1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 123 الى 126

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (۱۲٤) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (۱۲٥) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطاً (۱۲٦)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى حقيقة الإيمان و الجزاء المترتّب عليه و بعض أحوال المؤمنين، و بيّن عزّ و جلّ الكفر و الشرك و موجباتهما، و هي إطاعة الشيطان و عبادته و اتّباع أوامره، و الجزاء المترتّب على ذلك، ثمّ وعد المؤمنين و أكّد أنّ وعده صادق و قوله حقّ لا خلف فيه.
يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة أنّه في وعده الصادق لا يحابي أحدا من عباده، و أنّه سيجزي المؤمنين حقّا و يجازي الكافرين صدقا، كلا حسب عمله و أفعاله، فالإيمان ليس بالتمنّي و لا بالتحلّي و لا بالتفاضل، بل بما استقرّ في القلب و ظهر على الجوارح و صدّقه العمل، و ليس الدين أمنيات و أهواء و شعارات و تفاخر أو تباهي، بل الدين تطبيق عملي لكلّ ما حواه من مبادئ و تعاليم و قيم و تشريعات و توجيهات، فهذا هو واقع كلّ دين و حقيقته، فلن يقوم على التمنّي و لن يحصل أحد على الجزاء العظيم الّذي وعده عزّ و جلّ للمؤمنين بمجرّد التمنّي و التفاخر و التمدّح و التشدّق بالكلام. و هذا ما أكّد عليه عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم.
و لم تكن الآيات الشريفة الأخيرة في سورة آل عمران ببعيدة عن الأذهان، حيث يبيّن عزّ و جلّ فيها المنهاج الّذي لا بدّ أن نتبعه، فقال تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، و في هذه الآيات الكريمة تأكيد جديد و درس عملي لنبذ كلّ تمن فارغ عن العمل و تفاخر و تفاضل يوجب البعد و البغضاء، فإنّ الجزاء حاصل لا محالة، و كلّ من عمل سوءا يجز به و لا يجد من دون اللّه وليّا و لا نصيرا ينصره من العذاب، و من يعمل الصالحات فسيجد الجزاء الأحسن، و هذا هو الدين، فلا بدّ من التسليم الكامل و الإحسان و العمل و اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام، الّتي حفظت في جميع الأديان الإلهيّة و عند مشركي العرب، و هي ملّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، فكانت صلة بين جميع من ذكر، و اللّه تعالى محيط لا تخفى عليه خافية و له ما في السموات و الأرض.

قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
تأكيد لما ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، و بيان أنّه ليس لأحد كرامة على اللّه تعالى و لا حقّ له عليه جلّ شأنه، إلّا باتّباع تعاليمه و تطبيق شريعته و تنفيذ أوامره، و هذا هو الدين الّذي أنزله اللّه تعالى على جميع أنبيائه و أمرهم بتبليغه لعباده، و ليس هو أهواء و أمنيات و تشدّق بالكلام بأن يتفاخر كلّ واحد بأنّ دينه أفضل أو أكمل و أحقّ بالاتّباع، فإنّ هذه كلّها أماني صوريّة لا حقيقة لها، و هي بعيدة عن واقع الدين؛ لأنّه تطبيق عملي لما وقر في القلب و استقرّ فيه، و تلتقي جميع الأديان في هذا الأمر، بلا فرق بين دين الإسلام و سائر الأديان الإلهيّة، و قد حكي عزّ و جلّ بعض صور التفاخر في مواضع اخرى من القرآن الكريم، قال تعالى محكيا عن أهل الكتاب: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ‏ وَ أَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قال تعالى أيضا: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى‏ تَهْتَدُوا [سورة البقرة، الآية: ۱۳٥].
و هذه الآية الشريفة تشير إلى ما زعمه بعض المسلمين و أهل الكتاب على ما ورد في شأن نزولها- كما يأتي في البحث الروائي- و قد ردّ سبحانه و تعالى على جميع تلك المزاعم بأنّ الدين لا يقوم على الأماني، و أنّها لا تؤثّر شيئا على الإطلاق، بل الدين عقيدة و عمل، و أنّ الجزاء العظيم الّذي وعده اللّه عزّ و جلّ لهم لا يمكن تحصيله بالتمنّي و الغرور، و أنّ اللّه تعالى لا يضيع عمل عامل منكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.
و هذه الآية الشريفة من الدروس التربويّة للمسلمين، و قد كانت نبراسا لهم حين ما اعتقدوا بالإسلام، بأنّه دين عقيدة و عمل، و أنّه منهاج تربوي عملي، جعلوه تطبيقا عمليا لكلّ ما تضمّنه من تعاليم و قيم و مبادئ و توجيهات، فكانوا على عزّ و شرف و ساد الوئام و التآلف و التعاون بينهم، و لم يكن لأحد فيهم مطمع إلّا بتبليغ دينه بالقول و الفعل، ثمّ لما حوّلوا دينهم إلى مجرّد التمنّي و خرجوا بذلك عن الدين الحقيقي و دخلوا في الغثاء الّذي تحدث عنه الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، اشتدّ الخلاف بينهم و ضعفت مكانتهم و نزل قدرهم و طمع فيهم أعدائهم، و وصلوا إلى ما هم عليه الآن من التفرقة و التشتت و الخلاف، فلم يبق من الإسلام إلّا اسمه و من الكتاب إلّا رسمه، و لن يعودوا إلى مكانتهم و وضعهم الّذي أراده اللّه تعالى و رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله إلّا بالخروج عن هذا التمنّي و الدخول في الدين الحقيقي و الواقع العملي المحسوس.
و الأماني في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ تقرأ بالتشديد و التخفيف، و هي جمع أمنية على أفعولة، و هي الصور الخياليّة الّتي تحصل في النفس و تستلذّ بها كلّما ذكرتها، و إنّها قد تكون عن تخمين و ظنّ و قد تكون عن روية و أصل، و لكن لما كان أكثرها عن تخمين و ظنّ صار إطلاقها أكثر على ما لا حقيقة له، فأكثر التمنّي تصوّر ما لا حقيقة و لا واقع له. و حديث النفس بما يكون أو لا يكون، و تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا تمنّى أحدكم فليكثر، فإنّما يسأل ربّه»، يعني: إذا سأل اللّه تعالى حوائجه الشرعيّة فليكثر؛ لأنّ فضل اللّه كثير و خزائنه واسعة و رحمته عمّت كلّ شي‏ء، و في المقام أطلقت على ما كان يذكره أهل الكتاب و ما تفاخر به بعض المسلمين مجازا؛ لبيان أنّها مجرّد صور خياليّة لا واقع لها، فردّ اللّه تعالى مزاعمهم و بيّن أنّ الواقع غير ذلك.
و يستفاد من اقتران أهل الكتاب مع بعض المسلمين أنّ هناك جهة اتّفاق بينهم، و هي أنّ الدين واقع عملي و الاختلاف في ذلك في سائر الأديان الإلهيّة، و أنّه لو رعوها لكانت الأديان كلّها تسير في جهة واحدة، و لما وجد الاختلاف بينها، و لما وقعت هذه المصائب.
قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
بيان للحقيقة و الواقع في هذا الأمر العظيم الّذي قلّ ما يخلو منه مجتمع أو مذهب، فإنّه بعد أن نفى جلّ شأنه كون التمنّي موجبا لكسب فضيلة أو جلب منفعة أو نيل جزاء، فضلا عن الجزاء العظيم الّذي أعدّه اللّه تعالى للمؤمنين، إلّا أنّ هذا النفي القاطع الحاسم قد يجعل المؤمن الّذي يدخل في دين- سواء كان دين الإسلام أم النصرانيّة أم اليهوديّة- مورد السؤال؛ لأنّ الدخول في الدين إذا لم يكن نافعا و لم يجر له خيرا فماذا يفعل و هذه هي حاله، بل أنّ كلّ سامع لذلك يتشوّق إلى استبانة الحقّ و حكم اللّه تعالى في هذا الأمر؛ فيبيّن عزّ و جلّ الجواب في هذه الآية الكريمة عقيب تلك الآية الشريفة بغير فصل و بصيغة العموم، فقال تعالى: إنّ كلّ من يعمل سوءا يجد جزاءه و لم يكن له وليّ و لا نصير ينصره من جزاء أعماله، كما أنّ من يعمل من الصالحات يدخل الجنّة.
