1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 150 الى 161

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (۱٥۰) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (۱٥۱) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (۱٥۲) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً (۱٥۳) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (۱٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (۱٥٥) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (۱٥٦) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (۱٥۷) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (۱٥۸) وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (۱٥۹) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (۱٦۰) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (۱٦۱)


الآيات المباركة تتحدّث عن فريق آخر من أعداء الإسلام و المؤمنين، و هم اليهود، و يذكر سبحانه و تعالى فيها أفاعيلهم الباطلة، و يعدّد جرائمهم و مظالمهم بالنسبة الى الدين الحقّ و الأنبياء الكرام.
فمنها: التفرقة في الإيمان، فيؤمنون باللّه تعالى و يكفرون برسله، و قد عدّ سبحانه و تعالى هذه الصفة بأنّها كفر محض و أوعدهم النار.
و بيّن عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة أنّ المؤمنين هم الّذين لا يفرّقون بين اللّه و رسله. و وعدهم الأجر و الغفران و العاقبة الحميدة في الدارين.
و منها: سؤالهم إنزال الكتاب من السماء إعراضا منهم عن القرآن الكريم و الوحي النازل على رسوله الأمين، و ربّما يشترك النصارى مع اليهود في هذين المطلبين؛ لأنّهم أعرضوا عن الإسلام و لم يقتنعوا برسالة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.
و منها: سؤالهم الرؤية و قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً جهلا بالحقيقة و عنادا للحقّ؛ و لذلك فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ للتجرّي في سؤالهم و بعدهم عن الواقع باختيارهم.
و منها: اتخاذهم العجل معبودا لهم بعد ما جاءتهم البينات و لكنهم لم يتبعوها، لانغماسهم في الجهالة باتباع سبل الشيطان.
و منها: نقض الميثاق الغليظ الّذي أخذ منهم عند رفع الطور و تحت الشجرة، و قد تعهّدوا أن لا يخالفوا التعاليم الإلهيّة.
و منها: كفرهم بالآيات الّتي أتى بها موسى عليه السّلام و سائر أنبياء بني إسرائيل.
و منها: قتلهم الأنبياء عليهم السّلام بغير حقّ.
و منها: إعراضهم عن قبول الحقّ و قولهم: قلوبنا غلف.
و منها: تقوّلهم على مريم البتول الطاهرة و اتّهامهم لها بأعظم اتّهام.
و منها: تقوّلهم إنّهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. و قد ردّه عزّ و جلّ بنفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام.
و منها: أخذهم الربا و قد نهوا عنه.
و لأجل تلك الأفاعيل المنكرة و ظلمهم و صدّهم عن سبيل اللّه تعالى و غيرها، أنّه جلّ شأنه حرّم عليهم الطيبات و أعدّ لهم عذابا أليما جزاء لذنوبهم، فإنّها آيات عظيمة تبيّن حقيقة هذه الطائفة المعاندة للحقّ بعد ما بيّن حقيقة الطائفة الاخرى و هم المنافقون، و يبيّن عزّ و جلّ فيها أصل الإيمان و حقيقته، و تذكّر المؤمنين بوعده الحقّ و أجرهم العظيم.
و لا يخفى ارتباط هذه الآيات الكريمة بما سبقتها، فإنّها جميعا تبيّن تلك الحقيقة و تذكّر المؤمنين بأعدائهم و ترشدهم الى نواياهم و خصالهم الذميمة، حتّى يأخذوا الحذر منهم و من مكائدهم و خداعهم.

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ.
بيان لحقيقة الإيمان المطلوب المبني على أصلين لا يمكن التفكيك بينهما في الاعتقاد، و هما العمودان و سائر الأمور المطلوبة في الإيمان الواقعي ترجع إليهما و تعتمد عليهما.
و هما: الإيمان باللّه العظيم، و الإيمان بالرسل، فإذا تحقّق الأوّل من دون الثاني يكون إيمانا ادّعائيا، و في نظر القرآن كفرا و إن لم يكن كذلك في نظرهم.
و الآيات المباركة تشير الى طوائف متعدّدة، فمنهم: من آمن باللّه تعالى و كفر برسله أجمعين، زعما منهم بأنّ العقل يكفي لهداية البشر، أو لإنكارهم الوحي و أنّ ما جاء به الأنبياء و الرسل إنّما كان من عند أنفسهم.
و منهم: من آمن باللّه تعالى و كفر ببعض الرسل، و هم أهل الكتاب الّذين يؤمنون باللّه و يفرّقون بين الرسل. فترى اليهود أنّهم يؤمنون بموسى عليه السّلام و يكفرون برسالة عيسى و يحيى عليهما السّلام، كما أنّ النصارى تؤمن بموسى و عيسى عليهما السّلام و تكفر بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كفرهم هذا ببعض الرسل أوجب أن يكونوا في عدد الكافرين باللّه تعالى و رسله جميعا، كما بيّنه عزّ و جلّ في الآيات التالية.
و منهم: من كفر باللّه جلّ شأنه و لم يؤمن برسله، كالمشركين و غيرهم من الكفّار المنكرين للمبدأ و المعاد و الرسل، و يأتي ما يتعلّق بهذه الطائفة في الآيات الكريمة في السور الآتية إن شاء اللّه تعالى.
و منهم: من آمن باللّه و رسله، و هم المؤمنون، و لهم فضلهم و شأنهم عند اللّه تعالى كما يأتي.
قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ.
بيان للعلّة الّتي أوجبت دخول الطائفة الاولى في زمرة الكافرين، فإنّهم و إن اعتقدوا باللّه جلّ جلاله، و لكن ذلك بوحده غير كاف في الدخول في المؤمنين؛ لأنّ التفرقة بين اللّه تعالى و رسله كفر بهما معا.
و إنّما جعل ذلك من إرادتهم؛ لبيان أنّه لم ينزل اللّه به من سلطان، و إنّما كان بمحض إرادتهم و اختيارهم التابع لآرائهم الفاسدة و عقائدهم السخيفة.
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ.
تفسير و توضيح لما أرادوه من التفرقة بين اللّه تعالى و رسله، و يقولون: نؤمن ببعض الأنبياء و نكفر بالبعض الآخر، كما فعله أهل الكتاب- أو الطائفة الثانية- مع أنّ الأنبياء عليهم السّلام جميعا رسل اللّه تعالى و الردّ على واحد منهم ردّ على اللّه تعالى، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع.
و الآيات الشريفة تبيّن حقيقة دينهم و ما يقتضيه مذهبهم في الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر، فإنّ ذلك كفر في الواقع و إن لم يصرّحوا به أو لم يشعروا به.
و إنّما عبّر سبحانه و تعالى ب وَ يَقُولُونَ ليماء الى أنّ ذلك مجرّد قول و ادعاء بالألسنة، و إلّا فالحقيقة و الواقع خلاف ذلك، و قد اقتصر تبارك و تعالى على ذكر أهل الكتاب و لم يذكر الطائفة الاخرى المنكرين للرسالة بالكليّة لسخافة مذهبهم، و وضوح بطلانه، و إنكارهم للّه تعالى؛ و لأنّ الكلام مع أعداء الإسلام من أهل الكتاب المدّعين للإيمان.
قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
عطف تفسيري لمقالتهم، أي: يريدون من ذلك القول و التفرقة بين الإيمان أن يسلكوا منهجا معينا لهم و يبتدعوا طريقا مختصّا بهم يتبعوه، يكون وسطا بين الإيمان و الكفر. مع أنّ الحقّ لا يختلف، و الواقع لا واسطة فيه، فإمّا الإيمان باللّه تعالى و رسله جميعا من دون تفرقة بينهم، و إمّا الكفر سواء كان باللّه و رسله أو بالأخير منهما، أو بالتفرقة بين الرسل، فلا سبيل إلّا الإيمان باللّه و رسله جميعا؛ لأنّ الإيمان بهم إيمان باللّه تعالى، و الكفر بواحد منهم كفر به عزّ و جلّ، فلا واسطة و لا سبيل غيره، و ما سواه كفر و باطل.
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا.
بيان لحقيقة مذهبهم و واقع حالهم و تأكيد يزيل كلّ و هم و شكّ في إيمانهم، فأولئك المفرّقون هم كافرون حقّا لا مرية فيه و إن لم يشعروا به، فلم ينفعهم إيمانهم باللّه و ببعض الرسل إذا كفروا.
و في تأكيد الحكم بالجملة المعرفة بين الجزءين، و بضمير الفصل و بالمصدر المؤكّد قطع لكلّ إرادة باطلة و تقوّل فاسد، فإنّه لا حقّ أثبت و أصحّ ممّا يحقّه اللّه تعالى حقّا، و السرّ في ذلك واضح؛ لأنّ ما يتوسّلون به في إثبات التفرقة باطل، و أنّ لازم إيمانهم كذلك الردّ على اللّه عزّ و جلّ، لأنّ الأنبياء وحدة متكاملة، يبشّر السابق باللاحق و يدعو إليه، كما ينوّه اللاحق بالسابق و يجعل الإيمان به من أجزاء الإيمان بدينه، فإذا أنكر واحد منهم، فقد أنكر الجميع، و هو الكفر باللّه العظيم، و لشناعة الفعل كان الجزاء عظيما.
قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
وعيد لهم بعد ما أثبت كونهم كافرين، و وضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصفهم الشنيع، و تعميما لجميع أصناف الكافرين، هذا الصنف و غيرهم، بعد ما اجتمعوا في العلّة الّتي استحقّوا بها هذا العذاب المهين الّذي يشتمل على المذلّة و الإهانة، و في قوله تعالى التفات من الغيبة الى التكلّم مع الغير، إيماء الى أنّ العذاب تحقّق و قرب وقوعه، و للتنبيه و الإيقاظ لهم على ما غفلوا عنه.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
بيان للصنف المقابل لأولئك المفرّقين بين اللّه و رسله، و فيه تعظيم لمقامهم و تشريف لهم ببيان عظيم أجرهم، و منه تظهر حقيقة الإيمان المطلوب، و هي الإيمان باللّه و عدم التفرقة بين أحد من رسله العظام (صلى اللّه عليهم أجمعين).
و إنّما ذكر عزّ و جلّ أَحَدٍ في المقام؛ للبيان بأنّه لا بدّ أن لا يفرّق بين جميع الرسل، سواء أ كانوا ممّن اعتقد به أولئك الكافرون و من أنكروا الإيمان به أم لم يكن منهم، و تنطبق الآية الشريفة على أمة خاتم المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فإنّهم آمنوا به التزاما منهم بالإيمان بجميع المرسلين.
قوله تعالى: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ.
تعظيم للجزاء و إيذان بقرب الوقوع، و يدلّ عليه أيضا كلمة (سوف) الّتي تدلّ على تأكيد الموعود به.
و إنّما لم يبيّن عزّ و جلّ نوع الأجور إيماء بأنّ المؤمنين يختلفون في الأجور، فكلّ يعطي بحسب حاله في العمل بعد ما ثبت فيهم أصل الإيمان المطلوب.
كما أنّه تعالى لم يذكر هنا (أولئك هم المؤمنون حقا) كما في الآية المباركة السابقة؛ للإعلام بأنّ ما ذكر إنّما هو أصل الإيمان المطلوب، و أمّا كماله الّذي يتمّ به الإيمان حقّا، فقد ذكر في آية اخرى، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال، الآية: 2- ٤].
و من الآية الكريمة الأخيرة يظهر الفرق بين الوعدين، الوعد الّذي ذكر في المقام و هو إعطاء أجورهم على أصل الإيمان، و الوعد الّذي ذكر في الآية الشريفة على كمال الإيمان و هو المغفرة و الدرجات و الرزق الكريم جزاء لصالح أعمالهم.
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ.
بعد أنّ بيّن عزّ و جلّ حقيقة مذهبهم و أنّه كفر محض لتفرّقهم بين اللّه و رسله، حيث آمنوا ببعض دون البعض الآخر، ففي هذه الآيات الشريفة يؤكّد تعالى ذلك ببيان جرائمهم و ظلمهم و يعدّد عليهم أفعالهم الشنيعة و عنادهم للحقّ و جحودهم له، و خصّ بالذكر اليهود الّذين لقى الرسول الكريم و دينه الحقّ و المؤمنون منهم الأذى و العناد و اللجاج في أشدّ وجوهها.
و المراد من أهل الكتاب هم الّذين فرّقوا بين الرسل و هم اليهود و النصارى كما عرفت، و هم المراد أيضا في القرآن الكريم حيث أطلق أهل الكتاب إلّا إذا كانت قرينة على التخصيص، و السؤال إنّما وقع من كلتا الطائفتين- تحكّما و مجازفة و على سبيل التعنت و التعجيز- لا يقصد الحجّة و البرهان، لأنّهم عرفوا منزلة القرآن في الهداية و نفوس المؤمنين، و كانوا يعلمون أنّ كتاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ينزل دفعة واحدة و إنّما ينزل نجوما متفرقة إلّا أنّهم لم يعدونه كتابا سماويا، و لا كانوا يؤمنون به دليلا على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله جحودا و استكبارا منهم للحقّ، فاقترحوا جزافا على الرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا محرّرا بخط سماوي، و أن يكون جملة واحدة.
و اختلف المفسّرون في هذا الكتاب المقترح، فمنهم من قال: كتاب يحتوي على شريعة هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، كالألواح الّتي نزلت على موسى عليه السّلام.
و قيل: إنّه كتاب يشهد بأنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
و قيل: إنّه كتاب ينزّل باسم جماعتهم أو الى فرد معين من أحبارهم، أو بأسماء من اقترحوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك.
و كيف كان، فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّهم اقترحوا من عند أنفسهم- جزافا و جحودا للحقّ و من غير خضوع للحقيقة- إنزال كتاب من عند اللّه تعالى، و كانوا يريدون من ذلك تشويه الأمر على المؤمنين الّذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و قلب الحقيقة عليهم و سلب الطمأنينة من نفوسهم؛ لأنّهم طالما كانوا يواجهون المؤمنين بمثل هذه المقترحات الباطلة لتضعيف الإيمان في قلوبهم، و إلّا فإنّهم كانوا يعلمون أنّ القرآن نزل مع التحدّي و عرفوا عجز الناس عن معارضته و تحديه، و هذا شأن كلّ متمرّد على الحقّ، و من تعوّد الجحود و الكفر.
و لا يبقى بعد ذلك وجه للنزاع في أنّ المقترح هل هو كتاب خاصّ أو عامّ أو نحو ذلك، بعد ما كان المناط هو معرفة نواياهم الخبيثة و كيدهم بالمؤمنين و جحودهم.
و لقد شابهوا المشركين في هذا المقترح الباطل المعاند للحقّ الّذي صدر منهم في ابتداء الدعوة كما حكى عنهم عزّ و جلّ فقال: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ* [سورة يونس، الآية: 20] و قال تعالى: أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [سورة الإسراء، الآية: 93].
