1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 17 الى 18

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (۱۷) وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (۱۸)


لما ختم سبحانه و تعالى الآيات السابقة بالتوبة و بيّن ان بها تسقط العقوبة و الحد الشرعي ذكر عز و جل في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة من الحقائق الإلهية التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان السماوية، فبين عز و جل حكم التوبة و انها حق من حقوق العبد على خالقه و مربيه و قد وصف نفسه بالرحمة و ذكر شروط التوبة و مواردها التي تقبل من الإنسان و الموارد التي لا تقبل.
كما بين عز و جل ان التوبة انما تكون وفق النظام الربوبي المتقن المبني على الحكمة و العلم.
و الآية من الآيات المتعددة التي ترغب العاصين إلى هذه الموهبة الربانية و تحرضهم إلى التوبة قبل فوات الأوان. و انما ذكر عز و جل هذه الحقيقة ضمن الاحكام الإلهية لما لها من الأهمية الكبرى في تربية الإنسان و هدايته إلى السعادة و الكمال و لا تخلو الآيتان من الارتباط بالآيات الاخرى.

قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ.
بيان لحقيقة من الحقائق الإلهية التي كشف عنها القرآن الكريم بما لم يكشف عنها كتاب سماوي آخر، فانه بيّن حقيقة التوبة و شروطها و مواردها و آدابها و آثارها. و يمكن اعتبارها بحق من التعاليم المختصة بهذا الكتاب العزيز و انها لم تكن بهذه الخصوصية في سائر الشرائع الإلهية و قد اهتمّ القرآن المجيد بها اهتماما بليغا حتى ورد ذكرها فيه بما يزيد على ثمانين موردا، و سميت سورة من سور القرآن المجيد باسم التوبة.
و التوبة في نظر الإسلام من الأمور المعدودة التي لها جوانب متعددة فهي عملية تربوية تربّي الإنسان تربية دينية مبنية على الحقيقة دون الوهم و الخيال، كما انها عملية اصلاحية تصلح النفوس الفاسدة و تهذبها و تزكيها و تصلح المجتمع و تجعله في المسار الصحيح، كما انها فضيلة اخلاقية و هي من أجل مكارم الأخلاق. و نحن ذكرنا ما يتعلق بها في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى‏ مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» البقرة- ۱٦۰ فراجع الآية الكريمة.
و مادة (توب) تدل على الرجوع سواء استعملت بالنسبة اليه عز و جل أم استعملت بالنسبة إلى العبد قال تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» التوبة- 118 و توبة اللّه تعالى على العبد هي الرجوع عليه بالرحمة و التوفيق و غفران الذنوب و توبة العبد هي الرجوع إلى اللّه تعالى بالندامة و الانصراف عن المعصية.
و المستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من اللّه تعالى إحداهما: التوفيق لها لان العبد محتاج بذاته و هو الفقير اليه عز و جل قال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» فاطر- ۱٥، فإذا وفقه اللّه تعالى للتوبة تاب و رجع اليه عز و جل بالندامة و الانصراف عن المعصية: الثانية: توبة اللّه تعالى عليه بالقبول و الغفران فتكون مطهرة للعبد مما أصاب نفسه بسبب المعصية من القذارات و النجاسات المعنوية فيحصل بها التقرب اليه عز و جل.
و (على) في قوله تعالى: «عَلَى اللَّهِ» تفيد اللزوم و الثبوت و هو يرادف الوجوب، و انما وجبت التوبة لأنها من افراد رحمته التي أوجبها على نفسه قال تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» الانعام- ٥٤ و استعمال (على) في الوجوب و اللزوم كثير و لا ضير في ذلك.
الا ما يقال: من ان استعمال الوجوب بالنسبة اليه عز و جل امر مستنكر بل لا يصلح لأنه لا سلطة على اللّه تعالى يوجب بها عليه و لذا ذكر بعض المفسرين ان هذه العبارة و أمثالها التي هي ظاهرة في وجوب بعض الأشياء على اللّه قد جاءت على طريق العرب في التخاطب و لا يفهم منه إلا انه واقع لا محالة.