ثمّ إن إطلاق قوله تعالى: يُجْزَ بِهِ يشمل جزاء الدنيا ممّا قرّرته الشريعة- كالقصاص، و الحدود، و نحو ذلك- و كذا الأمراض و أنواع الأسقام و الهموم أو الغموم و المصائب، ممّا لم يكن للإنسان فيه الاختيار، كما يدلّ عليه بعض الأحاديث على ما يأتي في البحث الروائي- و الجزاء الأخروي الّذي أوعده اللّه عزّ و جلّ في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم صلّى اللّه عليه و آله.
كما أنّ إطلاق قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يشمل ما إذا كان السوء من المعاصي الكبيرة أم الصغيرة، أم غير المعاصي حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق و الأفعال السيئة العرفيّة.
قوله تعالى: وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً.
فإنّ ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها كترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ من يعمل السوء يجد جزائه و هو يتحمّل تبعاته، و لا يصرفه عنه صارف؛ لأنّه من الأثر الطبيعي لعمله، و لن يتخلّف الأثر عن مؤثّره، فلا يوجد ولي من الأولياء الّذين يواليهم يصرف عنه الجزاء و لا نصير ينصره و يدفع عنه العذاب، إلّا أن يأذن اللّه تعالى لهم في الشفاعة.
و لا فرق في الولي بين من كان معصوما كالنبيّ أو الإمام، أو غير معصوم ممّن يعتقد ولايته.
و لعلّ ذكر الولي و النصير كليهما ليشمل صارف الدنيا و الآخرة، فالولي في الدنيا و النصير في الآخرة، أو ليشمل جميع أنحاء التقرّب من الإسلام و الدين و النسب و التقرّب إلى الأولياء و الأنبياء و غيرهم ممّا يعتقد نفعه.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أنّ النجاة في الدنيا و الآخرة إنّما تكون بالإيمان و الأعمال، و هذا هو الدين الحقيقي، و قد اشترط عزّ و جلّ في النجاة من العذاب أمرين الإيمان قال تعالى: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ، و تدلّ عليه آيات أخرى، قال تعالى: وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الانعام، الآية: 88]، فلا فائدة في العمل بدونه. و الثاني العمل الصالح، فإنّ الجزاء الأحسن إنّما يكون بإزاء العمل الصالح، و يستفاد من ذلك أنّه لا جزاء حسنا على أعمال الكافر و إن كانت صالحة، فلا اعتداد بها إلّا أنّه قد تفيده في تخفيف بعض أنواع العذاب، كما تدلّ عليه بعض الأخبار، كما أنّه لا ينال الجزاء العظيم الّذي خلا عن العمل الصالح.
و (من) في قوله تعالى: مِنَ الصَّالِحاتِ تبعيضيّة تدلّ على أنّ الإتيان ببعض الأعمال الصالحة يكفى في نيل الجزاء الأحسن، و يتدارك به ما بقي من الأعمال الصالحة، كما يتدارك به و بالتوبة آثار المعاصي و السيئات الّتي يقترفها المؤمن، قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [سورة النساء، الآية: 17]، و تقدّم في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* [سورة النساء، الآية: ۱۱٦] بعض الكلام، كما مرّ تفصيل المقال في بحثي التوبة و الشفاعة في سورة البقرة فراجع.
و ذكر بعضهم أنّ (من) في الآية الكريمة زائدة، و لكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة الّتي هي في مقام البيان و الدقّة فيه، كما أنّ كونها تبعيضيّة تناسب الفضل الإلهي العميم.
و (من) في قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ للتأكيد على أنّ النساء لهن المثوبة كما تكون للرجال، و لا فرق بين الفريقين عند اللّه تعالى في الجزاء الحسن و الأجر العظيم، إلّا أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم.
كما تدلّ الآية الكريمة على تساوي النساء و الرجال في أمور الدين، و أنّ الأعمال الصالحة تصلح النفوس مطلقا، سواء كان العامل ذكرا أم أنثى. و فيها ردّ على مزاعم بعض الناس في النساء، حيث اعتبروهن ذليلات في الخلقة و حرموهن‏ من كثير من أمور الدنيا، حتّى وصل الأمر إلى إهلاكهن عند بعض الأقوام، كما كانت العادة عند مشركي العرب، و قد تقدّم في قوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [سورة آل عمران، الآية: 194]، فراجع.
قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
تأكيد لما ذكره عزّ و جلّ آنفا من وصول كلّ من عمل الصالحات إلى الجزاء الحسن و الثواب الجزيل، من غير أن ينقص منه شي‏ء و لو كان حقيرا تافها. كما يدلّ أيضا على أنّ النساء و الرجال متساوون في نيل الجزاء و درك الثواب، و لا فرق بينهما في ذلك من حيث الزيادة و النقيصة، إلّا أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم، فلا يظلمون من أجور أعمالهم و لو كان بقدر النقير، و هو الثقبة الصغيرة في ظهر النواة، و منها تنبت النخلة، و صار علما للقلّة و الحقارة، و في حديث ابن عباس في الآية الشريفة: «وضع طرف إبهامه على باطن سبابته ثمّ نقرها و قال هذا النقير»، و تقدّم الكلام في آية 49 و 53 من هذه السورة في اشتقاق الكلمة. و نبّه عزّ و جلّ بعدم تنقيص الثواب، فبالأحرى أن لا يزاد عقاب العاصي أيضا، و إنّما لم يذكره عزّ و جلّ؛ لأنّه أرحم الراحمين، و فضل منه جلّت عظمته للعبيد، و المقام مقام الترغيب الى العمل الصالح، و عن بعض أنّ الحكمة في ذلك- مضافا إلى ما تقدّم- لئلّا يفلس العبد لو اجتمع الخصماء في يوم القيامة عنده، فيدفع إليهم واحدة و يبقى له البقية، و هذا من لطفه و عنايته لعباده؛ لأنّ مظالم العباد توفّى من التضعيفات لا من أصل الحسنات، فما ذكره يرجع بالآخرة إلى ما تقدّم.
قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ.
بعد أن بيّن عزّ و جلّ أمر الدين و أنّ حقيقته عند اللّه تعالى هو الاعتقاد السليم و العمل الصالح، و أنّ السعادة منوطة بهما معا، كما أنّ الجزاء مطلقا- حسنا كان أم سيئا- إنّما يكون على الأعمال ن فلا جزاء بدون عمل، و لا عمل بدون‏ جزاء، يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أنّ للإيمان مراتب متفاوتة أدناها مجرّد الدخول فيه؛ لأنّ للدين و الإيمان باللّه تعالى كرامة، و هو حسن على كلّ حال، بل الإنسان لا مناص له عن الدين، فإنّه أمر فطري، و هو لا محالة يرجع إليه في كثير من شؤونه الدنيويّة و الأخرويّة، و إن أنكره بلسانه، و أعلى تلك المراتب و أحسنها الّتي بها يجوز درجات الثواب، الإيمان الخالص، و هو التوحيد الكامل للّه تعالى و توجيه القلب إليه و التسليم و الإحسان في العمل، و هذا هو ملّة إبراهيم عليه السّلام الّتي أمرنا اللّه تعالى باتّباعها، و هي أيضا ملّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و تقدّم في قوله تعالى: بَلى‏ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [سورة البقرة، الآية: 112]، أنّ المراد منه جعل وجهه خالصا للّه تعالى لا يتوجّه لغيره أبدا، منقادا و مستسلما له عزّ و جلّ يأتمر بأوامره و سائر تشريعاته، خاضعا له خضوع عبوديّة و مقهوريّة، و هذا هو الإيمان الخالص من شوائب الشرك، و هو التوحيد الكامل الّذي به وصل الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء إلى المقامات العالية و حازوا شرف القرب لديه عزّ و جلّ، و فيه تظهر عبودية المؤمن، فيكون ترتّب قوله تعالى: وَ هُوَ مُحْسِنٌ على صدر الآية المباركة ترتّبا عليّا، فإنّ من أسلم وجهه للّه يستلزم أن يظهر عليه أمارات العبوديّة- على أقواله و أفعاله و حركاته و سكناته- و يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى، فيحسن في العمل بإتيان العبادات و ترك ما ينافي العبوديّة.