ثم إنّ المفسّرين ذكروا أنّ اليهود كانوا يغشّون المؤمنين و يغرّونهم بإنزال التوراة عليهم جملة واحدة، و أنّ شريعة موسى عليه السّلام قد نزلت دفعة واحدة و كذلك الإنجيل، فلم لم يكن القرآن كذلك و على خلاف تلك الكتب الإلهيّة، و أرادوا من ذلك تضعيف الإيمان في قلوبهم و إثبات الشكّ في نفوسهم.
و لكن الّذي يظهر من القرآن الكريم و بعض الفقرات في التوراة خلاف ذلك، فإنّ التوراة لم تنزل دفعة واحدة، و إنّ النازل كذلك هو الوصايا العشر الّتي نقشت في الألواح، فأتى بها موسى عليه السّلام الى قومه، و لما رأى عبادة العجل ألقى الألواح كما حكى عنه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، و أمّا شريعته عليه السّلام فإنّها نزلت متفرّقة و على سبيل التدرج و لم تنزل مكتوبة جملة واحدة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في كيفيّة نزول الكتب الإلهيّة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.
جواب عن مسألتهم تتبيّن فيه حقيقتان:
الاولى: أنّهم قوم متمادون في الجحود و منغمسون في الجهالة و الضلالة، ينكرون الحقّ و إن جاءتهم البينة، عرفوا بنقض العهود و المواثيق و اشتهروا بالكذب و البهتان، فمن كان هذا حاله لا يعتنى بمقترحاته و لا يجاب عن اسئلته، و من هنا عدّد عزّ و جلّ مظالمهم و موارد جحودهم على الحقّ و تمرّدهم على اللّه تعالى و أنبيائه العظام؛ لمعرفة تلك المفاسد الأخلاقيّة و ذلك الجحود و التمرّد على الحقّ.
الثانية: أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن مع التحدّي، و مقارنا مع الشهادة منه عزّ و جلّ و من ملائكته على صدقه و واقعيته، فكلّ مقترح في إنزال كتاب آخر غيره يكون كذبا و مقترحة (بالكسر) كاذب و جاحد للحقّ، و قد تكفّلت هذه الجهة آيات التحدّي الّتي وردت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم كما في سورة الإسراء و يونس و هود و البقرة، و كذلك الآيات المباركة الّتي تدلّ على صدق القرآن و شهادته عزّ و جلّ عنه.
و أمّا الآيات الكريمة في المقام فقد تكفّلت لبيان الجهة الاولى، فذكر عزّ و جلّ في ردّهم أنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر ممّا سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله من تنزيل كتاب من السماء، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، أي: واضحا نعاينه بأبصارنا، و هذا السؤال يدلّ على غاية الجهل و الطغيان و العناد، فكان أكبر من سؤال إنزال الكتاب؛ لأنّه يدلّ على العناد و اللجاج فقط.
و سؤال الرؤية و إن كان من أسلافهم إلّا أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف و سيرتهم و هم جميعا في الأخلاق و الصفات سواء، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا، و قد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع، و هو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم، قال تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [سورة البقرة، الآية: ٤۹]، و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ‏ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة، الآية: ٥٥]، و غيرهما من الآيات المباركة، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.
قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ.
الصاعقة: هي النار السماويّة الّتي تحدث من أسباب معروفة في علم الطبيعة.
و إنّها و الفاقعة متقاربتان، إلّا أنّ الثانية في الأجسام الأرضيّة و الاولى في الأجسام العلويّة.
و كيف كان، فقد عبّرت التوراة عنها بالنار و لا منافاة بينهما، فإنّ الآية الشريفة تفسّر تلك بالنار السماويّة.
و المراد من الظلم في المقام هو تشبيه الربّ بالماديات و طلب رؤيته. و هو ظلم مع علمهم بأنّها مستحيلة بالنسبة إليه عزّ و جلّ، لتنزّهه عن مجانسة المخلوقات، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية: ٥٥] الكلام في هذه المسألة، و قلنا إنّ الآية الشريفة تدلّ على امتناع الرؤية، فإنّ ظاهرها هو أنّ أخذهم الصاعقة لم يكن إلّا بسبب ظلمهم أنفسهم، و هو لم يكن إلّا لأنّهم طلبوا الرؤية و إلّا لما سموا ظالمين، و لما أخذتهم الصاعقة.
و لا ينافي ذلك أن يكون السؤال عن تعنّت من اليهود، فإنّ كلّ ظلم منهم إنّما كان كذلك و إن اختلفت أسبابه، و العقاب قد يكون عليهما معا أو على أحدهما.
و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ العقاب إنّما كان على تعنّتهم لا على سؤالهم الرؤية.
و كيف كان، فالإماميّة يقولون بامتناع الرؤية لظواهر الآيات الشريفة، و نصوص وردت عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، و أمّا الأشاعرة فإنّهم على خلاف ذلك و المسألة معروفة في كتب الكلام.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ.
أي: أنّهم ارتكبوا ظلما أشنع و هو اتّخاذ العجل للعبادة مع علمهم بأنّها شرك باطل، لقيام البينات و الحجج الواضحة الدالّة على توحيده و النافية للشرك، و ظهور البراهين لديهم على أنّ اللّه تعالى منزّه عن شؤون المادّة و شائبة الجسميّة.
قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ.
أي: فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، و العفو هنا خاصّ، و هو رفع القتل عنهم كما حكى تعالى عن القصة في سورة البقرة: فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة، الآية: ٥٤]، و فيه تعليم للمذنبين، أي: أنّهم أذنبوا فتابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتّى نعفو عنكم.
قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً.
أي: أنّ اللّه تعالى أتى موسى عليه السّلام تسلّطا ظاهريا عليهم جميعا بما فيهم السامري و عجله، فخضعوا له فأمرهم ابتداء بقتل أنفسهم توبة عن اتخاذهم العجل، فاستولى على تمرّدهم و طغيانهم ثمّ انقادوا له فلم يخالفوه، و بذلك صارت له حجّة بيّنة قوى بها على من ناواه.
قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ.
أي: أنّ اللّه تعالى رفع الطور عليهم حتّى أخذ الميثاق منهم تحت الصخرة، و إنّما فعل ذلك تشديدا لأمر الميثاق و توكيدا عليه و ليأخذوا ما انزل إليهم بقوة و يعلموا مخلصين، و القصة مذكورة في سورة البقرة مرّتين، الاولى في الآية (٦۳) و الثانية في الآية (۹٦).
قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً.
بيان لمورد من الموارد الّتي أخذ الميثاق عليها، أي: و قلنا لهم: إذا خرجتم من التيه و دخلتم مدينة بيت المقدس، فادخلوها من الباب خاضعين كما أمر غير اليهود بأن يدخلوا البيوت من أبوابها.
و المراد من ذلك أنّ كلّ عمل يعمله الإنسان لا بدّ أن يكون من الوجه المشروع و لا يجوز أن يدخله من غير بابه الّذي شرّعه اللّه تعالى، و لعلّ ما أخذ من بني إسرائيل من الدخول من الباب إشارة إلى ذلك أيضا، فاتّحدت جميع الأديان‏ الإلهية على هذا الأمر و لا يقدح أن تكون الآية المباركة إشارة الى واقعة معينة، فإنّه قد يترتّب حكم كلّي على واقعة جزئيّة، كما هو معروف.
قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ.
بيان لمورد آخر من موارد الميثاق، أي: و قلنا لهم لا تتجاوزوا حدود اللّه تعالى و لا تحلّوا ما حرّمه اللّه تعالى في يوم السبت. و لكنّهم خالفوا أوامره عزّ و جلّ كما حكى عنهم في سورة البقرة.
قوله تعالى: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.
أي: و أخذنا منهم عهدا وثيقا مؤكّدا ليأخذوا التوراة بقوّة و اجتهاد و يعملوا بها و يحفظوا عهودها و حدودها.
و إنّما وصف الميثاق بكونه غليظا إمّا لأجل تعهّدهم بالعمل بالتكاليف الإلهيّة و حفظ التوراة و مراعاة عهودها و التزامهم إذا أعرضوا، فاللّه تعالى يعذّبهم بأنواع العذاب، أو لأجل عظمة الميثاق الّذي أخذ منهم، و هو التصديق بنبوّة عيسى عليه السّلام و نبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، الّتي بشّر بها في جميع الكتب السماويّة.
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ.
تفريع على ما سبق، و فيه تعداد لموارد ظلمهم و ما خالفوا فيه من المواثيق و العهود. و بيان ما حلّ بهم من البلاء و ما نالوا من الجزاء في الدنيا و الآخرة.
و المجرور متعلّق بما يأتي في الآية الشريفة.
أي: بسبب نقضهم المواثيق و تحليلهم ما حرّمه اللّه تعالى عليهم و كفرهم، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ و قولهم: قلوبنا غلف، و غير ذلك من جرائمهم، فبسبب ذلك كلّه حرّمنا عليهم الطيبات و باءوا بالغضب و ضربت عليهم الذلّة و المسكنة.
و جوّز بعضهم أن يكون الجار متعلّقا بمقدّر، و قيل غير ذلك، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.
و تعداد جرائمهم في هذه الآية الشريفة إنّما هو لبيان أنّها أفسدت جميع أخلاقهم، و كدّرت صفاء نفوسهم، و أطفئت نور فطرتهم، فمرضت قلوبهم و ساءت‏ أحوالهم و تشتّت شملهم و ذهب ريحهم و قوتهم، فكلّ ما حلّ بهم من البلاء إنّما كان بسبب عصيانهم للّه تعالى و نقضهم المواثيق و كفرهم.
قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ.
المراد من كفرهم: مطلق أنواع الكفر الّذي صدر منهم بعد ظهور الحجج الواضحة الدالّة على صدق ما كفروا به، و قد ذكر عزّ و جلّ بعضا منها في ما سبق و بعضها في ما سيأتي، فمنها: كفرهم بأنّه منزّه عن شائبة الجسميّة، حيث طلبوا رؤيته كما حكى عزّ و جلّ في صدر الآية الكريمة.
و منها: كفرهم باتّخاذهم العجل معبودا.
و منها: إنكارهم للمعجزات الّتي صدرت من الأنبياء.
و منها: كفرهم بقتلهم الأنبياء بغير حقّ، و كفرهم بإنكار نبوّة بعض الأنبياء.
و إنّما قدّم عزّ و جلّ نقض المواثيق في المقام مع أنّ الكفر كان مقدّما في الذكر آنفا؛ لأنّ في هذه الآيات الكريمة تتعرّض للجزاء الّذي يترتّب على أعمالهم بعد ما استجابوا للحقّ و آمنوا باللّه تعالى، و بعد ما أخذ منهم المواثيق، فكان ذكرها أنسب مع أنّ نقض المواثيق في كلّ دين يوجب الكفر، فيكون من قبيل المعدّ و المقتضي له.
قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ.
جريمة فظيعة تدلّ على طغيانهم على اللّه جلّت عظمته و تمرّدهم على الحقّ، حيث قتلوا أنبياءه و رسله الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهدايتهم بغير جرم اجترحوه، مع أنّهم معصومون من كلّ نقص و بريئون من كلّ عيب، فلا حقّ يتوجّه عليهم، و قد أكّد تعالى على قبيح هذا العصيان و فظاعته كونه بِغَيْرِ حَقٍّ، و إلّا فإنّ قتل كلّ شخص بري‏ء و محقون الدم هو قبيح و يكون بغير حقّ.
و للدلالة على أنّه لا حق مطلقا يتوجّه عليهم يستوجب هتك حرمتهم و قتلهم.
و اكتفى القرآن الكريم بذكر القتل عليهم إجمالا من غير تسمية، و لكن التاريخ قد سجّل عليهم قتل جملة من الأنبياء، كزكريا و يحيى عليهما السّلام و غيرهما.
قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ.
غلف: جمع أغلف، و هو الّذي عليه الغلاف ليمنع نفوذ الشي‏ء إليه، كغلاف السيف، و قد ورد في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يفتح قلوبا غلفا»، أي: مغشاة مغطاة، يقال: قلب أغلف، أي عليه غشاء يمنع عن قبول الحقّ و نفوذه فيه.
و المعنى: قلوبنا في أغشية تمنعها من قبول الحقّ و تأثير المواعظ فيها و نفوذ ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله إليها، كما في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ* [سورة الانعام، الآية: ۲٥]، و ما يحكى عنهم تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [سورة فصلت، الآية: ٥].
و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة أنّ قلوبنا في أوعية، فلا حاجة بنا الى علم جديد سوى ما عندنا و هو كاف.
و لكن الوجه الأوّل أولى بقرينة سائر الآيات الكريمة الّتي حكي فيها حال أقوام آخرين مع الدعوة الى الحقّ.
و الإباء عن الاستماع الى الحقّ لا يصدر إلّا ممّن انهمك في العصيان و استولى عليه الفساد و الطغيان، و من أخذته العزّة بالإثم فاستكبر عن قبول الحقّ، و هذا مرض نفسي عضال أعيى الأنبياء عليهم السّلام عن علاجه، و قد حكي عزّ و جلّ حال قوم نوح عليه السّلام من الدعوة و عدم قبول الحقّ، فقال حاكيا عنه عليه السّلام: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً [سورة نوح، الآية: 7].
و ظاهر الآية الشريفة أنّ ادعاءهم ذلك ناشئ عن خلقتهم كذلك و إن قلوبهم خلقت مغشّاة بأغشية تمنعها من قبول الحقّ. و قد ردّ عزّ و جلّ عليهم بأنّ ذلك نشأ عن كفرهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و انهماكهم في المعاصي و ارتكاب الآثام فطبعت عليها.
قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ.
ردّ لزعمهم الفاسد، أي: أنّ إباءهم عن قبول الحقّ و استماع الدعوة لم يكن‏ مستندا الى كون قلوبهم في غلف، و ليس في خلق اللّه تعالى لقلوبهم ما يمنع عن قبول الدعوة الحقّة، و إنّما هو راجع الى صنع اللّه عزّ و جلّ فيهم لأجل كفرهم و جحودهم للحقّ و عصيانهم، و لذلك ترى أنّ منهم من يؤمن بالحقّ و إن كانوا قليلين.
و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالطبع كالسكّة المطبوعة لبيان أنّ كفرهم الشديد و أعمالهم القبيحة قد أفسدت عليهم قلوبهم و طبعت عليها، فصارت قاسية لا تقبل غير ما طبع عليها، فإنّ القلوب لتتأثّر بكلّ ما يكسبه المرء و ينطبع عليها كما ينطبع على الصخرة الملساء ما ينقش فيها، فإن كان من الاعتقادات الحقّة أو الكمالات السامية و الأعمال الصالحة فهي تهتز و تنمو بإذن اللّه تعالى، و إلّا فتفسد و تقسي كالصخرة أو أشدّ منها، كما حكي عزّ و جلّ حالها مع الإيمان و الكفر و الأعمال في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم، قال تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: ۱٤]، و قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة، الآية: ۷٤].