و لا يخفى ان ذلك تطويل لا طائل تحته و ما ذكره انما هو تغيير في ظاهر اللفظ، فلا مانع من إيجاب اللّه تعالى على نفسه أمورا تقتضيه حكمته المتعالية و قد نطق بها القرآن الكريم و شهد بها العقل السليم من دون ان يكون لغيره سلطة عليه يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف فإذا كانت التوبة من مصاديق الرحمة الإلهية التي وعد بها عباده» و اللّه لا يخلف الميعاد فيجب عليه قبول توبة عباده من هذه الجهة ايضا.
ثم ان اطلاق الآية الشريفة يشمل جميع اقسام التوبة من الكفر و الشرك و الضلال و أنحاء الفسق و العصيان الا ما يستثنيه سبحانه و تعالى بعد ذلك. نعم تختلف أنحاء التوبة ففي بعض المعاصي تكون بالإيمان باللّه تعالى و في البعض الآخر تكون بأداء الحقوق، و في ثالث بإيقاع الحد، و في رابع باجتناب الكبائر، و في خامس بالطاعة و المواظبة على الصلاة و قد ذكرنا جميع ذلك في مبحث التوبة فراجع آية ۱٦۰ من سورة البقرة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ.
(للذين) خبر، و (التوبة) مبتدأ، و (على اللّه) متعلق بما تعلق به الخبر، و قيل غير ذلك و (بجهالة) حال من فاعل (يعملون) و الباء للسببية و (السوء) هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله بارتكابه و هو لا يليق به سواء كان كفرا أم معصية كبيرة أم صغيرة و (الذين) عام يشمل المؤمن و الكافر معا فالجملة تبين حالهما، لأنهما معا يعملان السوء. و (العمل) أعم من الجوارح أو عمل القلوب. و التعبير به مع ان الكفر من اعمال القلوب لبيان ان الكفر سيئة و منشأ للأعمال السيئة.
و الجهالة من الجهل مقابل العلم و المراد بها إما عدم العلم بالموضوع أو الحكم أو هما معا، قصورا أو تقصيرا، و في الكل لا يتحقق العصيان حتى يتحقق موضوع التوبة، لان مقتضى ما هو المتواتر بين المسلمين عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «رفع عن امتي ما لا يعلمون» عموم الحكم لجميع افراد عدم العلم. إلا ان يدعى الانصراف عن مورد التقصير، كما عن جمع من العلماء من تحقق العصيان في الجهل التقصيري و هو مقتضى ظاهر بعض الاخبار ايضا فلا تكون الجهالة في المقام بهذا المعنى بلا إشكال.
أو المراد بالجهالة في المقام فعل كل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتوجه إلى نفسه و العارف ببصيرته ما فيه صلاحه عن ما يسوؤه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» سورة يوسف- 89 فما يصدر حينئذ عن الفرد انما يكون من داع نفساني غالب على ما تقتضيه القوة العاقلة فيكون مغلوبا لنفس امارة و داعية شهوية أو غضبية، و غواية الشيطان الذي يمني الإنسان بالسوء و حب العاجل و التغاضي عن الجزاء، فان جميع ذلك توجب الغفلة و الوقوع في الجهالة فيغفل عن وجه قبح الفعل و ذمه مع كون الفاعل انما يفعل عن علم و ارادة و على هذا تكون الجهالة قيدا توضيحيا لكل معصية تصدر عن الهوى و غلبة الشهوة و الغضب فتكون صادرة عن الجهالة، و لذا لو سكنت ثائرة الغضب و خمد لهيب الشهوة و رأى جزاء عمله عاد إلى العلم و زالت الجهالة و ندم على فعله و مما ذكرنا يظهر السر في قوله (صلى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة».
