1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 116 الى 122

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (۱۱٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)


بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أمر مشاقّة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و أنّها يوجب صدّ الإنسان عن الكمال و صرف رحمته عزّ و جلّ عنه، فيكله إلى نفسه و يخلّيه بينه و بين ما اختاره.
يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة العلّة في ذلك؛ لأنّ مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله يعدّ شركا باللّه العظيم، و اللّه لا يغفر لمن يشرك به، فهذه الآيات الشريفة ترشد إلى عظم أمر مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تعدّها من المعاصي الكبيرة العظيمة الّتي تؤدّي صاحبها إلى الهلاك و البوار، و أنّ صاحبها لا يغفر له أبدا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في موضع آخر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى‏ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ* إِنَ‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة محمد، الآية: 32- ۳٤]، ثمّ تتعرّض إلى بعض أحوال المشركين، و يبين عزّ و جلّ فيها أنّ الشرك من وسائل كيد الشيطان و خدعه و أمانيه.
و تعدّ هذه الآيات الشريفة من أجلّ الآيات القرآنيّة الّتي تبيّن حقيقة الشيطان، ثمّ يبيّن عزّ و جلّ بعض أحوال المؤمنين الّذين عملوا الصالحات، و ما أعدّ اللّه لهم من عظيم الأجر تذكيرا لهم و ترغيبا للإيمان و العمل الصالح و تتميما للفائدة و تذكيرا للمشركين و تنويها لهم سوء أحوالهم، و لبيان الفرق بين الوعدين، وعد الشيطان الّذي هو الغرور، و وعد اللّه تعالى الّذي هو الحقّ الواقع الّذي لا يخلف.
و لا يخفى ارتباط هذه الآيات الشريفة بالآيات المباركة السابقة.

قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
تعليل لما سبق، أي: أنّ اللّه تعالى يولّي من شاقّ الرسول ما تولّى و يصليه جهنّم؛ لأنّ المشاقّة شرك باللّه العظيم، و أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به إذا مات على الشرك؛ لأنّه السبب في صدّه عن الكمال و تخليته عزّ و جلّ بينه و بين ما تولّاه، و من المعلوم أنّ الإنسان قرين الفقر و الحاجة، و الشيطان يصدّه عن سبيل الحقّ و مسير الاستكمال، إلّا من هداه عزّ و جلّ فاهتدى بهدايته و استكمل بما يريده تعالى، و أمّا إذا رفع جلّ شأنه توفيقه عن عبده بسبب الشرك فصدّه عن الهداية، فلا يوجد سبيل إلى الكمال، فيكون الشرك من أهمّ الموانع عنه، بل هو أصلها؛ و لذا كان سببا في عدم غفران اللّه تعالى له أبدا؛ لأنّه ضلال و خروج عن طاعة اللّه‏ و الانقياد لرسوله و ميل عن التوحيد الّذي هو أصل الدين و أساس كلّ كمال، و كفى بذلك صارفا عن الغفران و نيل كلّ توفيق و هداية.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
تعليل لعدم غفران اللّه تعالى للمشرك؛ لأنّ الشرك يوجب الضلال و البعد عن الصراط المستقيم، و فيه فساد للعقل و الفطرة و رجوع عن سبيل الرشد، فلا يجتمع معه خير أو خلق كريم، بل لا يمكنهما أن يضعا مفاسد الشرك و شروره، فلا يكون مؤهّلا لنيل رحمته و العروج إلى جواره عزّ و جلّ؛ و لذا وصفه تعالى بالضلال البعيد لعظم أثره و شدّته.
و تقدّم مثل هذه الآية الشريفة في هذه السورة أيضا؛ و لعلّ الوجه في تكرارها- و اللّه العالم- إمّا لأجل بيان أهميّة الشرك و عظم أمره. أو للإعلام بأنّه الأصل في صدّ الإنسان عن الكمال، و عائق كبير عن تهذيب النفس و تحليتها بالمكارم و الفضائل.
و إمّا لبيان الآثار المترتّبة على الشرك باللّه العظيم، فقد ذكر عزّ و جلّ في الآية المباركة السابقة أنّ الشرك سبب للافتراء و الكذب؛ لأنّه يوجب الإعراض عن داعي الفطرة الّذي يدعو إلى التوحيد، الّذي هو أساس كلّ دين، و هذا هو الافتراء و الكذب؛ لأنّه تغرير للنفس و إبطال لجميع المعارف الإلهيّة و إعراض عن كلّ خلق كريم و مانع عن التخلّق بالأخلاق الإلهيّة. و في هذه الآية الشريفة يبيّن عزّ و جلّ أثرا آخر من آثار الشرك، و هو الضلال البعيد، أي: إبعاد للإنسان عن كلّ هداية تكوينيّة و تشريعيّة. و صرف له عن الفطرة المستقيمة الداعية إلى الاستكمال بالكمالات الواقعيّة.
و إمّا للإشارة إلى نبذ الشرك بجميع أقسامه، الشرك في الذات و الفعل و العبادة، و قد تكفّلت الآية السابقة لنفي الشرك في الذات و العبادة، و في المقام يبيّن نفي الشرك في الذات و الفعل.
و بأحد هذه الوجوه يمكن رفع التكرار، مع أنّه لا تكرار لاختلاف الموردين، فراجع تفسير الآية الكريمة المتقدّمة أيضا.
قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً.
بيان للآية المباركة السابقة؛ و لذا ترك العطف بينهما. و مادة (أ ن ث) في جميع اشتقاقاتها تدلّ على الانفعال و التأثّر، يقال: أنث الحديد أنثا، أي: انفعل و تأثّر فلان. و أنّث المكان إذا تأثّر و أسرع في الإنبات و جاد، و سمّى الأنثى من الحيوان أنثى لأنّها المنفعلة، كما أنّ الأصنام و الأوثان و كلّ معبود دون اللّه تعالى سمّيت إناثا لكونها منفعلات قابلات، ليس في وسعهن أن يفعلن أمرا، و عاجزات لا تدفع عن أنفسهن شيئا، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج، الآية: 73- ۷٤]، و قال تعالى في حقّهن: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً [سورة الفرقان، الآية: 3]، و يستفاد من هذه الآيات المباركة انفعال كلّ مخلوق ما سوى اللّه تعالى، فإنّ الله هو القوي العزيز و ما سواه ضعيف عاجز لا يملك لنفسه شيئا؛ لأنّ الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أقسام: فاعل غير منفعل أصلا، و هو اللّه سبحانه و تعالى فقط. و منفعل غير فاعل، و هو الجمادات. و فاعل من وجه و منفعل من وجه آخر، كالملائكة و الإنس و الجنّ، فإنّهم بالإضافة إلى اللّه منفعلة لكونهم مخلوقين، و بالإضافة إلى مصنوعاتهم فاعلة.
و يؤيّد ما ذكرنا أنّ العرب كانت تصف كلّ ضعيف بالأنوثة، و لعلّ تسميتهم لمعبوداتهم بأسماء الأنثى لكونها جمادات منفعلة لا فعل لها، كما حكى سبحانه و تعالى عنها في القرآن الكريم، و هو جلّت عظمته يذكّرهم بانفعالها و ينبّههم على جهلهم و عدم قدرتها؛ ليظهر بطلان ألوهيتها.
