1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 135 الى 136

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى‏ بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (۱۳٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (۱۳٦)


الآيتان الشريفتان من الآيات المباركة المعدودة في القرآن الكريم الّتي تعدّ هذه الامّة إعدادا عمليا صالحا لتحمّل المهمّة الكبرى الّتي أنيطت إليها، حيث جعلها خير أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و أنّها أمة وسط شهداء على الناس، و قد ميّزها عزّ و جلّ بهاتين المهمتين، أي الشهادة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الّذين يكونان تطبيقا عمليا للعقيدة.
أما الآية الاولى، فهي آية تربويّة توجيهيّة لإقامة العدل الإلهي في هذه الأرض المليئة بالعدوان؛ ليتنعّم البشرية و تقوم بالقسط. و هذه المهمة لا يمكن أن يقوم لها أساس إلّا بتربية من يقوم بها تربية خاصّة صالحة؛ ليتجرّد للحقّ و إقامة العدل، فإنّ الإنسان عرضة للميل إلى الأهواء، فأمر عزّ و جلّ أن يكونوا قوامين شديدي التمسّك بالقسط في كلّ شؤونهم و ما يتعلّق أو من يتعلّق بهم حتّى يكونوا شهداء للّه تعالى، لا إلى المصالح و المنافع و لا رئاء الناس، و هو يتطلّب التضحية، فلا يكون الغنى و الفقر و لا غيرهما هو الميزان في العدل، بعد أن كان إقامة القسط و العدل للّه تعالى و أنّ مرضاته عزّ و جلّ هي الهدف و الغاية، لا الأهواء الّتي تزيغ الإنسان و تحدّه عن إقامة العدل.
و الآية المباركة تؤكّد على أخذ الحيطة و الاجتناب عن اتّباع الهوى الّذي هو السبيل الوحيد للضلال، و يعتبر جانب الضعف في الإنسان الّذي به يستولي الشيطان على مشاعره، فهذه الآية الشريفة من الآيات التربويّة الّتي تعدّ الأمة إعدادا فكريا تربويا لتطبيق العدل الرباني ليكونوا شهداء على الخلق أجمعين.
و أمّا الآية الثانية، فهي تحدّد الإيمان تحديدا دقيقا، و تبيّن الأركان في الإيمان باللّه العظيم و قواعده الّتي بها يمكن أن تصل الأمة إلى المنزلة الّتي أعدّها اللّه تعالى لها، فأمر عزّ و جلّ بالتمسّك بالإيمان الّذي آمنوا به أوّلا، إذ مجرّد الإيمان من دون أن يكون راسخا في النفوس لا أثر مهم يرجى منه، فأمرهم بالإيمان ثانيا في أسلوب ملفت للنظر، ليثير الإحساس فيتهيّأ للعمل على تنميته و الاستقامة عليه، ثم شرح الإيمان باللّه تعالى شرحا وافيا؛ ليبيّن أنّ الإيمان به لا يمكن أن يكون مجهولا كما كان عليه أهل الجاهليّة، فإنهم أيضا كانوا يدّعون الإيمان قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [سورة الزمر، الآية: 38] إلّا أنّ الإيمان المطلوب هو الإيمان باللّه العظيم مقرونا بالإيمان بالرسول و بالكتاب الّذي نزّل عليه و ما اشتمل عليه من الأحكام و التوجيهات و الإرشادات، ثم يؤكّد ذلك ببيان ضدّه- و هو الكفر باللّه تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر- للإعلام بأن الإيمان ليس أمرا ادعائيا يدخل فيه كل من اعتبر نفسه مؤمنا إلّا إذا تحقّقت تلك القواعد و الأركان الّتي أعدّ اللّه تعالى لهذه الأمة.
و الآيات الشريفة ذات صلة بالآيات المباركة السابقة من حيث أنّها تشرح الإيمان و تبيّن التقوى بيانا كافيا.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
سبق الكلام في هذا الخطاب الدالّ على كمال العناية بالمؤمنين، حيث جعلهم عزّ و جلّ مورد الإفاضة و اللطف و تشريع الأحكام دون غيرهم، إلّا أنّه نزيد هنا أنّ هذا النداء الربوبي يشير إلى معنى دقيق لا يوجد في أي خطاب آخر، و هو أنّ المؤمنين لمّا تشرّفوا بالإيمان و أعرضوا عن جميع المميزات و نبذوا كلّ الحواجز الّتي ابتداعها أهل الزيغ و الضلال فصارت رابطة الإيمان أقوى الروابط الّتي تشدّ بعضهم مع بعض و أشدّها تأثيرا عليهم، فلم تبق رباطة اخرى تحرّكهم و تؤثّر عليهم من الروابط الّتي أقامتها الجاهليّة الغابرة و الحاضرة لاستيعاب الدين و العقيدة و الحدّ من تأثيرهما، كرابطة الجنس و اللغة و اللون و غيرها، و خمدت كلّ الصرخات الباطلة و الأهواء الزائفة و العادات السيئة، فأصبحوا بفضل الإيمان أمة واحدة بررة متحابّين يشدّ بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، لا تمييز فيها و لا فضل إلّا بالتقوى لأنهم عبيد اللّه و المؤمنون به، فتشرّفوا بهذا النداء الربوبي، و ناداهم الجليل تعالى بأهل الإيمان و أمته لأنّهم أمة متميّزة، لا أمة الجنس، و لا اللون، و لا أمة اللغة و لا القوم و لا العصبية، و لا الأرض، لأنّهم آمنوا باللّه تعالى و تربّوا بتربيته عزّ و جلّ، و تميّزوا بعقيدة خالصة و تحمّلوا أعظم مسؤوليته، و هي التبليغ و الشهادة؛ لأنّهم علموا بأنّ هذه العقيدة لا بدّ أن تطبق على واقع الأرض، فأصبحوا شهداء للّه تعالى على خلقه، فهذا النداء الربوبي يتضمّن العقيدة و التوجيه و التربية و الإعداد، فما أعظمه و أشدّ تأثيره على المؤمنين الّذين تميّزوا بخالص العقيدة، و لذا ورد في الحديث: أنّ جميع ما ورد في القرآن الكريم من هذا الخطاب فعلي عليه السّلام رأسه و أميره، و السرّ في ذلك معلوم لأنّه عليه السّلام تميّز بصدق الإيمان و خالص العقيدة و ثباتها و عرف ما يتضمّن هذا النداء من المسؤولية فآمن و عمل بمقتضاه، فصار بحقّ رأسه و أمير المؤمنين.