هذا إذا لم يكن صدور الذنب عن المكابرة للحق و عناد معه و إلا فان ذلك يرجع إلى خبث الذات و رداءة الفطرة، و معهما لا يرجع إلى الحق بالتوبة و يستمر على ذلك طول حياته إلا إذا لحقته العناية الربانية فيرجع عن عناده و لجاجته و تلحقه الندامة و في غير هذه الحالة لا يكون المعاند نادما، و إن اظهر الندامة فإنما يكون لحيلة يحتالها لنفسه فرارا عن الجزاء و نحوه و يدل عليه رجوعه إلى غيه و لجاجته لو ارتفعت الضرورة كما قال تعالى: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» الانعام- 28.
و مما ذكرناه يظهر ان القيد يمكن أن يكون احترازيا ايضا فيكون المراد به ان لا يكون الذنب عن عناد و لجاجة و استعلاء على اللّه تعالى، و يشهد لذلك عدم تقييد عمل السيئات بالجهالة في الآية التالية فان المنساق منها هو التعمد و التجبر على اللّه تعالى كما يشهد له قوله تعالى: «وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ» فالحالة التي تكون بين الموت و عمل السيئة على اقسام.
الاول: ان يكون مبادرا إلى التوبة بعد عمل المعصية فهذا تقبل التوبة منه: الثاني: ان يكون بانيا على الطغيان و العصيان إلى ان يحضر بعض علامات الموت فيتوب حينئذ، و المنساق من الآيات الشريفة عدم قبول التوبة حينئذ قال تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» غافر- ۸٥ لان التوبة انما تقبل في ظرف اختيار العبد و تمشي القصد الجدي منه و هو لا يتحقق في وقت ظهور علامات الموت و ورود الإنسان في الأشراف على أول منازل الآخرة و هو البرزخ إذ لا اختيار له.
الثالث: ما إذا كان بانيا على التوبة بحسب الفطرة و لكن تساهل فيها لغلبة الشهوات الدنيوية حتى إذا حضر بعض علامات الموت التي لا تسلب الاختيار و يتحقق منه القصد الجدي في الطاعة و المعصية و يترتب عليهما الآثار الشرعية و العرفية فتاب عن قصد فحينئذ تقبل التوبة ان كانت جامعة للشرائط كما تقبل وصيته قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» البقرة- 180 و الروايات الدالة على قبول التوبة حتى إذا بلغت النفس الحلقوم تختص بهذه الصورة فتقبل التوبة لتحقق موضوعها.
و بالجملة: بعد إرجاع بعض الآيات إلى بعض يستفاد منها ان عدم قبول التوبة إما لأجل عدم تحقق الموضوع كما في صورة العناد و اللجاج أو لأجل عدم تحقق ظرفها و هو الاختيار و القصد للطاعة و المعصية، و نرجو منه جلت عظمته ان يدخل عباده في قوله عز شأنه في القدسيات «أغفر و لا ابالي».
و قد ظهر من جميع ذلك ان الاحتمال الاول و هو كون القيد احترازيا و ان كان أوفق للقواعد فان المعروف ان الأصل في القيود ان يكون‏ احترازيا إلا ان كونه توضيحيا أوفق لسعة رحمته.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.
القريب من الأمور الاضافية و له مراتب كثيرة، و قد استفاد العلماء من هذا اللفظ الفورية العرفية في التوبة و هي في نفسها حسن لان العصيان حجاب بين العبد و المعبود و درن للروح، و العقل يحكم بازالة الدرن و النجاسة عن اللباس و البدن فضلا عن الروح و هذا لا ينافي ان تكون الجملة اشارة إلى المسارعة و عدم التساهل، فيكون المراد من القريب الزمان القريب قبل ظهور الموت و بروز آيات الآخرة بحيث لا يعدّ تساهلا في امر التوبة حتى تفوت الفرصة بحضور علامات الموت.
