1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 19 الى 21

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (۱۹) وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (۲۰) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (۲۱)


الآيات الشريفة تشمل على احكام اجتماعية تهم المجتمع الاسلامي و قد تضمنت تشريعات الهية للحياة الزوجية و قد امر عز و جل الزوج بالمعاشرة بالمعروف مع الزوجة و نبذ الإحساسات و العواطف التي تهدد حياتهما و تجلب الشقاء لهما كما نهت الزوجة عن الخيانة و الفحشاء فالعمل بهذه الاحكام الإلهية تجلب السعادة و يهدى الى الكمال و هذه هي وجه الارتباط بين الآيات في هذه السورة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
خطاب إلى المؤمنين الذين آمنوا باللّه و دانوا بشريعة الحق و اعرضوا عن العادات الجاهلية و التقاليد الباطلة، فصاروا بذلك مستحقين للخطاب الالهي كما تشرفوا به منه تعالى.
و الآية الشريفة تشير إلى عادة جاهلية و هي انهم كانوا يجرون على النساء حكم المتاع و العروض بل يستفاد منها انها كانت في زعمهم بمنزلة الحيوانات العجم التي لا ارادة لها و لا اختيار كالإبل و الغنم و ذلك من اضافة الوراثة إلى النساء إلا ان وراثة النساء عندهم كانت وراثة خاصة لم تكن في عرض وراثة سائر الأموال.
و المعروف انهم كانوا يرثون النساء مع التركة إذا لم تكن المرأة اما للوارث فكان احد الوراث يلقى ثوبا على زوجة الميت فيرثها و يتسلط عليها فان شاء عضلها عن النكاح و حبسها حتى الموت فيرث أموالها و ان شاء يزوجها فينتفع من مهرها. و الآية المباركة تنهي عن تلك العادات التي لم ينزل بها سلطان، و تضمنت قوانين فطرية عقلية قررها الوحي المبين و هي امور اجتماعية يسعد بها الاجتماع و الحياة الزوجية.
منها: النهي عن ارث النساء كرها و هذا الحكم فطري يقرره كل عقل سليم. و كرها بالفتح كما هو المعروف و قرئ بالضم. و الكره بالضم و الفتح بمعنى عدم الرضا إما من الغير أو من قبل نفسه و قيل: بالفتح الكراهية و بالضم الإكراه و قيل. غير ذلك و هو مصدر في موضع الحال إما نائب عن المفعول المطلق المستفاد من «تَرِثُوا» أو انه منصوب على انه حال من النساء. و هذا الحكم يتصور فيه وجوه:
الاول: ان يستوهب منها المال الذي يصل من المورث بالإكراه بأن تحرم من تركتها فيستقل الوارث بتمام التركة دونها.
الثاني: ان يؤخذ نفس النساء كسائر الأموال و هن مكرهات على ذلك أو انهن يكرهن ذلك.
الثالث: ان يستكرهها احد الوراث على ان تهب تركتها أو نفسها له دون سائر الورثة و غير ذلك من الحيل الإكراهية.
و على اى حال يكون القيد (كرها) لبيان الواقع الذي كان في الجاهلية، فتكون الآية في مقام الردع عن تلك العادة السيئة و حينئذ لا معنى للنزاع في ان هذا القيد هو قيد توضيحي أم احترازي و يستفاد من اضافة الوراثة إلى النساء انهن بمنزلة المال فيشمل نفسهن و المال الذي عندهن.
قوله تعالى: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ.
حكم فطري آخر عطف على قوله تعالى: «أَنْ تَرِثُوا» و مادة (عضل) تدل على التضييق و اليه يرجع الحبس و الشدة. يقال: أعضل الأمر اي:
اشتد و عضلت المرأة بولدها عسر عليها. و عضل المرأة يعضلها- مثلثة الضاد- منعها الزوج ظلما و قد وردت هذه المادة في موضعين أحدهما المقام؛ و الثاني في قوله تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» البقرة- 232 و قد تقدم الكلام هناك فراجع و المراد به هو المنع من حقوقهن في الحياة الزوجية بخلاف الآية الاولى التي كانت في المال الذي تمتلكها النساء.