و ممّا ذكرنا يعرف السرّ في الابتداء بهذا النداء؛ لأنّه يعدّ المؤمن لتلقي حكما إلهيا عظيما و يهيّئوه للدخول في الأفق الأعلى.
قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ.
إرشاد إلى حقيقة واقعية، و هي: أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى ما خلقه اللّه تعالى لأجله الّذي فيه كماله و سعادته، و لا يصحّ له أداء الأمانة الكبرى الّتي عرضها سبحانه و تعالى على السموات و الأرض و الجبال و أشفقن منها و حملها الإنسان، أنه كان ظلوما جهولا. فإنّ هذه الأمانة لا تقوم إلّا بإقامة القسط، و لا تصلح هذه الأمة المرحومة- الّتي جعلها اللّه تعالى قائدة و رائدة لسائر الأمم و حمّلها مقام الشهادة على سائر الخلق- لهذه المهمة الكريمة إلّا بهذه الصفة و هي أن تكون قوامة للقسط و العدل فقط لا لهوى و مصلحة و غيرها، و لا يكون هدفها سوى إقامة القسط و بسط العدل و الشهادة للّه تعالى؛ لأنّ هذه الصفة من أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ و إقامته و ملازمة الصدق و الدنو إلى مقام الرضا.
و القوام: من القيام بالشي‏ء، أي المواظبة عليه و ملازمته، و هي من صيغ المبالغة، و قد أوضحنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه لا معنى للمبالغة في الاستعمالات الواردة في القرآن الكريم؛ لأنّها ضرب من الادعاء، و هو لا يصلح لمقام هذا الكتاب الإلهي العظيم، بل يمكن أن يقال إنّ أبنية المبالغة الملحقة بالكلام العادي الّذي يحاول صاحبه أن يجتنبه عن ما يبعده عن الواقع بعيد، فيراد من استعمال هذه الصيغ في أمر إلفات النظر و توجيه المخاطب إلى التمسّك به بشدّة و إتيانه بأتمّ الوجوه و أكملها و أدومها، ففي المقام يراد به شدّة القيام بالقسط و ملازمته على كلّ حال و إقامته على أحسن الوجوه و أكملها و الاحتراز عن الجور، ففي هذا الأسلوب دلالته الواضحة، و هو يلفت النظر دون سائر التعابير. هذا ما يستفاد من أسلوب المبالغة، و هو يرشد إلى أنّ القسط و العدل و سائر الأمور الدينيّة لا اعتبار بها ما لم تكن مستقرة دائمة، فلا تكفي المرّة أو المرّات، بل لا بدّ أن تكون ملكة راسخة، و في المقام لا بدّ من القيام بالقسط حتّى يصير عادة لهم داخلة في واقع إيمانهم و جزءا لا ينفكّ منه.
و القسط: هو العدل، و من أسمائه تعالى «المقسط» أي العادل، و سمّي الميزان القسط أيضا؛ لأنّ به يتحقّق العدل في الشي‏ء، و في الحديث: «انّ اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط و يرفعه»، و هو كناية عن ما يقدّره اللّه للعباد من رفع شؤونهم و تنزيلها. و في صفات المؤمنين: «إذا قسّموا أقسطوا»، أي: عدلوا.
و تقدّم ما يتعلّق بهذه الكلمة في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ [سورة النساء، الآية: 3] فراجع.
و القيام بالقسط من معدّات مقام الشهادة، فلا يمكن أدائها بصدق و أمانة إلّا بإقامة القسط، على ما عرفت فراجع. و من هنا كان الابتداء بهذه الصفة له دلالته الخاصّة في أنّها من أهم مقوّمات الشهادة و لا يمكن أدائها إلّا مع القيام بتلك الصفة، بل لا يتيسر للمؤمنين الشهادة إلّا بعد أن يكونوا قوامين بالقسط، فتكون الشهادة في المقام ممّا اجتمع فيها الغاية و الهدف و المقتضي و الإعداد، فهي مقوّم من مقوّمات إقامة القسط، و هذا يدلّ على أهمية الحكم و عظمته.
و إطلاق الأمر يدلّ على لزوم القسط في جميع الشؤون في الحياة الاجتماعيّة و الحياة الزوجيّة، و في علاقة الفرد مع خالقه أو مع نفسه و مع الآخرين.
قوله تعالى: شُهَداءَ لِلَّهِ.
الشهداء جمع الشهيد، و هذه الصيغة تدلّ على الصفات الراسخة، كعليم و حكيم و غيرهما، و تقدّم معنى الشهادة في قوله تعالى: وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 282] و غيره من الآيات الكريمة.
و تدلّ الآية الشريفة على لزوم الشهادة و العناية بها، بأن تكونوا على استعداد و مراقبة تامّين، و هما يحصلان بالعقيدة الخالصة و العمل بالأحكام الإلهيّة، و اللام في اسم الجلالة (للّه) للغاية، أي تكون الشهادة خالصة للّه جلّت عظمته لا لغرض آخر، فلا تكون للهوى و لا للمصالح و المنافع و لا للسمعة و رئاء الناس، و لا محاباة لأحد، و لا حبّ الثناء و نحو ذلك، بل لا بدّ أن تتمّ الشهادة للّه تعالى.
و التأكيد على هذا الأمر لأجل أنّه التوجيه الصحيح الّذي يعدّ المؤمن إعدادا عقائديّا و عمليّا و نفسيّا، فلا غرض له إلّا بسط العدل و إقامة الحقّ، و تثبيت كلمة اللّه تعالى و ابتغاء رضاه عزّ و جلّ.
قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ.
أي: كونوا شهداء لوجه اللّه تعالى و ابتغاء مرضاته، و لو كانت الشهادة فيها ضرر على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين، فلا يحملنكم حبّ هؤلاء كتمان الواقع و الشهادة على خلاف الحقّ، فإنّه ليس من البرّ للوالدين و لا هو من صلة الأرحام إيقاعهم في الضرر و الهلاك بكتمان الحقّ عليهم.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ المذكورين، لأنّهم أوثق الصلة بالنفس و من أهمّ ما يمكن أن يكون سببا لإعراض الإنسان عن حاسة العدل و الابتعاد عن الحقّ.
و إنّما عطف الوالدين ب (أو) لأنّه مقابل الأنفس، بخلاف الأقربين، فإنّه لا مقابلة بينهما فعطف بالواو.
و معنى الآية الكريمة واضح أي: أنّ الشهادة لا بدّ أن تكون بالقسط و في الحقّ و لو أدّت إلى ضرر بحاله أو بحال والديه و الأقربين، بلا فرق بين أن يكون المتضرّر هو الشاهد- أو المشهود عليه بلا واسطة أو معها- كما لو تخاصم اثنان و كان الشاهد متحملا لأحدهما، بحيث لو أدّى الشهادة لتضرّر به نفس الشاهد أيضا كالمتخاصم الآخر.
قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً.
تحذير آخر من وقوع الميل عن الحقّ و الزيغ في الشهادة، و تأكيد على عدم جعل المصالح هي الهدف في الشهادة، فإنّ العدل هو الميزان الثابت الّذي لا يتغيّر و لا يتبدّل، فلا الغنى و لا الفقر و لا شي‏ء آخر من المصالح لها دخل في ميزانه، فلا بدّ أن تكون الشهادة للّه تعالى و أنّ رضاه عزّ و جلّ أحقّ أن يتّبع، فلا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحقّ طمعا في برّه و طلبا لرضاه أو خوفا من شرّه.
و بعبارة أخرى: لا تكون ممالأة ذوي الجاه و السلطان و المال و النفوذ للحصول على مصلحة منهم داعية لترك الشهادة أو إقامتها على غير العدل، و كذلك لا يكون فقر الفقير صارفا عن الحقّ و موجبا لترك الشهادة له، تهاونا به أو عليه رحمة به.
قوله تعالى: فَاللَّهُ أَوْلى‏ بِهِما.
أي: أنّ إقامة الشهادة بالحقّ هي الّتي خير للشاهد و المشهود له أو المشهود عليه، بلا فرق بين أن يكونا غنيين أو فقيرين أو مختلفين، و أنّ القسط هو المطلوب في الشهادة، و اللّه تعالى أولى بالاتباع من الغني و الفقير؛ لأنّه أعلم بمصلحتهما و أرحم بهما و انظر لهما، و قد شرّع سبحانه و تعالى من الأحكام ما يرجع نفعه و يعود خيره للجميع.
و ضمير التثنية يرجع إلى الغني و الفقير. و (أو) في الآية الكريمة يدلّ على الترديد و الإبهام و هو يرجع إلى ما يمكن أن يتحقّق أو يفرض من الأفراد، و الأقسام هي كثيرة، فإنّ الشهادة تعمّ الشهادة للمشهود له أو عليه، و كلّ واحد منهما قد يكون غنيا و الآخر فقيرا، و قد يكون بالعكس، و قد يكونان فقيرين، و قد يكونان غنيين، و عدم ذكر الأقسام أوجب مجي‏ء (أو) ليرجع إلى المذكور المتعدّد.
و بعبارة اخرى أنّ ضمير التثنية يرجع إلى المشهود له أو عليه بأي وصف كان عليه.
و ذكر الرضي أنّ الضمير الراجع إلى المذكور المتعدّد الّذي عطف بعضه على بعض ب (أو)، يجوز أن يوحد و أن يطابق المتعدّد، و ذلك يدور على القصد، و يمكن ارجاعه إلى ما ذكرنا، فإنّ المقام يستدعي الإبهام و الترديد ليشمل جميع حالات الفقير و الغني.
و قيل في وجه تثنية الضمير امور اخرى، و الحقّ ما ذكرناه.
قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏.
بيان للسبب الّذي يوجب الميل عن الحقّ و الإعراض عن العدل و الزيغ في الشهادة، و هو اتّباع الهوى بجميع أنواعه و صوره، من مراعاة صداقة أو عداوة أو عصبية، أو انتهاز فرصة أو غنيمة أو ممالأة ذوي الجاه و السلطان و النفوذ و نحو ذلك. و هو يرجع إلى حبّ النفس الّذي يكون منشأه حبّ الدنيا. و الهوى هو نقطة الضعف في الإنسان و مزلّة الأقدام و مبعث الضلال و الشقاء و الكفر و النفاق، و قد حذّرنا اللّه تبارك و تعالى من اتّباعه تحذيرا أكيدا في عدّة مواضع من كتابه الكريم، و عالج الموضوع بجميع صوره و جوانبه و خصوصياته بما لم تكن كذلك في أي موضوع آخر، لما له الأهميّة في حياة الإنسان الدنيويّة و الاخرويّة، و لما له دخل في شقائه و سعادته، فهو السبب الوحيد لوقوع الإنسان في حبائل الشيطان و خدعه و كيده، و إنّه الوسيلة الّتي بها يسطير إبليس على الفرد، و هو الّذي يحبط منزلته و يصدّه عن الكمال، و يصرفه عن طاعته عزّ و جلّ و يوقعه في شرك الشيطان، و بالآخرة يرجعه إلى أسفل السافلين، قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [سورة ص، الآية: ۲٦]، و لا يسلم منه أحد إلّا بترويض النفس على التقوى و ارغامها على الصبر على طاعة اللّه و ترك المعاصي و الآثام و مراقبتها على الدوام، و لعلّ في تقديم الأمر بإقامة القسط إشارة إلى أنّها السبب في إعداد الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للتسلّط على الهوى و ترك اتّباعه، فيسهل عليه إقامة الشهادة بالعدل و بسط الحقّ.