و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثلاثين موضعا، قال تعالى حكاية عن امرأة عمران عليها السّلام: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى‏ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى‏ [سورة آل عمران، الآية: ۳٦]، و قال تعالى: أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى‏ [سورة النجم، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ [سورة النحل، الآية:٥۸]، و غيرها من الآيات الكريمة.
و يستفاد من الحصر و العموم في قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أولوية ما ذكرناه من غيره ممّا ذكره المفسّرون، فإنّه عزّ و جلّ يصف ما يعبدون من دونه بكونها إناثا، و إن كان ذكرا غير أنثى كعيسى المسيح عليه السّلام، أو بوذا، أو برهما، و غيرهم ممّن ادّعوا الألوهيّة فيهم، لكونهم ضعفاء عاجزين عن تحقيق أماني و مقاصد من يعبدونهم.
و ممّا ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره المفسّرون في تفسير هذه الآية الشريفة، فقيل بأنّ المراد بالإناث اللات و العزى و منات الثالثة و غيرها من الأصنام الّتي كانت للعرب، فإنّهم كانوا يسمّون كلّ صنم تسمية الأنثى، و يقولون: أنثى بني فلان، و كانوا يجعلون عليه الحلي و أنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، و قيل: المراد بها الملائكة. و قيل غير ذلك ممّا لا دليل عليه، مضافا إلى كونه تخصيصا للآية الشريفة بغير وجه.
و كيف كان، فإنّ في هذا التعبير شدّة الإهانة و التكبيت لمعبوداتهم و الإعلام بضعفها و نفي خيرها، و انحطاط منزلتها، كما يدلّ على غاية الحماقة و تناهي جهلهم، حيث يعبدون ما هو منفعل لا يقدر على شي‏ء و يدعون القوي العزيز الفعّال لما يريد، و يشمل أيضا كلّ معبود من دون اللّه تعالى و إن اختلفت المظاهر و الأشكال و الأفراد، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ مظاهر العبادة تتغيّر و تختلف، فلم يعد هناك تلك الأصنام الإناث الّتي كانت العرب يعبدونها، و قد حلّت محلّها عبادة الذات‏ و المذهب و الدولة و الجنس، و المجتمع، و العنصر، و الوطن، و القومية، و الحرية، و الإنسانيّة، و الحضارة، و نحوهما من عشرات الإناث الّتي تضاف إليها القداسة و النزاهة، فتعبد من دون اللّه تعالى و تطاع و تخالف فيها أحكام اللّه العظيم و شريعته المقدّسة و يتغيّر فيها خلق اللّه تعالى، كما نرى عليها في الجاهلية المعاصرة، فتتّحد الجاهليتان الأولى و الأخيرة في عبادة الشيطان الّتي لم تتغيّر و إن تغيّرت المظاهر و تطورت، و يدلّ على ذلك تعقيب هذه الآية الشريفة ببيان حقيقة الشيطان و بيان خطواته المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد اللّه تعالى؛ لأنّ جميع تلك المظاهر في مرّ العصور تحكي عن غواية الشيطان و إضلاله للعباد.
قوله تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً.
بيان للآية الشريفة السابقة، أي: أنّ طاعتهم للإناث ليست إلّا هي عبادة للشيطان المريد و طاعته.
و التعبير عن العبادة و الطاعة بالدعاء، لبيان أنّ عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة و ليست هي واقعيّة، كما في عبادة الواحد الأحد، و قد عبّر سبحانه و تعالى عن طاعة الشيطان بأنّها عبادة في قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: ٦۱].
و الشيطان: يطلق على كلّ فاسد خبيث من الجنّ و الإنس، و يسمّى كلّ خلق ذميم للإنسان شيطانا، و في الحديث: «الغضب شيطان، و الحسد شيطان»، و قد يطلق على إبليس (لعنة اللّه تعالى عليه) كما في المقام. و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه المادّة و أنّها من شطن، أي: البعد عن الخير، إن قلنا: إنّ نون الشيطان أصليّة، و إن جعلتها زائدة كان من شاط إذا هلك أو استشاط غضبا إذا احتد فيه و التهب.
و الأوّل أصحّ كما تقدّم.
و مادة (مرد) تدلّ على التجرّد و الملامسة، يقال: شجر مرد، أي: الّذي تناثر ورقه و تعرّى منه. و يقال: «رملة مرداء»، أي: لم تنبت شيئا فيها و تجرّدت عن الزرع، و منه قوله تعالى: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ [سورة النمل، الآية: ٤٤]، أي: أملس كما أنّ منه: غلام أمرد، إذا عرى الشعر عن ذقنه و عارضيه، و منه قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [سورة التوبة، الآية: 101]، أي: تجرّدوا للنفاق و اعتادوا عليه، و في الحديث: «انّ أهل الجنّة جرد مرد»، و معنى الحديث: أنّ أهل الجنّة في غاية الكمال و الجمال، فعلى بعض أماكن بدنهم الشعر كالساعدين و الساقين و المسربة (ما دقّ من شعر الصدر إلى السرة)؛ لأنّ ضدّ الأجرد الأشعر، و هو الّذي على جميع بدنه الشعر، كما أنّهم «مرد» أي: مجرّدون و معرّون عن الشوائب و القبائح، ظاهريّة كانت أو معنويّة، قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ* [سورة الحجر، الآية: ٤۷].
و المريد: فعيل من مرد، و سمّي الشيطان مريدا؛ مبالغة في التجرّد عن كلّ خير، فصار عاتيا خارجا عن الطاعة، أو مبالغة في التلبّس بالشرّ.
قوله تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ.
وصف آخر، و هو البعد عن رحمته عزّ و جلّ، و اللعن هو الإبعاد عن الرحمة مقترنا بسخط و غضب، و يحتمل أن تكون الجملة بمنزلة التعليل للوصف الأوّل، أي: أنّه عتى و خرج عن طاعة اللّه تعالى؛ لأنّه عزّ و جلّ طرده عن كلّ خير و أبعده عن رحمته، و يحتمل أن تكون مستأنفة على الدعاء؛ لأنّه فعل ما يستحق اللعن و الطرد، كما أنّ قولهم: «أبيت اللعن»، أي: ما فعلت ما تستحق اللعن به، فحينئذ لا موضع لها من الإعراب.
قوله تعالى: وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً.
الاتّخاذ: هو أخذ الشي‏ء على وجه الاختصاص. و النصيب: السهم و الحصّة من الشي‏ء، و هو مبهم لا يتبادر منه القلّة أو الكثرة، إلّا مع القرائن الحافّة. و في المقام يراد منها الكثرة، قال تعالى حكاية عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 82- 83]، و قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: ۱۰٦]، و قد ذمّ تعالى الكثرة في كثير من المواضع كما مدح القلّة، قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سورة سبأ، الآية: 13].
و المفروض: من الفرض، و هو القطع من الشي‏ء الصلب أو التأثير فيه، يقال: فرض الحديد و فرض الزند، و لا يقال: فرض القرطاس و إنّما يقال: قطع، و لعلّ التعبير به لأنّ متابعة الشيطان خلاف الفطرة و الاستقامة.
و كيف كان، فالمعنى: و لأجعلن من عبادك حظّا مقدّرا، اختصّ به مقطوعا عمّن سواه، و هم الّذين يتّبعون خطوات الشيطان الّذين اقتطعهم الشيطان عن غيرهم من عباد اللّه تعالى.