و هذا ايضا يتصور على اقسام: فاما ان يكون العضل و المنع عن الزواج و هذا ما تقدم في سورة البقرة- 232 أو العضل عليهن في الطلاق حتى تفتدي بشي‏ء من المال أو العضل عليهن من النكاح حتى تفتدي جميع الصداق أو ببعض منه.
و الآية المباركة تؤكد النهي عن منع المرأة من حقوقها المشروعة التي قررها القرآن الكريم في مواضع متعددة منها قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» البقرة- ۲۳٤ فان المنع و التضييق عليهن باي وجه كان هو خلاف قاعدة السلطنة المقررة عقلا و شرعا.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ.
استثناء عن ما تقدم. و الفاحشة هي الفعل القبيح قد شاع استعمالها في الزنا و المبينة من البين و هو الواضح اي الفاحشة المعلومة الواضحة.
و المعنى: و لا تمنعوا النساء من النكاح و تضيقوا عليهن ليضطررن إلى بذل شي‏ء من المال إما الصداق أو غيره مما دفعتموه إليهن لرفع الاضطرار إلا ان تأتي المرأة بفاحشة معلومة واضحة فله ان يعضلها حتى تدفع مالا له ليفارقها.
و نظير هذه الآية ما ورد في سورة البقرة قال تعالى: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» البقرة- 229 و «إِلَّا» في المقام يفسر عدم اقامة حدود اللّه تعالى بإتيان الفاحشة هذا كله لو لم يكن رضاء منها في البذل.
و اما لو كان عن تراض منهما فلا اشكال في جوازه إذا لم تكن عن مفسدة شرعية. و من تقييد الفاحشة بالمبينة يستفاد ان مجرد صرف الوجود غير كاف ما لم تكن مبينة و واضحة.
قوله تعالى: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
بيان لأصل من اصول الحياة و هو الأساس للحياة السعيدة فان اللّه تعالى نهى عن ارث النساء كرها و عضلهن، و وضع حدا للظلم عليهن و بين في هذه الآية المباركة ان الطريق الصحيح هو المعاشرة مع النساء بالمعروف بأن تكون المخالطة و المصاحبة و العيش معهن بما هو المعروف بين افراد المجتمع و لم يعين سبحانه و تعالى كيفية ذلك ليكون العرف الذي هو الشائع في كل عصر و زمان هو المعتمد في ذلك و هذا من المفاهيم الاسلامية القويمة التي تذكر في مجال التطبيق العملي و ان الجاهلية و الشقاء تتحققان بقدر الاعراض عمّا شرعه اللّه تعالى فيما بينته السنة المقدسة و الإسلام دين متكامل يعطي بقدر ما يترك و لا يصلح جانبا على حساب جانب آخر أو إهمال جهة معينة، ففي المقام الواجب على الرجل حسن المعاشرة مع النساء بالمعروف فإذا كان ذلك من جانب الرجل ففي جانب المرأة هو اطاعة الزوج و هما يتوازنان الأمر و تتأدى الحقوق و الواجبات.
قوله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً.
تأكيد لما ذكره عز و جل و هو المعاشرة مع النساء بالمعروف، و ايقاظ للشعور الانساني بأن دين اللّه تعالى لا بد ان يعمل به بجميع حدوده و قيوده في جميع اتجاهاته.
و تبين الآية الشريفة حكم الاستمرار في الحياة الزوجية و او كانت مع الكراهية فإنها تأمر بالمعاشرة حتى مع الكراهة و عدم فصم العلاقة الزوجية و قطعها عند ادنى تحول في المشاعر و الاحساس و يصلح حالها بالصبر و حسن المعاشرة لتعود حياتهما إلى الانتظام و تتهيأ اسباب السرور و البهجة فان اللّه تعالى قادر على ان يمنحهما السعادة و يتمتع الرجل- الذي وجد أمورا يكرهها في زوجته- بما فيه خير كثيرا مما يهون عند ما شاهد ما كرهه في زوجته.