و بالجملة: المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَرِيبٍ» التوبة في عهد قريب من قبل ان تموت الشهوات و تسقط دواعي المعصية، بل تكون في حال صراع النفس مع القوة العاقلة فترغم النفس الامارة و يقلع عن المعصية ندما و يرغب في الطاعة شوقا إلى رضاء اللّه تعالى و طلبا لعفوه و غفرانه، و يؤدي حقوق الناس و حقوق اللّه سبحانه و تعالى لو كانتا عليه ففي كل وقت صح إبراز ما في الضمير و الارادة الجدية من القلب تقبل التوبة كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
أولئك اسم الإشارة الموضوع للبعيد و هو مبتدأ و خبره جملة «يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» و عديت التوبة ب (عليهم) لتضمنها معنى العطف و الرحمة اي: انه تعالى يعطف عليهم بقبول التوبة و يعود بالرحمة.
و انما أشار إليهم بالبعيد اعلاما بعلوّ قدرهم و تعظيم شأنهم، لأنهم تابوا على حقيقة التوبة و التفريع بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها و لبيان ان قبول التوبة من مصاديق ذلك الوعد الذي قرره تعالى في صدر الآية المباركة.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
اي ان اللّه تعالى عالم بحقيقة الحال فيعلم شؤون عباده و مصالحهم و يعلم المخلص في توبته، حكيم في أفعاله قد وضع التوبة وفق نظام محكم، فلا تغره ظواهر الأحوال و صريف الأقوال.
و انما ذكر هذين الاسمين لبيان اهمية الموضوع و انه تابع لعلمه الأتم و حكمته المتعالية يضع التوبة في مواضعها و هو ارحم الراحمين.
قوله تعالى: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ».
بيان لحال من لا تقبل توبتهم و هم طائفتان: إحداهما لأجل عدم تحقق موضوع التوبة منهم و هم الذين يعملون السيئات دوما و لا بتحقق منهم الندم حتى إذا حضرهم الموت و انتفى اسباب العمل فلا داعي فيهم لعمل السيئات لانقطاع آمالهم و موت شهواتهم فلا تقبل توبتهم.
و انما ترك عز و جل اعادة اسم الجلالة (على اللّه) لبيان انقطاع العناية الإلهية عنهم، و للاعلام بان التوبة الصحيحة لا تقع منهم لنفي موضوعها كما عرفت آنفا.
و انما جمع عز و جل السيئات و أفردها في الآية السابقة و قال «يَعْمَلُونَ السُّوءَ» للدلالة على إحصاء سيئاتهم الكثيرة العديدة و استمرارهم على فعلها و إصرارهم على التكرار بلا فرق بين ان تكون السيئة المكررة من انواع مختلفة أو من نوع واحد فان التكرار يوجب التعدد لا محالة.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.
أي: حتى إذا حضر الموت برؤية علاماته لاهية قلوبهم، و الجملة تدل على استهانتهم بالتوبة و استحقارهم لموجبات الرحمة و المغفرة، فهم يدعون التوبة حال العجز و لم تتحقق حقيقتها عندهم و لم ترغب نفوسهم عن الذنب فإذا زال عنهم المهلكة عادوا إلى الذنب و رجعوا الى المخالفة و العصيان كما يخبر عن ذلك قوله تعالى: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا» الانعام- 28.
قوله تعالى: قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ.
اي: انه في حال العجز و اليأس يردد على لسانه التوبة في تلك الحال فقط من دون ان يكون ذلك من حاق نفسه.
و الآية تدل على تحقق التوبة اللسانية مرة واحدة بلا استمرار عليها بخلاف الآية السابقة التي دلت على الاستمرار المستفاد من هيئة المضارع في قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» و هذه تؤكد ما ذكرناه آنفا من ان التوبة منه ليست على الحقيقة فانه التجأ إليها عند مشاهدة سلطان الآخرة و انقطاع أمله عن الدنيا بحضور الموت و لذا ذكر عز و جل «قالَ إِنِّي» و لم يقل (تاب) و نحو ذلك تحاشيا عن تسمية ما قاله توبة، و نظير ذلك قوله تعالى حكاية عن المجرمين «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» السجدة- 12.