ثمّ إنّ الفرق بين الطبع (بالسكون) و الطّبع (بالتحريك) هو أنّ الأوّل: الختم كما تقدّم، و الثاني هو الدنس و الوسخ، و منه الحديث: «أعوذ باللّه من طمع يهدي إلى طبع»، أي: استجير باللّه العظيم من طمع يؤدّي إلى شين و عيب.
و عن بعض اللغويين: الرين أيسر من الطبع، و هو أيسر من الأقفال، و الأقفال أشدّ ذلك كلّه، و استدلّ بالآيات المباركة: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: ۱٤]، و قال تعالى: طَبَعَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ* [سورة النحل، الآية: 108]، و قال تعالى: أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها [سورة محمّد، الآية: ۲٤].
و لكن الّذي يهوّن الأمر أنّ لكلّ منها مراتب، فيطلق كلّ مرتبة على غيرها كما يأتي في محلّه تفصيل ذلك.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
تأكيد الى أنّ غلف القلوب إنّما كان من صنع أنفسهم لا من صنع اللّه تعالى و خلقته، إلّا بالمعنى الّذي تقدّم من أنّ كثرة ارتكاب المعاصي و الآثام و التمادي في الكفر و الطغيان يوجبان إعراض اللّه تعالى عنها، فيطبع اللّه تعالى أعمالهم فيها، فتصير قاسية لا تقبل الحقّ، فلم يخلق اللّه تعالى قلوبهم مغشية بالغشاء، و إلّا فلا يؤمن منهم أحد أبدا، فيكون إيمان بعضهم و لو كانوا قليلين دليلا على أنّ الغشاء على القلوب إنّما حصل من أعمالهم.
و ممّا ذكرنا يعرف معنى الاستثناء في المقام، و قد أتى به لإثبات هذه الجهة و لنفي الإلجاء الّذي يستفاد من ظاهر كلامهم، فيرجع المعنى الى أنّهم بكفرهم و قتلهم الأنبياء و ارتكابهم سيئات الأعمال و توغّلهم في العصيان قد أفسدت أخلاقهم حتّى انطبعت تلك الآثار السيئة على قلوبهم، فلا يؤمنون لأنّ قلوبهم في غشاء صنعوه بأنفسهم، إلّا من هداه اللّه تعالى و لم يصل الى هذه المرتبة من الطغيان، فيقبل الحقّ و يهتدي بنور الإيمان، و قد ذكر المفسّرون في المقام أقوالا كثيرة ذكرنا جملة منها في أمثاله فراجع.
و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة: لا يؤمن إلّا إيمانا قليلا، و هو الإيمان بموسى عليه السّلام، و لكن ذلك باطل؛ لأنّ الإيمان القليل بالمعنى الّذي ذكر لا اعتبار به عند القرآن كما عرفت في صدر هذه الآيات المباركة.
كما أنّ ظاهر هذه الآية الكريمة أنّها في صدد ذكر كلتا الطائفتين الكافرتين اللتين طبع على قلوبهم، و المؤمنين الّذين هم ليسوا كذلك.
قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً.
نوع آخر من الكفر الّذي ارتكبوه و هو الكفر بعيسى عليه السّلام و نسبة الفحشاء الى مريم العذراء الطاهرة، و البهتان: الكذب الّذي يبهت من يقال فيه و يدهشه و يحيّره، و هو من أقبح الكذب.
و إنّما وصف هذا البهتان بكونه عظيما إمّا لكونه قد نسب الى من كانت‏ منزلتها عظيمة عند اللّه تعالى، و قد اختارها اللّه و اصطفاها على نساء العالمين مع علمهم ببراءتها ممّا نسب إليها لظهور الكرامات الدالّة على براءتها منها، كتكليمهم عيسى عليه السّلام و هو في المهد صبيا، فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 30]، فأنكروا المعجزات كلّها و نسبوا الى مريم البتول عليهما السّلام بما هي بريئة منه و تجاهلوا منزلتها عند اللّه تعالى و لم يقدّروا قدرها.
و إمّا لأنّ الجزاء الّذي يترتّب على هذا البهتان كان عظيما، و قد كانوا هم السبب في ما حلّ بهم من الغضب و اللعنة.
قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ.
جريمة اخرى من جرائمهم الدالّة على كمال جرأتهم على اللّه تعالى و الاستهزاء بآياته و رسله و تماديهم في الكذب و الطغيان، و إنّما عبّر عزّ و جلّ: وَ قَوْلِهِمْ على سبيل التبجح، و لبيان أنّه مجرّد قول يحكي عنهم لا حقيقة له، و هو بعيد عن الواقع.
و قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ إمّا وصف لعيسى بن مريم، فيكون من جملة أقوالهم المحكيّة الرسالة تهكما و استهزاء بدعوته.
أو على سبيل المدح و الاختصاص للإشارة الى رفعة شأنه و عظيم منزلته و لبيان فظاعة عملهم و كمال جرأتهم على اللّه تعالى و نفي الألوهيّة المزعومة فيه.
أو أنّ اللّه تعالى وضع الذكر الحسن مقام ذكرهم القبيح له، فإنّهم قد وصفوه بأقبح الصفات.
قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ.
إبطال لما زعموه من قتلهم رسول اللّه تعالى عيسى ابن مريم، و الجملة في موضع الحال، أي: و الحال أنّهم لم يقتلوه و لم يصلبوه. و إنّما نفى عزّ و جلّ القتل و الصلب معا عنه عليه السّلام، لبيان النفي التامّ، بحيث لا يشوبه شكّ و ريب فلم تصل أيديهم إليه بأي نحو من أنحاء القتل، و دفعا به لما قد يتوهّم من أن نفي مطلق القتل عنه عليه السّلام، لا ينافي أن يكون قتله غير عادي، فنفى عزّ و جلّ عنه جميع أنحائه.
و إيماء الى الاختلاف بينهم في كيفيّة قتله عليه السّلام، فبعضهم قالوا: إنّهم قتلوه صلبا، و بعض آخر قالوا: إنّهم قتلوه بغير صلب.
قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.
تأكيد آخر على نفي جميع أنحاء القتل المزعوم عن عيسى عليه السّلام، فقد وقعت لهم الشبهة و التبس عليهم أمره فأخذوا غيره فقتلوه إمّا صلبا أو غير صلب، و اشتباه الأمر في اجتماع لم يكن منتظما و لم يعرف القاتل شخصية المقتول أمر عادي، فإنّه ربما يكون قد أخطأ من يراد قتله، أو كان الأمر إلهيّا لحفظ رسوله فأوقع الشبه عليهم و أمر رسوله بالخروج أو بعدم حضور ذلك الاجتماع، كما نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله محمّدا ليلة المبيت و اشتبه الأمر على المشركين.
و كيف كان، فاقصة معروفة في كتب التاريخ من أنّهم هجموا على ذلك الاجتماع الّذي حضر عيسى عليه السّلام فيه فأرادوا قتله، فألقى شبهه على غيره فقتلوه، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في سورة آل عمران فراجع، و يأتي أيضا في البحث التاريخي مزيد بيان.
قوله تعالى: وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ.
أي: و إنّ الّذين اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام رسالة و قتلا و غيرهما لفي تردّد و حيرة منه، فكلّ يدعي شيئا ما لهم به من علم ثابت إلّا التخمين و اتباع لما يرتابه أنفسهم.
و الشكّ: هنا التردّد و الجهل، فيكون أخصّ من الظن، و إن كان يستعمل في بعض الأحيان ما يضاد اليقين، فيشمل الشكّ و الظن في اصطلاح أهل المنطق.
و الاختلاف من أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السّلام كبير، فاليهود زعموا قتله و إن اختلفوا في كيفيّة قتله. و بعض نفى القتل عنه رأسا و القرآن الكريم يصرّح به كما عرفت، و قد نقلت لنا كتب التأريخ كثيرا من أباطيلهم في شأن عيسى عليه السّلام.
و أمّا النصارى فأمرهم في نبيّهم أشدّ، فبعضهم ادّعى ربوبيّته عليه السّلام و أذعنوا للقتل، و لكنهم يقولون صلب الناسوت و صعد اللاهوت، و بعض منهم- و هو اليعقوبيّة- نفوا القتل عنه عليه السّلام و قالوا: إنّه باق باتّحاد الناسوت مع اللاهوت، و صار طبيعة واحدة، فلم يبق له ناسوت مميّز حتّى يموت و الشي‏ء الواحد لا يمكن أن يقال له مات و لم يمت.
و بعض المحقّقين يرى أنّ المسمّى بالمسيح اثنان، و أنّ المتقدّم المحقّ غير مقتول، و المتأخّر المبطل هو المصلوب، و التاريخ المعروف بالميلادي لم يعرف أنّه ضبط من ميلاد الثاني أو من ميلاد الأوّل، و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة.
و كيف كان، فقد نقل في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أنّ المسيح عليه السّلام قال لتلامذته: «كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة»- (متي: ۲٦- 31 و مرقس: ۱٤- 27) و مع تصريحه عليه السّلام لتلاميذه بأنّه لا خبر صادق في أمره في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى شكّ في صحّة ما قاله القرآن الكريم في حقّه.
قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ.
الاستثناء منقطع، و المراد من الظن في اصطلاح القرآن الكريم هو كلّ ما خالف الواقع، كما أنّ المراد من العلم هو الاطمئنان، و ليس المراد منهما ما هو المعروف عند المنطقيين، أي: ليس لهم ما يوجب اطمئنان النفس و اليقين إلّا الحدس و التخمين.
قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً.
الضمير يرجع الى عيسى عليه السّلام، و فيه التأكيد لما سبق من نفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام و بعد أن أبطل مزاعمهم و أنّ كلّ ما قيل في شأنه هو ضرب من الحدس و التخمين، بل هم في شكّ منه، إذ لم يستندوا الى علم صحيح و لم يعتمدوا على حجّة قاطعة، فيأتي القرآن الكريم و يضع الحدّ الفاصل في هذا الأمر المهمّ، و أنّه ينفي القتل عنه يقينا، و هو الخير اليقين الّذي ينبغي أن يعتمد عليه.
و قيل: إنّ الضمير في قَتَلُوهُ يرجع الى العلم، و المراد من قتل العلم هو تمحيصه و تخليصه من شائبة الشكّ و الريب، و قيل: إنّه يعود الى الظن، أي: ما قتلوا ظنهم يقينا، أي: لم يثبتوا فيه. و لا يخفى بعدهما.
قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
تقدّم ما يتعلّق بهذه الآية الشريفة، في قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران، الآية: ٥]، و يستفاد من كلمة الاضرار أنّ الرفع إنّما كان بالبدن و الروح، لا بالأخير فقط كما يدّعيه بعض، فإنّه تعالى بعد أنّ نفى القتل و الصلب عن بدنه و أضرب عن جميع ما قيل في ذلك، فأثبت له الحياة و أنّه تعالى رفعه بكليهما معا يقينا، فلو خصّصنا الرفع بالروح فقط لما كان فيه فائدة جديدة و لم تكن ميّزة خاصّة لعيسى عليه السّلام، إذ أنّ روح كلّ مؤمن إنّما يصعد بعد التوفّي و الموت إليه عزّ و جلّ، فيكون المراد من الرفع هو تخليصه من العذاب الّذي أزمع اليهود أن يوقعوه فيه، و لكن لن يعرفه كيفيّة الرفع من نفس الآية الشريفة، فلا بدّ من الرجوع الى السنّة المعصوميّة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في سورة آل عمران فراجع.
و يستفاد من الآية المباركة أنّ الرفع معجزة اخرى له عليه السّلام، كسائر معجزاته و معجزات سائر الأنبياء عليهم السّلام الّتي أثبتها لهم عزّ و جلّ، و لا بدّ من التسليم بها و إن لم نعرف حقيقتها، فلا يضرّ في هذه المعجزة الّتي أثبتها الكتاب العزيز له عليه السّلام أن لا نعرف حقيقة الرفع و كنهه بأي نحو كان، و المناط كلّه على ما يسبق إليه الظاهر و ما في السنّة الصحيحة الّتي وردت من المعصومين عليهم السّلام في تفسير الآيات الشريفة.
و الآية الكريمة أوضح دلالة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت فهو حي، فتكون قرينة اخرى على آية سورة آل عمران فراجع آية- ٥٥ منها أيضا.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
أي: يفعل اللّه ما يشاء و لا يغالب فيما يريده، حكيم في أفعاله و من حكمته أنّه أنقذ عبده عيسى عليه السّلام من أيدي اليهود و ألقى الشبه على غيره و سيجزي كلّ عامل بعمله.
و في الآية الشريفة التأكيد على ما ورد في الآيات السابقة في شأن عيسى عليه السّلام، و فيها الدلالة على حفظه له من أيدي اليهود.
قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
تأكيد آخر على حياة عيسى عليه السّلام و عدم موته و (إن) نافية بمعنى (ما)، و الجار و المجرور متعلّق بمحذوف يدلّ عليه الكلام و هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، أي: و ما أحد من أهل الكتاب و الضمير في «به» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و أمّا الضمير في «موته» فقد اختلف فيه فقيل- و هو المعروف بين المفسّرين- أنّه يرجع إلى (أحد) المقدّر، و عود ضمير الجمع إليه لا بأس به لكونه في معنى الجمع، فيكون المعنى: و إنّ كلّ أحد من أهل الكتاب قبل أن تزهق روحه و يدركه الموت ينكشف له الحقّ فيؤمن بعيسى عليه السّلام أنّه عبد اللّه و رسوله، فاليهودي يذعن أنّه رسول صادق غير دعي لم يقتل و لم يصلب، و النصراني يعلم أنّه عبد اللّه و رسوله، فليس هو إله و لا ابنه و لا ثالث ثلاثة، و يكون عيسى عليه السّلام شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة، فيشهد للمؤمن منهم في حال الاختيار و التكليف بإيمانه كما يشهد على الكافر بكفره؛ لأنّه مبعوث و كلّ نبي شهيد على قومه قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: ٤۱]. و استدلّ على هذا القول بأمور.
منها: أنّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر، و تخصيص عموم الآية الشريفة بخصوص الموجودين حين نزول عيسى عليه السّلام، كما ذكره بعضهم تخصيص بلا دليل عليه.
و منها: ما أخرجه ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: «قال لي الحجاج: يا شهر، آية من كتاب اللّه تعالى ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء، قال اللّه تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ و إنّي أوتى بالأسارى فاضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه- أي إذا قرب خروجها كما في رواية اخرى- ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه اللّه‏ تعالى، و أنّه ابن اللّه سبحانه، و أنّه ثالث ثلاثة عبد اللّه و روحه و كلمته، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. و أنّ اليهودي إذا خرجت نفسه ضربت الملائكة من قبله و دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته عبد اللّه و روحه، فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى عليه السّلام آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم. فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن علي، قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم اللّه تعالى ما حدثنيه إلّا أم سلمة، و لكنّي أحببت أن أغيظه».
