اثقالها».
أقول: هذه الرواية تدل على عظمة هذا الإثم.
و في حديث الدعاء «تقبل توبتي و اغسل حوبتي» اي اثمي و فيه ايضا «اللهم اغفر لنا حوبنا» اي إثمنا.
و في تفسير علي بن ابراهيم قال: «نزلت مع قوله تعالى: «وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ … فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» فنصف الآية في أول السورة و نصفها على رأس المائة و عشرين آية و ذلك انهم كانوا لا يستحلون ان يتزوجوا بيتيمة قد رأوها فسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عن ذلك فانزل اللّه تعالى «يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ- الى قوله- مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» و قوله تعالى «ذلِكَ أَدْنى‏ أَلَّا تَعُولُوا» اي لا تتزوجوا ما لا تقدرون ان تعولوا».
أقول: يمكن ان يكون التفكيك في كيفية سماع الناس من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مرتين لا في اصل نزول الوحي.
و في اسباب النزول للواحدي: «أنزلت هذه الآية «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا» في الرجل يكون له اليتيمة و هو وليها، و لها مال و ليس لها احد يخاصم دونها فلا ينكحها حبا لمالها و يضّربها و يسي‏ء صحبتها فقال اللّه تعالى: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» ما أحللت لك ودع هذه».
أقول: و قريب منه ما رواه المسلم في صحيحه و ان ذلك من باب ذكر أهم المصاديق.
و في الكافي باسناده عن نوح بن شعيب قال: «سأل ابن أبي‏ العوجاء هشام بن الحكم فقال أو ليس اللّه حكيما؟ قال بلى هو احكم الحاكمين قال فاخبرني عن قوله عز و جل «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» أ ليس هذا فرض؟ قال بلى قال فاخبرني عن قوله عز و جل: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» ايّ حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقال يا هشام في غير وقت حج و لا عمرة؟ قال نعم جعلت فداك لأمر اهمني ان ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شي‏ء قال و ما هي؟ قال فأخبره بالقصة فقال له أبو عبد اللّه (عليه السّلام) اما قوله عز و جل: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» يعني بالنفقة و اما قوله تعالى: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» يعني في المودة قال فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال و اللّه ما هذا من عندك».
أقول: يمكن رفع التهافت و ردّ قول ابن أبي العوجاء بالاختلاف الجهتي المعقول و ما قاله (عليه السّلام) من احدى تلك الجهات.
و في تفسير علي بن ابراهيم: «سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول فقال: أخبرني عن قول اللّه عز و جل: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» و قال في آخر السورة: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» فبين القولين فرق؟ فقال أبو جعفر الأحول فلم يكن عندي في ذلك جواب فقدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و سألته عن الآيتين فقال اما قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» فإنما عنى به النفقة و قوله «لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» فإنما عنى به في المودة فانه لا يقدر احد ان يعدل بين المرأتين في المودة فرجع ابو جعفر الأحول إلى الرجل فأخبره فقال هذا حملته الإبل من الحجاز».
أقول: ما قاله (عليه السلام) رفع معقول للتنافي كما تقدم في الرواية السابقة.
و في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق و قال لا يجمع ماء في خمس».
و في تفسير العياشي باسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يحل لماء الرجل ان يجري في اكثر من اربعة أرحام من الحرائر».
أقول: هذا بناء على ما هو المتسالم بين المسلمين من ان المطلقة الرجعية زوجة فلا بد من حمل الطلاق فيها على الطلاق الرجعي دون البائن و من لا عدة له.
و عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن سنان ان أبا الحسن الرضا (عليه السلام) «كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله: علة تزويج الرجل اربع نسوة و تحريم ان تزوج المرأة اكثر من واحد لان الرجل إذا تزوج اربع نسوة كان الولد منسوبا اليه و المرأة لو كان لها زوجان أو اكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف».
أقول: هذه الرواية محمولة على ما إذا كان الزوجان في زمان واحد عرضا لا طولا بان تزوجت برجل ثم فارقته و اعتدت منه‏ فتزوجت بآخر و هكذا.
و عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن الفضيل عن سعد الجلاب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ان اللّه عز و جل لم يجعل الغيرة للنساء و انما تغار المنكرات منهن فاما المؤمنات فلا انما جعل اللّه عز و جل الغيرة للرجال لأنه قد أحل اللّه عز و جل له أربعا و ما ملكت يمينه و لم يجعل للمرأة الا زوجها وحده و ان بغت معه غيره كانت عند اللّه زانية».
أقول: يشهد لذلك روايات اخرى تدل على ما ورد فيها.
و عن العياشي باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: «في كل شي‏ء اسراف الا في النساء قال اللّه تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ» و قال: «و أحل اللّه ما ملكت ايمانكم».
أقول: المراد من عدم الإسراف في النساء جواز التعدد الى الأربع في العقد الدائم و إلى ما لا حد له في ملك اليمين و الانقطاع كما فصلناه في كتابنا (مهذب الاحكام).