قوله تعالى: وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ.
بيان لحال الطائفة الثانية و هم الذين يصدر عنهم الذنب عنادا و لجاجا و استكبارا على اللّه تعالى فلا توبة لهؤلاء كما لا توبة لأولئك‏ لأنهم تمادوا في الكفر فماتوا و هم كافرون فلم تصدر عنهم السيئات بجهالة بل عن عناد و لجاج فإذا مات الإنسان على هذه الحالة لا تنفعه التوبة و لا نجاة له بعد الموت و قد أكد القرآن الكريم ذلك في مواضع متعددة قال تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ. خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ» البقرة- ۱٦۲.
قوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
اي: أولئك الفريقان قد اعتدنا لهم و هيّأنا لهم عذابا أليما مؤلما جزاء لاعمالهم السيئة التي قدموها في دار الأعمال. و قد ذكرهم باسم الإشارة للدلالة على بعدهم عن ساحة القرب و العناية الربانية.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول‏:
يستفاد من الحصر الوارد في قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ» ان التوبة من الأمور المختصة به عز و جل و من مظاهر ربوبيته العظمى و من مصاديق رحمته الواسعة التي وسعت كل شي‏ء، و هو رد على كل من يدعي ان هذا الأمر يمكن ان يتصديه بعض‏ الإفراد إما ولي من اولياء اللّه تعالى أو الكنيسة كما في الديانة المسيحية التي اعترفت لها غفران الذنوب حتى بلغ من افراط الكنيسة انها كانت تبيع صكوك الغفران بعد ما كانت التوبة في هذه الديانة من الأمور غير النافعة للإنسان لان المسيح (عليه السلام) فدّى بنفسه لأجل خلاص الإنسان على ما هو المعروف عندهم.
فالآية الشريفة رد على جميع المزاعم فإنها صريحة في ان التوبة من شؤون الباري عز و جل و انها محصورة عليه تبارك و تعالى لا شأن لاحد غيره فيها.
الثاني‏:
تدل الآية الشريفة على فضل التوبة و انها من مظاهر رحمته عز و جل و فضله العظيم و قد من بها على عباده و من المعلوم انه لا شي‏ء يوجب رحمته عليه و لكن لا ينافي ذلك وجوب هذا القسم من الفضل عليه بإيجاب من نفسه على نفسه لا من إيجاب غيره عليه و قد ذكرنا ما يتعلق بذلك في مبحث التوبة في سورة البقرة آية- ۱٦۲.
و اما ما ذكره بعض المفسرين من ان اللّه تعالى غير مجبور في قبول التوبة لأن له الأمر و الملك يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و استدل على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» آل عمران- 90 و قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» النساء- 137.
فانه يرد عليه ان اللّه تعالى قد وعد عباده بقبول التوبة- كما اعترف به هذا المستدل- و كل وعد منه عز و جل واجب الوفاء عليه كما قال في كتابه العزيز: «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ»* آل عمران- 9 و الآيات الشريفة التي استدل بها تدل على عدم قبول توبة المتمادي في‏ الكفر و هذا ما استثناه عز و جل من القبول في المقام أيضا كما عرفت.
و كيف كان فالآية الشريفة من الآيات التي تعتني بشأن العاصين و تأمرهم بالتوبة من الشرك و الضلال و السيئات و المعاصي كلها.