و هذا الحديث يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سينزل فيؤمن به الأحياء من أهل الكتاب حين نزوله، كما يدلّ على أنّ أهل الكتاب قبل نزوله عليه السّلام أيضا يؤمنون به حين موتهم لانكشاف الحقائق حين الموت و إن لم ينفعهم هذا الإيمان، لانقطاع التكليف حينئذ كما يدلّ عليه ردّ إيمان فرعون حين أدركه الغرق قال تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [سورة يونس، الآية: 90- 92].
و منها ما رواه ابن المنذر و غيره عن ابن عباس في تفسير الآية كذلك، فقيل له: أ رأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أ رأيت إن ضربت عنقه؟ قال: يتلجلج بها لسانه» و غير ذلك من الروايات الّتي تدلّ على هذا المعنى.
و المستفاد من مجموعها أنّها تحرّضهم على الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه مع انتفاء الجدوى، كما في آخر لحظات الانتزاع كما تقدّم.
القول الثاني: أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و المراد به إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السّلام عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فتختصّ الآية المباركة بخصوص الموجودين عند نزوله، و استدلّ عليه بجملة من الروايات.
منها: ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير و يمحو الصليب، و تجمع له الصلاة، و يعطى المال حتّى لا يقبل، و يضع الخراج، و ينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما».
و أشكل على هذا القول بأنّه تخصيص لعموم الآية الشريفة بالإحياء عند نزول عيسى عليه السّلام بلا دليل، بل هو خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّ على إيمان جميعهم، و أمّا الأخبار الّتي استدلّ بها على هذا المعنى فإنّها لم ترد مفسّرة للآية المباركة.
و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الأخبار هذه بمجموعها يمكن الاستدلال بها، لا سيما بعد ما ورد في بعضها من استشهاد أبي هريرة على ذلك بالآية الكريمة، فلا يمكن الإعراض عنها.
و قد استشكل بعضهم على هذا المعنى أيضا بأنّه مبني على القول بأنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع الى السماء قبل وفاته.
و ردّ: بأنّه لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينة له.
و لكن المناقشة بضميمة روايات صحاح متعدّدة دالّة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع عن العذاب، لا تبقي مجالا لهذا الإشكال.
و قيل: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى اللّه تعالى- و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، بل بعيد عن سياقها كما هو واضح.
القول الثالث: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و هو بعيد جدا، فإنّه لم يجر ذكره صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك حتّى يعود إليه الضمير. نعم ورد ذلك في بعض الروايات و لكنّه ليس من باب التفسير، بل هو من ذكر بعض المصاديق كما هو شائع في الروايات الّتي وردت في بيان الآيات الشريفة.
و الحقّ هو رجوع الضمير الثاني «موته» إلى عيسى عليه السّلام، فتدل الآية المباركة على حياته عليه السّلام و إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السّلام، و إن كان إيمان بعضهم اختياريا و هم الموجودون عند نزوله، و إيمان بعضهم الآخر اضطراريا و هم الّذين‏ يموتون قبل نزوله عليه السّلام كما عرفت، و لا يقدح ذلك في دلالة الآية الشريفة بعد ظهور عمومها، و يمكن أن يستدلّ عليه امور:
الأوّل: أنّه الظاهر المتبادر من سياق الآية الكريمة، و إرجاع الضمير الثاني الى المبتدأ المقدّر يحتاج الى قرينة خاصّة لا سيما بعد رجوع الضمير الأوّل إليه عليه السّلام، و أفراد الضمير الثاني كما هو معلوم.
الثاني: أنّ وقوع هذه الآية الشريفة، بعد قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ- الى قوله تعالى- وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، لا بدّ أن يكون لبيان معنى زائد عمّا في الآية السابقة، و هو أنّ الّذين يدعون قتله و صلبه لا بدّ أن يذعنوا بأنّه حي لم يمت و يؤمنون به و لو كان إيمانهم اضطراريا.
الثالث: أنّ ذيل الآية المباركة وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يدلّ على شهادة عيسى عليه السّلام عليهم جميعا يوم القيامة، و لا بدّ أن تكون شهادته عليه السّلام عامّة شاملة لجميع أفراد أهل الكتاب من حين بعثته عليه السّلام الى حين موته، فإذا كانت هذه الآية الكريمة تدلّ على إيمانهم جميعا به قبل الموت ينتج أنّه حي، ثمّ يمت حتّى تتمّ دلالة الآيتين المباركتين- الصدر و الذيل- معا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى حاكيا عنه عليه السّلام في خصوص الشهادة: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة، الآية: ۱۱٦- 117]، فإنّه يدلّ على أنّ شهادته كانت في أيّام حياته فيهم قبل توفيه، و ذيل الآية الشريفة المتقدّمة يدلّ على أنّ شهادته كانت على الجميع، فلو كان المؤمن به هو الجميع- كما يدلّ عليه صدر الآية المتقدّمة- فينتج أنّه لم يتوف إلّا بعد الجميع، فهو حي و لم يمت و سيعود إليهم حتّى يؤمنوا به، فإن أدركه أحد منهم كان إيمانه اختياريا و إلّا فيؤمنون به عند موته.
الرابع: جملة كثيرة من الروايات الّتي تدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود إليهم فيؤمن به أهل الكتاب، و يأتي نقل بعضها في البحث الروائي إن شاء اللّه تعالى.
الخامس: أنّ هذا المعنى يجمع القولين المزبورين، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ أحد من أهل الكتاب يؤمن بحقيقة عيسى عليه السّلام قبل الموت و إزهاق روحه و إن كان إيمانه اضطراريا لا ينفعه، لانقطاع التكليف حينئذ- كما عرفت- و هو مفاد القول الأوّل، كما يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود و يؤمن به من كان حيّا من أهل الكتاب قبل موته عليه السّلام، و هذا هو مفاد القول الثاني.
و هذا المعنى الّذي استظهرناه يدلّ على إيمانهم جميعا قبل موته عليه السّلام، فمن كان حيا عند نزوله، فإيمانه مبني على اختياره، و إلّا فهو يؤمن به عند موته لانكشاف الحقائق حين الموت، ففي الحديث: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا»، أي: إذا قرب خروج الروح تظهر الحقائق و تنكشف الواقعيات فيندم على ما فعل و قصّر، و لكن لا ينفعه الندم.
ثمّ إنّه يمكن أن يستشكل على هذا المعنى بوجوه، منها: ما تقدّم في القول الثاني و قد أجبنا عنه.
و منها: أنّ بعض الآيات المباركة الّتي وردت في مواضع متفرّقة ربما يستفاد منها خلاف ذلك، فإنّ قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يدلّ على أنّ غلف القلوب هو نقمة عظيمة كتبها اللّه تعالى عليهم، لسوء أفعالهم و قبح صفاتهم و فساد أخلاقهم كما عرفت في تفسيره آنفا، فلا يؤمن هذا الجمع بما هو جمع الى يوم القيامة.
و لكن ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء الإيمان منهم البتة، بل الإيمان يتحقّق منهم و لو كان المؤمنون قليلا من كثير، يضاف الى ذلك أنّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يدلّ على تحقّق‏ الإيمان منهم قبل الموت، سواء كان إيمانا مقبولا أم لم يكن بأن كان اضطراريا، فهو يدلّ على وقوع أصل الإيمان منهم.
كما أنّ قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية: ٥٥] يدلّ على أنّ من يكفر بعيسى عليه السّلام منهم من هو باق الى يوم القيامة، و إن كانوا مغلولبين من قبل المؤمنين به.
و لكن الإنصاف أنّه لا يدلّ على بقائهم بعنوان كونهم أهل الكتاب و كافرين بعيسى عليه السّلام بالخصوص، بل الآية الشريفة تدلّ على أن الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام سوف يكون لهم منزلة و شوكة بعد نزوله و إيمان الناس به و اتّحاد الأديان كلّها في الاعتقاد، و أنّهم فوق الّذين كفروا الّذين يعاندون الحقّ.
كما أنّ الاستدلال بقوله تعالى: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة، الآية: 117] على بقاء الكافرين بعد توفي عيسى عليه السّلام غير وجيه؛ لأنّ ظاهر الآية الشريفة تبيّن أنّه نبي مبعوث الى الناس جميعا، و أنّه منزّه عمّا نسب إليه، سواء كان من اليهود أم النصارى أم غيرهم، فهو بري‏ء ممّا نسب إليه الناس مطلقا، فتكون شهادته على أعمالهم جميعا، و رقابته عزّ و جلّ بعد توفيه عليه السّلام لم تختص بأهل الكتاب بل الناس كلّهم. و أنّه سيبقى الكافرون لكن لا بعنوان كونهم من أهل الكتاب فقط.
و المتحصّل من جميع ذلك: أنّ الآية الشريفة في المقام بضميمة سائر الآيات الكريمة تدلّ على أنّ جميع أهل الكتاب بل جميع الناس سوف يؤمنون بعيسى عليه السّلام، و أنّه حي لم يمت و يعود فيؤمن به الأحياء، فتتّحد الأديان كلّها، و أمّا من مات من أهل الكتاب قبل نزوله فإنّه يؤمن بحقّيته عند موته، و تقدّم ما يتعلّق بعدم موت عيسى عليه السّلام في سورة آل عمران فراجع، و سيأتي في البحث الروائي و التاريخي ما يتعلّق به.
ثمّ إنّ الزمخشري ذكر في المقام أنّ الآية الكريمة يجوز أن يراد منها أنّه لا يبقى‏ أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أنّ اللّه تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان و يعلّمهم نزوله و ما انزل إليه، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
و ما ذكره قول بالرجعة، و قد دلّت الأدلة الكثيرة على ثبوتها و تحقّقها، لكن لها حدودا و قيودا مذكورة في محلّها، و ليست هي بهذا العموم و الشمول الّذي ذكره.
و كيف كان، فصدور مثل هذا الكلام عن مثل الزمخشري لدليل على الاعتقاد بالرجعة الّتي ينكرها جمع كثير من علماء الجمهور، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضع المهمّ إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً.
الضمير في «يكون» يرجع الى عيسى عليه السّلام، أي: و يوم القيامة يكون عيسى عليه السّلام شهيدا على أهل الكتاب جميعا ممّن آمن به إيمانا صادقا، فيشهد له كذلك، و من كان إيمانه اضطراريا لا ينتفع به يكون شهيدا عليهم.
و هذه الآية المباركة قرينة اخرى على أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا.
تفريع على ما سبق، و الباء للسببية، و التنوين في فَبِظُلْمٍ للتفخيم، و التنكير للتهويل، و إبهام الظلم و هو بدل ممّا تقدّم من مخازيهم و فجائعهم، و التعبير عن اليهود بهذا العنوان إيذانا لشناعة فعلهم و عظمة ظلمهم، كما هو دأبه تبارك و تعالى عند تقريعهم و تذكيرهم بمظالمهم و فجائعهم التعبير به كما في غير هذا المقام أيضا، و فيه تذكير لهم بأنّهم هم الّذين تابوا من عبادة العجل و المعاصي و أخذ منهم المواثيق.
و المعنى: أنّه بسبب ظلمهم العظيم الخارج عن حدود الوصف و الأشباه و النظائر، حرّمنا عليهم الطيبات بعد أن أحلّها اللّه تعالى عليهم.
قوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ.
فقد أحلّ عزّ و جلّ كلّ الطيبات لهم، كما يدلّ قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ‏ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ [سورة آل عمران، الآية: 93].
و في تقديم فَبِظُلْمٍ على حَرَّمْنا للدلالة على الحصر، أي: أنّ اللّه لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات إلّا بسبب مظالمهم الفجيعة، و قد حكي عزّ و جلّ ما حرّم عليهم في قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الانعام، الآية: ۱٤۷]، و قد ورد في التوراة ذكر بعض ما حرّم عليهم من حيوانات البرّ و البحر أيضا.
و الآية الشريفة تدلّ على أنّ كلّ معصية و ظلم يصدر من الإنسان له أثر خاصّ به، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا أم يكون كلاهما معا، و من تلك الآثار أنّه يوقع صاحبه في شدّة من التكليف، فإذا كان الظلم نوعيّا صادرا من الامة، فإنّه يوجب رفع التوسعة عليهم، ففي الحديث: «لا تكونوا كبني إسرائيل، شدّدوا فشدّد اللّه عليهم».
قوله تعالى: وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً.
عطف على قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ المتكرّر و إعراضهم المستمر، و الصدّ الّذي هو من مظالمهم الفجيعة، فقد صدّوا عن سبيل اللّه بعصيانهم لأحكام اللّه تعالى و تعليمات موسى عليه السّلام و معاندتهم له و إعراضهم عن أنبيائه عزّ و جلّ و تكذيبهم لهم.
قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ.
ظلم آخر من مظالمهم الشنيعة، و هو يدلّ على هتكهم حرمات اللّه تعالى، فإنّه عزّ و جلّ حرّم عليهم الربا كما حرّمه علينا، و لكنّهم خالفوه و أخذوا الربا حتّى عرفوا به في مرّ التاريخ.
قوله تعالى: وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ.
أي بسبب أكلهم أموال الناس بالوجه المحرّم، كالرشوة و الخيانة و غيرهما من وجوه الظلم.
قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
عطف على حَرَّمْنا و هو بيان لجزائهم في الآخرة بعد بيان الجزاء في الدنيا، فإنّهم استوجبوا بسبب ظلمهم جزاءين ..
أحدهما: في الدنيا، و قد حكى اللّه تعالى بعضه، من تحريم ما أحلّه اللّه تعالى من الطيبات. و هو عامّ يشمل جميع الّذين هادوا من الظالمين و غيرهم.
و الآخر: في الآخرة، و هو خاصّ بالكافرين منهم، و هو العذاب الأليم، و الاعتداد: التهيئة.

«جهرة» في قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً في موضع الحال إمّا من المفعول الأوّل أو من المفعول الثاني، أي: معاينيين، و لا ضير في ذلك لاستلزام كلّ واحد للآخر، و قيل: يتعين الثاني لقربه منه.
و «تعدوا» في قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا بمعنى: لا تتجاوزوا، و أصله (تعدوا) بواوين، فاستثقلت الضمّة على لام الكلمة فحذفت فالتقى الساكنان فحذفت الواو الأولى.
و قرأه بعضهم: (لا تعدّوا) بفتح العين و تشديد الدال، و هو افتعال من العدوان، فأريد ادغام تاؤه في الدال فنقلت حركتها الى العين و قلبت دالا و أدغمت.