و في الكافي باسناده عن سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) جعلت فداك المرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به و قالت حين دفعت اليه أنفق منه فان حدث بك حدث فما أنفقت منه كان حلالا طيبا فان حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب فقال أعد عليّ يا سعيد المسألة فلما ذهبت ان أعيدها عليه عرض فيها صاحبها و كان معي حاضرا فأعاد عليه مثل ذلك فلما فرغ أشار بإصبعه إلى صاحب المسألة فقال: يا هذا ان كنت تعلم انها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك و بين اللّه فحلال طيب ثلاث مرات ثم قال يقول اللّه عز و جل: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً».
أقول: يستفاد من الرواية ان ما أعطته المرأة أعم من ان يكون من صداقها أو من غيره.
و في الكافي عن عدة من أصحابنا باسناده عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته و لا المرأة فيما تهب لزوجها اجيزت أو لم تجز ا ليس اللّه تبارك و تعالى يقول: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» و قال: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» و هذا يدخل في الصداق و الهبة».
أقول: يستفاد من هذه الرواية ان الهبة غير المعوضة في الزوج و الزوجة لازمة كما ذكرنا في الفقه و ان الصداق داخل في الهبة من باب الدخول الحكمي لا الموضوعي.
و في تفسير العياشي عن زرارة قال: «لا ترجع المرأة فيما تهب لزوجها حيزت أو لم تحز ا ليس اللّه يقول: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً».
أقول: يستفاد ذلك من روايات كثيرة تقدم بعضها و قد ذكرنا أن الهبة بين الزوج و الزوجة لازمة.
و في تفسير العياشي ايضا باسناده عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه تعالى «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» يعنى بذلك أموالهن في أيديهن مما ملكن».
أقول: الرواية تشمل الصداق و غيره مما ملكن.
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن القداح عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) أ لك زوجة؟ قال نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فاني سمعت اللّه يقول في كتابه: «وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» و قال «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» و قال «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» شفيت ان شاء اللّه تعالى ففعل ذلك فشفى».
أقول: اقتباس حسن لطيف من الآيات المباركة و لعل الشفاء من الآثار الوضعية لما قرره في تلك الآيات الشريفة و قريب منها غيرها.
و في تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل ان امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له ان يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل اللّه له قياما يقول: «وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» المعروف العدة».
أقول: المراد بالعدة الوعد بالإحسان، و توصيف السفيه بالمفسد بيان لبعض مراتب السفاهة.
و في تفسيره ايضا باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدث و لا تزوجوه إذا خطب و لا تعودوه إذا مرض و لا تحضروه إذا مات، و لا تأتمنوه على امانة؛ فمن ائتمنه على امانة فأهلكها فليس على اللّه ان يخلفه عليها و لا ان يأجره عليها لان اللّه يقول: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» و اي سفيه أسفه من شارب الخمر؟!».
أقول: قد ورد في كثير من الاخبار تفسير السفيه بشارب الخمر و هو صحيح من باب ذكر اللازم و ارادة الملزوم فان شرب الخمر ملازم لزوال العقل و عدم إصلاح المال خصوصا إذا غلب عليه ذلك و صار مدمنا و يمكن الحمل على السفه الواقعي لا ما هو موضوع حكم السفه شرعا و على هذا كل من ارتكب المعاصي سفيه من هذه الجهة و لا اختصاص بشرب الخمر لان «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» و كل ما كان خلافه فهو سفه.
و في تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا حدثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب اللّه ثم قال في بعض حديثه ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السئوال فقيل له يا ابن رسول اللّه اين هذا من كتاب اللّه؟
قال ان اللّه عز و جل يقول «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» و قال: «لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» و قال: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة و ما ذكره (عليه السلام) استفادة حسنة من الآيات الشريفة.
و في تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» قال: من لا تثق به».
أقول: المراد من عدم الوثوق عدم تدبيره لأجل خفة في عقله كما مر في التفسير.
و عن علي بن ابراهيم في تفسيره عن علي بن أبى حمزة عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال إذا كنت أنت الوارث لهم».
أقول: مفاد الرواية التنزيل بإضافة المال إلى كل من الوارث و المورّث.
و عن علي بن ابراهيم قال: أمير المؤمنين (عليه السلام) من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له ان يعطيه حتى يبلغ النكاح و يحتلم، فإذا احتلم وجب عليه الحدود و اقامة الفرائض، و لا يكون مضيعا و لا شارب خمر و لا زانيا فإذا انس منه الرشد دفع اليه المال و اشهد عليه و ان كانوا لا يعلمون انه قد بلغ فانه يمتحن بريح إبطه و نبت عانته فإذا كان ذلك فقد بلغ فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا و لا يجوز ان يحبس عنه ماله و يعتل عليه بانه لم يكبر بعد».
أقول: يظهر من هذه الرواية ان إتيان كل كبيرة سفه و هو كذلك و ان لم يعمل مشهور الفقهاء بذلك و ما ورد من الاختبار بريح الإبط مهجور لدى الأصحاب و لم يعمل به احد.