و للخير الكثير مظاهر كثيرة منها: اظهار الحق و ابطال الباطل.
و منها: كثرة النسل و البركة فيه و في المال.
و منها: التخلق بأخلاق الكرام.
و منها: الهناء في العيش و البعد عن مشاكل الحياة.
و منها: السعادة في الدارين و غير ذلك مما لا يخفى.
و اسناد الكراهة إلى الزوجات انفسهن يدل على أن اسباب الكراهة توجد في انفسهن إما ذاتا كما كان عليه الناس في العصر الجاهلي أو لأمر خارجي كالعيب الخلقي أو الخلقي دون نفس الحياة الزوجية و نكاحهن، و الآية المباركة ترشد الى عدم المسارعة إلى مفارقتهن و مضارتهن.
و التعليل في الآية الشريفة عام لا يختص بمورد الآية فهو من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم و هي توقظ روح التعقل في الإنسان عند استيلاء القوى الشهوية و الغضبية عليه و ترشده إلى التفكر في عواقب الأمور و تروّض النفوس على التخلق بمكارم الأخلاق و حسن المعاشرة مع النساء و انه بعمله بما ورد في هذه الآية الشريفة يرتقى إلى المستوي المرغوب منه من المحل الواقعي له و يصل إلى الكمال الذي أعد له فانه أذعن بالحق و عمل به و أنكر الباطل و زيّغه.
و الآية المباركة تبعث الأمل و الرجاء عند اليأس في الحياة و عروض المشكلات على الإنسان و قد تقدم نظير ذلك في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» البقرة- ۲۱٦ و تقدم البيان في ذلك ايضا فراجع.
قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ.
الاستبدال: هو طلب البدل و اقامة زوج مكان زوج أخرى ترغبون عنها لكراهتكم لها كما يدل عليه قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ» فان الارادة تستدعي ذلك بان تكون رغبة عن المبدل و رغبة في البدل.
و الآية الشريفة تحدد المسئولية عند تشكيل الحياة الزوجية و اقامة زوج آخر.
و من كلمة الاستبدال الواردة في الآية الشريفة نستفيد ان الأمر إذا بلغ الانفصام و الانفصال بينهما رغم التوصية في الآية السابقة على عدم مسارعة الرجل إلى فصم رباط الزوجية عند تحوّل المشاعر، فعسى ان يكره شيئا و يجعل اللّه فيه خيرا كثيرا فلا ينبغي ان يحدث ذلك و اما إذا أحدث فلا بد ان تقام الوحدة الاجتماعية مرة اخرى بزوج اخرى و تجتمع الاسرة لئلا تتعطل وظيفتها.
و الإسلام يؤكد على ذلك و هو شديد الحرص على تكوين الاسرة و ذلك لأسباب كثيرة منها سد أبواب الفحشاء، و جعل دوافع الفطرة في مسيرها الطبيعي و توحي كلمة الاستبدال منضمة بقوله «أَرَدْتُمُ» على مل‏ء الفراغ في الحال و عدم الإهمال في هذا الأمر العظيم.
قوله تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً.
القنطار: هو المال الكثير و قد تقدم تفسير هذه الكلمة في قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ» آل عمران- ۷٥ و أتي به مبالغة في كثرة ما يعطي من المهور و تأكيدا في الزجر فإذا دفع الزوج الصداق إلى الزوجة و لو كان كثيرا أو التزم به في الذمة فلا يجوز ان يأخذ منه شيئا و لو كان قليلا إذا بلغ الأمر إلى انفصام‏ علاقة الزوجية و الطلاق و لا يحل له ذلك.
قوله تعالى: أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً.
إنكار على أخذهم لذلك الشي‏ء، و البهتان مصدر نصب على الحالية و هو ما يجعل الإنسان متحيرا، و غلّب استعماله في الافتراء الذي يبهت المكذوب عليه و يجعله متحيرا و الإثم: الذنب و هو حال ايضا و المبين الموضح، فيكون البهتان بمعنى الدعوى بغير حق و لا ريب ان أخذ شي‏ء من صداق المرأة بعد كثرة علاقتها به بدون رضاها بهتان و اثم مبين واضح لا ريب فيه. نعم لو رضيت به لا اشكال فيه حينئذ كما في الخلع و غيره.