و إنّما خصّ عزّ و جلّ الوجه بالذكر دون سائر أعضاء الإنسان مع أنّ الإسلام للّه تعالى، لا بدّ أن يظهر على جميع جوارحه؛ لأنّ الوجه أهمّ مظهر للإنسان، و منه يعرف حالاته و ما يكمنه في قلبه و يكنّه في نفسه من القرح و السرور و الإقبال و الإدبار و الخشوع و الخضوع و غير ذلك.
قوله تعالى: وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً.
الحنيف: الميل عن الوثنيّة و الشرك، و الملّة الحنيفيّة هي الملّة المائلة عن الشرك و الوثنيّة و الزائغة عن الأديان الباطلة، و هي من صفات دين الإسلام، و قد وصف بها خليل اللّه تعالى لتبرّئه عن الشرك و الأوثان، و دعوته إلى عبادة الواحد الأحد.
و الآية الشريفة بيان لما سبق، أي: أنّ تسليم الوجه للّه تعالى و الإحسان في العمل إنّما هو في اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام و الإعراض عن سائر الأديان الفاسدة و الأهواء الزائفة، و من تبعها فقد دخل في جميع الأديان الإلهيّة، لا سيما دين خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها هي ملّته عليه السّلام أيضا.
و في الآية المباركة التأكيد على أنّ ملّة إبراهيم عليه السّلام هي صفوة الأديان؛ لأنّ فيها التوحيد الخالص و إحسان العمل، و قد تردّد في القرآن الكريم كثيرا ذكر الصلة بين دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و ملّة إبراهيم عليه السّلام؛ لأنّ إبراهيم عليه السّلام ما كان يدعو لا إلى التوحيد و نبذ الأنداد و الإحسان في العمل، و هذه هي دعوة أشرف الأنبياء و خاتمهم صلّى اللّه عليه و آله؛ و لأنّ العرب و مشركي قريش بالخصوص و أهل الكتاب من اليهود و النصارى كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه السّلام، فالآية الكريمة تأخذهم بما أقرّوا به فتقول: أن من كان على ملّة إبراهيم عليه السّلام فلا بد أن يدخل في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّهما تلتقيان في التوحيد و نبذ الأنداد و الإحسان في العمل، و هذه حقيقة الدين الّتي لا اختلاف فيها، و الّتي أمرنا اللّه تعالى باتّباعها في ما سبق من الآيات الكريمة الّتي فيها ردّ على الضالّين المتّبعين للشيطان المشغولين بالأماني الخادعة.
قوله تعالى: وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا.
ترغيب إلى اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام و الدخول في حقيقة الدين و بيان إلى أنّ من أسلم وجهه للّه و هو محسن يسلك مسلك إبراهيم، فيتّخذه اللّه تعالى خليلا، و إيماء إلى أنّ إبراهيم هو أوّل من أسلم وجهه للّه محسنا، و إيذان بأنّ إبراهيم في نهاية الحسن و منتهى الشرف و كمال العبوديّة، لتخصيص اسمه الشريف بالذكر. أي: أنّ اللّه تعالى اصطفاه و خصّه بكرامة الخلّة، و هي من المقامات العالية و المنازل الرفيعة، و لن ينالها إلّا الأوحدي الّذي ترك ما سواه عزّ و جلّ لوجهه الكريم، فأورد في قلبه محبّة لمعبوده و توجّها لخالقه، و لم يصل الخليل إلى هذا المقام إلّا بعد اجتياز مراحل و طي منازل كثيرة، و هي مرحلة الفتنة و الافتنان ثمّ الامتحان ثمّ التسليم، ثمّ العبوديّة، ثمّ النبوّة، ثمّ الرسالة، ثمّ الخلّة، ثمّ الإمامة، و قد اجتازها إبراهيم عليه السّلام كلّها بأمان، فخصّه اللّه تعالى بالخلّة و الإمامة، كما يظهر ذلك من الآيات الشريفة الّتي نزلت في حقّ إبراهيم عليه السّلام، و في الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «انّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما»، و لعلّ ذكره في صدر الآية المباركة و توصيفه بكونه حنيفا لأجل بيان استعداده لنيل مقام الخلّة. و أنّ ترك ما سوى اللّه تعالى و تسليم الأمر إليه عزّ و جلّ ممّا يوجب استعداد الفرد للوصول إلى هذه المنزلة.
ثمّ إنّ الخلّة الإلهيّة كالخلّة الّتي هي بين الناس تبتني على فرط الحبّ بين الحبيبين و تخلّلها في القلب و تمازجها مع النفس، إلّا أنّ الخلّة الإلهيّة تخالف الخلّة الدائرة بين الناس المبتنية على الأمور المادّية الّتي تكون الأواصر الدنيويّة فيها أشدّ من الأواصر المعنويّة الروحانيّة. و أمّا الخلّة الإلهيّة، فهي ليس فيها خلل، فقد أحبّه اللّه تعالى محبّة تامّة و اصطفاه عند ما أظهر صدقه و إخلاصه للّه تعالى و محبّته له محبّة كاملة ملأت جميع مشاعره، فلم يتوجّه إلّا إليه عزّ و جلّ و لم يتخلّلها و هن و لا ضعف و لا فترة و لا شائبة من شوائب المادّة، و بذلك صار إبراهيم عليه السّلام خليلا للّه تعالى و بها أصبح قدوة لكلّ خليل إلهي و إماما لجميع الأنبياء و المرسلين.
و مادّة (خلل) تدلّ على الحاجة و الفقر، و منه سمّي الخليل خليلا؛ لأنّ كلّ واحد من الخليلين محتاج إلى وصال الآخر و غير مستغن عنه، و إلى هذا المعنى يمكن إرجاع بقية المعاني الّتي ذكرت لهذه المادّة، فإنّ منها: الخلال (بكسر الخاء)، أي: المودّة الّتي تتخلّل النفس و تخالطها، بحيث تسلب منها الإرادة إلّا ما كانت في جهة إرادة الحبيب، كما قال الشاعر:
قد تخلّلت مسلك الروح مني و لذا سمّي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي و إذا ما سكتّ كنت الغليلا

و منها الخلل (بفتح الخاء)، بمعنى أنّ كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر، لشدّة الوصال بينهما.
و منها: الخلل (بالفتح)، و هو الطريق في الرمل؛ لأنّ الخليلين احتاج كلّ واحد الى الآخر فتوافقا من كلّ جهة.
