1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 162 الى 169

لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (۱٦۲) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى‏ وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (۱٦۳) وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً (۱٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (۱٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً (۱٦٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (۱٦۷) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (۱٦۸) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (۱٦۹)


بعد ما ذكر سبحانه و تعالى مظالم اليهود و جرائمهم من عنادهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نقضهم للمواثيق المؤكّدة، و كفرهم باللّه تعالى و آياته و رسله، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ، و غيرها من المظالم الّتي عدّدها تفصيلا للتذكير، و التحذير، و الموعظة، و بين جلّ شأنه أنّ كفرهم إنّما كان عن عناد و لجاج.
كما بيّن عزّ و جلّ الجزاء الّذي استحقّوه بسبب ظلمهم و فعلهم السيئات، و قد ذكر تعالى نوعين من العقاب الدنيوي- و هو التكاليف الشاقّة من تحريم الطيبات، و الحدود و التعزيرات و غيرها ممّا ذكره في غير المقام أيضا- و الاخروي و هو العذاب الأليم الّذي أعدّه اللّه تعالى لهم.
يذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة جملة اخرى من الحقائق الّتي تتعلّق بأهل الكتاب، فقد استثنى عزّ و جلّ ممّا ذكره في اليهود آنفا الأخيار الّذين‏ آمنوا إيمانا صادقا، و هم الراسخون في العلم المؤمنون باللّه العظيم حق الإيمان فلا يشملهم ما شمل اليهود من الخسران و سوء العاقبة، فإنّ لهؤلاء المؤمنين أجرا عظيما لا يدركه أحد.
ثمّ يعقّب جلّت عظمته بعد بيان حال الطائفتين الكافرة الظالمة و المؤمنة إيمانا صادقا توطئة للمحاجّة مع النصارى بذكر حقيقة رئيسية في حياة الرسل و البشرية، و هي أنّ الوحي الى جميع الأنبياء و المرسلين شي‏ء واحد، فما اوحي الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو ذاته الّذي اوحي الى النبيين من قبل، سواء كانوا المذكرين في القرآن الكريم الّذين قصّ عزّ و جلّ علينا أخبارهم أم غير المذكورين، فإنّه وحي واحد للرسل جميعا، و هو الدعوة الى عبادة الواحد الأحد الّذي لا شريك له كما أنّهم جميعا يشتركون في غاية واحدة، و هي لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء، الآية: ۱٦٥]، فلم يأخذ عزّ و جلّ الناس بميثاق الفطرة وحده، و لم يكلهم الى أنفسهم رحمة بهم، لأنّهم عرضة الأهواء الباطلة و الانحراف عن الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين لاختلاف طبائع الناس في هذا الأمر، و أخذ عهدا على نفسه أن لا يعذّب أحدا حتّى يبعث فيهم رسولا، فإذا كان الوحي واحد و الغاية متّحدة، فالإيمان بواحد من الرسل إيمانا صادقا يستدعي الإيمان ببقية المرسلين، فيكون الإيمان بخاتم المرسلين من جملة الإيمان بهم جميعا، و كفى بذلك شهادة على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ اللّه يشهد للرسول و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا، فلا يضرّه صلّى اللّه عليه و آله إنكارهم و لا عدم شهادتهم بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما يضرّوا أنفسهم، أو يضرّون مجتمعهم، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة.
و بعد إقامة الحجّة عليهم و تذكيرهم بالفطرة المستقيمة، يعنف السياق على المنكرين و ينذر الكافرين- الّذين يصدّون عن سبيل اللّه و يعرضون الناس عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله- سوء العاقبة و يوعدهم أشدّ الوعيد، فلم يهدهم طريقا إلّا طريق جهنّم.
و يوجّه الخطاب بعد أن كان مع أهل الكتاب الى الناس كافّة بشأن بعثة خاتم المرسلين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد إقامة الشهادة على صدق نبوّته، و يأمرهم بالإيمان به و بالرسل جميعا على استقامة، فإنّ الإيمان خير لهم من الكفر الّذي يوردهم الى الخسران.
و تختتم الآيات المباركة بحقيقة واقعيّة فيها تذكير للكافرين بأنّ اللّه تعالى غني عنهم لا يضرّه كفرهم، فإنّ للّه ملك السموات و الأرض و هو العليم الحكيم، و من حكمته أنّه لا يعاقبهم بكفرهم إلّا بعد إرسال الرسل و إقامة الحجّة مع علمه بالكافرين و المؤمنين منهم.

قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ.
استدراك من قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل و العاجل، و استثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ و ثبتوا على علمهم، فلم ينكروه عنادا و لجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب، و لم يتّبعوهم في مظالمهم و جرائمهم، فلم يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا من السماء، إنكارا لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب و الحكمة في دعوته الى الحقّ، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن بدعا- من الرسل- فهو مثل سائر الأنبياء و المرسلين لم يدعهم إلّا الى ما دعوا إليه، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل إليه و ما انزل من قبله، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة و الغاية و هم مشتركون في أغلب السجايا و الأخلاق، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 7- 8]، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة، و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10].
و يدلّ قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ على أنّ أهل الكتاب كلّهم كانوا يعلمون الحقّ و لكنهم أنكروه جحودا و عنادا، إلّا من رسخ في علمه و ثبت عليه و استقام، فتحقّق فيه سجيّة اتّباع الحقّ و الإيمان بالرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله.
قوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
وصف لهم بالإيمان بعد ما وصفهم بما يوجبه من الرسوخ في العلم، و إنّما عطف بينها ب (و) إيماء الى اختلافهما في الذات كما اختلفا في العنوان، و إعلاما بأنّ إيمانهم إيمان إذعان لا إيمان عصبيّة و جدل. و هذان الوصفان من أعلى الأوصاف، فإنّهما يدلان على كون الإيمان منهم على معرفة و يقين و ثبات، فلم يكن عن جهل و قوميّة أو عصيبة ظلماء، فيكون ذلك بأهل الكتاب أنسب منه بالمؤمنين من غيرهم، الّذين وصفهم عزّ و جلّ بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: ٦]، و إنّما آمنوا بما انزل على الرسول و ما انزل من قبله؛ لأنّهم عرفوا أنّ الأنبياء كلّهم متّحدون في الدعوة و الغاية كما عرفت.
قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ.
جملة معطوفة على «الراسخون»- و مثلها جملة «و المؤتون الزّكاة»- تبيّن وصفا آخر و هو إقامة الصلاة، أي أدائها على وجه الكمال و التمام، كما عرفت في اشتقاق هذه الكلمة في غير المقام.
و قد اختلف العلماء في إعراب هذه الجملة، فقيل: إنّها منصوبة على وجه المدح و الاختصاص، أي: أعني و أخصّ المقيمين الصلاة، فإنّهم أجدر بالرسوخ في‏ الإيمان، فيكون لإقامة الصلاة شأن خاصّ في الرسوخ في العلم و توفيقهم الى الإيمان و عنايته عزّ و جلّ بهم. و اختلاف مفردات الخطاب في الإعراب أسلوب بلاغي رفيع؛ لأنّه ينبّه الذهن الى التأمّل فيه، و يهدي الفكر الى استخراج المزايا الّتي وردت في الكلام، و له نظائر كثيرة في النطق كالتغيير في جرس الصوت و رفعه و خفضه و نحو ذلك، و في غير النطق أيضا ممّا استحدثت في هذه الأعصار.
و قيل: إنّها جملة مستأنفة منصوبة على المدح و الاختصاص.
و قيل: إنّ «المقيمين» معطوف على المجرور قبله، فيكون المعنى: يؤمنون بما انزل إليك، و ما انزل من قبلك على الرسل، و بالمقيمين الصلاة و هم:
إمّا الأنبياء الّذين وصفهم اللّه عزّ و جلّ بإقام الصلاة، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، أو المؤمنون الّذين أمرنا اللّه تعالى باتّباع سبيلهم، قال تعالى: وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ [سورة لقمان، الآية: ۱٥].
أو الملائكة الّذين حكى تعالى عنهم: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات، الآية: ۱٦٥- ۱٦٦].
و اعترضوا على القول السابق بأنّ النصب على المدح إنّما يكون بعد إتمام الكلام، و هنا ليس كذلك لأنّ الخبر سيأتي.
و الجواب عنه أنّه لا دليل على ذلك، فيجوز الاعتراض بين المبتدأ و الخبر، فالنصب يجوز أن يكون لأجل مزيّة خاصّة، فإذا قلت: مررت بزيد الكريم، فإن أردت أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إن أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت، و قلت: مررت بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم. و إن شئت رفعت فقلت: الكريم على تقدير الكريم.
و قال بعضهم: إنّه معطوف على الضمير في «منهم»، فيكون المعنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة.
و قال آخرون: إنّه معطوف على الضمير في «إليك».
و قيل: على الضمير في «قبلك»، أي: بما انزل من قبل و من قبل المقيمين الصلاة.
و روي أنّ الكلمة في مصحف ابن مسعود «و المقيمون الصلاة»، و ردّه بعضهم بأنّه ضعيف لم تثبت روايته عن ابن مسعود.
و الصحيح هو الوجه الأوّل؛ لما فيه من النكتة البلاغيّة الّتي لم توجد في غيره من الأقوال، و لبيان فضل الصلاة و عظيم أثرها من التوفيق و الهداية، و مثل ذلك غير عادم النظير في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء، و قد تقدّم مثله في سورة البقرة أيضا فراجع.
و من ذلك كلّه يظهر بطلان ما قيل في أنّ النصب و هم أو لحن، استنادا الى ما روي عن عروة عن عائشة، قال: «سألتها عن قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ و عن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: ٦۹]، و قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: ٦۳]؟
فقالت: يا ابن اختي، هذا عمل الكتّاب أخطئوا في الكتاب»، و ما روي أيضا: «من أنّ في كتاب اللّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها»، كلّ ذلك لا دليل عليه و لم تثبت روايته.
قال الزمخشري في الآية الشريفة: «نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، و هو باب واسع قد كسّره سيبويه على أمثلة و شواهد، و لا يلتفت الى ما زعموا من وقوعه ظنّا في خطّ المصحف، و ربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب (أي كتاب سيبويه)، و لم يعرف مذاهب العرب و ما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، و غبي عليه أنّ السابقين الأوّلين كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام و ذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب اللّه ثلمة ليسدّها من بعدهم، و خرقا يرفوه من يلحق بهم».
قوله تعالى: وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ.
وصف آخر من أوصاف الراسخين في العالم من أهل الكتاب، و هو إيتاء الزكاة الّتي هي قرين الصلاة في القرآن الكريم.
و إنّما قدّم الصلاة عليها؛ لأنّ الصلاة تزكّي النفوس و تعلي همّة الإنسان، فيهون عليها بذل المال، فإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج، الآية: 19- 22].
قوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ.