و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضوع المهمّ من الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا.
و هو إمّا من العدول بمعنى الميل من الحقّ، أو من العدل مقابل الجور، و منه (العدل) الّذي من أسمائه تعالى، أي الّذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، فوضع موضع العادل و هو أبلغ؛ لأنّه جعل المسمّى نفسه عدلا.
و إمّا مفعول لأجله للنهي أو المنهي عنه، أو مجرور بتقدير اللام متعلّق بالاتّباع المنهي عنه، أي: لا أن تعدلوا، فالاحتمالات خمسة:
الأوّل: أن يكون بمعنى العدول، و يكون علّة للمنهي عنه، أي: فلا تتبعوا الهوى لئلا تميلوا من الحقّ، و حينئذ فلا حاجة إلى التقدير.
الثاني: أن يكون كذلك و هو علّة للنهي، فيحتاج إلى التقدير، أي: أنهاكم عن اتباع الهوى مخافة العدول عن الحقّ و الابتعاد عن القسط.
الثالث: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي عنه، أي لا تتّبعوا الهوى في إقامة الشهادة كراهة أن تعدلوا، أو بتقدير اللام كما عرفت، أي: لأن تعدلوا و لا تجوروا فلا تتبعوا الهوى، فيحتاج إلى التقدير أيضا.
الرابع: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي، فلا يحتاج إلى التقدير كالاحتمال الأوّل، أي أنهاكم عن اتّباع الهوى للعدول و عدم الجور.
الخامس: ما تقدّم بتقدير اللام.
قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا.
تحذير آخر ينبئ عن إنذار شديد إذا هم حرّفوا الشهادة أو أعرضوا عن إقامتها بعد تحملها، و تلووا- بسكون اللام و ضمّ الواو- من اللّي بالشي‏ء و هو إتيانه على غير وجهه، أو في المقام سواء كان بالتحريف في الشهادة أو إتيانها على غير وجهه أو تبديلها و الحكم بالباطل، أو تعرضوا عنها و تكتموها فلا تؤدّوها رأسا.
و قرئ (تلوا) بضم اللام و اسكان الواو من الولاية، أي: إن وليتم إقامة الشهادة و آتيتم بها أو أعرضتم عنها، فإنّ اللّه تبارك و تعالى هو الخبير بجميع أعمالكم و نواياكم.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
إنذار، أي: أنّكم إذا تصدّيتم لأمر الشهادة بأي نحو كان بالأداء أو بالتحريف أو بالإعراض، فإنّ اللّه تعالى خبير يعلم دقائق الأمور، مطّلع على جميع مقاصدكم- من الغشّ و الخيانة و نحوهما- و على جميع أعمالكم- من التحريف و الكتمان- فيجازيكم عليها، و إنّما لم يبيّن سبحانه و تعالى نوع الجزاء لتهويل الأمر، و أنّه حسب ما يترتّب عليه من الفساد و الضرر من الشدّة و الضعف.
و هذه الآية الشريفة تضمّنت أحكاما دقيقة في الشهادة، و إقامة القسط لو عمل بها الأمة المؤمنة لأمكنها أداء الأمانة لنفسها و حملت ميزان العدل الرباني و طبّقته على الأرض بأحسن وجه و تخلّقت بالأخلاق الربوبيّة.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
تأكيد يلفت النظر و يسترعي الانتباه، يدلّ على أنّ الّذين اتصفوا بصفة الإيمان لم يكونوا على أهلية تامّة؛ لأنّه لم يرد من هذا النداء تحصيل الحاصل و ما هو متحقّق بالفعل، بل المطلوب أمر آخر مهم في نظر القرآن، و هو إمّا الأمر ببسط الإيمان على جميع الجوارح و الجوانح بعد أن كان مقتصرا على اللسان فقط، أو الأمر بالثبات و زيادة الطمأنينة و اليقين، أو الأمر بالاستزادة منه، أو التمسّك به و العمل على تنميته، أو الاستقامة عليه حتّى لا يصيبه ما يوجب زعزعته و نقصانه، فهو على كلّ حال يثير التساؤل في نفوس المؤمنين و يكشف لهم حقيقة خفية عليهم، لما يلاقونه من الهموم و الغموم و ما يصيبهم من الكدح و الملل في هذه الحياة.
ثم إنّ هذا النداء إجمالا يثير الهمم على كشف تفاصيله، فإنّ الأمر بالإيمان مرّة اخرى على هذا النحو من الإجمال بعد التلبّس به، يبعث المؤمن على طلب التفصيل و مزيد البيان، فكأنّ في الإيمان المتلبسّ به نقصا لا بدّ من تلافيه.
كما يبيّن سبحانه و تعالى تفصيلا لقواعد الإيمان و أركانه، قطعا لكلّ تساؤل و حسما لكلّ نزاع، و تفصيلا لإيمان هذه الامة على إيمان سائر الأمم و إيضاحا لكلّ من الإيمان و الكفر حتّى لا تبقى حجّة و عذر للمعرض المعاند.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ.