و منها: الخلّة (بفتح الخاء) بمعنى الخصلة و الخلق؛ لأنّهما يتوافقان في الخصال و الأخلاق، فإنّ جميع هذه المعاني ترجع إلى ما ذكرناه من شدّة الارتباط بينهما و احتياج كلّ واحد منهما إلى الآخر، و هذا المعنى ينطبق على خليل اللّه عليه السّلام لوصل حبّه له جلّ شأنه إلى درجة لم يكن له إرادة إلّا ما أراده اللّه تعالى، فتخلّق بأخلاق اللّه تعالى، و أمّا بالنسبة إليه عزّ و جلّ فقد أحبّ إبراهيم عليه السّلام حبّا كاملا خالصا من كلّ نقص. و على أي حال فإنّ الخلّة و الحبّ أمران وجدانيان لم يكد يظهر إلّا للعارف المتألّه الّذي بذل نفسه و نفيسة للّه تعالى، و لم تكن إرادة له إلّا ما يريده عزّ و جلّ، كما عرف بذلك خليل اللّه تعالى، و للخليل منزلة عظيمة إلّا أنّها لا تصل الى منزلة الحبيب، كما تقدّم في الآيات السابقة المناسبة للمقام و سيأتي مزيد بيان في البحث العرفاني.
و الخليل: فعيل بمعنى المفعول، كالحبيب الّذي هو بمعنى المحبوب.
قوله تعالى: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ.
تعليل لما ذكره عزّ و جلّ في الآية الكريمة السابقة، أي: أنّ اللّه تعالى مالك لجميع ما في السموات و ما في الأرض، و أنّ جميع الموجودات له تعالى خلفا و أمرا و ملكا، فلا يخرج عن ملكه و ملكوته شي‏ء، فلا بدّ أن تكون عمل الصالحات له و هو يختار من عباده من يشاء و يصطفيه بمحض مشيئته، كما اختار إبراهيم عليه السّلام و جعله خليلا، و أنّ اختياره لم يكن لأجل حاجة و افتقار كما في الخلّة بين الناس، فإنّها قائمة على الفقر و الحاجة بين الطرفين، و اللّه تعالى منزّه عنهما.
و الآية الشريفة تدلّ على أنّ جميع ما سواه محتاج إليه عزّ و جلّ، و هو مستغن عنها، كما ثبت ذلك أيضا بالبراهين العقليّة.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطاً.
أي: أنّ الأشياء كلّها مسخّرة تحت إرادته و قهّاريته، و هو محيط بها إحاطة علم و قدرة و تدبير و قهر و غلبة، فهو محيط بأفعال عباده و سيجازيهم بها جزاء تامّا.
و الآية الكريمة دليل على أنّه وحده المستحقّ للعبادة، و إسلام الوجه إليه على كلّ حال، و هذا هو الدين، لا ما يذكره أهل التمنّي و الأهواء الباطلة، و في الآية المباركة التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده و وعيده.

اسم (ليس) في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مستتر فيها يعود على الوعد بالمعنى المصدري، أو الموعود المستفاد من سياق الآية الشريفة، فهو قسم من الاستخدام الّذي هو من الأساليب البديعيّة المعروفة و من المحسنات في الكلام.
و الباء في قوله تعالى: بِأَمانِيِّكُمْ قيل: إنّها زائدة، و الحقّ أنّها مثل الباء في قولهم: (زيد بالباب)، لم تكن زائدة.
و الأماني في الموضعين بتشديد الياء، و قرأ بعضهم بتخفيف الياء فيهما معا.
و قوله تعالى: وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالجزم عطفا على قوله تعالى: يُجْزَ بِهِ، و قرأ بعضهم بالرفع استئنافا.
و (من) الجارّة في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ تبعيضيّة، و هي الموافقة لكرمه وسعة رحمته عزّ و جلّ، و قيل: إنّها زائدة، و لكنّه ليس بشي‏ء لما عرفت غير مرّة أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم.
و قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ إشارة إلى من اتّصف بالعمل الصالح، و الجمع باعتبار معناها، و الإشارة بالبعيد لأجل علو مقامهم و بعد منزلتهم، و المعروف قراءة «يدخلون» مبنيا للمعلوم من دخل، و قرأ بعضهم مبنيا للمفعول من الإدخال.
و (دينا) في قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً منصوب على التمييز من (أحسن) منقول من المبتدأ، أي: و من دينه أحسن من دين من أسلم.
وَ هُوَ مُحْسِنٌ مبتدأ و خبر، و الجملة في موضع الحال، و حَنِيفاً حال من إبراهيم أو من فاعل اتَّبَعَ.
و جملة وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا قيل: إنّها حاليّة بتقدير «قد»، و قيل: إنّها عطف على حَنِيفاً، و قيل: إنّها عطف على مَنْ أَحْسَنُ، و الحقّ أنّها جملة بيانيّة مستقلّة متضمّنة لتعليل ما سبق.

تدلّ الآيات المباركة على أمور:
الأوّل:
يستفاد من ترتّب قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ على قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أنّ هذه الأماني من غرور الشيطان و أمانيه، الّتي تضرّ بحال الإنسان و تصدّه عن نيل الكمال و البلوغ إلى مقام القرب و تحصيل السعادة.
الثاني:
يدلّ قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ على أنّ الجزاء مترتّب على العمل كترتّب المعلول على العلّة التامّة بحسب سنّة اللّه تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة فاطر، الآية: 43]، و عمومه يشمل كلّ جزاء، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، و سواء كان الجزاء حكما شرعيّا أو لم يكن كذلك، و هو يدلّ أيضا على أنّ ما يصيب الإنسان من السوء في الدارين إنّما يكون من سوء فعله، و تدلّ عليه جملة من الروايات الآتية في البحث الروائي. و ذكرنا أنّ إطلاق السوء يشمل حتّى السيئات العرفية و مساوئ الأخلاق، فضلا عن المحرّمات الإلهيّة و المعاصي و المنكرات.
الثالث:
يدلّ قوله تعالى: يُجْزَ بِهِ أنّ الجزاء يترتّب على فعله، بلا فرق بين أن يكون متوجّها إلى نفسه أو إلى من يتعلّق به، فما يصيب الأطفال و الأعقاب إنّما يكون نتيجة فعل الآباء و الأجداد، و تدلّ عليه جملة من الروايات ذكرنا بعضها في المباحث السابقة، و في ذلك حكم كثيرة لعلّنا نتعرّض لها في مستقبل الكلام بعد فسحة الحال و رفع الشدائد الّتي توجّهت على المؤمنين من ظالم غاشم، نسأل اللّه تعالى الفرج بحوله و قوّته جلّ شأنه.
الرابع:
يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ على أنّ صرف العبد نفسه بكلّيتها للّه تعالى و تسليمها إليه، بحيث يعرض عن الأغيار حتّى صار مشاهدا للجمع في عين التفصيل- من أعلى المراتب الّتي يمكن أن يبلغها البشر، و بها يستعد أن يصل إلى مقام الخلّة، و لا يمكن الحصول عليه إلّا باتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام الّذي حاز على هذا الوسام الإلهي لاجتيازه كلّ تلك المراحل الّتي يأتي بيانها.

عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: «ليس ما تتمنّون أنتم و لا أماني أهل الكتاب أن لا تعذّبوا بأفعالكم».
أقول: الروايات في ذلك كثيرة من الفريقين، و المستفاد منها أنّ العذاب و الثواب لا يكونان إلّا على الكفر أو الإيمان و العمل الصالح كما مرّ، و ليس لأحد التحدّي في سلطانه تعالى، و أنّه ليس لأحد و لا لأمّة التقرّب عنده عزّ اسمه إلّا بالتقوى، فما قالته قريش: لا نبعث و لا نحاسب، و ما قالته اليهود و النصارى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى‏ [سورة البقرة، الآية: 111]، أو: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، كلّها مجرّد أوهام لا واقع لها، بل هو يعذّبكم و يثيبكم بأفعالكم و أعمالكم، و أنّ الإيمان ليس بالتحلّي و لا بالتمنّي، و إنّما الإيمان ما وقر في القلب و صدقه العمل كما تقدّم، و أنّ التمنيات من سبل الشيطان فلا بدّ من نبذها.