و يستفاد من ذلك أنّ لهم جذورا عميقة في التوحيد، فإنّ لهم فطرة مستقيمة و عقلا داعيين إلى التوحيد و الصراط المستقيم، و هما ركيزتان يرتكز عليهما الإنسان في صراعه مع الشهوات و داعي الشرّ، فلا بد أن يكون فعل الشيطان قويا و ذا خطوات متتابعة لإضعاف هاتين الركيزتين و طمسهما، كما حكى عزّ و جلّ في الآيات المباركة اللاحقة. و لعمري، إنّه لا يمكن لأحد مهما بلغ من العلم و الحكمة أن يصف الشيطان و خطواته و صراعه مع الإنسان بمثل ما أخبره عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة.
و هذا القول منه (لعنه اللّه) من مظاهر عتوّه و طغيانه على اللّه تعالى، و قد صدر منه عند اللعن عليه؛ عداوة و بغضا لبني آدم كما حكى عنه عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.
و هذه المحاورة بينه و بين اللّه جلّ شأنه محاورة حقيقيّة وقعت مشافهة من اللعين و حصلت حين خلق آدم عليه السّلام كما في سورة البقرة، و ليست هي مجرّد محاورة تكوينيّة تخبر عن حال هذا اللعين و طبعه. كما ذكره بعض المفسّرين، و قال: إنّه مثل‏ قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، أي: أنّ اللّه خلق الأرض كذلك كما خلق الشيطان هكذا، مخبرا عن طبعه و سجيّته بصيغة القسم، مصمما على إغواء البشر و إضلالهم.
و لا يخفى بعد ذلك، فإنّ الظاهر أنّ المحاورة كلاميّة و المخاطبة شفهيّة، حصلت بين اللّه تعالى و بين الشيطان، و تدلّ عليه روايات كثيرة. و أمّا في التكوينيّات و الحيوانات فإنّها إلهام و إبداع، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في ما تقدّم من هذا التفسير فراجع.
ثمّ أخبر عزّ و جلّ عن خطوات الشيطان المتتابعة في إضلال الإنسان و غوايته، و هي خطوات دقيقة متقنة و ليست اعتباطيّة.
قوله تعالى: وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ.
هذه هي المرحلة الأولى من المراحل المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد اللّه تعالى و يستعبدهم، و يتمّ بها فساد الإنسان و البشرية بإغواء الشيطان. و حقيقة هذه المرحلة هي إضلال عباده عزّ و جلّ و إبعادهم عن الطريق المستقيم الموصل إلى الحقّ و صرفهم عن العقائد الصحيحة.
و تحصل هذه المرحلة بأمور كثيرة، منها تعمية الأمر عليهم، و تلبيس الواقع، و إظهار الباطل بمظهر الحقّ، و طمسه بإشاعة الفساد و الشرّ و الشهوات، و تزيين الباطل بأبهى صورة حتّى تحصل الحيرة و الاضطراب في الإنسان. و قد حكي عزّ و جلّ عن هذه الأمور في كثير من المواضع في القرآن الكريم بصورة دقيقة شاملة و واضحة؛ لتستفيد منها البشرية على مرّ العصور؛ لأنّ هذه المرحلة من أدقّ المراحل الّتي يتّبعها الشيطان ليفسد فيها الإنسان، قلّما يسلم منها فرد، و كان الأنبياء يستعيذون باللّه منها و يطلبون الاستقامة منه تعالى.
قوله تعالى: وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ.
مرحلة ثانية تأتي بعد إبعاد عباد اللّه تعالى عن الحقّ، فيجي‏ء الإغراء بالأماني و التسويفات و الإيحاء لهم بأنّ هذا الطريق الجديد هو أنفع و أجمل و أروح و أحسن عاقبة من الطريق المستقيم طريق اللّه تعالى، ممّا يوجب صرفهم عن الاشتغال بما تقتضيه عبوديّتهم.
و للتمنّي الأثر الكبير في من ضعفت نفسه و ضاع الطريق لديه، و له مظاهر مختلفة- مثل حبّ الجاه و المال و التمنّي بطول البقاء- و الجامع لتلك المظاهر حبّ الدنيا، و هو السبيل الأهمّ من سبل الشيطان. و في الحديث: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»، و يتحقّق بالتسويف في العمل و التمنّي بالأهواء الباطلة، و تزيين الشهوات بما يميل إليه طبع كلّ فرد، فيصدّه عن الطاعة. و التمنّي بالاستعجال باللذّات الحاضرة، و التمنّي بأنّه ليس هناك حساب و لا ثواب و لا عقاب و لا جنّة و لا نار، و غير ذلك من موجبات تغرير الشيطان و سبل كيده و خدعه.
و هذه المرحلة توافق طبع الإنسان المركب من النجدين، و بها يقع الصراع المرير بينهما، فإذا ضعفت دواعي الفطرة و العقل في فرد تغلّب الجانب الآخر، فينسى الإنسان نفسه، فتقوى عنده دواعي اقتراف المعاصي.
قوله تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ.
إنّه يملك أمرهم و يتمكّن من استعبادهم بعد طي المرحلتين، و حينئذ تأتي المرحلة الثالثة بعد تلك المتقدمتين بنجاح، فتحقّق طاعة الشيطان و عبادته، و يستشرى الفساد و الضلال، و لا يبقى للإنسان مكانته الّتي أرادها اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ [سورة التين، الآية: ٥].
ثمّ إنّ اللّه جلّ شأنه يبيّن مظهرين من مظاهر طاعة الشيطان و عبادته، أحدهما خاصّ و الآخر عامّ.
قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ.
مادة (ب ت ك) تدلّ على القطع و الفصل و الشقّ، و يقاربها مادّة (البت) الّتي تأتي بمعنى الفصل و القطع أيضا، إلّا أنّ البتك تستعمل في الأعضاء و الشعر و الريش، يقال: بتكت الشعر، أي: تناولت بتكة (بالكسر) منه، أي: القطعة المتّخذة منه، قال الشاعر:
// طارت و في يدها من ريشها بتك// جمعها بتك- بالكسر و الفتح- و منها سيف باتك، أي: قاطع، و لم ترد هذه المادّة في القرآن إلّا في هذه الآية المباركة.
و المراد به قطع آذان من أصلها أو شقّها، و هو إشارة إلى ما كانت تفعله الجاهلية من شقّ أو قطع آذان الأنعام إذا ولدت خمسة أبطن و جاء الخامس ذكرا، و حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها.
و في ذكره بالخصوص لما يدلّ على سفاهة العقول و طيشها و سخافتها، و ممّا يدلّ على أنّ طاعة الشيطان و عبادته توجب طيش العقول و اضطرابها و خروجها عن استقامتها كما خلقها اللّه تعالى، و قد أخبر عزّ و جلّ- في عدّة مواضع من القرآن الكريم- أنّ لبعض المعاصي أثرا في اضطراب الإنسان و خروجه عن استقامته، كما بالنسبة إلى الربا، قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [سورة البقرة، الآية: ۲۷٥]، و تقدّم ما ينفع المقام فراجع.
قوله تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.
اللّامات الثلاث كلّها للقسم، ممّا تدلّ على تصميمه (لعنه اللّه تعالى) على إضلال عباد اللّه تعالى، و ينبئ ذلك عن طبعه الخبيث و سجيّته الشريرة.