و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏- الآية-» نزلت في ثابت بن رفاعة و في عمه و ذلك؛ «ان رفاعة توفى و ترك ابنه ثابتا و هو صغير فاتى عم ثابت إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقال له: ان ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله؟ و متى ادفع اليه ماله؟ فانزل اللّه تعالى هذه الآية».
أقول: الرواية من باب ذكر المصداق و الا فالآية الشريفة عامة إلى يوم القيامة.
و في الفقيه باسناده عن الصادق (عليه السلام): «انه سئل عن قول اللّه عز و جل: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» قال إيناس الرشد حفظ المال».
أقول: قريب منها ما عن العياشي في تفسيره و مثل هذه الروايات تبين اظهر مصاديق الرشد و آثاره.
و في الفقيه ايضا باسناده عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» قال: «إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة».
و قال ابن بابويه «ان الحديث غير مخالف لما تقدم و ذلك انه إذا أونس منه الرشد و هو حفظ المال دفع اليه ماله و كذلك إذا أونس منه الرشد في قول الحق اخبر به و قد تنزل الآية في شي‏ء و تجرى في غيره».
أقول: قريب منها ما عن العياشي في تفسيره و يظهر من مثل هذه الرواية ان ترك كل كبيرة مأخوذ في معنى الرشد و ان رفع الدرجة أخص من دفع المال لهم.
و في الفقيه أيضا باسناده عن منصور بن حازم عن هشام عن الصادق (عليه السلام) قال: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشده و ان احتلم و لم يونس منه رشد و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».
أقول: المراد من الضعف ضعف التدبير في أموره و ان لم يبلغ مرتبة السفه.
و عن ابن بابويه باسناده عن صفوان عن عيص بن القاسم عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها؟ قال: إذا علمت انها لا تفسد و لا تضيع، فسألته ان كانت قد تزوجت؟ فقال: إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها».
أقول: المراد من التزويج الكناية عن بلوغها تسع سنين.
و في الكافي باسناده عن عثمان بن عيسى عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال: «من كان يلي شيئا لليتامى و هو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم و يقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر الحاجة و لا يسرف فان كانت‏ ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا».
أقول: ان العامل في مال اليتيم- وليا كان أو غيره- من يستحق اجرة مثل عمله ان لم يقصد الاباحة المطلقة هذا بحسب القواعد الشرعية و ما ورد من الاخبار الدالة على غير ما ذكرنا كما تقدم فهي محمولة على الفضل و الفضيلة.
و في الكافي أيضا باسناده عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال: «المعروف هو القوت و انما عنى الوصي أو القيم في أموالهم و ما يصلحهم».
أقول: قريب منه ما عن الشيخ في التهذيب و المراد من القوت هو القوت الغالب فتنطبق الرواية على اجرة المثل غالبا.
و في التهذيب باسناده إلى أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال: «فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس ان يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا».
أقول: هذه الرواية و أمثالها محمولة على مراتب الفضل.
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن أسباط عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعته يقول ان نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟ فكتب اليه اما اليتيم فانقطاع يتمه و هو الاحتلام إلا ان يونس منه رشدا بعد ذلك فيكون سفيها أو ضعيفا فليشد عليه».
أقول: معنى ذيل الرواية اي لا يعطى ماله اليه.
و في تفسير العياشي باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه: «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ‏ بِالْمَعْرُوفِ» فقال هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية و يشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف و ليس ذلك في الدنانير و الدراهم التي عنده موضوعة».
أقول: ان الدراهم و الدنانير لو كانتا بنحو الامانة و الا فحكمهما حكم غيرهما.
و عن العياشي في تفسيره باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال: ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم لا يحترث لنفسه فليأكل بالمعروف من أموالهم».
أقول: هذه الرواية محمولة على الفضل و الا يجوز له أخذ اجرة المثل و ان كان محترثا لنفسه ايضا.
و عن رفاعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال كان أبي يقول انها منسوخة».
أقول: و في الدر المنثور: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً- الآية» و المراد من النسخ الإطلاق و التقييد لا النسخ المصطلح.
و عن زرارة و محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «مال اليتيم ان عمل به من وضع على يديه ضمنه و لليتيم ربحه قال قلنا له قوله «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» قال انما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتجر لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم».
أقول: انها محمولة على الفضل و الفضيلة كما تقدم في الروايات السابقة.
و في مجمع البيان في قوله تعالى: «رُشْداً» قال: «المراد به العقل و إصلاح المال و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) و قال في قوله‏ تعالى: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» معناه من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية على جهة القرض ثم يرد عليه ما أخذ قال و هو المروي عن الباقر (عليه السلام)».
أقول: اما الاول فقد تقدم انه من باب ذكر أهم المصاديق و الثاني محمول على الفضيلة و الا فيجوز له أخذ اجرة عمله كما مر.