تفصيل بعد إجمال و بيان لحقيقة الإيمان، و إرشاد للمؤمنين بأن المطلوب ليس إيمانا مبهما، فلا بدّ من بسط إجمال إيمانهم على ما يفصّله عزّ و جلّ من الحقائق، الّتي هي معارف ربوبيّة يرتبط بعضها مع بعض، و بينها من التلازم بحيث يكون الإيمان بواحدة منهما مستلزما للإيمان بالأخرى، كما أنّ إنكار واحدة منهما موجب لإنكار جميعها، فيكون كفرا عند إظهار الإنكار و نفاقا مع الإخفاء، فالإيمان المطلوب الّذي حدّده عزّ و جلّ هو الإيمان باللّه الواحد الأحد الّذي له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و الإيمان بالمبدأ يستلزم الإيمان بالمعاد و الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و بالكتاب- الّذي نزل عليه- المتضمّن على جميع شروط الإيمان و صفاته، و يبيّن المعارف الإلهيّة، و الكتاب الّذي نزل على الأنبياء السابقين الّذي يحتوي على اصول الأحكام و الشرائع. و مجموع ذلك يدعو إلى العمل و التخلّق بمكارم الأخلاق.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
شرح لما ورد في صدر الآية الشريفة في تفصيل دقيق و بيان وافي بأنّ الإيمان وحدة متكاملة، و أنّ الكفر بواحدة منها يوجب الكفر بالجميع بعد الدعوة إلى الإيمان بالجميع، و إرشاد بأنّ التفصيل الّذي ورد في صدر الآية يتضمّن أجزاء اخرى مترابطة و إن لم تذكره الآية المباركة، فليست هذه الآية الشريفة شيئا آخر مغايرا لما ورد في صدرها، فإنّ قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يتضمّن جميع ما ورد في هذا الذيل، فالإيمان المطلوب على وجه الدقّة هو الإيمان باللّه تعالى و الملائكة- الّذين هم رسل اللّه سبحانه و تعالى- و الأنبياء- الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهداية خلقه إلى ما يرشدهم و يسعدهم و يحذّرهم عمّا يوجب شقائهم- و الإيمان باليوم الآخر- و هو يوم الجزاء- و الإيمان بالكتب الإلهيّة الّتي تضمّنت جميع المعارف و الأحكام و الشرائع.
و تبيّن الآية الكريمة أنّ الكفر بالمجموع هو كفر و ضلال بعيد، و ليس الأمر كذلك في كفر البعض، فإنّه و إن كان كفرا و ضلالا و لكن غير متّصف بالبعد؛ لأنّ للضلال مراتب، و وصف الضلال بالبعيد هو من أبلغ الوصف و أكمله، فإنّ الكفر يبعّد الإنسان عن طريق الهداية و سبل الخير.

قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ يدلّ على الثبوت و التحقّق، و لا ملازمة بها بالاستمرار.
(شهداء) في قوله تعالى: شُهَداءَ لِلَّهِ لم ينصرف، لكونها جمعا نهائيا قائما مقام السببين- كالأمناء، و الرقباء، و العرفاء- و هي منصوب على النعت ل (قوامين)، و يحتمل أن يكون منصوبا على الحال للضمير المستكن في (قوامين) الراجع إلى (الّذين آمنوا).
و ردّه بعضهم بأنّ ذلك يستلزم تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة.
و احتمل بعضهم أن تكون خبرا بعد خبر، و قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ متعلّق ب (شهداء).
و (أو) في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً للترديد؛ لاحتواء جميع الفروض الّتي يمكن أن تتحقّق في المقام كما عرفت في التفسير.
و قيل: إنّها بمعنى الواو، أي: إن يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بالخصمين، و لكنّه ليس بشي‏ء.
و تثنية الضمير في قوله تعالى: بِهِما لرجوعه إلى ما تقدّم ذكره من المشهود و المشهود عليه، و يحتمل أن يكون بمعنى: فاللّه أولى بكلّ واحد منهما. و قرأ بعضهم: (فاللّه أولى بهم) بضمير الجمع، و تقدّم ذكر الاحتمالات في قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا.
و تقدّم أنّ (تلووا) من اللي بمعنى الميل و التحريف، و قال بعضهم بمعنى الولاية و المباشرة من قولك: و ليت الأمر. و لكنّ الحقّ أنّه لا معنى للولاية هنا.
و قيل: (تلووا) من لويت فلانا حقّه ليا إذا دفعته به، و الفعل (لوى) و المصدر (ليا).
و قرأ بعضهم (نزّل) و (انزل) في قوله تعالى: وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ بالضمّ، و أما الباقون فقد قرءوا بالفتح فيهما.

تدلّ الآيات المباركة على امور:
الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ على أهميّة القسط و شرف العدل و عظيم أثره في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة و الدنيويّة و الاخرويّة، و يستفاد ذلك من الأمر بملازمة القسط في جميع الحالات و في كلّ الشؤون، حتّى تصير ملكة راسخة عند الفرد، و يدلّ على أهميّة هذا الحكم أنّ الفعل فيه يدلّ على ملازمة القسط و الثبات عليه و لم يقبل التخصيص و التقييد في مورد، و مثل ذلك نادر في الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ القسط هو الصراط المستقيم و الّذي يوصل سالكه إلى الكمال، و أنّ به يتحدّد كلّ شي‏ء و تتجلّى الحقيقة، و فيه يتحقّق الصلح و الطمأنينة و يصل كلّ فرد إلى ما يستحقّه.
و يدلّ على أهميته أيضا ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بالعدل قامت السموات و الأرض».
و قد ذكر عزّ و جلّ أثرا مهمّا من آثار القيام بالقسط و هو الشهادة للّه تعالى، فإنّ القيام بالقسط يعدّ الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للوصول إلى مقام الشهادة للّه تعالى و طرح جميع الأغيار، فلا يكون متّهما و لا انتهازيا طالبا للجاه و النفوذ و المال يجرّ من شهادته النفع إليه، فإنّ القسط هو الّذي أعدّه لذلك و جعله يطلب رضاء اللّه تعالى في جميع أموره، و منها الشهادة. و قد خصّها تعالى بالذكر؛ لأنّ لها الأثر في تشريع الأحكام و تثبيت الحقوق و تحقيق الصلح و رفع النزاع.
الثاني: قد جمعت الآية الشريفة جميع ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن أن يقع مورد الجنف و الظلم، فذكرت شهادة المرء على نفسه، و فيها إقراره بالحقوق الّتي عليها. ثمّ ذكر الوالدين لوجوب البرّ بهما و عظم قدرهما، و من البرّ لهما الشهادة و لو كانت عليهما و تخليصهما من الباطل، ثمّ ثنّى بالأقربين، إذ هم مظنّة التعصّب و المودّة، و أمّا الأجنبي فهو أحرى أن يقام عليه بالقسط و يشهد عليه، فالآية الشريفة جمعت حقوق الخلق في الأموال و غيرها.