عطف على «الراسخون» و بيان لوصف آخر و هو الإيمان بالمبدأ و المعاد، فإنّ الإيمان الحقّ ما كان مشتملا على الإيمان بالمبدأ الواقعي، و هو اللّه جلّ شأنه، و الإيمان بالمعاد، و الإيمان برسل اللّه تعالى الّذين أرسلهم لهداية البشر، و الإيمان بما جاء به الرسل من الحكمة و المعارف و التشريعات.
و قد وصف عزّ و جلّ إيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بأوصاف جليلة تبيّن علوّ منزلتهم و كبر شأنهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أركان الإيمان المطلوب كما عرفت، و وصف إيمانهم بأنّه إيمان علم و معرفة و إذعان، و هو من أعلى درجات الإيمان، و لعلّه لأجل ذلك تكرّر لفظ «المؤمنون» في الآية المباركة تنويها لشرفهم.
قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً.
أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجليلة الشأن سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يوصف كنهه و لا يدرك حقيقته أحد إلّا اللّه تعالى؛ لتناسب العطاء مع المعطي جلّ شأنه.
و قد أكّد عزّ و جلّ هذا الوعد بذكر (السين) و فخّمه بتنكير الأجر، و بيّن أهميّته بذكره مقابل ما أوعدهم غيرهم من أهل الكتاب بالعذاب الأليم.
قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ.
تعليل لما سبق ذكره في إيمان المستثنين، و ردّ على ما زعمه أهل الكتاب من الفرق بين أفراد الموحى إليهم، فقد أنكروا نبوّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله، و طلبوا منه إنزال‏ كتاب من السماء، فالآية الشريفة تبيّن أنّه رسول اللّه و أنّ شأنه في الوحي شأن سائر الأنبياء (عليهم الصلاة و السّلام)، و أنّ الوحي النازل منه تعالى واحد للرسل جميعا، فإنّه عزّ و جلّ بما له من العظمة و الكبرياء و ما له من مقام رحمته الّتي هي من شؤون ألوهيته و ربوبيّته أنزل الوحي على نوح و النبيين من بعده، و أنزل الوحي على رسول اللّه خاتم النبيين لهداية البشر، و لم يسأل أحد من الأنبياء قبلك أن ينزل عليهم كتابا كما سألوك؛ عنادا و لجاجا و تشكيكا منهم في نبوّتك، و إن سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [سورة النساء، الآية: ۱٥۳]، فإنّ الوحي لشاهد قوي على صدقك و صدق الأنبياء قبلك إلّا الراسخين في العلم منهم فقد آمنوا بك؛ لأنّهم علموا أنّ الوحي واحد، و الأنبياء عليهم السّلام كلّهم على نهج واحد، فإنّهم رسل مبشرون و منذرون، أرسلهم اللّه تعالى لإتمام الحجّة، و أنزل عليهم الوحي الّذي يشتمل على التوجيهات و التكاليف الّتي هي في صالح البشر و ترشدهم الى كمالهم المنشود.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ نوحا لأنّه أوّل نبي انزل عليه الكتاب و جاء بشريعة، و أمّا الأنبياء بعده فقد كانوا على شريعته الى إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام، فقد جاء بالحنيفيّة و شريعة جديدة، ثم الأنبياء من بعده على شريعته الى عصر موسى كليم اللّه عليهم السّلام، الّذي أتى بشريعة جديدة و انزل عليه التوراة، و أمّا الأنبياء بعده، فإنّهم كانوا على شريعته و منهاجا حتّى عصر عيسى عليه السّلام الّذي انزل عليه الإنجيل و أتى بشريعة.
و ما هو المعروف من أنّ المسيح ليست له شريعة غير شريعة موسى عليه السّلام كما هو ظاهر الآية الشريفة- أيضا- النازلة في شأن عيسى عليه السّلام: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران، الآية: ٥۰] و غيرها من الآيات المباركة.
يمكن المناقشة فيه من أنّ التغيير أو التبديل في الشريعة السابقة يكفي في تأسيس الشريعة، و قد تقدّم منّا مكرّرا من أنّ الشرائع كلّها متّحدة، و أنّ كلّ‏ شريعة مكمّلة لما قبلها، و أنّ شريعة خاتم الأنبياء أكملها، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت لاتّمم مكارم الأخلاق»، فشريعة عيسى عليه السّلام مكمّلة لشريعة موسى عليه السّلام و كانت شريعة عيسى عليه السّلام مستمرة الى عصر خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فقد انزل عليه القرآن الكريم و أتى بشريعة تضمّنت جميع الشرائع الإلهيّة، فصارت خاتمة لها، فهو صلّى اللّه عليه و آله: «الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل و المهيمن على ذلك كلّه».
قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى‏ وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
تفصيل بعد إجمال، فإنّ هؤلاء كلّهم أنبياء اللّه تعالى، و قد آمن بهم أهل الكتاب و انزل عليهم الوحي، و بعضهم جاء بشريعة و كتاب كإبراهيم و عيسى، و بعضهم أرسلوا بغير كتاب كأيوب و يونس، و هارون و سليمان و لكنّهم جميعا مشتركون في الوحي الإلهي، فلم يعترض عليهم أحد بإنزال كتاب كما اعترضوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و إنّما قدّم إبراهيم عليه السّلام تشريفا له؛ لأنّه عليه السّلام أبو الأنبياء الّذين بعده، و قد اعترفت بنبوّته جميع الأديان الإلهيّة، و ذكر عيسى عليه السّلام مقدّما على غيره من الأنبياء عليهم السّلام تحقيقا لنبوّته و قطعا لمنازعة اليهود فيه.
و الأسباط: هم من ذرّية يعقوب عليه السّلام، و هي جمع سبط الّذي يطلق على ولد الولد، و هم اثنا عشر، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ* [سورة آل عمران، الآية: ۸٤] بعض الكلام.