و تغيير خلق اللّه تعالى يشمل التغيير الحسّي- صفة و صورة- كالخصاء و أنواع المثلة و التشويهات و التبديلات الّتي يأمر بها المطيعين له على أصناف خلقه‏ عزّ و جلّ- و التغيير المعنوي المتمثل بالخروج عن الفطرة السويّة و الإعراض عن الدين الحنيف و التعاليم الإلهيّة و تبديلها و تحريفها و تغييرها، و إتيان أنواع الرذائل و المنكرات، أو ترويج الباطل و إشاعة الفحشاء، و تحويل النفس عمّا يدعو إليه داعي العقل و الفطرة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [سورة الروم، الآية: 30]، فإنّ فطرة الناس هي أساس الكمالات و منبع الخيرات و أصل الفواضل و المكارم، و لها السلطة على جميع مشاعر الإنسان إذا لم يعتريها الضلال و الغواية و لم يتلبّس بما يفسد الفطرة من الرذائل و المنكرات و الجرائم.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً.
بعد بيان حال الشيطان من التمرّد و الطغيان و الفساد و الإفساد، و لبعده عن رحمته تعالى، عرّف الإنسان حاله، فمن يطعه و يتبع أوامره و يؤثره على طاعة اللّه، فقد خسر خسرانا مبينا و ظاهرا؛ لأنّه لا حقيقة له و لن يدعو إلّا إلى الحيرة و الضياع في الحال أو المآل.
و التعبير بالاتّخاذ لبيان أنّ ولاية الشيطان ليست إلّا زائفة باطلة، و لا ولاية له على أحد، و أنّ الولي هو اللّه تعالى وحده، و غيره باطل و إن اتّخذ وليّا. كما أنّ التقييد بقوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لبيان أنّه ليس هناك واسطة، فإمّا اتّباع للشيطان و طاعته المنافية لولاية اللّه جلّت عظمته و أوامره، و إمّا اتّباع له عزّ و جلّ و إعراض عن الشيطان.
و يستفاد من الآية المباركة التأكيد على أنّ اتّباع الشيطان ينافي طاعة اللّه تعالى. و إنّما خسر متابعو الشيطان خسرانا مبينا؛ لأنّه من استبدال رضا اللّه تعالى برضا الشيطان، و لا صفقة أخسر من تلك، فكانت خسرانا واضحا و ظاهرا لكلّ فرد إن تأمّل و تفكّر في ما صار إليه.
قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ.
بيان للآية الشريفة السابقة و تعليل لذيلها، فإنّ ما أضلّ به الشيطان عباد اللّه تعالى ليس إلّا مجرّد و عود زائفة، و أمانيّ باطلة حصلت من وعوده الّتي هي من وساوسه، فكانت مجرّد و هم و تخيّل، و هذه الوعود و الأماني هي من أقوى أسباب الضلال و أشدّ حبائل الاحتيال و أعظم كيده (لعنه اللّه) و وساوسه؛ و لذا اقتصر سبحانه و تعالى عليهما في هذه الآية الكريمة.
قوله تعالى: وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
الغرور: هو الباطل و إيقاع النفس في الهلاك و البوار، و عن عليّ عليه السّلام: «إذا استولى الفساد على أهل الزمان، فمن أحسن الظنّ بهم فقد غرّر نفسه»، أي: أوقعها في الهلاك و سمّي الشيطان غرورا؛ لأنّه يحمل الإنسان على محابّه، و وراء ذلك ما يسوءه.
و أمّا أنّ وعد الشيطان باطل؛ لأنّه لم تكن له حقيقة، و أمانيه ليس لها واقع، بل هي مجرّد و هم و تخييل. أليس هذا هو الخسران و إيقاع النفس في المهالك و صدّها عن المسير الاستكمالي الّذي خلق اللّه تعالى الإنسان لأجل ذلك؟ ألم يكن ذلك هو الغرور الّذي به وقعت الإنسانيّة في العذاب و الجهالة في الدنيا قبل الآخرة؟! أ ليست الآثار الّتي ترتّبت على الوعود الشيطانيّة و أمانيه مضلّة و مهلكة للإنسانيّة جمعاء؟! فهذا القلق و الاضطراب و التحيّر و الشكّ و الانحراف و الشذوذ، و الخروج عن الاستقامة، و إتيان الرذائل و ارتكاب الفحشاء و المنكر و غير ذلك من أباطيل الشيطان الّذي أوقع من أطاعه و عبده فيها، و اغترّ الإنسان بها فأوقع نفسه في الخسران و الهلاك، و أي خسران أعظم من تبديل السعادة الحقيقة و كمال الخلقة إلى الشقاء و الحرمان، فكان المبدأ مضلا و فاسدا، و الواسطة افتتانا و إيهاما و تخيّلا و كذبا و خديعة، و النهاية خسران و حرمان و شقاء، فهل يبقى لمن أطاع الشيطان و عبده و تبجّح بولايته و تحدّى به اللّه تعالى عذر؟ أفلا يكون ذلك كافيا في رجوع‏ الإنسان إلى نفسه و التفكّر في حقيقته و مصيره ردعا و عبرة له؟! و في الحديث عن عليّ عليه السّلام: «رحم اللّه عبدا تفكّر من أين و في أين والى أين».
قوله تعالى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.
بيان لسوء عاقبة من أطاع الشيطان و تولّاه من دون اللّه تعالى، أي: أولئك الّذين أضلّهم الشيطان و أغواهم مستقرّهم جميعا جهنّم مرغمون فيها، و لا يمكن الفرار منها لعدم وجود معدل و مهرب يفرّون إليه.
و المحيص: اسم مكان، أو مصدر ميمي من: حاص يحيص إذا عدل و ولي، يقال: «وقع في حيص و بيص» إذا وقع في أمر يعسر التخلّص منه.
و إنّما وصفهم عزّ و جلّ بذلك؛ لأنّه فسدت سريرتهم و خبثت بواطنهم باتّباعهم الشيطان، فهم يتهافتون يوم القيامة في جهنّم و ينجذبون إليها، يستفاد أنّه لا شفاعة تدركهم و تنجيهم من عذاب جهنّم.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
التفات من التكلّم إلى الغيبة؛ تعظيما للمطيعين و تنويها بجلالة مقامهم، ثمّ الرجوع إلى التكلّم مع الغير الّذي بني الكلام عليه في الآية الكريمة للإشارة إلى قرب حضورهم، و من عادته عزّ و جلّ أنّه إذا ذكر حال الكافرين يذكر أحوال المؤمنين، فيقرن بين الوعد و الوعيد؛ تتميما للفائدة و تذكيرا للطائفتين، و ترغيبا للكافرين إلى الإيمان و تخويفا للمؤمنين، و في المقام بيّن عزّ و جلّ حال المؤمنين و حسن حالهم و ما أوجب دخولهم الجنّة، و هو الإيمان باللّه تعالى و تركهم طاعة الشيطان و فعلهم الصالحات، فكان جزاؤهم دخول الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار لتزيد روعتها و بهائها و بهجتها فتتم بها سرورهم، فكان هنا إيمان باللّه العظيم، و فعل الصالحات، و جنّات و خلود فيها، و هناك طاعة الشيطان و وعود منه و تخيّل من مطيعيه و جهنّم و خلودا فيها، فكان تقابلا كاملا بين الطائفتين، و يزيد هنا خلود من اللّه تعالى و خطابا معهم: سَنُدْخِلُهُمْ تكريما للمؤمنين المطيعين، و إبعادا لهم عن كلّ ما ينغّص عيشهم، و فيه غاية القرب و عدم احتجابه عزّ و جلّ عنهم و هو وليّهم.