الثالث: إطلاق قوله تعالى: شُهَداءَ لِلَّهِ يعمّ الشهادة في الأموال و غيرها، خلافا لما ذكره بعض المفسّرين من اختصاصها بالشهادة في الأموال، بقرينة قوله تعالى: عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ، و لكنّه ليس بشي‏ء كما هو معلوم.
كما يدلّ قوله تعالى أيضا على ردّ كلّ شهادة لم تكن للّه تعالى، فتردّ شهادة المتّهم و الكافر على المسلم و غيرهم ممّا هو مذكور في الفقه.
الرابع: يمكن أن يكون قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ إشارة إلى مقام الحضور و مظهريّة العبد لصفات اللّه تعالى و توحيده، فإنّه عزّ و جلّ بعد أن أمر المؤمنين بالتوحيد العملي في الآيات الكريمة السابقة، أمرهم في هذه الآية الشريفة بالثبات عليه و التلبّس بالعدالة الّتي هي أشرف الفضائل و أسماها، و هي من الصفات العليا الّتي أمر عزّ و جلّ المؤمنين بالتحلّي بها بعد أن علم منهم الأهليّة، و أنّ بها تقوم سائر الفضائل و المكارم، فلا قوام لها بغيرها، و أنه لا بدّ أن يكون المؤمن قواما بحقوقها لا تظهر معها رذيلة و لا اتباع هوى و لا جور، فينال مقام جنّة اللقاء و القرب لديه عزّ و جلّ، و يكون شهيدا للّه تعالى مظهرا من مظاهر وحدانيّته و كمال صفاته و مرآة لحقية أحكامه المقدّسة، فلا نظر له إلّا اللّه تعالى و رضاه و ليس للغير فيه مطمع، و هذا من أجلّ المقامات و أعلاها، و لا يمكن الوصول إليه إلّا بالعمل بهذه الآية الشريفة و تطبيقها تطبيقا كاملا في جميع الأمور، فيكون اتباع الهوى من موانع الوصول إلى هذا المقام العظيم، فإنّه من ترك اتباع الهوى يستعد للاتّصاف بصفة العدالة و يتهيّأ لمقام الشهادة بالوحدانيّة.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ على أنّ اتّباع الهوى من أشدّ الرذائل تأثيرا على النفس في إبعادها عن الواقع و أكبر الموانع من الوصول إلى المقامات العالية، و تظهر أهميّته من أهميّة الفضيلة الي ذكرها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا أنّ المعصية الّتي يمكن أن تتحقّق في الشهادة هي التحريف و التبديل و الشهادة بالباطل، و ما ذكره عزّ و جلّ آنفا من الشهادة لغير اللّه و جرّ النفع و الجور فيها أو الإعراض عنها بالكليّة بأن يكتمها و لا يؤدّيها، و هذا شاهد على ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من تناسب المعصية مع الأفعال و الأقوال، فإنّ كلّ معصية تتناسب مع الموضوع الّذي وقعت فيه المعصية، ففي الأقوال مثلا الكذب و البهتان و الزور و نحو ذلك، كما أنّ في كلّ جارحة لها معصيتها، ففي العين النظر إلى المحرّم، و في اليد السرقة و الخيانة في الأمانة و لمس الأجنبيّة، و في الرجل السعي إلى الحرام و هكذا، فالمعصية في الشهادة هي الّتي فيها بالمعنى الأعمّ و الإعراض عنها.
و على هذا، يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً تفسيرا لهذه الآية المباركة- و هي إجمال لصدرها، و هي تدلّ على كونها في مقام تعداد معاصي الشهادة- قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الظاهر في التهديد و التوبيخ لمن يجور في الشهادة.
السابع: عموم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ يشمل جميع أنحاء الإيمان إيمان العيان، و إيمان البرهان، و الإيمان العيني، و تجريد الإيمان للّه تعالى و تخليصه من كلّ أنحاء الشرك الجلي و الخفي و جميع الشبهات و الاعتراضات و الإيمان بالمجموع، و إيمان التسليم و التفويض و الإيمان التفصيلي، فإنّ الإيمان له مراتب و كلّ فرد يستفيد من الآية الكريمة حسب استعداده و ما يفاض عليه من المبدأ الفيّاض جلّ جلاله.
الثامن: يدلّ قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، على أنّ الإيمان الإجمالي لا اعتبار به ما لم يكن عن تفصيل، فإنّ الوثني أيضا يعتقد باللّه و يؤمن، كما حكي عنه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [سورة الزخرف، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة الزخرف، الآية 87]، و مع ذلك فهو في عداد المشركين و الكافرين، فالإيمان بحسب نظر القرآن وحدة جامعة للإيمان باللّه تعالى و الرسول الكريم و الكتاب الّذي انزل عليه و الكتاب الّذي انزل من قبل على سائر الأنبياء و المرسلين. و هذه الوحدات متكاملة يستلزم بعضها البعض لا تقبل التجزّؤ، و تشتمل على جميع المعارف الإلهيّة الّتي شرحها القرآن الكريم في سوره و آياته المباركة.
و من هنا نرى أنّ الآيات الكريمة التالية تنبئ عن ماهية الإيمان بصورة دقيقة، و تشرح حقيقته شرحا وافيا. و تقسّم الكافرين حسب درجات كفرهم من حيث إنكارهم لمجموع الوحدات أو لبعضها، فيصف عزّ و جلّ من أنكر المجموع بالضلال البعيد، كما يصف من يفارق بعضها بالنفاق، و يبيّن أنّه من الكفر التقرّب إلى الكفّار و موالاتهم و تصديقهم في ما يرمون به المؤمنين و الاستهزاء بالإيمان و أهله، و هذا ما نراه في الآيات الكريمة التالية.
التاسع: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ أركان الإيمان الصحيح، و هي: الركن الأوّل الإيمان باللّه الواحد الأحد المستجمع لجميع صفات الكمال، و المنزّه عن النواقص الّتي هي صفات الجلال، و هذا الاعتقاد يستدعي نبذ الشرك و الأنداد و الاتّصاف بصفات الواحد المنّان.