و إنّما خصّ زبور داود عليه السّلام بالذكر؛ لأنّ له شأنا خاصّا عند أهل الكتاب، و إلّا فلا يخرج عن سائر أفراد الوحي.
قوله تعالى: وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ.
أي: و أرسلنا رسلا غير هؤلاء المذكورين قد قصصناهم عليك من قبل‏ نزول هذه السورة، فإنّهم رسل اللّه تعالى و أوحى عزّ و جلّ إليهم ما أوحى الى هؤلاء المذكورين. و قد ذكر تعالى جملة من قصصهم في سورتي هود و الشعراء.
قوله تعالى: وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.
فإنّ القرآن الكريم لم يذكر جميع الأنبياء و المرسلين، و إنّما ذكر بعضهم و بعضا من أحوالهم و أحوال أمتهم للعظة و العبرة.
قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً.
مزيّة خاصّة لموسى عليه السّلام لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السّلام حتّى عرف بينهم ب (كليم اللّه)، و هو نوع من أقسام الوحي الّتي سيأتي ذكرها في بحث خاصّ، و قد تقدّم البحث في كلام اللّه تعالى في سورة البقرة الآية- ۲٥۳ في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ.
و إنّما أكّد عزّ و جلّ ذلك بقوله: تَكْلِيماً؛ لرفع كلّ تأويل و مجاز في المقام، فإنّ التكلّم حصل بين موسى عليه السّلام و بينه جلّ شأنه كرارا و مرارا، كما حصل لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج.
قوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ.
أي: أنّ أولئك الرسل الّذين منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك إنّما هو ذو أحوال- أو أوصاف ثلاث- رسلا أرسلهم اللّه تعالى لهداية البشر و إخراجهم من الضلالة و العمى الى النور، و أوحى إليهم ما يوجب كمالهم، لعدم كفاية داعي الفطرة و العقل في الهداية، و عدم اغنائهما عن بعث الرسل، مبشرين لمن آمن و أطاع و عمل صالحا بالثواب الجزيل و الأجر العظيم، و منذرين: لمن تولّى و كفر و عصى بالوعيد و العذاب الأليم.
و إنّما كانوا مبشّرين و منذرين؛ لاختلاف طبائع الناس؛ لأنّ منهم من يكتفي فيه بالبشارة فيؤمن، و منهم من لا يهتدي إلّا بالإنذار و التخويف.
أو لأنّ الإنسان لما كان مركبا من قوى متخالفة و ذا أمزجة متعدّدة فبعضها تقهر بالتطميع و التبشير، و بعضها لا يفيده إلّا التخويف و التشديد، و العاقل إنّما يتحكّم في هذه القوى بهاتين الركيزتين اللتين ذكرهما عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة، و هما مصدر الرجاء و الخوف.
بل يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الثواب و العقاب في القرآن الكريم أنّ الإنسان إنّما يحيي و يكون صالحا بهاتين الخصلتين- الخوف و الرجاء- و هما أهمّ الدعامات في التربية الإسلاميّة، و لا يمكن أن تستوفي الفوائد المترتّبة عليها إلّا بهما، فلما اقترن ذكرها بأهمّ حدث في الإنسانيّة و هو الرسالة لعظيم أثرها و عدم استغنائها منهما.
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
غاية من غايات بعث الرسل و الأنبياء، و هي تنبئ عن عظيم لطفه بعباده و عنايته بهم، حيث جعل لهم حجّة عليه عزّ و جلّ لو لم يبعث الرسل إليهم، و لم يكتف بما أنعم عليهم من السمع و الأبصار و الأفئدة، و ما أودع فيهم من الفطرة الداعية الى التوحيد و الحقّ و العدل، و أنّ من كرمه عزّ و جلّ بهم أنّه لم يكلهم الى أنفسهم رغم ما وهب لهم العقل، لعلمه الأتم بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و الضلال في العقل الموهوب، و انتكاس الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين و منذرين لينيروا لهم الطريق و يرشدوهم الى ما أفسدوه من الفطرة باتّباع الشهوات و فعل المعاصي و الآثام؛ لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد إرسال الرسل و تبليغهم للشريعة، فلا يعتذروا بالجهل و يكون الثواب و العقاب على طبق قانون العقل.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
أي: له العزّة و الحكمة المطلقتان، فلم يغلبه أحد في أمر يريده، و يستحيل أن يغلبه شخص بحجّة، فإنّ له الحجّة البالغة، لكن من حكمته أنّه قطع حجّتهم بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و تشريع الشرائع و إنزال الكتب لهدايتهم.
قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ.
استدراك عمّا قبله و يتضمّن معنى الاستثناء و الردّ عليهم و تبكيتهم بإنكارهم‏ لنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و عدم شهادتهم بها مع علمهم بالمشهود به و وضوحه لديهم، و مع ذلك كلّه ينكرون و يكابرون بالشهادة و الإيمان و يكفرون به صلّى اللّه عليه و آله و بما أنزلنا إليه فيسألونه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و قد ردّ عليهم بأنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر من ذلك، و أنّهم في سؤالهم هذا مكابرون؛ لأنّ ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما اوحي إليه هو نفس ما اوحي الى سائر النبيين، و أنّ الوحي واحد و الغاية متّحدة، فإن لم تلزمهم الحجّة و يشهدوا لك بالنبوّة و الرسالة، فاللّه تعالى يشهد بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق ما انزل إليه، و هذه مزيّة خاصّة لنبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه عزّ و جلّ يشهد بحقيقة ما انزل إليه، و هو يكفي في الشهادة على نبوّته و صدقه صلّى اللّه عليه و آله لإعجازه، فلا يحتاج الى إنزال كتاب آخر، و فيه الردّ على سؤالهم و لجاجهم.
قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ.
تأييد آخر لصدق ما انزل الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حقيقته، و بيان الى أنّ ما انزل إليه إنّما كان عن علم بجميع خصوصيات المنزل و إحاطته به إحاطة تامّة يسلم عن كلّ باطل و زيغ، و تتضمّن الآية الشريفة أمورا كثيرة.
منها: أنّ ما انزل إليه صلّى اللّه عليه و آله هو من علمه الأتم، فيحتوي على جميع الحقائق الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة و التشريعات الربانيّة فتكون هذه مزيّة فائقة على جميع الكتب الإلهيّة.
و منها: أنّه أنزله بعلمه الخاصّ الّذي لا يعلمه غيره، فيكون معجزة خارقة للعادة، يعجز عنه كلّ بليغ و صاحب بيان.
و منها: أنّه أنزله بعلمه لئلّا يفسده الشيطان، فيضع الباطل مكان الحقّ أو يخلطه، فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحقّ، قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً [سورة الجن، الآية: 27- 28].
و منها: أنّه أنزله بعلمه فقط فلم يعلم به غيره عزّ و جلّ أبدا، لا أنت و لا قومك و لا غيرهم، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة هود، الآية: ٤۹]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [سورة الشورى، الآية: ٥۲].
و منها: انّما أنزله بعلم تامّ بأنّك أهل لإنزاله عليك، و علمه بأنّك تقوم بأعباء الرسالة خير قيام. و هذه الجملة المباركة تتضمّن هذه المعاني الدقيقة و غيرها ممّا لم يسع أفهامنا إليه، و هي تكفي في الدلالة على إعجاز هذا الكتاب العظيم و صدق المنزل عليه، و حقيقة ما جاء صلّى اللّه عليه و آله به، فسبحان من يعلم دقائق الأمور و خفياتها، كما فيه التبكيت العظيم لجهلهم و عنادهم.
قوله تعالى: وَ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً.
فإنّه تعالى هو العالم بجميع الأمور، فقد بالغ في الشهادة بجميع جوانبها و وجوهها على وجه لا تحتاج معه إلى شهادة غيره عزّ و جلّ، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام، الآية: 19]، و قد حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم ما أوضح السبيل، و أنار الطريق، و نصب الدليل، و أزال الشبهة و كلّ ريب. و حقّا أن يقول سبحانه و تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الأسراء، الآية: 88].
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
الخطاب مع أهل الكتاب، و فيه من التعنيف و التشديد عليهم ما لا يخفى؛ لأنّ الكفر إنّما كان بعد بيان الحجّة البالغة و الاحتجاج عليهم بثبوت نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و شهادته عزّ و جلّ و شهادة الملائكة عليها و تصديقه لما أنزله عزّ و جلّ‏ عليه صلّى اللّه عليه و آله، و بيان أنّ ما أنزله من الوحي عليه إنّما كان مثل ما اوحي الى النبيين من قبله، فمن أعرض بعد وضوح الحجّة، فإنّما يكون إعراضه عن ضلال، و كفره عن عناد و لجاج.
و المعنى: أنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب بما انزل إليك، و صدّوا عن الحقّ بإنكار نبوّتك و كلّ ما يوجب السلوك الى رضوان اللّه تعالى، و حملوا غيرهم على الإعراض و التشكيك و التمويه و تلبيس الحقّ بالباطل، و المراد بسبيل اللّه هو بعثة خاتم الأنبياء و رسالته و الكتاب الّذي انزل عليه و كلّ ما اوحي إليه من التشريعات و التوجيهات و الحكم و المعارف.
و إنّما ذكره عزّ و جلّ بدل الكتاب؛ للدلالة على أنّه من طرق الحقّ و من سبل رضوان اللّه تعالى، و هذه شهادة اخرى على حقيقته، و ليشمل ما ورد في كتبهم من الأدلّة على نبوّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و البشارة ببعثته الّتي حرّفوها و أوّلوها بالباطل، و لبيان شناعة فعلهم بصدّهم عن سبيل اللّه تعالى مع ادّعائهم الإيمان به عزّ و جلّ، و لترتيب الجزاء العظيم على فعلهم الّذي يذكره في الآية اللاحقة.
قوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً.
أي: فقد بعدوا عن الحقّ و سلوك طريق الهدى بعدا شاسعا بالكفر و الصدّ عن سبيل اللّه تعالى.
و إنّما كانوا على الضلال البعيد؛ لأنّهم كفروا و صدّوا و ضلّوا و أضلّوا، و لأن كفرهم كان بعد وضوح الحجّة و إلزامهم بها، فكان عن عناد للحقّ و استكبار عن قبوله، فكان ضلالهم بعيدا عن قبول كلّ ما يرشدهم الى الصراط المستقيم، فقد استولى الكفر على سمعهم و أبصارهم و لم يكادوا يفقهون سبيلا يوصلهم الى الحقّ.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا.
تأكيد لما ورد في الآية الكريمة السابقة، و تثبيت لمضمونها لأهمّيّته، و المراد بالظلم هو الكفر و الصدّ عن سبيل للّه تعالى، فقد احتملوا ظلما كبيرا بصدّهم عنه و إضلال غيرهم عن الوصول الى الحقّ بكتمانه و تحريفه و تمويهه، فتكون الآية المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية الشريفة السابقة، و تبيّن وجه كونهم على الضلال البعيد.
قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.
