1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 11 الى 14

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (۱۱) وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى‏ بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (۱۲) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (۱۳) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (۱٤)


الآيات الشريفة تتضمن احكاما الهية ترشد الناس الى الكمال و تسوقهم الى السعادة في الدارين، و هي احكام اجتماعية روعي فيها حفظ اموال الناس و توزيعها وفق نظام متين على ما بينه عز و جل دفعا للتشاجر و التخاصم. و حفظا لحقوق الإفراد و مراتبهم.
و قد ذكر سبحانه و تعالى عمدة احكام المواريث و الفرائض في هذه الآيات المباركة مرتبة على قاعدة الاقربية في الرحم التي هي أهم القواعد في الإرث و جرى عليها العمل في الفقه الاسلامي و هي من أجل و احسن نظام روعي فيه جميع الخصوصيات و أبطل بها عز و جل جميع‏ الاحكام الوضعية التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة و منها المجتمع الجاهلي و ما وضعته القوانين المدنية و قد جعل عز و جل من يتبع تلك الاحكام السماوية مطيعا للّه و للرسول و قد وعد تعالى له الجزاء العظيم و السعادة العظمى في الدارين و أوعد تعالى على من خالف تلك الاحكام و تعدى حدودها و عصى اللّه و رسوله النار و العذاب المهين.

قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
الوصية: العهد و الأمر، و منه الوصية المعروفة و هي ما يتعهد به الى الغير للعمل به و اليه يرجع ما ذكره الراغب في المفردات: انها التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ.
و المراد بها في المقام الفرض و التشريع و انما عدل إلى هذه اللفظة لأنها ابلغ في الاهتمام بما اوصى به و الاعتناء به و طلب حصوله بسرعة كما عدل من الأبناء إلى لفظ الأولاد لأنه يشمل من تولد من الرجل بواسطة أو بدونها و ان كان الأبناء أيضا كذلك إلا ان في التعبير ب «أَوْلادِكُمْ» نحو استيناس اليه و فيه تعميم يشمل الذكور و الإناث كبارا أو صغارا. و ذكر بعضهم ان الولد حقيقة في أولاد الصلب و مجاز في غيرهم و لكنه فاسد كما هو واضح.
و انما ذكر الأولاد ابتداء لأنهم اقرب رحما إلى الميت من غيرهم.
و المعنى: ان اللّه تعالى فرض عليكم احكاما في ارث أولادكم، و الآية فيها إجمال تبينه الآيات الشريفة التالية.
قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
تفصيل بعد إجمال و بيان لاهم ما وصى به عز و جل و هي تتضمن قاعدة كلية من قواعد الإرث و لذا قدمها عز و جل على سائر أحكامه و استدل بها الفقهاء في كتبهم الفقهية في أكثر من مورد.
و الآية الشريفة بايجازها البليغ تتضمن تفضيل الذكر على الأنثى في الإرث إذا اجتمعا وجهة التفضيل، و الإشارة إلى تقرر نصيب الأنثى في الواقع و بيان سهم الأنثيين إذا انفردتا و لا يظهر ذلك المضمون لو كانت العبارة غير ما ذكره جلّ شأنه فسبحان من ظهرت آياته في محكم كتابه.
و أسلوب الخطاب ينبئ عن ابطال ما كانت عليه الجاهلية و بعض المجتمعات الاخرى من منع توريث النساء كما عرفت سابقا، و الإسلام بدأ أولا بابطال العصبيات و التقاليد و شرّك النساء مع الرجال في التركة كما تقدم ثم بين ان ارث الأنثى محفوظ و معروف و انه الأصل في تشريع ارث الذكر وعد كل واحد منه باثنتين من النساء إذا اجتمع الصنفان من الذكور و الإناث، فالإسلام يعطي نصيب الضعف للرجل، فيكون نصيب المرأة نصف الرجل في المال الموروث ثم فصل سهام الإناث بعد ذلك و لم يذكر سبحانه سهام الرجال مستقلا إلا مع سهام النساء، و ذلك لبيان اهمية الموضوع و قطعا لكل عصبية و إبطالا لكل عادة و تقليد و رفعا للإبهام و الإجمال.