و للتوبة اثار عظيمة فإنها من سبل الصلاح و التقوى و تجلب السعادة و تزيل درن الشقاء و الرذيلة من القلب الذي هو محل الصلاح و الفساد معا. و تصفى النفوس التي انكدرت بالعصيان، و تزيل الغشاوة عن القلوب و ترفع الموانع عن طريق سير الإنسان نحو السعادة و الكمال، و تخلّص الناس من بوار الذنب و هلاك المعصية و هي الوسيلة للفلاح قال تعالى: «وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» النور- 31.
و من آثار التوبة ايضا انها تجعل قلب المذنب متعلقا بالرحمة الإلهية و تبعث روح الرجاء بعد انخماد نور النفس بظلمة الذنب و تمحو الآثار السيئة التي تترتب على الحياة بسبب العصيان و عمل السيئات. و الآية المباركة تعد البشارة العظمى للمذنبين.
ثم ان التوبة مظاهر مختلفة كالندم، و الاستغفار و الانقلاع عن المعصية و إتيان الطاعة و التلبس بالعمل الصالح و أداء الحقوق و غير ذلك مما ذكره علماء الأخلاق و تقدم في مبحث التوبة و هي تبدل السيئات بالحسنات.
الثالث‏:
يستفاد من الآية الشريفة ان التوبة امر اختياري فإنها رجوع إلى اللّه تعالى بعد البعد عنه بسبب فعل السيئة و إتيان المعصية بالدخول في سلك الطاعة و العبودية بعد الاعراض عنه عز و جل و ذلك لا يتحقق إلا في ظرف الاختيار و كون العبد مخيرا بين طريقي الصلاح و السعادة، و الطلاح و الشقاوة، و في غير ذلك فلا توبة له لما يدل عليه ذيل الآية الشريفة.
الرابع‏:
يستفاد من قوله تعالى: «بِجَهالَةٍ» ان كل ذنب يصدر عن جهالة قابل للعفو و الغفران من اللّه تعالى، و بهذا القيد يخرج كل ذنب يصدر عن لجاج و عناد مع الحق و استكبارا على اللّه تعالى، و قد عرفت في التفسير ان الجهالة في المقام- و في باب الأعمال على العموم- هي الغفلة عن وجه قبح الفعل و فساده لغلبة الشهوة و استيلاء الهوى و لكن ذلك لا يسلب نسبة الفعل إلى الفاعل لأنه صدر عنه عن علم و ارادة كما يسمى الشاب قليل التجربة جاهلا لأجل غلبة العواطف و النزوات الشهوانية عليه.
الخامس‏:
يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» ان المؤمن إذا صدر عنه الذنب ينبغي ان يبادر إلى التوبة بعده و لا يسوّف في ذلك فهو في صراع مع النفس الامارة و توبة مستمرة يرجو رحمة ربه و هذا ينبئ عن حسن السريرة و شدة الأمل باللّه تعالى، و لعل ما ورد في بعض الروايات: «طوبى لمن كان له تحت كل سيئة توبة» إشارة إلى ذلك و يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» اولوية التوبة من الذنب من ترك الذنب رأسا فان اللّه تعالى مدح التائبين من الذنب و أدخلهم تحت رحمته و قرّبهم اليه. و قال بعض العلماء ان ترك الذنب مطلقا احسن و اولى من ارتكابه ثم التوبة عنه، لان اللّه تعالى مدح هؤلاء بما لم يرد في غيرهم و هم المختصون لمقام العبودية التشريفية.
و لكن يمكن اختيار الاول لكثرة ما ورد من الترغيب الى التوبة كتابا و سنة و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» فيصير التائب من الذنب مساويا له من هذه الجهة اي عدم الذنب و يكون تذلله مما في نفسه عند ربه لتصوره لما صدر منه من المعصية موجبا لترجيح هذا المقام بنفسه عند اللّه تبارك و تعالى نعم من عصمه اللّه من الزلل كالأنبياء و الائمة الهداة (عليهم السلام) و الأولياء لهم مقام خاص وهبه اللّه تعالى لهم.