لأنّ الظلم كان بعد وضوح الحجّة، و قد استولى الظلم على قلوبهم و أثّر في نفوسهم، فأفسد فطرتهم فلم تحتمل الغفران، و من سنّته جلّت عظمته أنّه لا يغفر لمن كان هذا حاله، بل يستحيل أن تتعلّق المغفرة بمثل هؤلاء.
قوله تعالى: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ.
لأنّهم ضلّوا ضلالا بعيدا و بعدوا عن جميع مسالك الخير و ما يوصل الى الكمال و الهداية و ابتعدوا عن سبيل اللّه تعالى، و ليس من سنّته عزّ و جلّ أن يهديهم طريقا يوصلهم الى الهداية و الجزاء الحسن إلّا طريق جهنّم الّتي اختاروها بسوء أفعالهم و الفاسد من عقائدهم و أوغلوا السير فيه، فلم يستعدّوا للمغفرة و الهداية الى الحقّ و التوفيق الى الأعمال الصالحة الّتي هي طريق الجنّة.
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً.
لسوء سرائرهم و فساد فطرتهم، فيدخلون جهنّم فيمكثون فيها أبدا، و إنّما أكّد الخلود بالتأييد لدفع احتمال أن يراد من الخلود المكث الطويل، أو للإعلام بأنّه لا تشملهم المغفرة و الشفاعة مطلقا.
قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
أي: و كان ذلك الجزاء سهلا على اللّه تعالى، فإنّه القادر على كلّ شي‏ء و لا يستعصي على قدرته ذلك، فلا ملجأ إلّا الى اللّه تعالى و لا منجا من عذابه، فالكافرون و إن كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى و ضلّوا و أضلّوا و أوغلوا في الكفر و الظلم، و لكنّهم عاجزون أمام قدرته، و لا بدّ أن يرجعوا إليه ليروا جزاء أعمالهم، و لا مفرّ منه جلّ شأنه.

(من) في قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ تبعيضيّة متعلّقة ب «الراسخون»، و «منهم» في موضع الحال، و يشارك (المؤمنون) (الراسخون) في تعلّق (منهم) به كما عرفت.
و ذكر وصف الإيمان بعد وصف الرسوخ في العلم؛ لبيان أنّ الأخير هو الموجب له تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
و قد ذكر ما يتعلّق بإعراب قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، و هو أحد المواضع في القرآن الكريم الّتي وقع الخلاف بين علماء النحو في إعرابها.
و الثاني: قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: ٦۳].
و الثالث: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: ٦۹].
و الرابع: قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة المنافقون، الآية: 10].
و قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً مبتدأ و خبر. و الإشارة بالبعيد تنويها بجلالة قدرهم، و الجملة خبر لقوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، و السين لتوكيد الوعد، و التنوين للتفخيم. و لا يخفى المناسبة بين طرفي الاستدراك، حيث أو عد الأوّلين بالعذاب الأليم، و وعد الراسخين بالأجر العظيم.
و جوّز بعضهم أن يكون خبر المبتدأ الأول: «الراسخون» جملة «يؤمنون»، و لكن المناسبة على هذا غير تامّة.
و الأسماء في قوله تعالى: إِبْراهِيمَ … وَ عِيسى‏ وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ كلّها أعجميّة إلّا «الأسباط»، فقد وقع الخلاف فيها، فالمعروف أنّها ليست بأعجميّة، و في «يونس» لغات أفصحها بضمّ النون من غير همز، و قيل: يجوز فتحها و كسرها مع الهمز و تركه.
و (زبور) بفتح الزاي، و هي القراءة المعروفة، و هو فعول بمعنى المفعول- كالحلوب و الركوب- و قرأ بعضهم بضمّ الزاي حيث وقع، و هو جمع زبر بالكسر فالسكون بمعنى مزبور، أي: مكتوب. أو زبر بالفتح و السكون كفلس و فلوس.
و قيل: إنّه مصدر كالقعود و الجلوس، و قيل: إنّه جمع زبور على حذف الزوائد.
و كيف كان فهو اسم لما انزل على داود عليه السّلام.
و (رسلا) في قوله تعالى: وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ منصوب بإضمار أرسلنا.
و جملة: وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً برفع اسم الجلالة و نصب موسى، و قرأها بعضهم على القلب. و (تكليما) مصدر مؤكّد جي‏ء به لرفع احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من التكليم وحيا. و رفع احتمال المجاز في الإسناد بأن يكون المكلّم رسله من الملائكة.
و قوله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إمّا أحوال ثلاثة و الأوّل حال و الأخيران وصفان له، أو أنّ الأوّل منصوب على المدح أو بإضمار (أرسلنا)، و قيل غير ذلك، و لكنّها بعيدة عن سياق الآية الشريفة.
و الباء في قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قيل: إنّها للملابسة؛ لبيان أنّ جميع ما ورد في الكتاب إنّما يكون مع علمه عزّ و جلّ. و قيل: إنّه للآليّة، كما يقال: فعله بعلمه، إذا كان متقنا، فيكون وصفا للقرآن الكريم بكمال الحسن و البلاغة و الإتقان.

يدلّ قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على فضل العلم و أثره الكبير في كسب الكمالات و الحقائق الواقعيّة، و لعلّ ذكر قوله تعالى: وَ الْمُؤْمِنُونَ بعده؛ لبيان أنّ هؤلاء هم المؤمنون حقّا، و يؤكّد هذا أنّه عزّ و جلّ قد ذكر من أحوال أهل الكتاب عموما و اليهود على الخصوص، و وصفهم بالتذبذب و عدم الرسوخ في العلم و عدم الاستقرار على شي‏ء من الحقّ مع ما استوثق منهم المواثيق المؤكّدة و العهود الغليظة.