و اما العلة في تفضيل حظ الذكر من المال الموروث على الأنثى مع كون هذا المال لم يبذل فيه جهد و مشقة من اي منهما فلوجوه عديدة، منها ما سيذكره عز و جل في قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» النساء- 32 فان الرجل كلف بالإنفاق، و المرأة لم تكلف به فالتفضيل حق في مقابل هذا التكليف. و هناك وجوه اخرى يأتي بيانها.
و اللام في الذكر و الأنثيين للجنس. اي: جنس الذكر يعادل جنس الأنثيين إذا اجتمع الصنفان، و انما قدم الذكر على الأنثى لبيان زيادة حظ الذكر لا نقص حظ الأنثى فان الإشارة إلى جهة فضل الفاضل احسن في التعليل من الإشارة إلى جهة نقص المفضول كما ذكره بعض العلماء و هو حسن.
قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ.
تخصيص لسهام النساء المنفردات لأهمية الموضوع و رفعا لكل إجمال و إبهام كما عرفت. و تأنيث الضمير الذي يرجع إلى الأولاد «كُنَّ» باعتبار الخبر.
أي إذا كن الوارثات نساء ليس معهن في طبقتهن ذكر واحد أو اي: متعدد فلهن ثلثا ما تركه المورث المعروف من سياق الكلام.
و قوله تعالى: «فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» صفة نساء، أو خبر ثان. و المراد به الفوقية في العدد أي ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان و الباقي يرد على من اجتمع معهن مع تساوي الدرجة أو يرد عليهن إذا لم يكن معهن احد من نفس الدرجة.
و انما ذكر الثلثين لبيان انهما الميزان في الرد على غيرهن فيبقي مجال لسهم الوالدين أو أحدهما و الزوج أو الزوجة إذا كانوا مع البنات.
قوله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
الضمير يرجع إلى المولودة المفهومة من الكلام، و اللام في النصف‏ عوض عن المضاف اليه اي نصف ما ترك. و النصف مثلث النون و قرئ بعضهم بالرفع لزوما قياسا على بقية الأعشار كالثلث و الربع و الخمس فان كلها مضمومة الأوائل و هي لغة اهل الحجاز. و النصف احد شقي الشي‏ء و انما ذكر النصف لبيان انه الميزان في الرد على من يجتمع معها كالابوين أو أحدهما أو الزوج أو الزوجة فيعرف سهام كل واحد منهم.
و قد ذكر سبحانه سهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم فوق اثنتين من البنات و هو الثلثان و لم يذكر سهم البنتين و سيأتي في البحث الدلالي تفصيل الكلام.
قوله تعالى: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
الضمير في (لأبويه) يرجع إلى الميت المعلوم من السياق و السدس خبر، و المراد بالأبوين هما الأب و الام تغليبا للفظ الأب فان العرب يجري المختلفين مجرى المتفقين فيغلب أحدهما على الآخر كالقمرين و الحسنين و الملوين.
و انما عطف حكم الأبوين على حكم الأولاد لبيان اشتراكهما مع الأولاد في الطبقة.
و المعنى: و لكل واحد من ابوي الميت السدس مما تركه الميت فهما في هذه الصورة في الفريضة سواء لا يتفاضلان كما يتفاضل الذكور و الآنات إذا اجتمعا.
و هذا الحكم مختص بالأب و الام و لا يتعدى إلى الجد و الجدة لعدم اطلاق الأب و الام على الجد و الجدة حقيقة و ان كان يشملهما لقرائن‏ خارجية كما في قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» الأعراف- 27 مضافا إلى ان تثنية الأبوين شاهد آخر على ان المراد هما القريبان لان الجد و الجدة في الطبقة الاولى يكونون اربعة لا إثنين كما هو معلوم، و يتضاعف العدد كلما علت الطبقة و يدل على الحكم المزبور اجماع الامامية ايضا. هذا إذا كان مع الأبوين ولد للميت ذكرا كان أو أنثى، منفردا أو متعددا للصلب أو غيره لان الولد جنس يشمل الجميع. نعم ان كان الولد بنتا واحدة فلها النصف و لكل واحد من الأبوين السدس، فما زاد يرد على الجميع أخماسا ان لم يكن حاجب و الا فارباعا كما هو معروف في فقه الامامية.