و قيل: البهتان في المقام نسبة المرأة إلى الفاحشة ليستلب أموالها و صداقها اي: أ تأخذون شيئا مما دفعتموه إليهن صداقا و لو كان السبب رميهن بالفاحشة باهتين لها أو ناسبين الكذب إليها كعدم اقامة حدود اللّه تعالى لتلتجأ إلى الافتداء.
و هذا و ان كان حسنا ثبوتا لكنه خلاف المنساق من الآية الشريفة.
و بناء على ما ذكرناه يكون «إِثْماً مُبِيناً» عطفا تفسيريا للبهتان كما هو واضح.
قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ.
تعليل لمنع الأخذ من مال المرأة و انكار آخر له و إرجاع إلى الفطرة مبالغة في التنفير و هو من احسن الاساليب البلاغية فان الصداق انما يكون بإزاء الزوجية و الخلوة بها قضاء لما تدعو اليه الشهوة و الفطرة و هذا يؤكد ما ذكرناه من رجوع البهتان إلى نفس الأخذ و فيه كمال الذم و التوبيخ للآخذ.
قوله تعالى: وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ.
الإفضاء: هو المخالطة و الاتصال بالمماسة يقال افضى إلى الأرض يده إذا مسها في سجوده و يكنى به في النكاح عن الجماع غالبا. و الإفضاء من الكلمات التي تستعمل في الحياة الزوجية لأنها تشمل على الارتباط و التمتع و رفع الحشمة، و هي من احسن الكنايات في هذا المجال.
و المعنى: كيف تأخذون من مالها شيئا و قد ارتبطتم معها ارتباط اللباس باللابس كما في قوله تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» البقرة- 187 و اختلطتم معها و تحققت علاقة الزوجية فكأنهما حقيقة واحدة و في هذه الحالة لا يصح الظلم و البهتان و الرمي بالكذب و أخذ المال ظلما و عدوانا و هو مما يتعجب منه.
قوله تعالى: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
الميثاق: هو العهد المؤكد المشدد، و الغليظ إما عطف بيان على «مِيثاقاً» فيكون المعنى و أخذن منكم شيئا غليظا و هو المني الذي يكون محترما بالعقد الواقع بينهما.
أو تكون وصف من قبيل ذكر الخاص بعد العام اي: العقد الغليظ الواقع غالبا بمحضر من الناس مقرونا بالطرب و السرور.
و كيف كان فهذه الآية الشريفة تدل على احترام العلاقة الزوجية و ان العقد الواقع بين الزوجين مما عظمه الإسلام و سائر الأديان الإلهية، و يجب الالتزام به بحسب الفطرة.
و قيل: ان الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ من الرجل للمرأة في ما ذكره عز و جل «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» البقرة- 229 و قيل الحلية المجعولة شرعا في النكاح و قيل غير ذلك.
و لا يخفى بعد جميعها و يمكن إرجاعها إلى ما ذكرناه و الآية المباركة تدل على انكار الأخذ و انه بهتان.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول‏:
يستفاد من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ» ان في عصر نزول القرآن كان الناس يعتبرون النساء متاعا من الامتعة يتوارثونهن و يحكم الرجل عليها بما يريده و ان كان على كره منها و قد نهى القرآن الكريم عن هذه العادة السيئة و بيّن عز و جل حكمه الابدي فيها ورد عليها كرامتها و الزم الرجل معاشرتها بالمعروف و جعل تبارك و تعالى ذلك أصلا من الأصول النظامية فلا بد من مراعاتها و الا حصلت امور لا تحمد عقباها كما عرفت في التفسير.