فتبيّن الآية فضل الّذين استثناهم اللّه تعالى؛ لأنّهم اتّصفوا بأوصاف تدلّ على علوّ منزلتهم و رفيع مقامهم، و عظيم أجرهم الّذي وعده اللّه عزّ و جلّ للمؤمنين.
كما تدلّ الآية الشريفة على أنّ الإيمان مع العلم أعظم درجة من غيره؛ لأنّهم تلبّسوا بحقيقته و علموا بالذي اعتقدوه، فآمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بما انزل إليه لما وجدوا أنّ نبوّته و الوحي الّذي انزل إليه مثل ما اوحي الى الأنبياء الماضين عليهم السّلام، فكان إيمانهم عن علم و معرفة، بخلاف غيرهم ممّن وصفه اللّه تعالى بالغفلة، فقال عزّ و جلّ: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: ٦].
و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في ذكر: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ؛ لأنّ الإيمان به يستلزم الإيمان بما انزل قبله، للتأكيد على صدق إيمانهم، و لأنّ المقام مقام الفرق بين المؤمنين حقّا و أهل الكتاب الّذين يدّعون الإيمان بما انزل الى الأنبياء السابقين، فاستدعي ذكر ما انزل قبلا.
و الآية الشريفة بمجموعها تدلّ على ما يوجب الرسوخ في العلم، و هو الإيمان باللّه العظيم و الإيمان بالأنبياء على أنّهم رسل اللّه تعالى، بلا فرق بينهم إلّا ما فضّله اللّه تعالى بما ذكره عزّ و جلّ في هذا المقام و غيره، و أنّ الغاية من بعثهم هي‏ تبليغ أحكامه عزّ و جلّ و تشريعاته المقدّسة، و الإيمان بأنّهم حقيقة واحدة بالنسبة الى الوحي، بلا فرق بينهم من هذه الجهة إلّا في سعة التكاليف الّتي أنزلها اللّه تعالى عليهم و ضيّقها، و لكن الوحي واحد، و لذا عدّد عزّ و جلّ ذكر الأنبياء في المقام؛ لبيان أنّهم و إن كثروا في الأفراد إلّا أنّهم واحد في الوحي كما تقدّم، و يدلّ على ذلك أنّ اللّه تعالى حكى عن الّذين استثناهم بقوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ- الى قوله تعالى- إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى‏ وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ الدال على أنّه بمنزل التعليل لإيمانهم.
كما أنّ المستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ من شروط الإيمان الواقعي و الرسوخ في العلم، هو العمل بما علمه الإنسان.
و يستفاد من قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أنّ اللّه تعالى من عظيم لطفه بعباده و واسع رحمته أنّه لم يكل الإنسان الى نفسه، و لم يؤاخذهم بميثاق الفطرة؛ لعلمه بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و انتكاس الفطرة، فأثبت لهم حقّا قد يطالبوه به يوم الحساب، مع أنّ له الحجّة البالغة، فأرسل الرسل لهدايتهم و إرشادهم الى الكمال و تبيّن لهم الفطرة الّتي أودعها اللّه تعالى فيهم و تبعّدهم عن الفطرة المنحرفة الّتي تصدّهم عن الحقّ.
و تدلّ الآية الشريفة على أنّ هذا الحقّ الّذي أثبته عزّ و جلّ لهم لم يكن عن ضعف منه و غلبتهم عليه تعالى، بل كان عن حكمة متعالية رحمة بهم، و قد أكّد ذلك بقوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، فهذه الآية المباركة درس عملي تربوي للإنسان بأنه لا بدّ من أن يبذل جهده في أن لا يثبت لغيره حقّا عليه يطالبه به في يوم لا يمكنه الأداء.
كما أنّ قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يدلّ على عظيم فضل ما انزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث تشرّف على سائر ما انزل على الأنبياء العظام عليهم السّلام بأنّه وحي‏ خاصّ من علم الباري عزّ و جلّ العالم بحقائق الأمور، و قد أبان فضله بأنّه ممّا يشهد عزّ و جلّ بذلك و الملائكة يشهدون، فإذا لم يشهد أحد بذلك، فإنّ اللّه تعالى شهيد، فصار للايحاء إليه صلّى اللّه عليه و آله مزيّة تفوق على الإيحاء إليهم.
و قد ذكر عزّ و جلّ في آخر الآيات المباركة حكم الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى، و عنّف في الكلام معهم و شدّد النكير عليهم، و بيّن سوء حالهم يوم القيامة؛ لأنّهم ضلّوا عن عناد و لجاج و كفر بعد وضوح الحجّة و أضلّوا غيرهم، فكان عذابهم شديدا يناسب شناعة فعلهم.
و الآيات الشريفة بمجموعها تبيّن أحوال المؤمنين و الكافرين و المعاندين و تقابل بينهم في أوصافهم و جزاء أعمالهم؛ ليكون عبرة لغيرهم.

في الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن، فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: وَ رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، يعني: لم اسم المستخففين كما سميت المستعلنين من الأنبياء».
أقول: إخفاؤهم في القرآن لا يستلزم إخفاءهم في السنّة أو في التواريخ المعتبرة، و عدم إظهاره في القرآن لأجل مصالح لا يعلمها إلّا هو.
و تقدّم الفرق بين الرسول و النبي، فإنّ الأوّل يوحى إليه بواسطة جبرائيل، بخلاف الثاني يوحى إليه بواسطة ملك آخر أو بنوع من الإلهام.
و في الكافي أيضا بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليهما السّلام: «قال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، و أمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل و السنّة».