مقتضى الروايات الواردة ان لكل واحد من الآيات الشريفة القرآنية آثارا وضعية و خواصا واقعية معلومة و هي واضحة لأهل العرفان بالتجربة و الاختبار بعد الخلوص و الإخلاص- و قد تقدم بعضها في البحث الروائي- و من تلك الآثار و الخواص شفاء المرضى و قضاء الحاجات و كشف الكربات و كانت الآيات المباركة في مدة من الزمن يستشفي بها في جملة كثيرة من المرضى و ذوي الأسقام عند الأخيار و لكن كثرة الحجب الظلمانية منعت عن تلك الآثار، فعدم الأثر لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
و لعل السر في وجود تلك الخواص الأثر المعنوي الموجود في تلك الآيات الكريمة و انها عين الواقع و الحقيقة التي لا ريب فيها فهي واقع محض صدر عن واقع محض و من بيده مقاليد السموات و الأرض و من بيده ملكوت كل شي‏ء و من عنده مفاتيح الغيب فلا بد من التأثير و تحقق تلك الخواص حينئذ لا محالة.
و لذا لا يختص الأثر في الآيات المباركة بطائفة خاصة و يعم الجميع‏ فان رحمته جلت عظمته غير محدودة و لا تختص بطائفة.
نعم تشخيص المورد له اهمية عظمى و رفع الحجب الظلمانية أهم منه بمراتب فعدم الأثر في بعض الموارد اما لعدم التشخيص أو لوجود الحجب (المانع) و الا فان المقتضي تام.
و لا فرق في ذلك بين ان يكون الأثر مترتب على نفس الآيات الشريفة كما ذكروه في كتب خواص الآيات الكريمة أو على ما يستفاد منها كما علّمه علي (عليه السلام) على ما تقدم في البحث الروائي.
و ينبغي ان يعد هذه الآثار و الخواص من معجزات الآيات الكريمة و كراماتها الباهرة التي تظهر بعد القرون و الدهور.
و انما لا تظهر لبعض النفوس لغلظة الحجب الظلمانية عليه و لعله بعد ظهور شمس الحقيقة عن أفق الغيبة ينحصر علاج المرضى بالقرآن و آياته المباركة و انكشاف المهمات و قضاء الحاجات بها و لا بد و ان يكون كذلك لان القرآن لم يتجلّ بعد بحقيقته النورانية و لم ينطق به الا الشفاه و لم تلج بها الا الالسنة و كيف يكون مورد التجلي الأعظم في كتابه الكريم بذلك!!.
و يشهد لما تقدم شواهد كثيرة معلومة منها: الدعوات الكثيرة المأثورة عن الائمة الهداة (عليهم السلام) لشفاء بعض الأمراض و الأسقام الواردة فيها الآيات الكريمة من القرآن.
و منها: ما تقدم في البحث الروائي و في تفسير العياشي قال: «اشتكى رجل الى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: سل من امرأتك درهما من صداقها فاشتر به عسلا فاشربه بماء السماء ففعل ما امر به فبرئ فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك أ شي‏ء سمعته من النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: لا و لكني سمعت اللّه‏ يقول في كتابه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» و قال: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» و قال: «نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً» فاجتمع الهني‏ء المري‏ء و البركة و الشفاء فرجوت بذلك البرء».
و منها: الروايات الواردة في خواص الآيات الكريمة و آثارها المذكورة في الكتب المعدة لها و بعض التفاسير.

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة احكام:
الاول: ان اطلاق الآية الشريفة «وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ» يشمل كل يتيم ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا ان كان محجورا عليه.
كما لا فرق بين من عيّن الأب له قيّما أولا. نعم لو كان الجد موجودا فالولاية له.
و لا فرق في مال اليتيم بين ما إذا وصل اليه بإرث أو غير ذلك من الهدايا و المنح فان جميع ذلك ماله فتشمله الآية الكريمة.
الثاني: مقتضى الآية الشريفة و ما وردت من الروايات انه يجوز لليتيم التصرف في أمواله مع تحقق الشرائط و هي: ان يكون التصرف باذن الولي- شرعيا كان الولي أو تكوينيا. و ان يكون فيه المصلحة لليتيم كما فصلناها في كتابنا (مهذب الاحكام) و ان يكون التصرف سائغا شرعا كما يجوز للولي التصرف في اموال اليتيم بشرط عدم المفسدة بل مع وجود المصلحة كل ذلك كما فصلناه في الفقه.
الثالث: لا تختص حرمة تبدل الخبيث بالطيب بأموال اليتامى بل يجري ذلك في تبدل كل مال كذلك و لو كان من الكبير و الرشيد مع عدم مجوز شرعي لان ذلك أكل بالباطل و قال تعالى: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» البقرة- 188 و قال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» المطففين- 3 و لكن في اموال اليتامى تكون الحرمة أشد و اكثر تنفرا من غيرها و لذا أكّد النهي فيها.
و لو فعل ذلك احد لا يملك الطيب و تشتغل ذمته برده الى صاحبه و مع التلف ينتقل الى العوض بالمثل أو القيمة.
الرابع: ان قوله تعالى: «أَلَّا تَعُولُوا» عام يشمل النفقة و غيرها و التودد الخارجي بل الميل القلبي أيضا نعم ما كان خارجا عن الاختيار في القسم الأخير فهو معفوّ عنه و ان كان تحت الاختيار و ترتب عليه الأثر يكون داخلا في احد الأولين.