الثاني‏:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» حرمة الابتزاز و الاستبداد بالمرأة و النهي عن التضييق على النساء بكل وجه من وجوه التضييق و حرمة اضطهادهن ليستفيدوا منهن أية فائدة فان ذلك قبيح إلا ما استثناه عز و جل، و لا منافاة لهذه الآية الشريفة مع آية الخلع فانه انما يكون من جانب المرأة، فإذا رضيت بالفداء يجوز للزوج قبوله و مفارقتها. و في غير ذلك لا يجوز عضلها و منعها مطلقا إلا إذا أتت بفاحشة مبينة.
الثالث‏:
يستفاد من قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» ان الفاحشة التي توجب العضل لا بد ان تكون معلومة ثابتة فلا يكفي الظن في هذا المقام الذي هو في معرض الخصومة و الجدال و سوء الظن فهذه الكلمة «مُبَيِّنَةٍ» لها موقعها العظيم في المقام و في هذه الحالة يجوز عضلها من باب النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف.
الرابع‏:
يستفاد من قوله تعالى: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» حقيقة من الحقائق الواقعية و هي تدل على جهل الإنسان بالواقع و ان ما يجهله اكثر مما يعلمه، فانه قد يقع تحت وقع المشاعر و الاحساس و العواطف التي قد تكون حجابا عن التفكر في عواقب الأمور.
فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي نزلت لتربية الإنسان تربية حقيقية واقعية، و تحدد مسؤوليته اتجاه الحياة الزوجية التي بنيت على المحبة و تحكيم العقل دون المشاعر الوهمية الخاطئة التي تسبب كثيرا من المشاكل و المتاعب في هذه الحياة.
و الآية المباركة توحي إلى الإنسان بعدم التسرع في الحكم عند غلبة العواطف و لها وقع كبير في الحياة الزوجية التي لا تخلو من التنازع و الخصومة إذ ليس كل زوجة مطلوبة للزوج من كل جهة و كذا بالعكس.
الخامس‏:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ» منضما إلى قوله تعالى: «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ» ان الأخذ المحرم من الصداق هو ما كان بعنوان الإكراه و الإلجاء لها على ذلك و لو كان البذل بإرادتها و عن طيب نفس منها فلا بأس به و على هذا فلا منافاة بين هذه الآية و آية الخلع سورة البقرة- 229.
السادس‏:
يدل قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ» على اهمية الاسرة و انه لا بد من تشكيل الاسرة بعد انفصام‏ الاولى لجهة من الجهات إعادة الوحدة الألفة التي يعطي لها الإسلام اهمية خاصة في بناء المجتمع. و توحي الآية الكريمة بانه لا يجوز تعطيل وظيفة الاسرة لاي جهة من الجهات.
السابع‏:
يدل قوله تعالى: «وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ» على أسلوب من الاساليب البلاغية البديعة فانه يرجع الإنسان إلى الضمير و تحكيمه على سائر المشاعر و العواطف فان الحياة التي بنيت قاعدتها على الترابط بين شخصين يكون أحدهما بمنزلة اللباس للآخر كيف يمكن جعل المال عوضا عن تلك الحياة الزوجية.
الثامن‏:
يدل قوله تعالى: «إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» على انه لا تحديد في المهر بالنسبة إلى الكثرة كما انه لا تحديد فيه بالنسبة إلى القلة، و قد ورد في السنة المتواترة «ان المهر كل ما تراضيا عليه قليلا أو كثيرا» نعم لا ريب في ان الفضل في مهر السنة.
التاسع‏:
يدل قوله تعالى: «وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» على ان المرأة هي التي أخذت الميثاق من الرجل، و لكن المستفاد من الادلة الاخرى ان الميثاق مأخوذ من الطرفين و هو متقوم بالزوجين يأخذ الميثاق من المرأة على تمكينها من التمتع بها و قيامها بسائر الوظائف الزوجية الواجبة عليها و الزوجة تأخذ الميثاق من الرجل على العشرة بالمعروف أو التسريح بالإحسان: و عقد النكاح بينهما عند كل قوم ينحل إلى ذلك.