الركن الثاني: الإيمان بجنس الملائكة الّذين هم رسل اللّه تعالى، لا يعصون اللّه ما أمروا به، و هم وسائط الوحي و الفيض.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء و الرسل، الحاوية لجميع المعارف الإلهيّة و التشريعات السماويّة. و الإيمان بالكتب يستدعي نبذ التعصّب و اتّباع الهوى.
الركن الرابع: الإيمان بجميع رسل اللّه تعالى الّذين هم وسائط الفيض، أرسلهم عزّ و جلّ لهداية البشر و إرجاعهم إلى المبدأ و تذكيرهم منسي الفطرة.
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، و الاعتقاد به يستدعي مراقبة النفس و العمل بما أمره اللّه تعالى، فإنّ ذلك اليوم يوم الجزاء على الأعمال و لا يفلت منه أحد، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7- 8].
هذه هي أركان الإيمان المطلوب في الإنسان، و هي مجمع الخير و السعادة، و أما غير ذلك فهو الضلال و البعد عن منبع الخير و الكمال، و هو يستدعي الشقاء و الحرمان.

روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي سويد، عن أبي الحسن عليه السّلام: «كتب إليّ في رسالته و سألته من الشهادات لهم؟ قال: فأقم الشهادة للّه عزّ و جلّ و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت على أخيك ضيرا فلا».
أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:
الأوّل: أنّ الشهادة للّه، لأنّها من أسباب بسط العدل بين الناس، و أنّ العدل و القسط هما ميزان اللّه تعالى في أرضه و من مظاهر صفاته.
الثاني: أنّ الأنساب لا تعوق الحقّ أو القسط مهما بلغ ذلك من الشرف و الحسب، قريبة كانت أو بعيدة، و لا يختصّ ذلك بالأنساب، و إنّما ذكر الأنساب في الآية المباركة و الروايات؛ لأنّها الأهمّ و الغالب فيشمل غيرها كالمادّيات و الاعتباريّات بالأولى.
الثالث: ذيل الرواية محمول على ما إذا كان الحكم الّذي يحكمه الحاكم مخالفا للواقع، و لا يصل الحقّ إلى صاحبه، أو يستلزم ضررا على المشهود عليه.
و في تفسير علي بن إبراهيم: «انّ اللّه أمر الناس أن يكونوا قوامين بالقسط- أي بالعدل- و لو على أنفسهم أو على والديهم أو على أقاربهم، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ للمؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقّا و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ، ثم قال: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا يعني الحقّ».
أقول: ظهر ممّا تقدّم الوجه في هذه الرواية، و يستفاد منها التعميم في معنى الشهادة لإظهار كلّ حقّ و بأي وجه كان، و أنّ المراد من الحقّ الأعمّ من الوضعي الشرعي أو التكليفي أو المجاملي، و أنّ الشهادة في الأموال و الأنفس واجبة شرعا وجوبا كفائيا لو كانت بعد الطلب و الاستشهاد، و إلّا فلا.
و عن الطبرسي في المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنْ تَلْوُوا أي: تبدّلوا الشهادة، أَوْ تُعْرِضُوا أي: تكتموها، فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
أقول: التبديل أعمّ من التحريف و التغيير أو الاسقاط- كما تقدّم في التفسير- و الكتمان أعمّ من جميعها أو بعضها، و الرواية من باب ذكر بعض الأفراد.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ يعني: يا أيها الّذين آمنوا أقرّوا و صدّقوا.
أقول: يعني أقرّوا باللّه تعالى، و صدّقوا رسوله، و معنى تصديق رسوله العمل بما جاء به من الأحكام بعد الإيمان باللّه العظيم، و إلّا فلا يكون تصديقا حقيقيّا.
و عن البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ قال:
«أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا بالحقّ و لو على أنفسهم، أو آبائهم، أو أبنائهم، لا يحابوا غنيا لغناه و لا يرحموا مسكينا لمسكنته، و في قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا فتذروا الحقّ فتجوروا، وَ إِنْ تَلْوُوا يعني: ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها».
أقول: إنّ العدل الإسلامي و الحقّ الواقعي يقتضي عدم الفرق في القضاء- الّذي هو منصب إلهي به يصان أعراض الناس و يحفظ أموالهم و يراعى شؤونهم- بين الأصناف و الأفراد، بل الأديان السماويّة غير المنحرفة جاءت لتثبيت ذلك في الأرض، و الرواية لا تدلّ على شي‏ء أزيد ممّا ذكرنا كما تقدّمت رواية علي بن إبراهيم الدالّة على ذلك.
و في الدرّ المنثور في ضمن رواية: «انّ نبي اللّه موسى عليه السّلام قال: يا ربّ أي شي‏ء وضعت في الأرض أقل؟ قال: العدل أقلّ ما وضعت».
أقول: وجود الشي‏ء غير كميّته أو كيفيّته، فأصل وجود العدل الّذي هو من ذاته الأقدس و به قامت السموات و الأرض و به بعث الأنبياء و الأوصياء موجود و ممّا لا ريب فيه، و هو من مظاهر صفاته و أسمائه، و أما مقداره الّذي وضع في الأرض و جاء به الأنبياء، فكان ذلك حسب أهليّة سكناها، و هو غير معلوم فلو كان أكثر من القليل لما احتاجوا الناس إلى القضاء و ما وقع الأنبياء عليهم السّلام في المشقّة و التعب، و الحكمة في ذلك أنّه بالأقلّ يميّز الخبيث من الطيب، مع أنّ الأقلّ من الأمور الإضافيّة.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ، قال عليه السّلام: «سماّهم مؤمنين بإقرارهم، ثم قال لهم: صدقوا له».
أقول: إقرارهم كان في عالم الذرّ كما في بعض الروايات، و تصديقهم كان في عالم الشهادة، و الفرق بين عالم الذرّ و الفطرة أنّ عالم الذرّ هو الفطرة قبل بعثة الأنبياء و قبل خلق عالم الشهادة، و الفطرة بعد البعثة و مجي‏ء آدم عليه السّلام.