و في الدرّ المنثور عن أبي صالح قال: «جلس أناس من أهل التوراة و أهل الإنجيل و أهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، و قال هؤلاء: نحن أفضل، فقال اللّه: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، ثمّ خصّ اللّه أهل الإيمان فقال: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ».
أقول: قريب منه ما في أسباب النزول للواحدي، و الروايات بهذا المضمون كثيرة، و كلّها من باب التفسير للآية الكريمة.
و في أسباب النزول للواحدي عن مسروق: «احتجّ المسلمون و أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، نبيّنا قبل نبيّكم و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى باللّه منكم، و قال المسلمون: نحن أهدى منكم و أولى باللّه، نبيّنا خاتم الأنبياء و كتابنا يقضي على الكتب الّتي قبله، فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، ثمّ أفلج اللّه حجّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان بقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ، و بقوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ الآيتين في سورة النساء».
أقول: أفلج: أي غلّب اللّه حجّة المسلمين على غيرهم، و عن معن بن يزيد: «بايعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاصمت إليه فأفلجني»، أي: حكم لي و غلّبني على خصمي.
و كيف كان، فالروايات لا تدلّ على شي‏ء زائد غير ما يستفاد من الآية الكريمة، و هي مع اختلافها من باب التطبيق.
و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لما نزلت هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما أشدّها من آية، فقال لهم رسول اللّه: أما تبتلون في أموالكم و في أنفسكم‏ و ذراريكم؟ قالوا: بلى، قال: هذا ممّا يكتب اللّه لكم به الحسنات و يمحو به السيئات».
أقول: ابتلاء المؤمن في نفسه- بالآلام و الهموم و المحن- أو في أمواله الموجب للحطّ و التكفير ممّا لا إشكال فيه كما دلّت عليه الآية الكريمة، و إنّ ذلك مطابق لقاعدة أنّ الأجر على قدر المصاب- خصوصا لو كان المصاب في سبيل اللّه تعالى أو ما استلزم الانقطاع إليه عزّ اسمه- بلا فرق في الأجر بين المادّي أو المعنوي، كغفران الذنوب أو بلوغ مرتبة و نيل كرامة.
و أمّا الذراري، فإنّ محنهم و آلامهم و مصائبهم توجب الأجر للآباء، مع أنّهم لم يصيبوا منها بشي‏ء؛ لأنّ هموم الأولاد و الذراري توجب هموم الآباء، و لكلّ همّ أجر، فيردّ الأجر عليهم كما يردّ على نفس الأولاد و الذراري أيضا.
أو لأنّ الآباء صاروا سببا لإيمان الذراري و الأولاد أو كفرهم، فكلّ ما طرأ على الذراري من الأجر يصل إلى الأسباب أيضا، كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة، ففي العوالي عن الصادق عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام: إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، من وطئ فراش مسلم و طئ فراشه. كما تدين تدان».
أو لأنّ فعل الأولاد يرجع بالآخرة إلى الآباء و الأجداد، فيرد عليهم الأجر كما يرد على نفس الأولاد و الذاري، و يدلّ عليه إطلاق الآية الكريمة: يُجْزَ بِهِ، سواء كان الجزاء على الفاعل أو من يتعلّق به.
كما أنّ إطلاق السوء يشمل ما كان من المعاصي- كبيرة كانت أو صغيرة- أو من غيرها، حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق و الأفعال السيئة العرفيّة الاجتماعيّة.
و الروايات- في أنّ البلايا و المحن و الهموم و ما يرد على المؤمن من الظلم‏ مكفّرة للمعاصي و الذنوب، أو يبلغ بها منزلة و كرامة عند اللّه تعالى فوق حدّ التواتر، و موافقة للقاعدة العقليّة كما يأتي.
و في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما يصيب المؤمن من نصب، و لا همّ، و لا حزن، و لا غمّ حقّ الشوكة يشاكها إلّا كفّر اللّه تعالى من خطاياه».
أقول: لعلّ الوجه في ذلك أنّ تلك الحالات للمؤمن أقرب للانقطاع إليه جلّت عظمته، فيكافئه الربّ الرحيم إمّا بغفران الذنوب، أو ببلوغ منزلة.
و عن البيهقي في الأسماء و الصفات بسنده عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا سبقت للعبد منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه اللّه في جسده أو في ماله، أو في ولده، ثمّ صبّره حتّى يبلغه المنزلة الّتي سبقت له من اللّه».
أقول: يستفاد منه أنّ البلوغ إلى المنزلة لا بدّ و أن يكون بالسعي، سواء كان اختيارا أو غير اختياري، كالمحن و البلايا، بل لا يستحقّ منزلة منه تعالى إلّا بذلك، ففي الأثر: «مرّ موسى عليه السّلام على رجل في معبد له ثمّ مرّ به بعد ذلك و قد مزقت السباع لحمه، فرأس ملقى، و فخذ ملقى، فقال موسى: يا ربّ عبدك كان يطيعك فابتليته بهذا؟ فأوحى اللّه تعالى إليه: يا موسى إنّه سألني درجة لم يبلغها بعمله فابتليته بهذا لأبلغه بتلك الدرجة»، فتكون جميع هذه الروايات مطابقة للقاعدة من أن العبد لو لم يفتن في هذه الدنيا- أو في عالم البرزخ على ما تقدّم- و لم يبتل بالبلايا و المحن حتّى يتحقّق السعي، لم يبلغ تلك الدرجة الكاملة في الإيمان و لم يصل إلى تلك المقامات العالية، و هذه القاعدة في الأنبياء و الأولياء أشدّ من غيرهم؛ لأنّ معرفتهم أكثر من غيرهم، و قد سئل نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: أي الناس أشدّ بلاء؟ قال: النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس، فما يزال العبد بالبلاء حتّى يلقى اللّه و ما عليه من خطيئة».
و عن البيهقي عن عامر أخي الخضر قال: «إنّي لبأرض محارب إذا رايات و ألوية فقلت: ما هذا؟ قالوا: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجلست إليه و هو في ظلّ شجرة قد بسط له كساء و حوله أصحابه، فذكروا الأسقام فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ العبد المؤمن إذا أصابه سقم ثمّ عافاه اللّه، كان كفّارة لما مضى من ذنوبه و موعظة له فيما يستقبل من عمره، و إنّ المنافق إذا مرض و عوفي كان كالبعير عقله أهله ثمّ أطلقوه، لا يدري فيم عقلوه و لا فيم أطلقوه؟! فقال رجل: يا رسول اللّه ما الأسقام؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أو ما سقمت قط؟! قال: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله: فقم عنّا فلست منّا».
أقول: يستفاد من هذا الحديث أمور: الأوّل: أنّ التكفير يختصّ بالمؤمن، و أنّه امر وضعي.
الثاني: أنّ المؤمن لا بدّ و أن يصيب من البلايا و المحن، فإذا لم يصبه شي‏ء منهما و لو كان قليلا لم يكن إيمانه كاملا.
الثالث: أنّ الحطّة أو التطهير يكونان بعد مقام التسليم و الرضا له تعالى، فلو صدر منه شكوى إلى الناس تنافي ذلك المقام، يكون التكفير منوطا بالشفاعة و غيرها.
الرابع: أنّ الحطّة أو التكفير إنّما يكون بعد أداء حقوق الناس؛ للروايات الدالّة على ذلك كما مرّ.
و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الجنّة محظور عليها بالدآليل»، أي: الدواهي و المكاره.
أقول: لا فرق في ذلك بين أن يكون في هذه الدنيا أو في عالم البرزخ، و أنّها من أي الأنواع كانت كما مرّ.