و لعل الوجه في تخصيص الزوجة بالأخذ في الآية الشريفة لأجل شدة عواطفها و سلطة الزوج عليها، فخصها عز و جل بالذكر لئلا تنقهر تحت تلك السلطنة، كما يمكن ان يكون لأجل انها أخذت مسئولية الحمل و الإرضاع و هو المراد ب (المني) في بعض الروايات، و كيف‏ كان فالمستفاد من الآية الشريفة ان للمرأة شأنا عظيما في هذه الحياة و انها بمنزلة الهيولى و المادة و لولاها لما كان للميثاق موضوع ابدا، كما انه لو لم تكن الأرض لما كان للنبات موضوع أصلا.

في تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» قال (عليه السلام): «كان في الجاهلية في أول ما اسلموا من قبائل إذا مات حميم الرجل و له امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها فكان يرث نكاحها كما يرث ماله فلما مات ابو قيس بن الاسلب القى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه و هي كبيشه بنت معمر بن معبد فورث نكاحها ثم تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها فأتت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقالت يا رسول اللّه مات أبو قيس بن الاسلب فورث ابنه محصن نكاحي فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلي سبيلي فألحق باهلي؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ارجعي إلى بيتك فان يحدث اللّه في شأنك شيئا علمتك به فنزل: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا» فلحقت باهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشه غير انه ورثهن من الأبناء فانزل اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» و في الدر المنثور و اسباب النزول للواحدي عن عكرمة عن ابن عباس في الآية الشريفة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» قال: «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ان شاء بعضهم تزوجها، و ان شاؤوا زوجوها و ان شاؤوا لم يزوجوها و هم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية».
أقول: الروايات في مضمون ذلك متعددة من الخاصة و الجمهور و جميعها تنكر ما كان شايعا في الجاهلية و قد عرفت في التفسير ما يرتبط بالمقام.
و في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد اللّه عن السري البجلي قال: «سألته عن قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» قال: فحكى كلاما ثم قال: كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره و كان هذا في الجاهلية».
أقول: هذا يبين بعض مراتب العضل.
و في تفسير العياشي ايضا عن ابراهيم بن ميمون عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» قال: «الرجل تكون له المرأة فيضربها حتى تفتدي منه فنهى اللّه عن ذلك».
أقول: هذا ايضا نحو من العضل.
و في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» قال، «كل معصية».
أقول: لا ريب انه كل معصية فاحشة إلا ان بعضها افحش من بعض.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا قالت له لا اغتسل لك من جنابة و لا أبر لك قسما و لأوطين فراشك من تكرهه حل‏ له ان يخلعها و حل له ما أخذ عنها».
أقول: هذا من بعض مصاديق الفاحشة و الا فلو كانت موجبة لما هو مستنكر في المعاشرة بين الزوجين و قد نهى عنها الشرع تكون تلك فاحشة ايضا.
و في تفسير البرهان قال الشيباني: «الفاحشة يعني الزنا»، و ذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة منها فله أخذ الفدية قال و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)».
أقول: هذا ايضا بيان لبعض المصاديق.
في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» قال (عليه السلام) «الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النكاح و اما غليظا فهو ماء الرجل يفضيه إلى امرأته».
أقول: كون المني غليظا باعتبار كونه منشأ الحياة و هو محترم إذا كان بعقد شرعي و الا فلا احترام له.
و في المجمع: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: لا منافاة بين التعبيرين فان الإمساك بالمعروف و التسريح بإحسان من الالتزامات الضمنية الداخلة في مفهوم العقد.
و في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن جابر ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه، و ان لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف».
و في الدر المنثور ايضا اخرج ابن جرير عن ابن عمر: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: يا ايها الناس ان النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه و لكم عليهن حق، و من حقكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف».
أقول: كل ذلك بيان لمعنى الميثاق القولي الحاصل بين الزوجين.
و في الدر المنثور اخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد اللّه ابن مصعب قال «قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين اوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة: ما ذاك لك قال و لم؟ قلت لان اللّه يقول: «وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» فقال عمر امرأة أصابت و رجل اخطأ».
أقول: تقدم ما يدل على تحديد المهر كما و كيفا فراجع.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"