و أمّا هناك، فكان انجذاب بين النار و بين من تولّى الشيطان؛ ليذوقوا وبال أعمالهم الّتي أوجدت التناسب بينهم و بين النار، كما تقدّم.
و الجنّات الّتي وعدها اللّه تعالى للمؤمنين به تشمل جنّة الأفعال، و جنّة الصفات، و جنّة الذات؛ و الأوّل ما يمنحها اللّه تعالى لعامل الفعل الحسن و العمل الصالح، و الثانية هي الّتي تمنح للصفات الحميدة أو على الأفعال الناشئة منها.
و الثالثة هي مقام القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ، و هي أعلى مراتب الجنان، و تقدّم التفصيل في ذلك.
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً.
زيادة في سرورهم و بهجتهم و إبعادا لهم ممّا ينغّص عيشهم، و الخلود إنّما كان نتيجة إيمانهم و أعمالهم الصالحة الّتي استولت على مشاعرهم، فلو عمّروا طول الدهر لفعلوا الصالحات.
قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.
مقابلا لما ذكره عزّ و جلّ في وعد الشيطان الّذي لم يكن إلّا غرورا، فهنا وعد حقّ و صدق، و هناك وعد الغرور، فما أشدّ الاختلاف بينهما؟!! و إنّما وضع اسم الجلالة موضع المضمر؛ مبالغة و تعظيما للمقام؛ و تنويها بشرف الوعد. و حَقًّا منصوب مؤكّدا، أي: وعدهم وعدا حقّا، و قيل: إنّه منصوب على أنّه حال من سَنُدْخِلُهُمْ.
قوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا.
فإنّ ما أخبره عزّ و جلّ عن حال الشيطان و إضلاله و سوء حال من تولّاه و أطاعه، و وعده للمؤمنين كلّه صدق و عين الحقيقة و الواقع، و لا يتمكّن غيره‏ عزّ و جلّ أن يخبر كذلك، فكان قوله تعالى صدقا و صوابا، فعلى هذا تكون الجملة بيانيّة عمّا أخبره عزّ و جلّ عن وعده تعالى للمؤمنين و وعيده للكافرين، و ليست مجرّد تأكيد. و فيها الدلالة على كذب مواعيد الشيطان الّتي أغرّت من أطاعه.
و قِيلًا: مصدر قال يقول، و مثله القال، و عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالى عليه) أنّهما اسمان لا مصدران، و نصبه في المقام على التمييز.

يستفاد من الآيات المباركة أمور:
الأوّل:
يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أنّ الجزاء على الأعمال- سواء أ كان وعدا أم وعيدا- مترتّب على سلامة الأرواح و سعادتها أو شقائها و هلاكها، و هما ينشئان ممّا عليه الإنسان في دار الدنيا من سلامة الفطرة و صحّة العقيدة و صالح الأعمال، أو الانحراف عن الفطرة و فساد العقيدة و اكتساب الرذائل و التدنّس بها، فتكون درجات الجنّة و دركات النار على طبق المراتب، و إنّ أعلاها التوحيد الكامل، و أمّا أخسّ الدركات فهي الشرك باللّه تعالى، و لكلّ منهما صفات تناسبها. و على هذا يكون عدم غفران اللّه تعالى الشرك أمرا طبيعيّا موافقا للقاعدة الّتي تقتضي التناسب بين الجزاء و الفعل. فإنّه تعالى لو ادخل المشرك الجنّة للتمتع بنعيمها كما يتمتّع المؤمن الموحّد، فهذا نقض لسنّة اللّه الّتي لا تقبل التّغيير و التبديل، الّتي قضت أن ينال كلّ واحد جزاء عمله.
الثاني:
يدلّ قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً على أنّ ما يعبد من دون اللّه تعالى، ضعيف عاجز لا يقدر على تحقيق مقاصد من يعبدونها، و يؤكّد ذلك سياق الآية الشريفة الّذي وصف اللّه تعالى نفسه بعدم الغفران للمشركين و غفرانه لغيرهم، فهو القادر على كلّ شي‏ء.
و تدلّ أيضا على أنّ ما يعبد من دون اللّه تعالى يصيبه كلّ ما يصيب الإناث من سائر المخلوقين من الآفات و الأمراض، و اللّه هو القوي العزيز الّذي يمتنع عليه جميع ذلك و يستحيل أن يقع محلا للحوادث، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة. و أنّ كلّ معبود من دون اللّه تعالى مهما بلغ من العظمة و القوّة و القدسية لدى من يعبدونه، فإنّه ضعيف يحتاج إلى من يعينه و يساعده من كلّ مخلوق.
الثالث:
يدلّ قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً على أنّ عبادتهم لتلك الإناث إنّما هي عبادة صوريّة ظاهريّة، لا توافق ما عليه فطرتهم الداعية إلى عبادة الواحد الأحد، فتكون عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة.
الرابع:
يدلّ تقريره عزّ و جلّ لما حكاه عن الشيطان الرجيم في قوله: وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً على أنّ مطيعي الشيطان لا يخرجون بذلك عن كونهم عباد اللّه و لا ينسلخون عن هذا الشأن، و ربما يكون هذا الأمر مقتضيا لخروجهم عن طاعة الشيطان و رجوعهم إلى معبودهم الحقيقي الّذي هو خالقهم، و فيه كمال العناية بعباده، و أنّهم يقعون مورد لطفهم إن هم رجعوا عن غيهم و ضلالهم و هيّئوا أنفسهم لنيل رحمته جلّت عظمته.
الخامس:
يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً على أنّ عبادة غير اللّه تعالى و طاعته توجب الطغيان و التمرّد على الحقّ و البعد عن الواقع، فيهون ارتكاب كلّ رذيلة و إتيان كلّ فحشاء و منكر، فلا تبقى إرادة للخير و لا طمع في الفضيلة، كما لا تبقى للفطرة سلامتها، و لكن تتفاوت درجات الطاعة للشيطان، و لعلّ هذا هو أحد المعاني في قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ.
السادس:
يدلّ قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ على أنّ التصرّف في الكائنات و السلطنة عليها إنّما تكون من شؤون بارئها و خالقها، و ليس لغيره عزّ و جلّ ذلك، فلا تشمل كلّ تصرّف و تغيير، فضلا عمّا ورد من الشارع المقدّس الإذن فيه كالختان و تقليم الأظافر، و الخضاب، و قطع العضو الزائد أو الفاسد في الإنسان و نحو ذلك.
السابع:
يستفاد من قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ أنّ كلّ ما سواه عزّ و جلّ ممّا يعبده الإنسان أو يطيعه لا حقيقة له، و إنّما هو و هم و سراب، و مآله إنّما يكون الخسران و الدمار و الهلاك، و همّه خسران الإنسان حقيقته في الدنيا و الآخرة، كما هو معلوم.
الثامن:
يستفاد من قوله تعالى: وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أنّ الأعمال الفاسدة و الملكات الرذيلة و العقائد الباطلة تؤثّر في الإنسان أثرا بليغا، حتّى يصل الى قلب الحقيقة فتوجب التشابه بينه و بين ما يناسبه حينئذ، فكانت النار الّتي هي جزاء من تولّى الشيطان هي الأثر المناسب لأفعاله، فتحصل التجاذب بينهم و بين النار، فلا مفرّ لهم منها و لا مكان آخر يأويهم.