الخامس: مقتضى اطلاق الآية الشريفة و ما ورد من الروايات ان السفيه كما هو محجور عليه في ذمته فلا يصح ان يتعهد مالا أو عملا كذلك لا يصح اقتراضه و ضمانه و لا بيعه و لا شراؤه بالذمة و لا تزويجه، و كذا لا يصح ان يجعل نفسه اجيرا و عاملا للمضاربة و المزارعة و المساقاة و غير ذلك للحجر عليه شرعا.
كما ان المراد من عدم نفوذ تصرفات السفيه هو عدم استقلاله في ذلك فلو كان باذن الولي صح و نفذ.
السادس: لو احرز رشد السفيه سلّم اليه أمواله كما نصت عليه الآية الشريفة و غيرها من الروايات و لو لم يحرز رشده و اشتبه حاله يختبر السفيه بما يناسب شأنه بتفويضه البيع و الشراء و الاجارة و غيرها مما يناسبه و كذا السفيهة و قد فصلنا ذلك في الفقه و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الاحكام).
السابع: يجب دفع اموال السفيه اليه فورا بعد تحقق الرشد و إحرازه لاصالة فورية دفع مال الغير اليه كما أثبتها الفقهاء و ذكرناها في الفقه.
الثامن: الاستعفاف لأولياء اليتامى عن التصرف في اموال اليتامى حسن و ليس بواجب شرعا لأنه يجوز أخذ اجرة عمله و ان كان غنيا كما أثبتناه في الفقه.
و كما ان الاكل بالمعروف كذلك ليس بواجب عليه بل له ان يرفع اليد عن ذلك و يعطى الجميع لليتيم.

من أهم الأصول النظامية التكوينية الثابتة في علم الفلسفة التزاوج بين المادة الفاعلية و المادة المنفعلة بلا فرق في ذلك بين الإنسان و الحيوان و النبات كما بينه تعالى: «وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» الحجر- 22 فالتزاوج بينهما من الأصول التكوينية التي يقوم بها هذا العالم و له حدود و قيود لا يحيط بها الا اللّه تعالى و ان ظهر بعض منها بالتجربيات في ممر العصور و الدهور و بقيت جملة كثيرة اخرى منها في الخفاء و الكمون و سيظهر بعد ذلك ان شاء اللّه تعالى.
و يختص الإنسان من بين الحيوانات في هذا التزاوج و السفاد بمراسم خاصة قررها الشارع بمقتضى ان الإسلام دين الفطرة و عبر عنها في الكتب السماوية بالنكاح و أكد الترغيب اليه قال تعالى «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ‏ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» النور- 32 و في السنة المقدسة اخبار متواترة ترغب اليه مثل قوله (صلى اللّه عليه و آله): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني» و قوله (صلى اللّه عليه و آله): «تناكحوا و تناسلوا فاني اباهي بكم الأمم» إلى غير ذلك من الروايات.
كما نهى عن النكاح الذي لا يتوفر فيه تلك الشروط و عبر عنه بالزنا و أكد سبحانه و تعالى في النهي عنه كقوله تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا» الإسراء- 32.
و قد حدد الشارع الأقدس الزواج الدائم باعداد معينة و هي اربع و في غيرها بقيود اخرى كما تقدم في الآية الشريفة و سيأتي في البحث الآتي وجه التشريع في ذلك.
كما قرر نكاح جميع الملل و النحل فيما بينهم لأنه امر طبيعي بين البشر لا يختص بملة دون اخرى و لا يمكن التخلي عنه الا ان الشارع حدده بقيود لأجل تنظيم النظام و حفظ الأنساب و غيرهما من الحكم.

الآيات الشريفة المتقدمة تدل على اباحة تعدد الزوجات في الإسلام و هذا الموضوع طالما اعترض اعداء الإسلام عليه و اتخذوه نحو قدح فيه، و قد استنكرت الجاهلية المعاصرة تعدد الزوجات و اعتبرته من عوائق التقدم الحضاري، و ان التعدد خلاف المصلحة بل موجب لسلب السعادة. و نحن في هذا البحث نذكر جملة مما ذكره اعداء الإسلام من المناقشات و الإشكالات على هذا الموضوع ثم الجواب عنها ثم نعالج الموضوع على ضوء ما ورد في الكتاب في هذا المضمار.
الإشكالات:
قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات باشكالات متعددة نحن نذكر المهم منها.
الاول: ان تعدد الزوجات خلاف الطبيعة فان التجربة و الإحصاء يدلان على تساوي عدد الذكور و الإناث في جميع الأمم و القبائل و يستفاد من ذلك ان الطبيعة اقتضت ان يكون الواحد من الذكور لواحدة من الإناث و خلاف ذلك يكون خلاف الطبيعة.
الثاني: ان حكم تعدد الزوجات ينافي الغرض المنشود من المجتمع الذي لا بد ان يسوده الحب و التعاون و التآلف بين الإفراد و إنه يعكس روح الانتقام في النساء من الرجال الذين أساءوا إليهن.