و أمّا قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، فقيل: في الكلام مقدّر و الجار و المجرور متعلّق به، و الباء للسببية. و «ما» مزيدة لتوكيدها، و يفيد سياق الجملة الحصر، و جوّز بعضهم أن تكون (ما) نكرة تامّة، و «نقضهم» بدلا منها.
و قيل: إنّ المقدّر (لعنّاهم) مؤخّرا لوروده مصرّحا به.
و ذهب جمع الى أنّ الجار و المجرور متعلّق «بحرّمنا» الآتي، فيكون قوله تعالى فَبِظُلْمٍ بدلا من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ.
و ردّه بعضهم بأنّ فيه بعدا، لكثرة الفواصل بين البدل و المبدّل منه؛ و لأنّ المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخّر بعض أجزاء السبب للتحريم، و ذكروا وجوها أخر في المقام، فراجع المطولات.
و أمّا قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ جملة معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه، مسارعة لردّ زعمهم الفاسد.
و «قليلا» في قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا قيل إنّه منصوب على أنّه نعت لمصدر محذوف، أي: إلّا إيمانا قليلا. و قد عرفت فساد هذا الاحتمال آنفا، لأنّ الإيمان بالمعنى الّذي ذكروه- و هو الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر- لا اعتبار به، كما صرّح به في الآيات السابقة. و الصحيح أنّه منصوب على الاستثناء من ضمير «لا يؤمنون».
و أما «بهتانا» في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً منصوب إمّا على أنّه مفعول به ل قَوْلِهِمْ، و إمّا أن يكون صفة لمحذوف، أي: قولا «بهتانا».
و «يقينا» في قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً صفة للمقدّر، أي: ما قتلوه قتلا يقينا، و قيل: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف، و التقدير: (تيقنوا ذلك يقينا)، و لكنّه تطويل بلا طائل تحته.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أنّ هذا السؤال الّذي يدلّ على عظيم جرأتهم على اللّه تعالى هو المقتضي للسؤال الثاني، و هو تنزيل كتاب من السماء، كما يدلّ على أنّ التجرّي على اللّه تعالى و رسله العظام ارتكز في نفوسهم من ذلك السؤال العظيم، و لعلّه لأجل هذا صار أكبر من السؤال الثاني.
و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ للإنسان مراقبة أقواله و أفعاله، فإنّه ربّما يوجب قول أو فعل سلب التوفيق عنه و يخلّف أثرا كبيرا على النفس و لو لم يظهر إلّا بعد حين.
كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأقوال تكشف عن نوايا النفوس و مخفيات القلوب، مهما حاول الشخص إخفاء منوياته و الستر على بواطن نفسه إلّا أنّه قد تظهر على فلتات لسانه، فتؤدي به الى الهلاك و الخسران، و تخلّف آثارا و خيمة على الذرية و الأعقاب، كما حكى عزّ و جلّ عن اليهود في الآيات المباركة المتقدّمة، فإنّ كلّ ما حلّ بهم من البوار و الخسران إنّما كان نتيجة أقوال السلف و أفعالهم الشنيعة، كما عرفت آنفا.
الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى‏ سُلْطاناً مُبِيناً أنّ النكوص عن الطاعة و الإعراض عن متابعة الرسل و الأنبياء و الإصرار على المعاصي و الآثام، كلّ ذلك يوجب التشديد في التكليف و تفويض الأمر الى الرسل في إنزال العقاب، و تدلّ عليه آيات كثيرة، و تقدّم في قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ بعض الروايات الدالّة على ذلك أيضا، فإن إيتاء موسى عليه السّلام السلطان المبين إنّما كان بعد العصيان و سؤال الرؤية الّتي تدلّ على كفرهم و اتّخاذ العجل معبودا، فقد فوّض اللّه تعالى إليه ما يريد الأصلح لامته.
الثالث: قد ورد في هذه الآيات الشريفة النازلة في حقّ اليهود و أحوالهم لفظ الميثاق ثلاث مرّات، و استعمل فيهم في غير المقام كثيرا، و لعلّ الوجه في ذلك إمّا للإعلام بحقيقة حالهم بالنسبة الى العهود و المواثيق حتّى عرفوا بنقضها، فلا يغتر غيرهم بهم.
أو لأجل كثرة إصرارهم على المعاصي و ارتكاب الآثام، فشدّدوا على أنفسهم بإحكام العهود و تشديد المواثيق عليهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم، فيعتبر غيرهم من الأمم منهم، فلا يضيّقوا على أنفسهم بالإصرار على المعاصي حتّى لا يضيّق اللّه عليهم.
أو لأجل أنّ شريعة موسى عليه السّلام الّتي هي واحدة من الشرائع الإلهيّة المعروفة تعتبر الركيزة الاولى في بقية الشرائع، بل هي أولى شريعة كاملة بعد شريعة نوح عليه السّلام، و قد نزلت في مرحلة ما من النضج الفكري للإنسانيّة، و لذا عرفت هذه الشريعة بشريعة الوصايا و المواثيق، و أمّا شريعة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله فقد عرفت بشريعة الكمال و الاستكمال، لأنّها احتضنت جميع الشرائع السماويّة، لا سيما الحنيفيّة الّتي أقرب الى الفطرة، و أمّا شريعة عيسى عليه السّلام فقد كانت امتدادا لشريعة موسى عليه السّلام.
الرابع: يستفاد من القيد في قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أنّ قتل الأنبياء عليهم السّلام حرام في جميع الوجوه و الحالات، و أنّه لا يكون حقّا مطلقا، فإذا كان القتل حراما و باطلا لأنّه غير حقّ، فيشمل الأذية و الإهانة و نحوهما؛ لأنّهما غير حقّ أيضا، فهي حرام و باطل بالنسبة إليهم.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ على نفي القتل الّذي زعمه اليهود و نفي الصلب الّذي يزعمه النصارى، و أنّ القتل أو الصلب كان في حقّ شبيه عيسى عليه السّلام، و لعلّ السرّ في هذا التشبيه هو أنّه لو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس، لاستحكمت شبهة الألوهيّة فيه و سرت إلى بعض المؤمنين به.
كما أنّه لو غيّب عنهم المسيح عليه السّلام و رفع الى السماء في الخفاء من دون إلقاء الشبه على غيره، لاتّهموا أهله و المؤمنين به بإخفائه فعمّهم البلاء و كثر فيهم القتل و التنكيل و فضيحة النساء طلبا لإظهاره، و لعلّه لذلك عقّب سبحانه هذه الآية الشريفة بقوله: وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، و هذا هو المكر الّذي أثبته لنفسه عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: ٥٤]، فإنّ مكره و تدبيره الخفي لا يكون إلّا جاريا على الحكمة، و هو القوي العزيز الّذي لا يغلبه مكر الماكرين.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أنّ الغاية من رفعه هو تكريم السيد المسيح برفعه من الأرض الّتي فيها الكافرون و الفساق و تطهيره منهم الى السماء الممحضة لتسبيحه عزّ و جلّ، فكنّى سبحانه و تعالى عن ذلك برفعه إليه، و إلّا فإنّ اللّه جلّ شأنه لا يخلو عنه مكان، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية: ٥٥].
السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ على حياة السيد المسيح عليه السّلام و أنّه حي، و هو في مكان بعيد عن متناول أيدي الكافرين و المعاندين، و سينزل فيؤمن به أهل الكتاب الأحياء فتتّحد الأديان، و لعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى: وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية: ٥٥]؛ لأنّ النصارى الّذين يدعون الإيمان به عليه السّلام قد أشركوا باللّه العظيم و ألّهوا المسيح و ثلّثوا الآلهة فلم تبق لهم شريعة، و أمّا اليهود فحالهم معروفة و قد حكى اللّه تعالى عنهم في مواضع متفرّقة، فلم يبق من الّذين اتّبعوه على دين الحقّ سوى ملّة إبراهيم عليه السّلام، و هم المؤمنون الموحدون حقّ التوحيد من قومه و من بعدهم المسلمون بدعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهؤلاء فوق الّذين كفروا مستمرين الى يوم القيامة و هو يكون شهيدا عليهم، فيحكم على المؤمنين بإيمانهم و على الكافرين بكفرهم.
الثامن: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الرجعة الّتي هي رجوع بعض المؤمنين و بعض الكافرين عند ظهور مهدي هذه الامة [عجل اللّه تعالى فرجه الشريف‏]، نظرا لعموم قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الشامل للأحياء الموجودين حين نزول المسيح عليه السّلام و بعضا من غيرهم الذين ماتوا على الكفر.
و كيف كان، فالرجعة هي من الأمور الّتي ثبتت بأدلّة كثيرة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.
التاسع: يدلّ سياق قوله تعالى: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً على أنّ سؤالهم الرؤية لم يكن لأجل الشوق و لا لألم الفراق، و لا لزيادة اليقين و نحو ذلك من الصفات الحسنة و الغايات المحمودة، بل كان عن عناد و لجاج و طغيان.

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ أنّه نزل في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه المعصومين، فأقرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنكروا أمير المؤمنين عليه السّلام وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي: ينالوا خيرا.
أقول: هذه الرواية و أمثالها كلّها من باب الجري و التطبيق و بيان أكمل المصاديق.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني في نقضهم ميثاقهم.
أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و قد أخذ اللّه تعالى منهم ذلك لأجل إكمال الحجّة عليهم؛ لأنّهم كانوا كثيرا ينقضون العهود، فأكّده سبحانه و تعالى بالميثاق، و مع ذلك نقضوه بكفرهم بآيات اللّه و قتل الأنبياء فحلّ عليهم العذاب.
و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ قال: «هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء و إنّما قتلهم أجدادهم و أجداد أجدادهم فرضوا هؤلاء بذلك، فألزمهم اللّه القتل بفعل أجدادهم، فكذلك من رضي بفعل فقد لزمه و إن لم يفعله و الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة البقرة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فهؤلاء لم يقتلوهم و لكنّهم رضوا بفعل آبائهم فلزمهم قتلهم.
أقول: لعلّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من رضي بفعل قوم حشر معهم» مأخوذ من هذه الآيات الشريفة، و تقتضيه القاعدة أيضا؛ لأنّه نوع من التأييد و أنّ العقل يحكم بأنّ تأييد الظلم ظلم و قبيح، فإنّ نفس المقدمات الّتي كانت موجودة في نفس الفاعل و بها حصل الفعل من العلم، و الاختيار، و رفع الموانع و الغرض المزعوم، كلّها موجودة في نفس هذا الشخص، و إنّما لم يتحقّق الفعل خارجا لأجل ظروف خاصّة يترقّب فرصة رفعها حتّى يوجد الفعل، و يشمله قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يحشر الناس حسب نياتهم».
إن قلت: ثبت في باب التجرّي أنّه لا عقاب على الفعل المخالف للواقع، فكيف بالنية؟! و أنّ الثواب و العقاب بيده تعالى، فجعل الثاني على الواقع و الأوّل أعمّ كما يدلّ عليه كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة.
قلت: هذا في الأحكام الفرعيّة و لا يجري في العقائد.
و ثانيا: أنّ المقام ليس من باب التجرّي أصلا؛ لأنّ حقيقته العلم- أو الاطمئنان المنجز شرعا أو عقلا- المخالف للواقع المتعلّق بالموضوعات الخارجيّة على تفصيل مذكور في علم الأصول، راجع كتابنا [تهذيب الأصول‏].
و ممّا ذكرنا ظهر دفع ما يقال: من أنّ العقائد هي أفعال الجوانح، فلا مانع من جريانه فيها كما في أفعال الجوارح، فإنّ العقيدة ليست موضوعا خارجيا، و إنّ الإيمان يدور مدارها.
و كيف كان، فإنّ المقام عناد مع الواقع- و الجهل و العلم أمران متضادان- أي: انتصار للباطل و تضييع للحقّ مع العلم و الاختيار و ذلك مبغوض عنده تعالى، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالمقام.
و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ، قال: إن تقرأ هذه الآية: «قالوا قلوبنا غلف يكبتها الى أدبارها».
أقول: لا بدّ من حمل الرواية على التفسير، أي: تفسير هذه الآية هكذا، و إلّا تدلّ الرواية على التحريف الّذي تنكره الإماميّة بل المسلمون، و قد دلّت روايات على صون التنزيل عن يد التحريف، و تعرّضنا لهذا البحث في المقدّمة للتفسير الّتي هي قيد التدوين نسأل اللّه تبارك و تعالى التيسر و التسهيل.
و في العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه‏ عزّ و جلّ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ قال: الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال اللّه عزّ و جلّ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
أقول: تقدّم أنّ الطبع و إن كان منه تعالى لأنّه نحو عقوبة منه على العبد إلّا أنّه باختياره كما اختار الكفر، فالمقدّمات أو الأسباب من العبد و إيجاد المسبّب عليها منه تعالى، و تقدّم ما يتعلّق بالاستثناء.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً أي: قولهم: إنّها فجرت.
أقول: و عن ابن عباس قال: «رموها بالزنا». و كيف كان فالرواية تدلّ على شدّة عداوة اليهود مع النصارى، حتّى بلغت باتّهام السيدة العذراء والدة المسيح اتهاما عظيما.
و في العيون بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السّلام في حديث: «ألم ينسبوا مريم بنت عمران الى أنّها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟!».
أقول: لعلّ الإمام عليه السّلام في مقام بيان أنّ الكافرين فرّطوا في الطغيان و تمادوا فيه، فقد افتروا على جميع المقدّسات حتّى بالنسبة الى الباري جلّ شأنه، قال تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى‏ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [سورة التوبة، الآية: 30]، فكيف بالأنبياء و الأوصياء الأمثل فالأمثل، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة.
و أخرج البخاري في تاريخه و الحاكم عن علي عليه السّلام قال: «قال لي النبي صلّى اللّه عليه و آله:
إنّ لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتّى بهتوا امه، و أحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الّذي ليس له».
أقول: هذا شأن كلّ ولي، فكيف بسيد الأوصياء و إمام العارفين، فقد شقي فيه فرقتان، أهل الإفراط و أهل التفريط، فمن أنزله عن مقامه الّذي جعله اللّه تعالى‏ له و أنكره فهو شقي، و من رفعه عن ذلك المقام بالغلو و عظّمه بأزيد ممّا وصفه اللّه تعالى فهو إفراط و معتقده كافر فهو في النار.
ثمّ إنّ الروايات الواردة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في فضل علي عليه السّلام فوق حدّ التواتر بكثير، مروية بطرق مختلفة عن العامّة و الخاصّة، و ليست الروايات من باب التمجيد و الترغيب، و إنّما هي من باب إظهار الحقيقة و الواقع و إعلام الحقّ الساطع، و سيأتي ما يتعلّق بها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و تقدّم ما في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: حدثني أبي عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب اللّه قد أعيتني، فقلت: أيّها الأمير أية آية هي؟ فقال: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، و اللّه إنّي لآمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة الى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهودي و لا غيره إلّا آمن به قبل موته و يصلّي خلف المهدي عليه السّلام، قال: و يحك أنّي لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، فقال: و اللّه جئت بها من عين صافية».