التاسع:
إنّما جمع سبحانه و تعالى الطاعة و الإيمان في الآيات المباركة: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ؛ لبيان أنّ مجرّد الإيمان و العقيدة بلا عمل و طاعة لا يؤثّر في دخول الجنّة، بل لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح.
نعم، لكلّ منهما أثر وضعي خاصّ، و لكن الجزاء يتوقّف على الإيمان و العمل معا، كما مرّ.

في الدرّ المنثور عن أبي مجاز قال: «لما نزلت هذه الآية: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة الزمر، الآية: ٥۳]، قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل قال: و الشرك باللّه؟ فسكت مرّتين أو ثلاثا، فنزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فأثبتت هذه في الزمر و أثبتت هذه في النساء».
أقول: تقدّم أنّ للشرك مراتب كثيرة، و أنّ عدم الغفران يختصّ بالمرتبة الأخيرة منه، و هي ما إذا مات على الشرك و لم يتب، فلا تنافي بين الآيتين الشريفتين، كما تقدّم في البحث الروائي في الآية المباركة ٤۸ من سورة النساء، و التفكيك في الثبت إنّما كان من فعله صلّى اللّه عليه و آله.
و في تفسير العياشي عن قتيبة الأعشى قال: «سألت الصادق عليه السّلام عن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ*؟ قال: دخل في الاستثناء كلّ شي‏ء»، و في رواية أخرى عنه عليه السّلام أيضا: «دخل الكبائر في الاستثناء».
أقول: يستفاد من مضامين الآيات الشريفة و السنن المعصوميّة أنّ المناط في الغفران- أو نيل الشفاعة في يوم القيامة- هو الموت مع الإيمان باللّه تعالى، فإذا انسلخ الإيمان و حلّ محلّه الشرك، فالغفران عنه بعيد و لا تشمله الشفاعة أيضا، و يدلّ على ما ذكرنا عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا إلّا حلّت له المغفرة، إن شاء غفر له، و إن شاء عذّبه»، و تقدّم أنّ للشرك مراتب متفاوتة جدا.
و في البخاري و مسلم و النسائي و الترمذي عن أبي ذر قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ما من عبد قال: لا إله إلّا اللّه، ثمّ مات على ذلك إلّا دخل الجنّة، قلت: و إن زنى و إن سرق؟! قال صلّى اللّه عليه و آله: و إن زنى و إن سرق، قلت: و إن زنى و إن سرق؟! قال صلّى اللّه عليه و آله: و إن زنى و إن سرق، ثلاثا ثمّ قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر».
أقول: تقدّم أنّ المراد من قول: «لا إله إلّا اللّه» مع الشرائط و الموت مع العقيدة به، لا مجرّد التلفّظ به، و لعلّ المراد من ذيل الحديث أنّ الغفران لا يكون تحت سلطة العباد، بل هو مختصّ به تعالى، و لا بدّ من تقييده بعدم وجود مظالم العباد عليه، و إلّا يتوقّف الغفران على أدائها أو إسقاطها، كما مرّ في الروايات السابقة.
و عن البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «قال اللّه عزّ و جلّ: من علم أنّي ذو قدرة على مغفرة الذنوب، غفرت له و لا أبالي ما لم يشرك بي شيئا».
أقول: إنّ مغفرته تعالى لذنوب عباده من مظاهر صفاته، فلا يكون له حدّا محدودا.
نعم، لو تعلّق بذنوب شخص يثبت له التحديد من ناحية المتعلّق. و أمّا عدم غفرانه تعالى للمشركين؛ لعدم لياقتهم و عدم أهليّتهم لشمول الرحمة لهم، كما عرفت في التفسير.
و في تفسير العياشي بسنده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال: «أمر اللّه بما أمر به».
أقول: لأنّ أوامر اللّه تعالى هي دينه، و الدين هو الفطرة المستقيمة؛ و لذلك عبّر عنه في بعض الروايات بدين اللّه.
و عن الطبرسي في قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ قال: ليقطعوا الآذان من أصلها، و هو المروي عن الصادق عليه السّلام.
أقول: تقدّم ذلك أيضا من بعض المفسّرين، و أنّ المراد به قطع آذان البحائر و السوائب و الأنعام و يحرّمونها بذلك على أنفسهم و يجعلونها للأصنام، كما مرّ في التفسير.
و في تفسير العياشي بسنده عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان إبليس أوّل من ناح و أول من تغنّى و أوّل من قال حدى، قال: لما أكل آدم من الشجرة تغنّى، فلما هبط حدى به، فلما استقرّ على الأرض ناح فاذكره ما في الجنّة، فقال آدم عليه السّلام:
ربّ هذا الّذي جعلت بيني و بينه العداوة، لم أقو عليه و أنا في الجنّة، و إن لم تغني عليه لم أقو عليه، فقال اللّه تعالى: السيئة بالسيئة و الحسنة بعشر أمثالها- إلى سبعمائة- قال: ربّ زدني، قال: لا يولد لك ولد إلّا جعلت معه ملكين يحفظانه، قال: ربّ زدني، قال: التوبة معروضة في الجسد ما دام فيه الروح، قال: ربّ زدني، قال: اغفر الذنوب و لا أبالي، قال: حسبي، فقال إبليس: ربّ هذا الّذي كرّمته عليّ و فضّلته و إن لم تفضّل عليّ لم أقو عليه، قال: لا يولد له ولد إلّا و لك ولدان، قال: ربّ زدني، قال: تجري منه مجرى الدم في العروق، قال: رب زدني، قال: تتّخذ أنت و ذرّيتك في صدورهم مساكن، قال: ربّ زدني، قال: تعدهم و تمنّيهم، و ما يعدهم الشيطان إلّا غرورا».
أقول: أمّا ما منحه اللّه تعالى لآدم؛ فلأنّه الكمال، و أنّ آدم في طريق الاستكمال. و أمّا ما منحه اللّه تعالى للشيطان فلأن به يتحقّق الاختيار في الخلق.
أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر قال: «خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك، فأشرف رسول اللّه فلما كان منها على ليلة فلم يستيقظ حتّى كانت الشمس قيد رمح، قال: ألم أقل لك يا بلال أكلئنا الليلة؟ فقال: يا رسول اللّه ذهب بي النوم فذهب بي الّذي ذهب بك، فانتقل رسول اللّه من ذلك المنزل غير بعيد ثمّ صلّى، ثمّ هدر بقية يومه و ليلته فأصبح بتبوك فحمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: أما بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، و أوثق العرى كلمة التقوى، و خير الملل ملّة إبراهيم، و خير السنن سنّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و أشرف الحديث ذكر اللّه، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور عوازمها، و شرّ الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف الموت قتل الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير العلم ما نفع، و خير الهدى ما اتّبع، و شرّ العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، و شرّ المعذرة حين يحضر الموت، و شرّ الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الصلاة إلّا دبرا، و منهم من لا يذكر اللّه إلّا هجرا، و أعظم الخطايا اللسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة اللّه عزّ و جلّ، و خير ما وقر في القلوب اليقين و الارتياب من الكفر، و النياحة من عمل الجاهليّة، و الغلول من جثاء جهنّم، و الكنزكي من النار، و الشعر من مزامير إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبالة الشيطان، و الشباب شعبة من الجنون، و شرّ المكاسب كسب الربا، و شرّ المآكل مال‏ اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقي من شقي في بطن أمّه، و إنّما يصير أحدكم الى موضع أربع أذرع، و الآمر بآخره، و ملاك العمل خواتمه، و شرّ الروايا روايا الكذب، و كلّ ما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية اللّه، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من يتأوّل على اللّه يكذّبه، و من يغفر يغفر له، و من يغضب يغضب اللّه عنه، و من يكظم الغيظ يأجره اللّه به، و من يصبر على الرزية يعوّضه اللّه، و من يتبع السمعة يسمع اللّه به، و من يصبر يضعف اللّه له، و من يعص اللّه يعذبه اللّه. اللهم اغفر لي و لأمّتي- قالها ثلاثا- استغفر اللّه لي و لكم».