و يوجب الإهمال و التثاقل في تربية الاسرة و الأولاد و اشاعة الفساد و الخيانة هو مما يوجب انحطاط المجتمع الى الشقاء و الغواية.
الثالث: ان تعدد الزوجات استهانة لحرمة النساء في المجتمع فان معادلة الأربع من النساء بالواحد من الرجال تعريض لحقوقهن للخطر و أعراض عن عواطفهن.
الرابع: ان هذا التشريع يوجب ازدياد الشهوة في الرجال و ترغيبهم إلى الشره و بالاخرة انه يوجب تقوية هذه القوة في المجتمع.
هذه هي أهم الإشكالات التي أوردوها على هذا التشريع الالهي.
الجواب عن الإشكالات:
و يمكن الجواب عن تلك الإشكالات بوجوه:
الاول‏:
ان ما ذكروه من ان التشريع خلاف الطبيعة فهو باطل اما أولا فان تساوي عدد الذكور و الإناث امر يكذبه الوجدان و الإحصاءات المتعددة التي اعلنت و تعلنها الجهات المختصة في مختلف العصور فان الحروب و الحوادث و كذا الموت تصيب المجتمعات فتفنى من الرجال اكثر من النساء و هذا امر ثابت بالوجدان.
و ثانيا: ان امر الزواج لا يستند على ما ذكروه من ان الطبيعة ساوت بين الرجال و النساء في العدد، بل ان هناك أمورا اخرى، فان النساء يختلفن عن الرجال في التهيؤ إلى النكاح و صلاحهن للازدواج و المضاجعة و الانجاب و لهذا اعتبر الإسلام سنّ التكليف في النساء بلوغ العشر، و في الرجال بلوغ الست عشرة من السنين و ذلك لاختلاف الطبائع في الطائفتين و هذا يكشف عن ان الطبيعة تقتضي التعدد كما هو واضح.
الثاني‏:
ان ما ذكروه من ان التعدد يميت عواطف النساء و تخيب آمالهن فهو باطل. لان الإنسان مركب من أمرين التعقل و العواطف و الاحساس. و السعيد هو الذي يمسك زمام العواطف و الاحساس و يجعلها تحت ادارة التعقل، و الإسلام و سائر الأديان السماوية أرادت من تعاليمها وضع الإنسان في مسير التعقل. و تهيئة المجتمع الانساني على نحو تقرره الحياة التعقلية دون الاحساس و العواطف التي لا تهدي إلى الكمال المنشود، و على هذا فالمرأة التي هذبتها الأخلاق الفاضلة، و قومتها التعاليم الاسلامية الرشيدة فإنها تجعل التعقل مقام العواطف و النزوات الشهوانية فهي ترى السعادة في ذلك.
و ما ذكروه قياس بين المجتمعات الغربية التي هي قائمة على تلك العواطف و الشهوات الحيوانية البغيضة و المجتمع الاسلامي الذي قوامه‏ التعقل، و من ثم نرى ما عليه من التفكك و الانحطاط الخلقي و انواع الشر و الفساد المتداول بينهم لأنهم خرجوا عن الفطرة التي خلقهم اللّه تعالى عليها و الصراط الذي أعدته التعاليم الإلهية لهم فترى ان المنكر الذي يعترف به العقل يكون معروفا عندهم. و انهم يشرعون القوانين في اباحة الفساد و الدمار و هذا لم يكن قبيحا عندهم و لا تجرح العواطف و لكن تعدد الزوجات يمسها و يميت الآمال هذه هي المدنية الحاضرة التي وصلت إلى الطريق المسدود.
الثالث‏:
ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات تضييع لحقوق النساء و عدم الاحترام لعواطفهن باطل، لما ذكرناه مرارا من ان الإسلام اعطى لكل ذي حق حقه، و انه احترم النساء و راعى حقوقهن بما لم يكن في ملّة اخرى و يتبين ذلك بوضوح عند معرفة منزلة النساء في المجتمعات الاخرى غير المجتمع الاسلامي. هذا مضافا إلى ان تعدد الزوجات لم يكن تضييعا لحقوق احد فان الإسلام في تشريعه هذا كان ينظر إلى أبعد من ذلك كما ستعرف ان شاء اللّه تعالى.
الرابع‏:
ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات يزيد في شره الرجال و الترغيب إلى الشهوة فهو مغالطة واضحة فان التربية الاسلامية الحقيقية تضع الرجال و النساء في هذا الموضوع في احسن تقويم فان النساء اللائي لا تقل شهوتهن عن شهوة الرجال لو اثرت التربية الواقعية فيهن جميعا فإنهن يضعن تلك الشهوة الغريزية في الطريق المستقيم الذي حدده الإسلام فتراه يعطي لهذه الحاجة الغريزية حقها و يفتح لها سبل معالجتها و الحد من سورتها و يمنع الكبت و الحرمان و لكنه يحرم الفجور و الفحشاء و الاسترسال في الأهواء الباطلة و كل ما يوجب إثارة الشهوة، فهو قد وضع هذه الغريزة الجامحة تحت سيطرة التعقل فلا يمنعها حتى يوجب‏ الكبت و الحرمان و لا يطلقها و يبسطها كل البسط ليزيد الفحشاء و الفجور فكان هذا التشريع الجديد من أهم السبل في تحديد هذا الغرض.