أقول: إنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة أنّ الأديان السماويّة النازلة بواسطة الأنبياء عليهم السّلام على وجه هذه البسيطة، إنّما هدفها إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و سوقها إلى السعادة و ترقيتها؛ للوصول الى أسمى الفضائل و منتهى الكمال اللائق من الربّ الجليل في إفاضته على من يعمّرها، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: ٦٦]، فإن لم يكن كذلك تكون الغاية حينئذ ناقصة و النقص في تعالى مستحيل، فالغاية لا بدّ منها.
و هذا الهدف تحقّق في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مع ما طرأ عليه من الكدر و الاتعاب‏ و الآلام- بل هذه السنّة جارية في كلّ عصر من حياة الأنبياء عليهم السّلام- و لكن بعد ارتحاله و ارتحالهم الى الملأ الأعلى لم يبق ذلك مع أنّه لا بدّ و أن يتحقّق و يستمر، و إلّا يستلزم الخلف المذكور، فتطبيق القوانين الإلهيّة على عامّة سكنة هذه الأرض ممّا لا بدّ منه، و لا يتحقّق ذلك إلّا بإشراف شخص كامل من جميع الجهات لائق، مؤيّد، مرتبط بالسماء، يعرفه جميع الأنبياء، فهذه الصفات لا تجتمع إلّا في مهدي هذه الامة، فبه يملأ الأرض عدلا و ينشر القسط فيها، و يرفع الظلم عنها، و يهبط المسيح من السماء حينئذ و يقتدي بداعي اللّه تعالى بعد ما أشرقت الأرض بنور ربّها و تحقّقت الأهداف السماويّة، فلا بدّ من مهدي هذه الامة و هبوط المسيح من السماء للهدف المنشود. و للكلام تتمّة يأتي التعرّض له في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما اخترناه في التفسير، فراجع و لا حاجة للتكرار.
ثمّ إنّ السيوطي ذكر في الدرّ المنثور في ضمن الآية الشريفة وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ رواية عن شهر بن حوشب أيضا، و تقدّمت الرواية في التفسير و هي متّفقة في أصل المضمون مع السابقة و إن اختلفت في بعض الجهات و هو لا يضرّ، سواء كانتا من باب التعدّد في القضية أم غير ذلك.
و في الدرّ المنثور عن ابن حبان عن أبي هريرة: انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «الأنبياء إخوان لعلات أمهاتهم شتى، و دينهم واحد، و إنّى أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنّه لم يكن بيني و بينه نبي، و أنّه خليفتي على امتي، و أنّه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوا، رجل مربوع، الى الحمرة و البياض، عليه ثوبان ممصران، كأنّ رأسه يقطر و إن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يدعو الناس الى الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه المسيح الدجال، ثمّ تقع الامنة على الأرض حتّى ترتع الأسود مع الإبل، و النمار مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و تلعب الصبيان بالحيات لا تضرّهم. فيمكث أربعين سنة ثمّ يتوفّى و يصلّي‏ عليه المسلمون و يدفنوه.
أقول: أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الأنبياء إخوان لعلات»، أي: أمهاتهم مختلفة و أبوهم واحد، فإنّ أكثرهم يرجعون الى إبراهيم عليه السّلام، و في حديث آخر: «الأنبياء أولاد علات»، أو لعلّه إشارة الى أن إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة حسب السير الاستكمالي، و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «عليه ثوبان ممصّران»، أي: الثياب الّتي فيها صفرة خفيفة.
و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما ذكرنا، و ذيل الحديث يدلّ على عموم ما دل أنّ كلّ حي يذوق طعم الموت إلّا الحي القيوم.
و عن البيهقي في الأسماء و الصفات: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم».
أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا. و الأحاديث في ظهور المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن الفريقين متواترة، و قد جمع صاحب كتاب (كنز العمال) المتقي الهندي تلك الروايات في كتاب خاصّ، كما أنّ الروايات في نزول عيسى عليه السّلام عند ظهور المهدي مستفيضة بين الفريقين، فلا يبقى مجال للشكّ في كلّ منهما.
و في تفسير العياشي عن الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.
أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية و أمثالها على محامل؛ لأنّها لا توافق ما تقدّم من الروايات، و مخالفة لسياق الآيات كما ذكرنا، و لعلّ مراده عليه السّلام- و اللّه العالم- أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام حسب ما يريده الربّ جلّت عظمته يستلزم الإيمان برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [سورة الصف، الآية: ٦]، فيظهر للكتابي حقيقة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما يظهر له أنّ عيسى عليه السّلام نبي من أنبيائه تعالى و أنّ شريعته كسائر الشريعة الإلهيّة الّتي هي على حقّ، و أنّها في طريق الاستكمال و الكمال حسب ما تقتضيه الظروف و الأعصار. إذا لا منافاة بين الروايات، و قد تقدّم منّا مكرّرا أنّ الأديان السماويّة إنّما نزلت لأجل إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و استكمالها، و اختلافها إنّما يكون حسب اللياقة و الاستعداد، و إلّا فالواقع و الحقيقة لا اختلاف فيها.
و في تفسير العياشي أيضا عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: «في قول اللّه تعالى في عيسى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله».
أقول: تقدّم الوجه في ذلك من أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام يستلزم الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ شريعة عيسى عليه السّلام الواقعيّة لا تخالف شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأجل مصالح كثيرة، و أنّ المؤخّر من الأديان امتداد لما سبق منها.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: «ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا من الأولين و الآخرين».
أقول: الإمام عليه السّلام في مقام التشبيه و التمثيل، و لا يستفاد منها أنّه في مقام التطبيق و التفسير، و قد دلّت روايات كثيرة على أنّ المؤمن يرى أولياء اللّه تعالى عند نزع الروح أو في عالم البرزخ.
و في تفسير العياشي أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقال: «هذه نزلت فينا خاصّة، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تاللّه لقد آثرك اللّه علينا».
أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب‏ أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب الجري، و المراد من قوله عليه السّلام: «فينا نزلت خاصّة» أنّ الجري و التشبيه ينطبق عليهم خاصّة، و غيرهم لا يمكن له التمثيل بالآية و التخصيص بولد فاطمة عليها السّلام؛ لأنّ فيهم من كان يرغب في الإمامة أو كان يدّعيها، و الإمامة منحة إلهيّة يهبها لمن له الأهليّة لها، و حين الموت يقرّ للإمام المعصوم و يعترف بإمامته، فإنّ الحقائق تنكشف في ذلك الوقت كما ثبت في محلّه.
و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوا عيسى عليه السّلام بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحر و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفوه و امه، فلما سمع عيسى عليه السّلام ذلك دعا عليهم فقال: «اللهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ امي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أمير هم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام، فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة، فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه تعالى شبهه عليه فقتل و صلب».
أقول: اختلفت الروايات في الرجل الّذي القي عليه شبه عيسى عليه السّلام، ففي بعض الرويات أنّه الرجل الّذي ينافق عيسى عليه السّلام فقتل و هم يظنّون أنّه عيسى عليه السّلام، و في بعضها أنّه طيفانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فلما خرج ظنّوا أنّه عيسى عليه السّلام فأخذوه و قتل. و قيل غير ذلك. و هذا الاختلاف طبيعي و لم يكن مستبعدا؛ لأنّه يحصل في المجتمعات الّتي لا يسيطر عليها النظام و لا الحكم، فعند ما يفقد القانون هيمنته و يحصل الهرج و المرج و يريد كلّ حزب أو فئة أن يأخذ السلطة، ترى أنّ البري‏ء يؤخذ عوض المجرم و يشتبه العامل بغيره، فالاشتباه غير عزيز، و لا جدوى في تعيين المشتبه بالذات بعد ما عرفت أنّ أصل التشبيه كان من الخوارق.
و في رواية عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا قال: «خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ و أعوذ باللّه إن تدركوهن:
1- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتّى يعلنوا بها إلّا فشافيهم الطاعون، و الأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا.
2- و لم ينقصوا الكيل و الميزان إلّا أخذوا بالسنين و شدّة المؤنة و جور السلطان عليهم.
3- و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السماء، و لو لا البهائم لم يمطروا.
٤- و لم ينقضوا عهد اللّه و عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا سلّط اللّه عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم.
٥- و ما لم يحكم أئمتهم بكتاب اللّه و يتخيّروا فيما أنزل اللّه، إلّا جعل اللّه بأسهم بينهم».
أقول: يستفاد منها أنّ الخصال السيئة و الصفات المذمومة لها آثار وضعيّة، و المعروف بين أهل العرفان: «ارتكاب المحظورات يستلزم تحريم المباحات»، و عن بعضهم- بل جرّب ذلك- من أنّ الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة.
ثمّ إنّ الآثار قد تعمّ و إن كان سبب وجودها أشخاصا معنيين، و قد تتّصف بالشدّة و الضعف.
و في الكافي بإسناده عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه و خرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم لمزارعيه و أكرته، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني: لحوم الإبل و البقر و الغنم، و قال: إنّ إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيّج عليه وجع‏ الخاصرة فحرّم على نفسه لحم الإبل، و ذلك من قبل أن تنزّل التوراة لم يحرمه و لم يأكله».
أقول: الرواية تدلّ على أنّ قلّة الزرع و رفع البركة نحو عقوبة دنيويّة على ترك الواجب، و لعلّ المراد من قوله عليه السّلام: «خرج زرعه كثير الشعير» كناية عن قلّة الحنطة؛ لأنّه تطلق على مساحة حدّها ست شعرات من شعر البغل، أو من باب التنزيل.
و كيف كان، فالرواية من باب الجري و التطبيق.

تدلّ الآيات الشريفة على ذمّ أهل الكتاب و تأنيبهم و التشنيع على اليهود منهم خاصّة؛ لكثرة جرائمهم و فظاعة مظالمهم كما عدّدها عزّ و جلّ عليهم، و من المعلوم أنّ كثيرا من تلك الجرائم لم تصدر من اليهود الّذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل صدرت من أسلافهم الّذين سألوا موسى عليه السّلام: أرنا اللّه جهرة، و هم الّذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، و هم الّذين عبدوا العجل، و هم الّذين قتلوا الأنبياء و كفروا بهم، و هم الّذين بهتوا على مريم عليها السّلام و نسبوا إليها أعظم فرية مع علمهم بطهارتها و تفضيلها على نساء العالمين، و هم الذين ادّعوا قتل المسيح عيسى بن مريم و غير ذلك ممّا سجّله عزّ و جلّ عليهم من أنواع الكفر و الظلم، و مؤاخذة الخلف بما فعله السلف أمر مرفوض في الشرائع الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام فقد قال سبحانه و تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏* [سورة فاطر، الآية: 18]، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين على سبيل منع الخلو.
أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 22]، و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين.
و لم يصل الإنسان الى هذه المرحلة من عبادة السلف إلّا بعد طي مراحل متعدّدة؛ لأنّ الإنسان كائن إرادي أخلاقي حساس مختار، فلا تصدر منه الأفعال عفوا من دون فكر و روية بخلاف غيره من الحيوانات الّتي يصدر منها كثير من الأفعال بالمتابعة فقط، فإذا وصل الإنسان الى هذه الحالة و صار كغيره من الحيوانات، فلا بدّ أن يكون له أسباب عديدة قد ذكرها العلماء في مواضع متفرّقة من العلوم الإسلاميّة- كعلم الأخلاق، و علم السير و السلوك، و علم الأديان.
و ذكرنا ما يتعلّق بهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة فراجع، و لعلّ قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ إشارة الى هذا الوجه، فإن الخلف اتّبعوا سيرة السلف في السؤال عن امور من الأنبياء تكشف عن كفرهم و نقضهم للمواثيق.
ثانيهما: أنّ كثرة المعاصي الّتي صدرت من السلف و عظمتها كان لها الأثر الشديد في نفوسهم، بحيث سلبت منهم كلّ سبل الهداية كما يستفاد من قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ، و لم تقتصر تلك الآثار عليهم فقط، بل تأثّرت بها الأجيال الّتي من بعدهم، فإنّ للذنوب و الآثام آثارا واقعيّة لا بدّ من تحقّقها و تأثّر النفوس بها، و لا يمكن التخلّف عن ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، و هذا ليس من باب الجزاء حتّى يقال إنّه يخالف قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏* [سورة الأنعام، الآية: ۱٦٤]، بل هي حقيقة واقعيّة لا دخل للاختيار فيها، إلّا ما اختاره الشخص من السبب و المؤثّر، كما هو شأن سائر الحقائق الواقعيّة، فإنّ السمّ لا بدّ من أن يؤثّر في من‏ يشربه، و لا دخل للاختيار فيه إلّا بالمعنى المعروف من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، و يمكن أن يستشهد لهذا الوجه بآيات المباركة كثيرة، منها: قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [سورة نوح، الآية: ۲٦- 27]، و لعلّ قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ إشارة الى هذا الوجه، كما أنّ العلم الحديث كشف عن وراثة بعض الصفات عن الأسلاف.
و هذا البحث نفيس ذكرنا ما يتعلّق بأصل الموضوع في سورة البقرة و غيرها في جملة من الآيات الشريفة و لا يسع الحال للتفصيل فيه، و سيأتي ما يتعلّق بالبحث إن شاء اللّه تعالى.

كانت حياة المسيح عليه السّلام من حين حمله و ولادته الى رفعه إلى السماء مليئة بالمعجزات و خوارق العادات كحياة أكثر الأنبياء عليهم السّلام- إبراهيم، و موسى، و يوسف عليهم السّلام- و لخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أسماها و أشرفها. إلّا أنّ هناك جوانب مهمة في حياة عيسى عليه السّلام اقتضت البحث عنها: رفع المسيح الى السماء الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها تدلّ بوضوح على نفي الموت بجميع أنحائه- من القتل، و الصلب، و حتف الأنف- عن عيسى عليه السّلام بوجوه كثيرة:
الأوّل: قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ، فإنّه عزّ و جلّ نفى القتل الّذي يدّعيه جماعة من أهل الكتاب كما نفى الصلب عنه عليه السّلام كما يزعمه جماعة اخرى، و كذا حتف الأنف؛ لأنّ جميعهم يتّفقون على نفيه عنه عليه السّلام، فقد نفي عنه الموت بجميع أسبابه كما عرفت.
و ظاهر الآية الشريفة أنّهم يدّعون إصابة القتل و الصلب بشخصه البدني عليه السّلام الّذي رفعه اللّه تعالى إليه.