و عن البيهقي في سننه عن طريق بشير بن عبد اللّه بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جدّه، قال: «عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا من الأنصار فأكبّ الأنصاري عليه فسأله فقال: يا نبي اللّه، ما غمضت منذ سبع ليال و لا أحد يحضرني، فقال‏ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أي أخي اصبر، أي أخي اصبر تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ساعات الأمراض (او البلايا) يذهبن ساعات الخطايا».
أقول: يستفاد منه أنّ التكفير أمر وضعي و إن كان مشروطا بشروط، كما تقدّم في المباحث السابقة.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قال: «هي الحنيفيّة العشرة الّتي جاء بها إبراهيم عليه السّلام الّتي لم تنسخ إلى يوم القيامة».
أقول: إنّ العشرة الحنيفيّة قد فسّرت في بعض الروايات: «إنّ الحنيفيّة هي الإسلام»، و إنّها مذكورة في الفقه، و يشمل غيرها من الأحكام بطريق أولى، و هي خمس في الرأس و خمس في البدن، فأمّا الّتي في الرأس، فأخذ الشارب، و إعفاء اللحي، و طم الشعر (أي جزه)، و السواك، و الخلال. و أمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و هذه الحنيفيّة الظاهرة. و أمّا أنّها لم تنسخ لكونها هي الفطرة غير القابلة للنسخ و تقدّم في قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة البقرة، الآية: ۱۳٥]، ما يتعلّق بالمقام.
و عن ابن بابويه في العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سمعت أبي يحدّث عن أبيه عليه السّلام قال: إنّما اتّخذ اللّه خليلا؛ لأنّه لم يرد أحدا و لم يسأل أحدا قط غير اللّه عزّ و جلّ».
أقول: و قريب منه ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و تقدّم أنّ الخلّة من الخلال، فإنّه ود تتخلل في النفس و تخالطها و لم يكن معه غيره، و إلّا خرج عن الخليليّة و الودّية.
و الروايات الواردة في سبب اتّخاذ إبراهيم خليلا كثيرة، و هي مختلفة كما سيأتي، و يمكن رفع الاختلاف بأنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما صار خليلا لتخلّقه بأخلاق اللّه تعالى و اتّصافه بسمو نعوته و الانقطاع إليه، و لم يتّصف بصفة منها دون الاخرى، فالروايات كلّها على اختلافها صحيحة من باب ذكر بعض الصفات، و لا يعقل أن ينقص من إبراهيم عليه السّلام الّذي هو من مظاهر رحمته و إنّه الوفي شيئا من المكارم و سمو الصفات، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً [سورة النحل، الآية: 120]، أي: قائما مقام الأمّة في ذروة الصفات الحسنة و أسماها.
و قد تجلّت هذه الخلّة و المحبّة و المقام المحمود لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فنال شرف الوصول إلى قرب الذات و تكرّم بوسام الفخر بالتفوّق و الشرف على جميع الأنبياء كما مرّ.
و في العيون بسنده عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام قلت له: لم اتّخذ اللّه عزّ و جلّ إبراهيم خليلا؟ قال: لكثرة سجوده على الأرض».
أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ السبب في اتّخاذه تعالى خليلا هو الانقطاع إليه عزّ اسمه بالعبادة، فإنّ السجود على الأرض من أجل العبادات و أسماها، و في بعض الروايات لكثرة صلاته على محمد و أهل بيته، فهي أيضا منها. و في حديث جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا إلّا لإطعام الطعام و الصلاة بالليل و الناس نيام»، فإنّ إطعام الطعام من مظاهر صفاته تعالى، أي: الجود.
و في الدرّ المنثور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام أنّه هبط على إبراهيم عليه السّلام و قال: «أيّها الخليل هل تدري بم استوجبت الخلّة؟ فقال: لا أدري يا جبرئيل، قال: لأنّك تعطي و لا تأخذ».
أقول: و في بعض الروايات: «لأنّك ترزأ و لا ترزأ»، أي: تعطي للناس و لا تأخذ منهم شيئا، و هذا من مظاهر الربوبيّة و منتهى الانقطاع منه عليه السّلام إليه تعالى.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «لما اتّخذ اللّه عزّ و جلّ إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلّة، فجاء ملك الموت في صورة شاب أبيض عليه ثوبان أبيضان يقطر رأسه ماء أو دهنا، فدخل إبراهيم عليه السّلام الدار فاستقبله خارجا من الدار، و كان إبراهيم رجلا غيورا و كان إذا خرج في حاجة أغلق بابه و أخذ مفتاحه معه ثمّ رجع ففتح، فإذا هو برجل قائم أحسن ما يكون الرجال فأخذ بيده و قال: يا عبد اللّه من أدخلك داري، فقال ربّها أدخلنيها، فقال: ربّها أحقّ بها مني فمن أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، ففزع إبراهيم عليه السّلام و قال: جئتني لتسلبني روحي، قال: لا، و لكن اتّخذ اللّه عبدا خليلا فجئت لبشارته، قال: فمن هو لعلي أخدمه حتّى أموت، قال: أنت، فدخل على سارة فقال: إنّ اللّه تعالى اتّخذني خليلا».
أقول: لعلّ السرّ في أنّ البشرى بالخلّة كانت بتوسّط ملك الموت؛ لأنّ الوصول بمقام الخلّة لا يكون إلّا بإماتة القوى الحيوانيّة موتا اختياريا، فكان صورة فعل إبراهيم عليه السّلام تجسّد له بصورة ملك الموت، و الرواية مروية عن طريق العامّة أيضا باختلاف يسير كما في الدرّ المنثور.
و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «انّ إبراهيم كان أبا أضياف، و كان إذا لم يكونوا عنده يخرج يطلبهم و أغلق بابه و أخذ المفاتيح يطلب الأضياف، و أنّه رجع إلى داره فإذا هو برجل أو شبه رجل في الدار، فقال: يا عبد اللّه بإذن من دخلت هذه الدار؟ فقال: دخلتها بإذن ربّها، يرد ذلك ثلاث مرات، فعرف إبراهيم عليه السّلام أنّه جبرئيل، فحمد ربّه ثمّ قال: ارسلني ربّك إلى عبد من عبيده يتّخذه خليلا، قال إبراهيم: فأعلمني من هو أخدمه حتّى أموت، قال: أنت، قال: و بم؟ قال: لأنّك لم تسأل أحدا شيئا قط، و لم تسأل شيئا قط فقلت لا».
أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و سابقتها من حيث أنّ المبشّر في هذه الرواية هو جبرئيل، و في الاولى ملك الموت؛ لما تقدّم أنّ المراد من ملك هو صورة فعل إبراهيم. كما لا منافاة بين ما في هذه الرواية في الدار، و في الرواية الأولى: «خارجا من الدار»، لما فيه من النكتة و هي الإشارة إلى فراغ إبراهيم عليه السّلام من تكميل ذاته بالموت الاختياري.
و يمكن الجمع بين الروايتين بحسب الصناعة الظاهريّة بتعدّد الملك، فملك الموت بشّره خارج الدار، و جبرئيل في داخل الدار.
و في تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا سافر أحدكم فليأت أهله ممّا تيسّر و لو بحجر، فإنّ إبراهيم عليه السّلام كان إذا ضاق أتى قومه، و انّه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة، فرجع كما ذهب فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا؛ إرادة أن يسكن به من روح سارة، فلما دخل منزله حطّ الخرج عن الحمار و افتتح الصلاة، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا، فاعتجنت منه و اختبزت ثمّ قالت لإبراهيم: انفتل من صلاتك فكل، فقال لها: أنى لك هذا؟! قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اشهد أنّك الخليل».