أقول: أمّا بالنسبة إلى صلاة الفجر و إكلائه على بلال، فإنّه لا ينافي العصمة؛ لأنّ ذلك لمصلحة يراها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالتشريع العملي و غيره. و أمّا بالنسبة بخطبته صلّى اللّه عليه و آله فإنّها من جوامع الكلم الّتي خصّ اللّه به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّها تنبع عن لسان الوحي، و إنّها جامعة لخير الدنيا و الآخرة، و بها تحصل السعادة و شرف العبوديّة، و تحتاج هذه الخطبة الشريفة إلى تفصيل يخرج عن موضوع الكتاب.

المستفاد من الآيات المباركة- و منها هذه الآية الشريفة- أنّ عبادة غير اللّه تعالى ضلال و خسران و توجب الهلاك و الدمار في الدنيا و الآخرة، و الأدلّة العقليّة تثبت ذلك أيضا، و أنّ الفطرة المستقيمة تدلّ على أنّ العبادة لا تليق بما سواه جلّ شأنه؛ لأنّ العبادة هي منتهى التذلّل، و لا يستحقّها إلّا من له غاية الأفضال.
و العبادة تارة: تسخيريّة، أي: تكوينيّة، و هي عامّة تلازم الخلق و عالم الإمكان، قال تعالى: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [سورة النحل، الآية: ٤۹]، و قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [سورة النحل، الآية: ٤۸]، و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 18]، و لا يترتّب على هذا القسم سوى الكمال الذاتي النفسي.
و أخرى: اختياريّة، أي: لا جبر في البين، قال تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً [سورة الإنسان، الآية: 3]، و لا بدّ في هذا القسم من التقرير الشرعي، و يترتّب عليها الكمالات المعنويّة- كالتقرّب إليه تعالى و الوصول إلى أعلى المقامات- و الآثار الوضعيّة.
و منشأ العبادة الشعور بالافتقار بأي مرتبة كان الشعور، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة، فهو الدافع للعبودية له جلّ شأنه؛ و لذلك لا بدّ في المعبود من الصفات المتفرّد بها، و يكون هو في منتهى الكمال، و ذلك مختصّ باللّه جلّت عظمته، و غيره لا يستحق العبادة لافتقاره إليه جلّ شأنه، و أنّ الفاقد للشي‏ء لا يعطي الشي‏ء أبدا؛ و لذلك يكون اتّباعه غرورا و لا تكون عبادة حقيقيّة، بل العبادة تختصّ به تعالى؛ لافتقار الكلّ إليه و استغنائه عن الكلّ، و أنّ الممكنات في جميع جهاتها محتاجة إليه تعالى، و أنّ ما سواه في‏ء و ظلال.
من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال‏

و لذلك يكون الشرك في المعبود محال عقلا، كما أنّ الضدّ فيه تعالى كذلك، و في بعض الدعوات: «يا من لا ضدّ له»؛ لأنّ ما سواه تعالى خلقه و يرجع إليه، فلا يتصوّر الضدّية في ذلك، لما ثبت في محلّه أنّه يشترط في الضدّين التساوي في الذات و في الصفات، و بعد فرض التفرّد في الذات و الصفات تستحيل الضدّية؛ لأنّه ليس كمثله شي‏ء، فاتّباع غيره تعالى مجرّد غرور و لا تكون عبادة حقيقة، كما مرّ.
و إنّ العبادة لا تليق إلّا للغني بالذات، بحيث لولاه لم يكن هذا الوجود، و لو لا أسراره لتلاشت الكائنات، و لولا نعوته و صفاته لاضمحلت البدائع ممّا سواه، و لم تكن لعالم الشهادة عين و لا أثر.
و يمكن أن يقال: إنّ هذه العقيدة لا تختصّ بالمسلمين فقط، بل تعمّ جميع الأديان السماويّة غير المنحرفة لما عرفت أنّها فطري، و لعلّ المراد من الآية المباركة: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [سورة الشورى، الآية: 13] ذلك. هذا كلّه بالنسبة إلى ذاته.
و أمّا كيفيّة العبادة و نهجها، فلا بدّ و أن تكون بوحي منه تعالى بواسطة الأنبياء و المرسلين و تبلّغها الأولياء و الصالحون، فإنّهم سفراؤه تعالى لأجل بيان كيفيّة العبادة بتنوير الفطرة و استقامتها و تكبيت الأهواء الفاسدة و الشهوات المضلّة، فالأنبياء ليسوا هم إلّا وسائل للتقرّب إليه جلّ شأنه و من مظاهر أسمائه، و الدالّين إليه تعالى، بهم عرفنا اللّه تعالى، و ما اخترناه من نهج الهدى، و هم المعاندون للشيطان، و لو لاهم لاختلف النظم و اختلّت كيفيّة العبادة و انطمست الفطرة و لم يتحقّق الكمال المنشود.
و لذلك يحكم العقل و الفطرة باحترامهم و توقيرهم باتباع سننهم و منهجهم، و لهم امتيازات خاصّة من اللّه تعالى في حياتهم و بعد ارتحالهم إلى اللّه تعالى، حتّى موضع قبورهم لأنّها حوت أجساما كانت مورد عنايته عزّ و جلّ و تضمّنت نفوسا قدسيّة كانت مرتبطة بجلاله، و أبدانا تقرّبت إلى وادي عزّه و قدسه، و سرت حتّى وصلت إلى قاب قوسين أو أدنى و جعل له النار بردا و سلاما، و أبصارا رفعت عنها الحجب حتّى رأت المشهود في الشاهد، و الشاهد في المشهود، و أسماعا خرقت الستائر و الموانع حتّى سمعت: «إنّي أنا اللّه» و «ادن من صاد فتوضأ»، و وجوها رأت نور الحبيب و جماله و كبريائه، فخرّت ساجدة مذعنة.
بل أنّ الأرض الّتي تضمّنت تلك الأبدان الطاهرة، و المفاخر البشريّة، و مظاهر التكبير و التهليل لها كرامة و منزلة عند اللّه تعالى، فلا بدّ أن تحترم كما تحترم أرض المسجد، فإنّ ما ورد من الروايات في شأن تلك المحال القدسيّة المتضمّنة لأجسامهم الشريفة، ممّا لا ينكره العقل أصلا بل يقرّره.