و في حديث آخر «لو لا انكم تذنبون اللّه ثم تستغفرونه لذهب بكم ثم يأتي بأقوام يذنبونه ثم يستغفرونه» و هذا هو المطابق لما هو المتسالم بين اذواق المتألهين من ان كل اسم من اسماء اللّه المقدسة لا بد له من مظهر خارجي و من أسمائه جلت عظمته التواب و الغفور و لا مظهر لذلك الا بعد الذنب و التوبة.
مع ان حالة الندامة و الاستحياء من اللّه تعالى من حالات العبد و أحسنها و لا يتحقق تلك الحالة الا بذلك.
السادس‏:
يدل قوله تعالى: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» على وعد منه عز و جل للمذنبين بقبول توبتهم و هو لا يخلف الميعاد. كما انه يدل على ان التوبة الصحيحة الجامعة للشرائط تمحو الذنوب و تزيلها.
السابع‏:
يمكن ان يكون المراد من قوله تعالى: «حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» موت الأمزجة و القوى فمن كانت معاصيه من سنخ اعمال الشهوة الجنسية و وصل إلى سن الأربعين مثلا و ترك تلك المعاصي لأجل عوارض عرضت عليه فلا توبة له حينئذ و كذلك سائر القوى لأنه لا توبة بعد انتفاء القدرة على ارتكاب المعاصي، و هذا الاحتمال و ان كان مخالفا لما استفدناه من الآيات المباركة، و لكنه احتمال حسن يوجب المسارعة إلى التوبة و الاستعداد لها في حال القدرة.
الثامن‏:
اطلاق الآية الشريفة: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» يشمل التوبة من الشرك و جميع المعاصي و يشمل ايضا المؤمن و الكافر إذا تاب عن كفره فيكون إسلامه توبة لما صدر عنه في حال كفره لقوله (صلى‏ اللّه عليه و آله): «الإسلام يجب ما قبله» و اما توبته عن معصية فيها حق اللّه في حال كفره مع بقائه على الكفر فيشكل قبولها. نعم إذا كان الذنب من حقوق الناس كالسرقة و إيذاء الناس و نحوهما فأرضى الناس سقط هذا الذنب منه لزوال موضوعه و يمكن ان يستفاد ذلك من مفهوم قوله تعالى: «وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ» ان توبة الكافرين في حال حياتهم مقبولة إلا ان يستظهر ذلك بخصوص إسلامهم.
التاسع‏:
يستفاد من قوله تعالى: «وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ» ان التوبة من اللّه تعالى تشمل العاصين من المؤمنين إذا استغفر لهم الأحياء و لو بعد مماتهم بخلاف الكافر المعاند الذي مات على الكفر بلا فرق بين اقسامه.

في الكافي عن جميل بن دراج قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) «يقول: إذا بلغت النفس هاهنا و أشار بيده إلى حلقه لم يكن للعالم توبة ثم قرأ «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ».
أقول: أراد (عليه السلام) بالعالم هو اللجوج المستكبر على اللّه تعالى و اطلاق الآية الشريفة لا ينافي ما ذكرناه سابقا، و يمكن ان يجمع بذلك بين ما ورد من عدم قبول التوبة حين ظهور علامات الموت و ما ورد من قبولها حينها بحمل الاول على العالم العامد المستكبر على اللّه تعالى كفرعون و نحوه و الثاني على غيره.
و في تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل ذنب عمله العبد و ان كان عالما» به فهو جاهل حين خاطر لنفسه في معصية ربه و قد قال في ذلك تبارك و تعالى يحكي عن قول يوسف لإخوته «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه عز و جل».
أقول: يشهد ذلك على ما قلناه في معنى الجهالة.
و في تفسير العياشي ايضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا بلغت النفس هذه و أهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة و كانت للجاهل توبة».
أقول: يشهد ذلك على ما جمعنا به بين الروايات آنفا.