أقول: الروايات و إن اختلفت تعابيرها و أنّها وردت من الفريقين إلّا أنّ مضامينها من حيث المعجزة و خرق العادة متّحدة، و يستفاد منها أنّ المحبّة منه عليه السّلام له تعالى كانت خالصة- كما فسّر الخلّة بها- و أنّه تعالى نصره و لم يخذله فيكون ذلك من مظاهر النصرة.
و في بعض الروايات: «انّ الملائكة قال بعضهم لبعض: اتّخذ ربّنا من نطفة خليلا، و قد أعطاه ملكا عظيما جزيلا، فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة اعمدوا على أزهدكم و رئيسكم، فوقع الاتّفاق على جبرئيل و ميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه، و كان لإبراهيم أربعة آلاف راع و أربعة آلاف كلب، في عنق كلّ كلب طوق وزن من ذهب أحمر و أربعون ألف غنمة حلابة، و ما شاء اللّه من الخيل و الجمال، فوقف المكان في طرفي الجمع فقال أحدهما بلذاذة صوت: (سبوح قدوس)، فجاوبه الثاني: (ربّ الملائكة و الروح)، فقال عليه السّلام: عيداها و لكما ما لي و جسدي، فنادت ملائكة السموات: هذا هو الكرم، فسمعوا مناديا من العرش يقول: الخليل موافق لخليله».
أقول: صوت لذاذة، أي: ما تهيج بها النفس و تستلذّ، و يستفاد منها الانقطاع الكامل منه عليه السّلام إليه تعالى و الاستغناء عن ما سواه؛ و لذا وافق خلّته معه كما مرّ.
و في الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد العسكري عليه السّلام قال: «قال الصادق عليه السّلام: لقد حدّثني أبي الباقر عن جدّي علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد قال رجل من النصارى: يا محمد، أو لستم تقولون: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول: عيسى ابن اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهما لن يشتبها؛ لأنّ قولنا: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة، و الخلّة فإنّما معناها الفقر و الفاقة، فقد كان خليلا و الى ربّه فقيرا و إليه منقطعا و من غيره متعففا معرضا مستغنيا؛ و ذلك لما أريد قذفه في النار فرمى به في المنجنيق، فبعث اللّه إليه جبرئيل فقال له: أدرك عبدي، فجاءه فلقيه في الهواء، فقال له: كلفني ما بدا لك فقد بعثني اللّه لنصرتك، فقال: بل حسبي اللّه و نعم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره لا حاجة لي إلّا إليه، فسمّاه خليله، أي: فقيره و محتاجه و المنقطع إليه عمّن سواه، و إذا جعل معنى ذلك من الخلّة، فهو أنّه قد تخلّل معانيه و وقف على أسراره و لم يقف عليها غيره، كان معناه العالم به و بأموره، فلا يوجب ذلك تشبيه اللّه بخلقه، إلّا ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله، و إذا لم يعلمه أسراره لم يكن خليله، و أنّ من يلده الرجل و إن أهانه و أقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده؛ لأنّ معنى الولادة قائم».
أقول: معنى الرواية أنّ الأبنية تلازم الجنسيّة، و هي محال بالنسبة إليه تعالى بخلاف الخلّة، على ما ثبت في محلّه، و سيأتي في البحث العرفاني ما يتعلّق بالمقام.

العطايا الإلهيّة و الفيوضات الصادرة من المبدأ جلّ شأنه لعالم الإمكان ليست قابلة للتحديد؛ لأنّها مفاضة من المبدأ الّذي لا يمكن تحديده- لا ذاتا و لا صفة- و إنّما التحديد في المتعلّق، و هو الاستعداد أو القابلية، كما تقدّم ذلك في المباحث السابقة.
و من تلك الفيوضات المعارف بجميع أنواعها، و الهداية بتمام أقسامها- كالهداية من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، و من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، و من ظلمة الحسّ إلى نور المعنى، و من ظلمة الكون إلى نور المكوّن.
و الإنسان الّذي هو أشرف مخلوقات اللّه تعالى له شرفيّة النيل لهذه الفيوضات و العطايا و الهبات أكثر من غيره، و لو اتّصف بالإيمان فله أسماها و أجلّها و إن كان إيمانه منبثقا عن الفطرة الكائنة فيه، قال تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة، الآية: 213]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: ۹٦]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق، الآية: 2- 3]، و تقدّم مكرّرا أنّ التقوى لها مراتب، منها الإيمان باللّه العظيم، و أنّ الرزق أعمّ من المادّي و المعنوي الشامل للمعارف و الإشراقات و المكاشفات، الّتي هي أنوار التوجّه و أنوار المواجهة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [سورة الأنفال، الآية: 29]، و الفرقان الّذي هو تنوير القلب و الإشراق عليه من الغيب للتمييز بين الحقّ و الباطل، يتوقّف على القابلية و الاستعداد، و هو الإيمان باللّه تعالى الملازم للتقوى، و له مبرز خارجي و هو العمل الصالح، و قال تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [سورة النور، الآية: 21]، أي: و لو لا فضل اللّه عليكم لما نمت نفس بالخيرات و البركات، بل أنّها ترسّبت و بقيت في حال السكون و النزول إلى الهاوية.
بل أنّ شراء الحقّ سبحانه و تعالى من المؤمنين أموالهم و أنفسهم بأنّ لهم الجنّة، كان بالعاجل لا بالآجل، فإنّه عزّ اسمه جلّ أن يعامل العبد نقدا و يجازيه‏ نسيئة، و ليس ذلك من شأن الكريم فكيف بأكرم الأكرمين، فإنّ المولى الغني جلّت عظمته لو اشترى شيئا من أحد نجزه نقدا و زاد في إحسانه و رفده، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، فعوّض المؤمنين في هذه الدنيا جنّة المعارف بأقسامها و زادهم جنّة الزخارف و ادّخر لهم ما يليق بشأنهم و يمنحهم لهم في دار الآخرة.
و الجنّات الممنوحة في هذه الدنيا لمن تمّ عنده رسم العبوديّة و لو بأدنى مرتبتها و حسب لياقتها، في غاية البهجة و كمال اللذّة و منتهى السعادة و أسماها ما يلي:
منها: جنّة المعرفة، و هي من أعلى مراتب الجنان و أكملها، قال بعض العرفاء المتألّهين: «في الدنيا جنّة من دخلها لم يشتق إلى جنّة الآخرة و لا إلى شي‏ء، و لم يستوحش أبدا. قيل: و ما هي؟ قال: معرفة اللّه»، و لها مراتب و درجات تشرق بمقتضى اللياقة و الاستعداد، و بها تتمّ كلّ نقصان.
و كلّ قبيح إن نسبت لحسنه اتتك معاني الحسن فيه تسارع‏
يكمل نقصان القبيح جماله فما تم نقصان و لا ثم باشع‏

و منها جنّة المقامات الّتي نالها الأنبياء و الأولياء في هذه الدنيا، كمقام الحبيبيّة الّذي اختصّ به نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و هو فائق على جميع المقامات و الجنّات، و يحصل هذا المقام باصطفاء النفس و جعلها تحت اختيار المحبوب، بحيث لو لم يكن المحبوب لم يتحقّق الاصطفاء و لم يتشرّف بمقام الحبيبيّة، و يصل إلى منزلة: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‏ [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أبيت عند ربّي فيطعمني ربّي و يسقيني».
و ذكر بعضهم أنّ مقام الخلّة الّتي نالها إبراهيم عليه السّلام يساوي مقام الحبيبيّة من جميع الجوانب، و لكن التأمل التامّ و سياق الآيات المباركة يدلّ على أنّ مقام‏ الاصطفاء و الحبيبيّة فائق على مقام الخلّة بمراتب كثيرة؛ لأنّ مقام الحبيبيّة بعد مقام الاصطفاء و جعل النفس تحت اختيار المحبوب بالمرّة- كما مرّ- و مقام الخلّة لم يصل إلى هذه الدرجة ن فمقام الاصطفاء يشمل مقام الخلّة و زيادة ن بخلاف العكس فلخاتم الأنبياء- الّذي له مقام الحبيبيّة- منزلة عظيمة لم يصل لها أحد من الأنبياء.