و أمّا زيارات تلك المواطن و الأمكنة الّتي حوت تلك الأبدان الطاهرة، فإنّها عبادة نتقرّب بزيارة أحبّ خلقه إليه، و تلك لو تأمّلنا في الزيارات الواردة في حقّهم كلّها كانت مشحونة بذكر اللّه تعالى و التذكّر بكلماته و معارفه و التبرء من الشيطان و اتباعه، و ليست لزيارتهم موضوعيّة مقابل عبادة اللّه عزّ و جلّ- نستجير باللّه تعالى- بل أنّها طريق يرشدنا إليه جلّ شأنه، و أنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون. و قد ثبت في محلّه أنّ الأرواح مطلقا لا تنقطع ارتباطها عن هذا العالم، بل لها نحو علاقة خاصة (برزخية) بموضع البدن، حتّى ورد في بعض الروايات أنّ أرواحهم تتطلّع و تعلم من زارهم و أنّهم يدعون له، و بالنسبة إلى الأولياء و المقرّبين تكون العلاقة و الارتباط أشدّ و أكثر خصوصية لزوارهم، إذا كان الزائر من أهل الإيمان و من الكمّل، فيتحقّق نحو ارتباط بين الروحين إن حصلت الأهليّة؛ و لذا أنّ أهل العرفان و المتوجّهين يرون ما لا يرون غيرهم.
نعم، من كان بعيدا عن حريم ذاته الأقدس، تكون علاقته و ارتباط روحه بعد الحياة ضعيفا؛ لأنّه مشغول بنفسه في عالم البرزخ، فكلّ ما كانت الإضافة إلى اللّه تعالى أقرب و التفاني أشدّ كانت الآثار الوضعيّة أكثر حتّى بعد الممات، و كلّ ما كانت الإضافة أبعد و أضعف كانت الآثار الوضعيّة أقلّ حتّى كادت تنعدم؛ لأنّه قد يصل إلى مرحلة الجماد، قال تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ، و قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً.
و ما تقدّم يجري في الأولياء و عباد اللّه الصالحين الأبرار الّذين لهم عند اللّه مقام و شأن، فيشمله العموم في قوله تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [سورة الحج، الآية: 32].

ذكرنا في التفسير أنّ الخلق في قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أعمّ من الخلق الصوري (أي الطبيعي)، أو الفطري الّذي هو الدين، فالآية المباركة تدلّ على حرمة تغيير ما خلقه اللّه تعالى ممّا نصّ الشارع على حرمته كالتمثيل بالناس، و الخصاء في الإنسان، و حلق اللحية في الرجل، و غيرها ممّا هو محرّم شرعا.
و هل تشمل الآية المباركة ما لم يرد فيه من الشارع نصّ على تحريمه؟ كتغيير بعض الحيوانات الدائر في هذه الأعصار من الكبر إلى الصغر، كما في الفيل و الفرس، و إجراء بعض العمليات التجميليّة في الإنسان إن لم يكن فيها دفع ضرر أو حفظ صحّة، و غير ذلك من الأمور المستحدثة في هذه الأعصار و جهان؟.
مقتضى العمومات و الإطلاقات غير القابلة للتقييد هو الحرمة، فتشمل كلّ تغيير للحيوان و تبديله إلى حيوان آخر مثلا.
و مقتضى قوله تعالى: خَلْقَ اللَّهِ أنّ المناط في الحرمة هو المعارضة مع خلق اللّه سبحانه و تعالى بإيجاد خلق جديد، فتقتصر الحرمة على ما كان كذلك، أي: ما يعارض فيه خلق اللّه عزّ و جلّ، فلا تشمل ما لم يكن كذلك في الإنسان كان أو في الحيوان أو في النبات.
هذا كلّه إن لم يحصل إيذاء أو إسراف، و إلّا فالحكم واضح.

كما أنّ للتقرّب إلى اللّه تعالى و الوصول إلى ساحة كبريائه مراتب كثيرة- شدّة و ضعفا كمية و كيفيّة- كذلك للبعد بالنزول عن ساحة قدسه و القرب للشيطان، و ذكرنا أنّ لكلّ من الهداية و الغواية أسبابا و عللا، و إن كانت الفطرة المستقيمة تقتضي الهداية إلّا أنّ سبل الشيطان تعيقها و تحرفها عن التوجّه إلى خالقها، المعبّر عنه بشرف العبوديّة.
و هذه الأسباب تؤثّر كثيرا في الإنسان على نحو يبعده عن الصراط المستقيم، و لا تؤثّر فيه الحجج و البراهين و ذلك باختياره، فيصل إلى مرتبة أسفل السافلين بالمراحل المذكورة في الآيات المباركة.
و قد لا يكون كذلك، و إنّما يكون للقلوب إقبال و إدبار، و تملّ كما تملّ الأبدان، و هذا حسب درجات الإيمان، كما هو المشهود في المؤمنين، و قد لا تؤثّر فيه أصلا كما في المعصومين من الأنبياء و الأولياء و كمّل الإيمان من العرفاء، و عن سيد العارفين و إمام الموحّدين عليّ عليه السّلام مخاطبا الدنيا: «غرّي غيري» عند ما تمثّلت عنده، و غيره من الروايات الواردة عنه عليه السّلام.
و أسباب الغواية و الضلالة الّتي هي من الشيطان محدودة، بخلاف سبل الهداية الى اللّه العظيم، فإنّها من مظاهر صفاته العليا، و هي غير محدودة فلا يكون التقابل بينهما واقعيّا. مع أنّ الفطرة الخالصة الّتي خلقها اللّه تعالى تقتضي الهداية أيضا، كما أنّه جلّ شأنه يحبّ خلقه و لا يرضى لهم العذاب، قال تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ [سورة النساء، الآية: ۱٤۷]، و أنّه غني ذاتا و صفات، و أنّ الخير و أسبابه منه تعالى و إليه عزّ و جلّ، فلا بدّ و أن تكون غير محدودة لأنّها من مظاهر صفاته.
و قد ذكر سبحانه و تعالى في الآية الشريفة أهمّ أسباب الغواية من الوعد و الأمنيّة، و أنّ الأثر المترتّب على تلك الأسباب ليس إلّا الخسران، سواء كان خسران الجنّة و نعيمها، أم خسران المعارف الإلهيّة و الحظوظ السعيدة، أم خسران شرف العبوديّة، أم خسران الآلاء و النعم، أو خسران اللقاء الّذي هو من أعظم الخسائر، كما عن علي عليه السّلام: «هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر على فراقك»، و عن بعض العرفاء: «أعظم الخسائر من فاته اللقاء»، فقد خاب من أحبّ‏ شيئا دونك و يرضيه بدلا منك، و قد خسر من أوقفته ببابك ثمّ طلب باب غيرك و التجأ الى غير جنابك و تحوّل منك إلى غيرك»، و دعاء أبي حمزة الثمالي مشحون بهذه المعارف، و لا يتوجّه إلى هذا القسم من الخسران إلّا من رفع عنه الحجاب برؤية الملكوت الأعلى و منح له قبول و سام العبوديّة.
فالكلّ يطلب نعمى حيث ضلّ و ما يحظى بنعمى سوى فرد بأفراد

و جميع هذه الخسائر ترجع إلى الاختيار لما ثبت في محلّه من أنّه لا جبر و لا تفويض في البين، فالعبد باختياره يسلك كلا من الطريقين النور أو الظلمة، و يصل الى مراتبها، كما أنّ كلا منهما لم يكن ذاتي الإنسان، و هما قابلان للزوال إلى آخر لحظات العمر، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يبقى بينه و بينها إلّا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها، و أنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلّا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار»، و الأوّل كثير بفضله و رحمته، و الثاني منوط برحمته، و المراد من سبق الكتاب التذكّر و التأمّل، فيرجع إلى الاختيار، و للبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"