يضاف إلى ذلك ان الإسلام لم ينظر إلى النكاح بانه مجرد قضاء حاجة وقتية بل كان نظره إلى انه من سبل التربية الحقيقية فقد تحقق فيه جميع أساليب التربية الخلقية و النفسية و هذا ما يمتاز به هذا الدين القويم عن سائر الأديان الإلهية. و سيأتي في الموضع المناسب بيان ذلك ان شاء اللّه تعالى.
و على هذا يكون التشريع مشتملا على وجوه الحكمة و الصواب فانه أباح ذلك حفظا للمجتمع الانساني و تكثيرا للنسل و الأولاد و مراعاة للحقوق من الضياع و مدرسة للتربية الواقعية و غير ذلك مما اعترف به الخصم و أقرت به بعض الجمعيات التي رأت في تشريع تعدد الزوجات الخير و السعادة.
و مما ذكرنا يظهر الوجه في ادعاء بعض من اننا نرى ان الذي تزوج بزوجتين أو اكثر في شقاء دائم و صراع مستمر بين الضرتين أو الضرائر مما يسلب الهناء من العيش و الصلاح من الحياة و ربما يبلغ من شدة الحال انه يكون الأمر على خلاف المرجو من هذا التشريع فان ذلك مغالطة بين الواقع و الخيال.
و بتعبير آخر: انه خلط بين التشريع و التطبيق فان الإسلام راعى في هذا التشريع المصالح العامة و اما إذا اصطدمت هذه المصالح مع العادات و النزوات الشخصية فان الاحكام الشرعية تتبع المصالح و المفاسد الواقعية و اما مرحلة العمل و التطبيق فإنها راجعة إلى المكلف نفسه فان اللازم على المكلف ان يراعي جميع ما اعتبر في التكليف و التطبيق بين ما اراده الشارع المقدس و عمل المكلف و في هذه الحالة يؤثر التشريع اثره المطلوب و الا فان الأثر السي‏ء الذي يقع خارجا يكون‏ نتيجة عمل المكلف و سوء تربيته و هذا الوجه جار في جميع التشريعات الإلهية بل التشريعات الوضعية أيضا، و ليس لاحد العذر في انها لم تؤثر أثرها لان الناس لم يراعوا حقها و لم يعملوا بها على ما اراده المشرع فمرحلة العمل و التطبيق امر يرجع إلى الناس و مرحلة التشريع امر آخر فانه يرجع إلى الشارع الذي يلاحظ المصالح العامة.
نظر الإسلام في هذا التشريع:
الآية الشريفة المتقدمة التي تضمنت خطابا موجها للعموم كسائر الخطابات القرآنية التي تكفلت تربية الناس تربية حقيقية واقعية فإنها تجعل الاباحة أو الترخيص أصلا ثم تورد القيود على هذا الأصل على حد يكون موجبا لتضييق مجالها إلى الحد الذي تستقيم به الحياة و يتحقق الكمال المنشود و هذا الأسلوب من أهم الاساليب التربوية التي تؤثر في النفس و تستلفت النظر الى المضمون، فقد جعلت هذه الآية الشريفة اباحة التعدد و جوازه هو الأصل ثم أوردت القيد الذي يضيق هذا الأصل الى الحد الذي يتحقق به الكمال و ينتظم به الحياة، و هو العدل بين الزوجات و انه لا يتحقق و لن يتحقق إذا لم يترب الفرد بالتربية الإلهية و لم يقم بالوظائف الشرعية فيكون هذا التشريع جامعا لمكارم الأخلاق و أهم الاحكام الاجتماعية و أعظم الأسس التربوية.
و من توجه الخطاب إلى العموم «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا» يستفاد ان التعدد لا بد ان يحدث في المجتمع الذي يسوده العدل بحيث يتزوج رجل واحد عدة نساء في ظل العدل و الإنصاف يسودهم الإخاء و المحبة فإذا توفرت تلك الشروط جاز التعدد و الا كانت الوحدة أفضل‏ فيستفاد من الآية المباركة ان الوحدة هي المطلوبة و ان كان التعدد مباحا بلا ريب و لا اشكال و إذا تحققت القيود التي ذكرها الشارع كانت الحياة معها أفضل و اهنأ.
تعدد ازواج النبي (صلى اللّه عليه و آله):
بعد ما عرفت الوجه في تشريع تعدد الزوجات في الإسلام و الحكمة فيه يتضح لك الوجه في تعدد زوجات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) فقد كان (ص) المتفرد بامتثال هذا التكليف الالهي بأكمل وجه فصار أسوة في هذا المجال حتى عد من مختصاته المعروفة حسن المعاشرة مع نسائه و رعاية حقوقهن و العدل بينهن و كفى به حجة على اعداء الإسلام الذين اعترضوا على هذا الترخيص الالهي و مع ذلك فقد اعترض بعضهم على تعدد زوجات النبي (صلى اللّه عليه و آله) بانه لا يخلو عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة، مع انه (صلى اللّه عليه و آله) لم يقنع بما شرعه لامته فتعدى منه إلى الازدواج بالتسع من النسوة.