و منها: مقام الخلّة الّتي اختصّت بإبراهيم عليه السّلام من بين سائر أنبياء اللّه تعالى، و هي منزلة عظمى لا ينالها أحد إلّا بعد طي مراحل كثيرة منها مرحلة العبوديّة، و التسليم، و الخلوص، و فناء النفس فيه عزّ و جلّ- و في بعض الروايات كان جنّة إبراهيم عليه السّلام في هذه الدنيا هي النار بعد السلام-. و قد اجتاز إبراهيم عليه السّلام هذه المراحل بأحسن وجه حتّى نال جنّة الخلّة أيضا في هذه الدنيا، و خصّه اللّه تعالى بها دون غيره من الأنبياء عليهم السّلام، فعرف بأنّه خليل الرحمن، قال تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة، الآية: 123].
و بعد الإحاطة بما ذكرناه لا نحتاج إلى صرف لفظ الخليل عن ظاهره، لما ذكروه من أنّه تعالى منزّه عن المعنى الحقيقي، فإنّ الخلّة الحقيقيّة شي‏ء لا يدركها إلّا العارف باللّه تعالى و من وصل إلى هذه المرتبة، و سيأتي في الموضع المناسب بيان أنّ الصفات الّتي تطلق على المخلوقين إذا لم يستلزم من إطلاقها على اللّه محال، تطلق عليه عزّ و جلّ لكن بالمرتبة الكاملة و المعنى الأتمّ، كالخلّة و الحبّ و نحوهما.
و كيف كان، فقد ظهر فساد ما ذكره بعض النصارى في المقام- كما تقدّم في البحث الروائي- بأنّه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا، فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر كذلك. فإنّ إطلاق الخلّة على إنسان لم يكن تشريفا بل كان حقيقيّا و لا يستلزم منه محال، بخلاف إطلاق الابن فإنّه يستلزم الجنسيّة و اللّه تعالى منزّه عنها؛ لما يترتّب عليها من الفساد فافهم.
و لمقام الخلّة آثار عظيمة، منها: استجابه الدعاء، فإنّه ليس معنى الخلّة الحقيقيّة إلّا استجابة دعاء الخليل من خليله، و قد كانت دعوات خليل الرحمن الّتي ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلّها مستجابة.
و منها: أنّ الخليل لا يرى لنفسه شيئا في مقابل مخلوقات اللّه تعالى و عباده، بل يجعل نفسه مظهرا يرى فيها سائر مخلوقات اللّه تعالى؛ و لذا ترى أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام لا يدعو في دعواته الكريمة إلّا لأهل الإيمان مطلقا، كما حكاها عزّ و جلّ في كتابه العزيز، قال تعالى: محكيا عنه: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [سورة إبراهيم، الآية: 41].
و منها: ما جعله اللّه أبا الأنبياء لما له عليه السّلام عند اللّه تعالى شأن عظيم و جاه رفيع.
و منها: أمر الناس باتّباع ملّته عليه السّلام، كما تقدّم في سورة البقرة.
و من الجنّات الممنوحة للمؤمنين في هذه الدنيا جنّة المؤانسة بأقسامها- مؤانسة ذكر، و مؤانسة قرب، و مؤانسة شهود- و تحصل هذه الجنّة بالتوجّه إليه بالإخلاص و الذكر بتمام أقسامها، كما مرّ في أحد مباحثنا العرفانيّة، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28]، و لها مراتب و منازل.
و منها: جنّة الخشوع، و لا تحصل هذه الجنّة إلّا من استكمل عنده نعمة الهيبة و المعرفة و فاز بجنّة اللقا، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً* وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا* وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 107- 109]، و لها مراتب، فمنها الخضوع و الخشية و غيرها.
و منها: لذّة المناجاة و التملّق عند بابه، فهي من الجنّات الّتي أظهرها اللّه تعالى في هذه الدنيا و لا يعرفها إلّا أهلها من الأولياء و الصالحين.
و منها: جنّة الرغبة و الرهبة- كما تقدّم البحث عنهما- إلى غير ذلك من الصفات الحسنة الّتي توجب رقي النفس و راحتها و تصل إلى مرتبة يستوحش‏ صاحبها من الدنيا و أهلها و يأنس باللّه تعالى و بأوليائه، كما حصل لهمام عند خطبة الإمام علي عليه السّلام؛ و لعلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [سورة النساء، الآية: 124] الأعم من الجنّة في الآخرة و الجنّة في الدنيا من الصفات الحسنة و الحالات الصالحة الّتي تختصّ بالأبرار و تكون مشابهة لحالات المؤمن في جنّة الآخرة، قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [سورة البقرة، الآية: ۲٥]، و للبحث مجال واسع، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا له بعد رفع هذه المصائب الّتي حلّت بهذه الأمّة بحقّ محمد و آله الطاهرين.

تكرّرت الآية الشريفة: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و هي تشير إلى برهان قويم، و هو: «انّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل»؛ لأنّ كلّ ما برز في الوجود إنّما هو شأن من شؤونه عزّ و جلّ، و هو الّذي يحيط بها الإحاطة التامّة- الوجوديّة و العلميّة و الربوبيّة و القهّاريّة- و يستكشف من وحدة الفعل وحدة الفاعل و الخالق، و هذا من أحد الأدلّة الّتي استدلّ بها أكابر الفلاسفة على ثبوت الخالق و وحدته، و قد اعتمد عليه بعض الفلاسفة المحدّثين. و لعلّ التأكيد عليها في القرآن الكريم لأنّ مضمونها يوافق الفطرة المستقيمة، و القرآن الكريم يرجع الإنسان إلى فطرته و يذكّره منسيّها، فإنّ وحدة الفعل من حيث النظام و الترتيب و الأثر و الغاية، لدليل على ثبوت الخالق و وحدته و علمه الأتمّ، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأسلوب القرآني في ثبوت الخالق و صفاته العليا، هو إرجاع الناس إلى الفطرة من جهة أمرهم بالتفكّر في خلقهم و خلق السموات و الأرض و ما يحيط بهم من الحوادث الكونيّة، و هذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة.
ثمّ إنّ هذا البرهان، أي: وحدة الفعل الدالّة على وحدة الفاعل و استجماعه للصفات العليا، لا ينافي القاعدة المعروفة في الفلسفة: «انّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد»، و «انّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد»، فانّهما لا تنافيان البرهان القويم؛ لأنّه أيضا يدلّ على وحدة الفعل و إن كان متعدّدا من حيث الأفراد؛ لأنّها تشترك في وحدة النظام و الأثر و الغاية، كما لا ينافي القاعدة الأخرى: «الواحد لا يصدر إلّا من واحد»، مضافا إلى أنّ القاعدتين المزبورتين إنّما هما في المفارقات و المجرّدات، و البرهان يجري في ما برز في الوجود من آثاره عزّ و جلّ.
و بعبارة أخرى: إذا لا حظنا المجموع من حيث اجتماعهما في وحدة جامعة، فالبرهان يؤيّد القاعدتين، و إن لا حظنا الأفراد من حيث كونها مظاهر عظمته و ربوبيّته، فهي تدلّ على وحدة الفاعل أيضا.
و القاعدة ذات مدلولين، مدلول مطابقي هو ما ذكرناه و ما ذكره الفلاسفة في مفادها، و مدلولها الالتزامي، و هو أنّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل، فاشتركت القاعدة مع البرهان، فيمكن أن تجعل الآيات الشريفة المتقدّمة دليلا على القاعدتين المزبورتين أيضا.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"