و في الكافي عن محمد بن مسلم عن جعفر (عليه السلام) قال: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة اما و اللّه انها ليست إلا لأهل الايمان قلت: فان عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر اللّه منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟! قلت: فان فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه تعالى عليه بالمغفرة و ان اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات فإياك ان تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».
أقول: ورد في بعض الروايات إلى سبعين مرة و يشهد لذلك تحذير الامام (عليه السلام) الراوي في ذيل الرواية و يستفاد ذلك من قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الزمر- ٥۳ إذ المراد بالجميع الكثرة العددية. ثم انه قد ذكرنا الروايات الواردة في التوبة في مبحث التوبة فراجع سورة البقرة الآية ۱٦۰.

التذلل لدى المعبود الحقيقي الجامع لجميع الكمالات غير المتناهية و الاعتراف بالقصور و التقصير عنده محبوبان لديه عز و جل. و العبودية التي هي غاية مقامات العارفين و اولياء اللّه المخلصين متقومة بهما فانه لا ريب في تحقق الارتباط بين الممكن و الواجب كالارتباط بين المعلول مع العلة التامة و المخلوق مع الخالق، و الأثر مع المؤثر بلا فرق في ذلك بين المجردات و الماديات و الاملاك و الأفلاك فان جميعها متعلقة بالإرادة الازلية حدوثا و بقاءا و بزوالها ينعدم جميع ما سوى اللّه تعالى، و لا يبقى إلا وجهه الواحد القهار و لكن الإنسان يرتبط مع اللّه جل جلاله بارتباطين:
الاول: الارتباط العام القهري الذي يعم جميع الخلق و ما سواه تعالى.
الثاني: الارتباط الاختياري اي الطاعة و الامتثال و الانقياد و هذا هو الأصل و الأساس في علاقة الإنسان مع اللّه عز و جل فإذا زال يبقى الارتباط الاول و هو يعم الجميع- الحيوان و الجماد- على حد سواء.
و الانسانية انما تظهر في الارتباط الثاني و لا يزول إلا بالطغيان و العصيان، و حينئذ لا بد من التوبة و الرجوع إلى اللّه تعالى ليعود الارتباط إلى ما كان عليه و تستكمل به الانسانية، و تزول الشقاوة و تحل محلها السعادة الابدية إذ القرب من ينبوع الحكمة و العلم و الكمال المطلق يوجب بلوغ الانسانية إلى الكمال و يتم به العقل و الدين، كما ان البعد عنه يوجب زوال ذلك كله، فللتوبة الحقيقية دخل في‏ استكمال الانسانية و الدين و العقل، و يكفي في فضلها ان فيها يتجلى المعبود الأعظم للتائبين بقوله عز و جل: «أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» فالعبد يعترف بما هو من زي العبودية، و المعبود يظهر بما هو من شأن الربوبية الواقعية و لذا ترى ان أحب حالات المتعبدين إلى اللّه تعالى هي حالة الاعتراف بالتقصير كما هو واضح في الدعوات المأثورة عن الائمة الاطهار (سلام اللّه تعالى عليهم) لا سيما الصحيفة الملكوتية السجادية على صاحبها و منشيها (أفضل الصلاة و السلام) و ليس الاعتراف بالتقصير مع عدم صدور ذلك عنهم كذبا لأنهم يعلمون ان تلك الحالة محبوبة للّه عز و جل و تقربهم اليه تعالى و يعترفون بذلك في جملة من دعواتهم الشريفة و هذا كاشف عن اشتياقهم إلى هذا المقام من العبودية.
ثم ان ظاهر الآية الشريفة: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» انما هو في الموت الطبيعي الذي هو مسير كل ذي حياة و اما الموت الاختياري الذي هو غاية آمال العارفين و قرة عين اهل التقوى و اليقين فهو فوق التوبة بمراتب كثيرة إذا وفق له ولي من اولياء اللّه تعالى بشرطه و شروطه.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"