و لكن المتأمل في حياة هذا الرجل العظيم الذي يعتبر بحق انه مثال للكمال المطلق و الذي مدحه الجليل الأعلى بقوله تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ» القلم- 4 انه بعيد عن ما نسبوه اليه كل البعد و لم يظهر اي أثر من آثار الشره و الانقياد إلى الشهوة عليه في تمام مدة حياته و في معاشرته مع النساء و هو الذي امره اللّه تعالى بان يخير أزواجه بين التمتيع و الطلاق ان كن يردن الدنيا و زينتها على ما نزل عليه في كتابه المجيد من امره له فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ‏ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» الأحزاب- 29 و كيف ينطبق عليه و قد زهد عن الدنيا و زخارفها و اعرض عن كل ما يلهيه عن ذكر اللّه تعالى.
و من ذلك كله يستفاد انه (صلى اللّه عليه و آله) أراد من زواجه بهن غير الذي ذكروه فهو قد أراد إماتة العادات الجاهلية أولا، و اظهار منزلة النساء التي أهملوها عندهم ثانيا، و بيان كيفية المعاشرة معهن ثالثا، و ليعطي الاهداف الخاصة في زواج كل واحدة منهن رابعا. هذا موجز الكلام و سيأتي في الموضع المناسب تفصيله.

الاول: يصح ان يراد باليتيم في الآية المباركة كل ذي حق واجب لا بد في نظام التكوين و التشريع مراعاة ذلك الحق و ان لم يكن من اليتم اللغوي كالأنبياء و الائمة المعصومين (عليهم السلام) و العلماء العاملين بعلمهم و التاركين للهوى مطلقا فإنهم بين الورى محرومون لا يعرف حقهم و لا يتخلقون بأخلاقهم، و هم يعيشون منفردين في مجتمع لا يهتمون إلا بالماديات الصرفة و الظواهر الحسية و لا يعرفون من وراء ذلك شيئا و يدل عليه قول أبى جعفر الباقر (عليه السلام) «نحن اليتيم» فهم أيتام بهذا المعنى و يتيمة جميع العوالم الامكانية. و كل من يرشد الى الحق بالحق في الخلق يتيم بين الخلق الذين هم لا يعرفونه حق معرفته و غرباء في بلدهم كما في الحديث «المؤمن غريب في بلده‏ لا يستأنس الا بإيمانه» فلا بد من الاهتمام بإيتاء حقوقهم و التخلق بأخلاقهم.
الثاني: إذا كانت الماديات لا تتحصل لها صورة نوعية و لا تدخل لها في النظام الأحسن الكياني الا بالترابط بينها بارتباط القوى الفاعلية بالقوى المنفعلة فالمعنويات اولى بذلك فما لم يرتبط من له مقاليد السموات و الأرض و من عنده مفاتح الغيب و المعية القيومية مع الممكنات لا وجه لتحققها في اي مرتبة من مراتب التحقق قال تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الحديد- ٤ و قال تعالى: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» ق- ۱٦ و قال علي (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله و بعده و فيه» فلا يمكن تحقق اي امر معنوي إلا بذلك قال نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «للّه في ايام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» و ليست تلك النفحات من الجواهر و الاعراض أو الوهميات بل هي شوارق غيبية تتدفق من عالم الغيب على القلوب المستعدة و مثله قوله (صلى اللّه عليه و آله) في شأن اويس القرني: «اني أشم نفس الرحمن من ناحية اليمن» ففي ارتباطات النفوس المقدسة مع معدن الكبرياء و العظمة تتحقق ينابيع من المعنويات يصفو عندها كل معدن و يهيج. و كيف لا يكون كذلك و الإنسان الكامل هو مفخر الاملاك و غاية حركات الأفلاك و طاوس الكبرياء و حمام الملكوت.
الثالث: يصح ان يراد من الخبائث في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» جميع حرمات اللّه تعالى سواء كانت من الماديات أو من غيرها مما حرمه اللّه تعالى فإنها توجب البعد عن ساحته و القرب إلى الشيطان و للخبائث مراتب شدة و ضعفا.
و المراد من الطيب ما يوجب القرب إلى ساحته عز و جل و له ايضا مراتب شدة و ضعفا كما يكون القرب و البعد كذلك.
و الفطرة السليمة تأبى من تبدل الخبيث بالطيب إلا إذا عميت عين البصيرة و عطبت الفطرة المستقيمة بالحجب الغليظة و حينئذ تختار النفس الامارة بالسوء الخبيث على الطيب.
فالآية المباركة تجري في جميع الأقوال و الأفعال و الحركات بل المعتقدات فان جميعها تتصف بهما و تطبيقهما على المال من باب الكلي على الفرد.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"