و بعبارة اخرى: عالم الذرّ عالم من العوالم، و الفطرة هي الّتي على ما هي عليه.
و أخرج الثعالبي عن ابن عياش: «انّ عبد اللّه بن سلام و أسدا و أسيدا ابني كعب، و ثعلبة بن قيس و سلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام، و سلمة ابن أخيه و يامين بن يامين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و موسى و التوراة و عزير، و نكفر بما سواه من الكتب و الرسل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل آمنوا باللّه و رسوله محمّد و كتابه القرآن و بكلّ كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ قال: فآمنوا كلّهم».
أقول: الرواية مطابقة للواقع، لأنّ الكتب السماويّة منزلة من اللّه عزّ و جلّ و كلّ ما نزل منه تعالى لا بدّ من الإيمان به إلّا إذا نالته يد التحريف فتسقط الكتب عن شأنها، فالاعتقاد بالتوراة و الإنجيل الواقعي كالاعتقاد بالقرآن، فلا فرق بينهما من جهة القداسة و الاعجاز و الحجيّة.
و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ قال: «نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و آله اختصم إليه غني و فقير، و كان ضلعه مع الفقير، رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني، فأبى اللّه تعالى إلّا أن يقوم بالقسط في الغني و الفقير فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ حتّى بلغ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى‏ بِهِما».
أقول: الرواية- على فرض صحّة السند- لا تنافي العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم السّلام؛ لأنّ رجحان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفقير على الغني كان لمصلحة ظاهريّة يراها النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزلت الآية المباركة و انتهى أمد تلك المصلحة، فالمصلحة كانت وقتيّة لا دائميّة.
و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.

يستفاد من الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في الأحكام المستفادة منها امور:
الأوّل: ذهب جمع من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم الشريفة) إلى قبول شهادة الولد على والده، و استدلّوا على ذلك بأمور:
الأوّل: قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ، بدعوى أنّ الآية المباركة صريحة في وجوب إقامتها و يستلزم ذلك قبولها.
الثاني: السنّة المعصوميّة، فعن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «أقم الشهادة للّه و لو على نفسك أو الوالدين»، و قول الصادق عليه السّلام: «أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد»، و مثلهما غيرهما من الروايات.
الثالث: يستفاد ذلك من كلام الشهيد و غيره.
و يمكن المناقشة في جميع ذلك، أمّا الآية الكريمة فسياقها الشهادة في اصول الدين- لا مطلق الشهادة- بقرينة صدر الآية الكريمة شُهَداءَ لِلَّهِ، و قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [سورة المجادلة، الآية: 22] و ما يأتي من الروايات، فلا مجال للتمسّك بإطلاق الآية الشريفة بعد احتمال أنّ الشهادة في اصول الدين.
و أمّا السنّة، فلا مجال للتمسّك بها؛ لإعراض المشهور عنها و هجر العمل بإطلاقها فيسقط عن الاعتبار كما ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول)، مضافا إلى معارضتها بالأقوى منها، مثل قول الصادق عليه السّلام في الصحيح: «لا تقبل شهادة الولد على والده»، و قريب منه غيره.
و أمّا كلماتهم الشريفة، فإنّها لا تصير دليلا ما لم يبلغ حدّ الإجماع، و قد ادّعى الإجماع على عدم قبول شهادة الولد على الأب غير واحد من الأعلام. نعم ما تقدّم يصلح للاحتياط كما ذكرناه في الفقه.
و يمكن رفع الاختلاف و الجمع بين الروايات بأنّ ما دلّ على الجواز في ما إذا كان الوالد غير مبال بدينه و متجرّ في مخالفة الأحكام الإلهيّة، و أن شهادة ابنه عليه موجبة لإرشاده و هدايته، و ما دلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الأب من أصحاب الوجوه و الشرف و ملتزما بالانقياد للأحكام الشرعيّة، فتكون شهادة الابن على والده نحو إهانة له و خلافا لاحترامه و لا تكون من المعروف المأمور به في الكتاب و السنّة، و هذا نحو جمع عرفي كما ذكرناه في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) و الحمد للّه.
و لا فرق فيما تقدّم بين الأب و الام، و هل يشمل الحكم الجدّ و الجدّة؟ و جهان يظهران ممّا تقدّم.
الثاني: أنّ الشهادة لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه- بل الحكم الصادر من الحاكم الجامع للشرائط يكون كذلك أيضا- لأنّ المدار المأمور به هو الواقع الحقّ، فإذا انكشف يسقط ما سواه، و أنّ الشهادة طريق للوصول إليه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس إنّما أنا بشر مثلكم و أنتم تختصمون و لعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، و إنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشي‏ء فلا يأخذ به، فإنّما أقطع له قطعة من النار».
الثالث: يختصّ وجوب أداء الشهادة بموارد الاستشهاد؛ لقوله تعالى: وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [سورة البقرة، الآية: 282]، و مع عدمه فهو بالخيار في الأداء؛ لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد و إن شاء سكت».
الرابع: لا يتوقّف تحمّل الشهادة على الاستشهاد و الاستدعاء من المشهود، فإذا سمع ما تصحّ الشهادة تقبل الشهادة، فلو سمع الإقرار و العقد أو الإيقاع أو رأى‏ ما تصحّ الشهادة به كالقتل، فلا يعتبر فيها القصد في خصوص الشهادة و لا الاستشهاد، لوجود المقتضي و فقد المانع و أصالة البراءة عن شرطية الاستدعاء و الاستشهاد بعد توفّر سائر الشروط كالعدالة و غيرها، و هناك فروع ذكرناها في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام)- و من شاء فليرجع إليه-. و الفرق بين الإقرار و الشهادة أنّ الأوّل إخبار بما يرجع إلى نفس المخبر، و الشهادة إخبار على الغير بما علم به بالحضور فيه، كما ذكرنا في محلّه.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"