أقول: المراد من السبيل هو الدين الحنيف، أي ملّة إبراهيم، و المراد من السنّة هي الطريقة المتّبعة الخاصّة.
و في تفسير العياشي في قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: «إنّي أوحيت إليك كما أوحيت الى نوح و النبيّين من بعده، فجمع له كلّ وحي».
أقول: يحتمل في الرواية وجوه:
الأوّل: أنّ الوحي النازل عليه كالوحي النازل على سائر الأنبياء لا تفاوت فيه، و يدلّ عليه ما تقدّم، و ما ورد عن ابن عباس قال: «قال مسكين و عدي بن زيد: يا محمّد ما نعلم اللّه أنزل على بشر من شي‏ء بعد موسى عليه السّلام، فأنزل اللّه في ذلك: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ».
الثاني: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله أشرف و أكمل من الوحي النازل على غيره من الأنبياء؛ لتشرّف الموحى إليه على سائر الأنبياء، فمقتضى قاعدة التناسب و السنخيّة أن يكون وحيه كذلك، و يدلّ عليه ذيل الرواية.
الثالث: أنّ المعارف الإلهيّة و الأحكام الكليّة الّتي اوحيت الى سائر الأنبياء قد اوحيت إليك مع زيادة، و يدلّ على ذلك بعض الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و غيره من الآيات المباركة.
الرابع: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله هو الوحي النازل على سائر الأنبياء عليهم السّلام بعينه في الأحكام جزئيّة و كلّية، و هذا بعيد عن سياق الآيات الشريفة و لم يوافقه ظاهر الرواية.
و كيف كان، فالرواية من باب التفسير للآية الكريمة.
و في الكافي بإسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضّلت بالمفصل ثمان و ستين سورة».
أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة القرآن على غيره من سائر الكتب السماويّة، و السور الطوال في القرآن الكريم هي: البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و التوبة، على أن يعدّ الأنفال و البراءة سورة واحدة، و سمّيتا بالقرينتين.
و المئين من بني إسرائيل الى سبع سور؛ لأنّ كلا منها تقرب مائة آية، و المفصل من سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن الكريم، سمّيت به لكثرة الفواصل بينها.
و المثاني: بقية السور، و لا إشكال في أنّ المثاني من الأمور الإضافيّة، فيصحّ إطلاقها على جميع سور القرآن ما عدى الفاتحة، بل و يطلق عليها أيضا باعتبار تكرّرها في الصلاة كما تقدّم، و المراد من المثاني في المقام المعنى الإضافي لا الحقيقي، كما لا يخفى.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّما نزلت في علي عليه السّلام، أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا».
أقول: الرواية من باب التفسير و التطبيق بأجلّ المصاديق و أشرفها، و لا يكون من التحريف و لا قراءة منه عليه السّلام.
و في الخصال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «انّ اللّه ناجى موسى عليه السّلام بمائة ألف كلمة و أربع و عشرين ألف كلمة في ثلاثة أيّام و لياليهن، ما طعم فيها موسى عليه السّلام و لا شرب فيها، فلما انصرف الى بني إسرائيل و سمع كلامهم، مقتهم لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام اللّه عزّ و جلّ».
أقول: الظاهر أنّ العدد المذكور تقريبي- لا واقعي- فقد يكون أكثر أو أقلّ، و إنّما كان ذلك في زمن معين لعلّه ذلك كان من سؤال موسى عليه السّلام من اللّه جلّت عظمته و من فعله، حتّى يستلذّ أكثر؛ و لذلك نسي كلّ شي‏ء حتّى نفسه فلم يحس بالجوع و لا بالعطش. و بعد انصرافه عليه السّلام من المناجاة لم يألف بأي كلام و استوحش‏ منه و حصل له النفرة و البغض منه من أثر تلك اللذّة.
و في الاحتجاج في مكالمة اليهود النبي صلّى اللّه عليه و آله قالوا: «موسى خير منك؟
قال صلّى اللّه عليه و آله: و لم؟ قالوا: لأنّ اللّه تعالى كلّمه أربعة آلاف كلمة، و لم يكلّمك بشي‏ء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك، قالوا: و ما ذاك؟ قال: قوله عزّ و جلّ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
أقول: لا شكّ في أنّ المواجهة أفضل من المكالمة؛ لأنّ كلامه تعالى مع موسى عليه السّلام كان إحداث كلام في الشجرة- كما في بعض الروايات- منبعثا منها؛ و لذا كان يسمع من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّم اللّه موسى تكليما بلا جوارح و أدوات و شفة و لا لهوات، سبحانه و تعالى عن الصفات».
أقول: ثبت في الفلسفة الإلهيّة بالأدلّة القطعية تنزّهه سبحانه و تعالى عن الجسم و الجسمانيات، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بكلامه عزّ و جلّ فراجع.
في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: (ان الّذين ظلموا آل محمّد منهم لم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا إلّا طريق جهنّم خالدين فيها أبدا و كان ذلك على اللّه يسيرا)، و قال: (يا أيّها الناس قد جاءكم الرسول بالحقّ من ربّكم في ولاية علي فآمنوا خيرا لكم و إن تكفروا بولايته فإنّ للّه ما في السموات و الأرض).
أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية بأنّ المراد من نزول جبرئيل الوحي مع التفسير بالمصداق، و إلّا فالرواية تدلّ على نوع من التحريف، و نحن لا نقول به و ذكرنا في المقدّمة ما يتعلّق به.
و يحتمل أن يكون المصاديق من كلام الإمام عليه السّلام، ذكرها في ضمن الآية المباركة من باب الجري و التطبيق. و اللّه العالم.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"