الثاني: قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، فإنّه يدلّ على أنّ القتل و الصلب المزعومين في حقّه عليه السّلام إنّما كان بالنسبة إلى الشخص الّذي أوقع اللّه تعالى عليه شبه عيسى عليه السّلام لحكم كثيرة كما عرفت آنفا. و أما هو فقد نجّاه اللّه تعالى من أيديهم و سلم من قتلهم و صلبهم و حتف الأنف أيضا.
الثالث: قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فإنّه يدلّ على أنّ الرفع إنّما كان بهذا البدن الجسماني، فإنّ الإضراب عن ادّعاء القتل و الصلب بشخصه الجسماني لدليل واضح على أنّ الرفع بالبدن مع روحه لا أحدهما من دون الآخر، و إلّا فلا فائدة في الإضراب، فإنّ الرفع لا يتمّ بمجرّد الروح بعد الموت بأي نحو كان، كما لا يتمّ بالبدن فقط.
و قد ذكرنا في التفسير أنّ الرفع هو تخليص له عليه السّلام من أيدي الكافرين المعاندين و نجاة من تعذيبهم، ثم بعد الرفع لا يعلم حاله من هذه الآية المباركة، بل دليل آخر يثبت حياته كما ستعرفه.
الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، فإنّه يدلّ على حياته عليه السّلام و عدم موته بعد الرفع- كما عرفت في التفسير- و ليس هذا ببعيد عنه عليه السّلام، فإنّ حياته مليئة بالمعجزات من حين ولادته الى حين رفعه إليه عزّ و جلّ حتّى بعد نزوله و موته، فرفعه من الأرض تخليصا له من أيدي العتاة و الجبابرة و المعاندين و تكريما له، ثمّ حفظه تعالى بعد الرفع بعدم إصابة أي مكروه به و لا يذيقه الموت حتّى يقضي اللّه بنزوله.
و هذه كلّها خارقة للعادة دلّ الكتاب العزيز على ثبوتها و عضدته السنّة الشريفة، فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأويل المبغضين و زيغ المعاندين.
فهذه هي عقيدة المسلمين في المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّتي هي معروفة من عصر نزول القرآن الكريم.
عقيدة اليهود في رفع المسيح‏
قد عرفت أنّهم اختلفوا فيه، فمنهم من يقول إنّه قتل، و منهم من يقول إنّه صلب، تبعا لاختلاف الروايات الواردة عنهم في هذا الموضوع، فالمعروف بينهم أنّ قتله كان بوشاية من اليهود و سعايتهم في قتله لدى الحاكم الروماني في بيت المقدس آنذاك- و هو (بيلاطس) المعروف بالشدّة و القسوة- فصلبه.
و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحرة و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفه و امه، فلما سمع (عليه الصلاة و السّلام) ذلك دعا عليهم، فقال: «اللّهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ أمّي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أميرهم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره أنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة؟ فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه شبهه فقتل و صلب، و قيل: كان رجل منافق فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى، فرفع عليه السّلام و ألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه، و هم يظنّون أنّه عيسى.
و قال جمع كثير من المتكلّمين: إنّ اليهود لما قصدوا قتله رفعه اللّه الى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم، فأخذوا إنسانا فقتلوه صلبوه، و لبّسوا على الناس أنّه هو المسيح، و الناس ما كانوا يعرفون المسيح إلّا بالاسم.
و روي غير ذلك.
و جميع تلك الروايات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لضعفها و تعارضها و فقد المرجّح بينها، فيتعين الرجوع الى القرآن الكريم- الكتاب الإلهي- فما وافقه يؤخذ به و غيره يطرح. و قد عرفت أنّه عزّ و جلّ ذكر هذا الموضوع بإسهاب و بأسلوب واضح رصين ممّا لم يذكره عزّ و جلّ في غيره من قتل الأنبياء و المصلحين الّذين عرفت اليهود بقسوتهم عليهم و ضراوتهم بسفك دمائهم.
و لعمري إنّ مسألة الصلب لا تكون أكثر أهميّة من قتل اليهود للأنبياء بغير حقّ، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم حيث جعل ذلك من مظاهر كفرهم و شدّد النكير عليهم و وبخهم عليه أعظم توبيخ- لو لا أنّ النصارى جعلوها أساس العقيدة المسيحيّة و أصل الدين عندهم، فمن آمن بالصلب و الفداء فقد فاز بالملكوت الأعلى و صحبة المسيح و الصلحاء و نجي من المهالك، و من كفر به فقد خاب و كان في الآخرة من الخاسرين.
و لأجل ذلك نحن نذكر في هذا البحث عقيدة النصارى في هذا الموضوع و ما استدلّوا به في إثباته و ما يمكن أن يورد عليه من الدليل العقلي و النقلي و بعض شبههم على سبيل الإيجاز.
عقيدة النصارى في الصلب‏
ترى النصارى أنّ صلب المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام إنّما كان فداء عن البشر؛ لأنّ آدم أبا البشر لما عصى اللّه تعالى بالأكل من الشجرة الّتي نهاه عزّ و جلّ عن الأكل منها، صار بذلك هو و جميع أفراد ذرّيته الى يوم يبعثون خطاة مستحقّين للعقاب بسبب ذنب أبيهم.
كما أنّهم مستحقّون للعقاب بذنوبهم أنفسهم و لما كان اللّه تعالى متّصفا بالعدل و الرحمة، فإذا أراد أن يعاقب آدم و ذرّيته كان منافيا لرحمته. و إذا لم يعاقبهم كان منافيا لعدله، فلا يكون عادلا، فكان عزّ و جلّ متردّدا بين العقاب و العفو حتّى عصر المسيح عليه السّلام، فحلّ ابنه (عزّ و جلّ) الّذي هو نفسه في بطن امرأة من ذرّية آدم عليه السّلام فأولده منها ليكون إنسانا كاملا من حيث هو ابنها، و إلها كاملا من حيث‏ هو ابن اللّه- فإنّ ابن اللّه هو اللّه في عقيدتهم- تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، فهو معصوم من جميع معاصي بني آدم، و إن كان مثلهم يأكل مثل ما يأكلون و يشرب ممّا يشربون و يتلذّذ مثل ما يتلذّذون و يتألّم و مثل ما يتألّمون، و قد سخّر (عزّ و جلّ) أعداءه لقتله أفظع قتله- و هو الصلب- لأجل فداء البشر و خلاصهم من الخطايا.
و عن بعضهم أنّ المسيح و اثنين معه صلبوا و لم يكن المسيح وحده، و سيأتي في الآيات المناسبة بطلان ذلك.
فداء المسيح‏
تعتقد النصارى أنّ المسيح فدى نفسه لأجل خلاصهم من الخطايا و الأدناس، كما قال يوحنا في رسالته الاولى: و هو كفّارة لخطايا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضا.
و استدلّوا على هذه العقيدة بأمور:
الأوّل: التواتر، فقالوا: إنّها متواترة ثابتة عندهم خلفا عن سلف، لا يمكن إنكاره كما في غيره من المتواترات.
الثاني: أنّها وردت في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، و هي كتب مقدّسة لا يجوز إنكار ما فيها.
الثالث: أنّ كتب العهد العتيق بشّرت بالصلب و الفداء و نوّهت بهما تنويها.
الرابع: أنّ المسيح إذا كان قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصّة، فأين ذهب؟! و لما ذا لم يقف له أحد على عين و لا أثر؟!.
هذه هي أهمّ ما استدلّوا به لإثبات هذه العقيدة. و قبل أن نذكر المناقشة في أدلتهم تلك لا بدّ أن نطرح هذه المسألة على الأدلّة العقليّة.
الأدلة العقليّة تنافي الفداء
و الحقّ أنّ الأدلة العقليّة تنافي الفداء بوجوه كثيرة:
منها: أنّ هذه العقيدة تنادي بتجسّم الخالق و حلوله في أحد مخلوقاته و اتّخاذه أحد ذرّية آدم ابنا له، و كلّ ذلك مخالف للأدلّة القطعيّة الدالّة على أنّه الإله الواحد الأحد الّذي لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا، و ليس كمثله شي‏ء، الّذي تنزّه عن مجانسة مخلوقاته. و قد ذكر العلماء تلك الأدلّة العقليّة و النقليّة في مواضع متفرّقة من علوم متعدّدة.
و منها: أنّه يستلزم منها نسبة الجهل إليه تعالى و أنّه ظلّ مترددا و جاهلا لحلّ تلك المعضلة حتّى العصر الّذي ولد فيه عيسى عليه السّلام، فتفطّن الى حلّها، فجمع بين الرحمة و العدل في فداء المسيح عليه السّلام. و كلّ ذلك باطل بأدلّة عقليّة و نقليّة مذكورة في محلّها.
و منها: أنّ القول بهذه العقيدة يستلزم منه نقيضها؛ لأنّه تبارك و تعالى جمع بين صفتي الرحمة و العدل في صلب المسيح بن مريم عليه السّلام و فداه عن جميع البشر، و هذا يستلزم إعدام شخص بري‏ء و تعذيبه بأشدّ العذاب و هو لا يستحقّه، و قد كان عليه السّلام لا يرغب هذا العذاب- كما ستعرف- و هذا مناف لعدله عزّ و جلّ و رحمته، فصار عزّ و جلّ بذلك عادلا و غير عادل، و رحيما و غير رحيم، و هذا من التناقض الواضح.
إن قلت: يرد النقض بقوله تعالى بالنسبة لإبراهيم عليه السّلام حين أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه السّلام: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]، فعدم الاستحقاق مشترك بين الذبيح و بين أولئك فنتعدّى من فدية إبراهيم عليه السّلام الى فدية عيسى عليه السّلام.
قلت: أوّلا: أنّ فدية إبراهيم عليه السّلام لولده كان تكليفا شخصيا لأجل الوصول‏ الى المقام السامي الّذي خصّه اللّه تعالى به، كتكليف الجهاد بالنسبة الى من ثبتت شرائطه له أو التهجّد بالنسبة الى نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ كلّ شي‏ء له خصوصية.
و ثانيا: فرق بين الفدائين فإنّ فداء إبراهيم لولده لأجل الوصول الى المقام الأعلى، فإبراهيم و ولده عليهما السّلام نالا تلك المنزلة بالعمل الخاصّ المأمور به أي كائن وضعي له، لا لأجل نفي الجزاء الّذي يستحقّه غيرهما كما تقول النصارى بالنسبة الى عيسى عليه السّلام، و سياق الآيات المباركة يدلّ على ما ذكرناه.
و منها: أنّ من يعتقد بهذه العقيدة يقول إنّها لا تفيد إلّا إذا آمن بها الناس، فلم ينفعهم الصلب و الفداء إذا كانوا كافرين بها، فيردّ عليهم:
أوّلا: فما حال الأقوام الّتي قد خلت من قبل عيسى عليه السّلام، الّذين لم يعرفوه و لم يعتقدوا بهذه العقيدة.
و ثانيا: أنّها لا تفيد لبقية الأقوام الّتي لم تعتقد بهذه العقيدة، فيختصّ الفداء بأفراد معدودين، فليس هو فداء لجميع البشر.
ثمّ إنّ بعد مصادمة هذه العقيدة للعقل و الأدلّة العقليّة الكثيرة كما عرفت، فهل ينفع مثل هذه العقيدة الباطلة؟ و هل تسمّى مثل ذلك عقيدة و إيمانا يرفع أهمّ أمر عن الإنسان و هو الجزاء الّذي استحقّه بعمله؟! فالثاني ثابت بدليل قطعي يحتاج رفعه الى دليل قطعي آخر.
و منها: أنّ الاعتقاد بهذه العقيدة يستلزم الجرأة على اللّه تعالى و على ارتكاب المعاصي و الآثام، فإنّ من أمن من الجزاء و المؤاخذة على أعماله هانت عليه جميع المعاصي فيرتكب جميع الشرور و الآثام، و هو يستلزم الإباحيّة المطلقة، و هذا ممّا فرضه جميع الملل و الأديان.
و منها: أنّ القول بها يستلزم مساواة المجرم و غير المجرم، و كونهما على حدّ سواء، فإنّ من اعتقد بهذه العقيدة تغفر ذنوبه كلّها، فكأنّما ليس له ذنب، و من لم يرتكب ذنبا و كان صالحا ليس له ذنب فصارا سيان في هذا الأمر، فإن قالوا: يعذّب المجرم على شروره و خطاياه، يقال لهم: فما فائدة هذه العقيدة. و إن قالوا: إنّه‏ لا فرق بينها و بين الشفاعة الّتي ترفع العقاب و تحطّ الذنب. نقول: إنّهما يفترقان في كثير؛ لأنّ الشفاعة إنّما تتحقّق في مورد يكون للشخص ذنب مؤاخذ عليه و يستحقّ به العذاب، فيأتي الشفيع و يطلب من اللّه تعالى الغفران له و التوبة عليه، و هما من صفات الباري عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ [سورة الأنبياء، الآية: 28].
و بعبارة اخرى: الشفاعة هي طلب من اللّه تعالى إسقاط حقّه عن العبد المذنب، فأين هذا و عقيدة الصلب و الفداء؟! نعم، العفو الابتدائي عن المسي‏ء من اختياره جلّ شأنه لو كان المسي‏ء قابلا لشموله بأداء ما عليه من الكفّارات و غيرها، و هذا غير مرتبط بالفداء الّذي تقول به النصارى.
و فداء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام أو فداء الحسين و موسى بن جعفر عليهم السّلام إمّا لأجل النيل الى أرفع المقامات، أو لأجل حفظ المبدأ و العقيدة، كالجهاد لأجل العقيدة، أو لأجل وجود صلاحية في المفدّين بكونهم مؤمنين منقطعين الى اللّه تعالى مظلومين، لا لكونهم ظالمين و معتدين على أنفسهم و على غيرهم، كما تقول النصارى.
إن قلت: طلب العفو ارتكاز كلّ خاطئ أو مسي‏ء و لو لم يطلب خارجا، ففداء عيسى عليه السّلام و صلبه كان لأجل ذلك.
قلت: هذا نوع من تأنيب الضمير النفسي، فللعبد أن يخلّص نفسه بالتوبة و أداء ما عليه من الحقّ، و لا ربط له بالفداء أصلا كما هو واضح.
و منها: أنّ جميع أفراد الإنسان يعتقدون أنّ العفو عن المسي‏ء المذنب شي‏ء حسن جميل، بل يعدّونه من مكارم الأخلاق و أحسن الفضائل، و لا يكون منافيا للعدل أبدا، فإذا كان من صفاته العليا المقدّسة العفو و الرحمة، فهو قادر على العفو عن المذنبين و غفران ذنوبهم من دون حاجة الى الصلب و الفداء، فيكون هذا عبثا و لغوا، و ينزّه الخالق عنهما.
هذه بعض الأدلّة العقليّة الّتي تدلّ على بطلان هذه العقيدة، و لأجل ذلك ذهب بعض من المسيحيين الى أنّ هذه العقيدة و عقيدة التثليث لا تعقل، و أنّ العمدة في إثباتهما النقل عن الكتب المقدّسة، و حينئذ لا بدّ من النظر في ما استدلّوا به كما ذكرناه آنفا.
المناقشة في ما استدلّوا على الفداء
أمّا الدليل الأوّل و هو دعوى التواتر، فهي مردودة؛ لأنّ التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير في كلّ طبقة، و لا يحتمل فيهم تواطؤهم على الكذب، قد أدرك الطبقة الاولى منهم الخبر عن حسّ و عيان لا شبهة فيه، و إذا لاحظنا التواتر الّذي ادّعوه في إثبات هذه العقيدة نرى أنّه لا تتوفّر فيه الشروط، فإنّ الطبقة الاولى لا تخبر عن الصلب مشاهدة و لا تستند عن حسّ و عيان، بل تستند الى الّذين كتبوا الأناجيل، و هم بعد عصر الصلب و لا يؤمن عليهم الاشتباه؛ لأنّهم غير معصومين و لم يصل عددهم الى حدّ التواتر. مضافا الى ذلك أنّ جماعة من النصارى أنكروا الصلب و هم فرقة كبيرة منهم التاتوتسيون اتباع تاتيانوس تلميذ بوستينوس الشهيد. فلم يتوفّر الشرط الآخر من التواتر و هو إخبار كلّ طبقة عن سابقتها، بحيث يؤمن عليهم الوهم و الالتباس. فلا يمكن دعوى التواتر في هذه المسألة المهمّة.
و أمّا الدليل الثاني و هو ورود هذه القصة في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، فيردّ عليه:
أوّلا: أنّها لم تكن معصومة عن الخطأ و التحريف، و لم يوجد دليل على نسبتها الى المعصوم.
و ثانيا: أنّها معارضة بإنجيل برنابا الّذي ينكر الصلب قبل أن تصل إليه يد التحريف، فلا ندري حال بقية الأناجيل.
و ثالثا: أنّ كثيرا من الكتب المتقدّمة على تدوين الأناجيل تنكر الصلب، قال فوتيوس: إنّه قرأ كتاب رحلة الرسل- فيه أخبار بطرس، و يوحنا، و اندرواس، و توما، و نولس- «أنّ المسيح لم يصلب و لكن صلب غيره، و قد ضحك من صالبيه». و لاشتمال هذه الكتب على كثير من الحقائق الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، فقد حرّمت المجاميع الاولى من كتبهم قراءة هذه الكتب و الرسائل الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، حتّى أنّهم أحرقوها و أتلفوها لئلّا يقرأها أحد.
و رابعا: أنّ ما ورد في هذه الأناجيل من قصة الصلب و الفداء يناقض ما ورد في القرآن الكريم الكتاب الإلهي الّذي يقول في هذه القصة: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ كما هو الواقع كذلك، فلا دليل لهم على صحّتها، و سيأتي في الموضع المناسب البحث في حجّية الأناجيل الأربعة إن شاء اللّه تعالى.
و على فرض التنزيل، فإنّ الأناجيل في حدّ نفسها متعارضة في قضية الصلب، ننقل شاهدا واحدا، فإنّ النصارى يدّعون- كما عرفت- أنّ المسيح بذل نفسه باختياره فداء و كفّارة عن البشر، و لكن ورد في إنجيل متى أنّه حزن و كئب عند ما شعر بقرب أجله و طلب من اللّه أن يصرف عنه البلاء، فقد ورد فيه (ثم أخذ معه بطرس و ابني زبدي و ابتدأ يحزن و يكتئب (۳۷)، فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتّى الموت امكثوا هنا و اسهروا معي (۳۸)، ثم تقدّم قليلا و خرّ على وجهه و كان يصلّي قائلا: يا أبتاه إن أمكن، فلتعبّر عني هذه الكأس، و لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (۳۹) … فمضى أيضا ثانية، و صلّى قائلا: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبّر عني هذه الكأس إلّا أن أشربها فلتكن مشيتك» (متى ۲٦ الآيات من 37- ٤۲). و مثله ما ورد في لوقا 22 الآيات من ٤۳- ٤٥. فإنّه يدلّ على جهله عليه السّلام بالحال، و تألّمه بل طلبه من أبيه إبطال هذه القضيّة الّتي اجتمع فيها العدل و الرحمة، و هذا كلّه مناف لألوهيّته المزعومة.
و أمّا الدليل الثالث، و هو بشارة كتب العهد العتيق بمسألة الصلب، فهي‏ موهونة بأنّه لم يرد فيها شي‏ء يشير الى هذه القضية فضلا عن بشارتها، و ما ذكروه إن هو إلّا من الموضوعات الّتي ذكروها في كتبهم و نسبوه الى السيد المسيح عليه السّلام، كما اعترف به جمع ممّن له خبرة بهذه الكتب.
و أمّا الدليل الرابع، فإنّه أشبه بالسفسطة، فهو يردّ على من يقول بأنّه عليه السّلام توفّاه اللّه تعالى في الدنيا ثم رفعه إليه عزّ و جلّ كما رفع إدريس عليه السّلام، و أمّا من قال بأنّ اللّه تعالى رفع جسده مع روحه إليه، فهو في مأمن من هذا الإشكال، و مع ذلك فإنّه لا إشكال في اختفاء قبر عيسى عليه السّلام، كما اختفت قبور كثيرة من الأنبياء و الصالحين، فهذا إخوة موسى عليه السّلام مات و لم يعرفه أحد منهم كما هو منصوص في آخر سفر تثنية الاشتراع من أسفار التوراة، فليكن عيسى عليه السّلام كذلك فإنّه بعد أن فرّ من أعداء اللّه تعالى الّذين أحاطوا به و قد خذله جميع الناس. و انفضوا من حوله فمات في مكان مجهول، و لا غرابة فيه.
هذا بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب و الفداء الّتي يعتقد بهما المسيحيون، و قد عرفت أنّها بالمعنى الّذي ذكروه مرفوضة عقلا و نقلا.
الفداء لرفع المكروه‏
هناك موضوع آخر و هو الفداء، بأن يفدي وليّ من أولياء اللّه تعالى نفسه و يعرضها لأنواع البلاء و المحن و صنوف التعذيب و يريق دمه في سبيل اللّه تعالى فداء عن المؤمنين به ليرفع عنهم المكروه و البلاء كما مرّ، فإنّ هذا أمر معقول، بل هو من أسمى الكمالات، و لم يتحمّل الأنبياء و الأوصياء صنوف العذاب و البلاء إلّا لهذا الغرض، ففي الحديث أنّه كلما اشتدّ أذى المشركين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون». و ورد في تفسير قوله تعالى: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]. أنّ اللّه تعالى رفع الذبح عن إسماعيل الذبح و دفع عنه المكروه بسبب فداء الحسين بن علي، فتحمّل أنواع المكاره و صنوف‏ العذاب من المؤمنين، و في بعض الأخبار أنّ موسى بن جعفر عليه السّلام دخل سجن هارون الرشيد و تحمّل من البلاء تفدية عن شيعته و دفع العذاب عنهم، فالفداء بهذا المعنى صحيح بل هو من المكارم و لم ينكره أحد، و لكنّه غير الفداء الّذي يدّعيه النصارى في رفع العذاب المستحقّ بسبب الذنوب و الآثام، فإنّ كلّ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، إلّا أن يراد منه الشفاعة بضرب من التأويل، و لكن لها شروط و حدود خاصّة ذكرناها في بحث الشفاعة، فراجع.
ثمّ إنّ بعض المؤرخين ذكر أنّ لهذه القضية جذورا تاريخيّة ترجع الى ما قبل عصر عيسى عليه السّلام، فقد وجدت في الأمم الوثنيّة، قال: إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد عند الهنود الوثنيين و غيرهم، و ذكر الشواهد على ذلك. منها: ما يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود الّذي هو نفس الآله فشنوا تحرّك حنوا كي يخلّص الأرض من ثقل حملها، فأتاها و خلص الإنسان بتقديم ذبيحة منه»، و من أراد المزيد فليرجع الى كتب تأريخ الديانات.
الفرق بين الشفاعة و الفداء
قد عرفت أنّ الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون بالنسبة للسيد المسيح عليه السّلام لا يمكن قبوله لما يترتّب عليه من المحظورات العقليّة كما تقدّم.
و أمّا الشفاعة، فقد ثبتت بالأدلّة العقليّة و النقليّة، بل هي ممّا يأمله الخطاة الّذين عملوا السيئات و ذوو الحاجات في الدارين، و قد ذكرنا أنّ الشفاعة لها شروط خاصّة.
منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في الأعمال السيئة، فلا شفاعة في العقائد الفاسدة لجهة من الجهات، لا سيما إذا استلزمت الشرك باللّه العزيز.
و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في حقوق اللّه تعالى، و أمّا في حقوق الناس فلا بدّ فيها من التراضي عن صاحب الحقّ، و لا تنفع الشفاعة بدون رضاه.
و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون لأولياء اللّه تعالى بإذنه جلّ شأنه، قال تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ [سورة الأنبياء، الآية: 28]، و غير ذلك من الشروط الّتي ذكرناها في بحث الشفاعة، و لم تتحقّق واحدة منها في الفداء المزبور، فهما على طرفي التخالف، و لذا كانت الشفاعة أمرا مرغوبا و محبوبا، و أمّا الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون، فهو أمر لا يقبله العقل و يرفضه الشرع.

الأنبياء- الّذين هم أفضل أفراد البشر و أكملهم حسب درجاتهم- كلّهم من مظاهر شؤونه تعالى و أفعاله، و كلّ واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصّة جلّ شأنه.
و فضّل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم الى حضرته جلّت عظمته- و إن كان جميعهم نالوا التقرّب إليه بمكانتهم و ارتباطهم معه تعالى- و لا يتحقّق ذلك التشرّف العظيم إلّا بأداء أمانة الحقّ الملقاة على عواتقهم و تحمّل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عزّ اسمه و التكلّف مع المشقّة الشديدة في إبلاغ رسالته، و تحمّل الأذى في سبيل هداية البشر الى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك و القيام بالوساطة بينه تعالى و بين العباد.
و كلّما كانت الامة بعيدة عن الكمالات و المثل الإنسانيّة و الأخلاقيّة و منغمسة في الشرور و الماديات، كان تعب النبي و تحمّله أشدّ و تقرّبه الى اللّه أكثر، و لذا ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت» و لأجله- و لكمالات اخرى- تفوّق صلّى اللّه عليه و آله على جميع الأنبياء و إلّا فإنّ الأنبياء جميعهم على حدّ سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة المائدة، الآية: ۷٥]، و قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [سورة آل عمران، الآية: ۱٤٤].
و إنّما خصّ سبحانه و تعالى كلّ نبي بمعجزة خاصّة لتناسب زمانه بها بالتحدّي من أهل عصره و قبولها من أمته؛ لأنّ المعجزات الصادرة عن الأنبياء عليهم السّلام ليست هي إلّا خوارق العادات لإثبات دعوى رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدّعون الى الإيمان، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتى و شفاء المرضى و غيرهما من معجزات المسيح عليه السّلام، فهي ليست إلّا كإلقاء العصا فتصير حيّة تسعى، و نجاة بني إسرائيل من العذاب، و غرق فرعون و غيرها من معجزات موسى عليه السّلام الّتي تناسب عصر كلّ منهما.
و كذا معجزات نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من تسبيح الحصا بين يديه، و نصرته في الغزوات مع قلّة عدد المسلمين، و تفوق حجّته على الخصام، و إخباره عن المغيّبات، و عروجه بجسمه الشريف الى السماء، و البشارة بنبوّته في كتب السماء على لسان الأنبياء عليهم السّلام و معجزته الباقية الخالدة (القرآن) و غيرها ممّا هو كثير.
و أمّا خلق المسيح عليه السّلام بلا أب، فإنّه يرجع الى قدرته تعالى و عزّته، كخلق آدم عليه السّلام بلا أب و أم، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، و لا يكون من المعجزة الّتي تصدر منه أو تظهر على يديه؛ لأنّه لم يكن تحدّ في البين مثل نزول المائدة من السماء بدعائه، و خلق الطير من الطين، و إبراء الأكمه و الأبرص. بل معجزة في خلقه، و كذا رفعه الى السماء يرجع الى قدرته تعالى فيه، فالمسيح إنسان أرضي و سماوي، و قد أخّر هبوطه الى الأرض بعد رفعه منها حتّى يكون شاهدا على حقانيّة شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله باقتدائه بمهدي هذه الامة الّذي هو من ولد محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و يكون لشريعته- بل لجميع الشرائع الّتي جاء بها الأنبياء- سير استكمالي يصل الى منتهى الكمال بظهور مهدي هذه الامة الّذي هو من ولد فاطمة البضعة الطاهرة منه صلّى اللّه عليه و آله، فيملأ الأرض قسطا و عدلا هذا بالنسبة الى حياتهم الظاهريّة في إبلاغ مهامهم.
و أمّا أرواحهم الشريفة و نفوسهم القدسية، فهي لا شكّ في امتيازها و تفوّقها على سائر النفوس لقربها من العقل الأوّل كما عن بعض. أو أنّها فائضة من الحضرة الإلهيّة كما عن آخرين.
و عن بعض الحكماء أنّ العقل الأوّل ليس إلّا نفوسهم القدسية و باقي النفوس تتشرّف بالقرب إليه بالإفاضة من المعارف إليهم، أو التقرّب إليه تعالى بهدايتهم، أو استكمال نفوسهم بالإلهام منه عزّ و جلّ بواسطة تلك النفوس المعبّر عنها بالعقل الأوّل.
و كيف كان، فلا إشكال في قدسية نفوسهم و تفوّقها على البقيّة؛ و لذا يحصل لهم المعراج الجسماني لقرب نفوسهم به تعالى و تربية أجسامهم بالتربية الرحمانيّة و توطّن تلك الأرواح في تلك الأجسام، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.
و أمّا نفس نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فهي في مقام جمع الجمع و مظهر للاسم الجامع الإلهي أصالة، فإنّ الكمالات و المعارف تفاض منها، و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «أنا أبو الأرواح و أنا من نور اللّه و المؤمنون فيض نوري»، فيستفاد منه أنّ الأرواح المقدّسة وارثة أوليّة منه، و أنّ الأبوة هنا بمعنى الأشرفيّة و الأكمليّة، و يستفاد ذلك من بعض الآيات الشريفة كما يأتي، فأقرب النفوس و الأرواح الى نفس الأقدس هي نفوس المؤمنين حسب درجاتهم، و هذا بحث دقيق شريف نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى، و إنّ قل الطالب له في هذه الأعصار.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"