و لا يعطى للعصبة شي‏ء خلافا للجمهور و هي مسألة التعصيب المعروفة في الفقه.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ.
بيان لصورة انحصار الوارث في الأبوين اي و ان لم يكن للميت ولد مطلقا كما عرفت آنفا و انحصر الوارث في الأبوين معا لا أحدهما فان الوارث ان كان الأب فقط فالمال كله له، و ان كانت الام فلها الثلث تسمية و الباقي ردا، فإذا اجتمع الأبوان معا و انحصر الوارث فيهما فللام الثلث مما تركه المورث و الباقي للأب و انما لم يذكره لكونه معلوما و لأنه لم يكن صاحب فرض غيرها و الكلام في اصحاب الفروض.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
بيان لصورة الحجب اي: و ان كان للميت اخوة، فلام الميت السدس توفيرا على الأب، فيعطى الباقي له قرابة و يشترط في حجب الاخوة من الثلث إلى السدس امور ذكرها الفقهاء في الفقه من يشاء فليراجع كتابنا (مهذب الاحكام).
و ذكر الاخوة بعد قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ» فيه الدلالة على ان الاخوة في الطبقة الثانية بعد الطبقة الاولى التي فيها الأبناء و الآباء.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ.
قاعدة اخرى من قواعد الإرث و هي: «ان الإرث انما يكون من اصل المال الذي تركه الميت إذا لم يوص بوصية أو لم يكن عليه دين فان كانت وصية أو دين فانه يجب اداؤهما أولا ثم التوريث مما بقي».
و الوصية- كما تقدمت- هي التعهد إلى الغير بعمل معين، و هو المراد بها في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ» البقرة- 180 و انما وصف الوصية بأنها يوصى بها لبيان أهمية الوصية، و الدلالة على التأكد من ثبوتها و التحقق من نسبتها إلى الميت و لم يقيد الدين بما قيد به الوصية للدلالة على انه لا يعتبر في إخراج الدين الوصية به و لا حصوله عليه باختياره.
و انما قدم الوصية على الدين مع انها مؤخرة عنه في الترتيب لأنها اكثر وقوعا و للاهتمام بها و تنزيلها منزلة اصل الدين و الا فان الدين مقدم في الوفاء على الوصية فيخرج الدين أولا من تركة الميت ثم تخرج الوصية ثم الإرث و قد دل على هذا الترتيب السنة الشريفة و الإجماع المحقق، مع ان القصد في الآية الشريفة هو بيان تقديمها على الميراث من دون قصد بيان ترتيبهما في أنفسهما مضافا إلى انه يستفاد التأخير من كلمة «بَعْدِ» فإنها تدل على ان الميراث بعد إخراج الوصية و هي‏ تلو الدين فوافقت الآية الكريمة ما ورد في السنة الشريفة و الإجماع.
و الدين يشمل كل ما هو واجب مالي لازم الوفاء سواء كان دينا خالقيا- كالزكاة و الخمس و الحج- أو خلقيا كالقرض و غيره.
قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.
بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية و خطاب عام يبين خطأ الأوهام و التقاليد التي كانت متبعة عند الأمم في عصر نزول القرآن الكريم و دفعا لما قد يقال في هذا الموضوع المهم الذي هو في معرض التشاجر و التنازع و الجواب عن السبب في اختلاف السهام ببيان ان الإنسان مهما بلغ في الذكاء و الفطنة لا يعلم من هو الأقرب اليه نفعا في الدين و الدنيا و الآخرة فانه يقع تحت تأثير العواطف و النزعات النفسية و التقاليد و العادات الاجتماعية فكم من شخص يحرص الإنسان توريثه و توفير سهمه و لكن لو انكشف الأمر له لمنعه عن ذلك، و الإسلام ينظر في ذلك نظرة واقعية و يسنّ قانونا الهيا لا يقبل التغيير و هو بعيد عن الأوهام الباطلة و العواطف الانسانية و النزعات الشخصية. و يقسم السهام على افراد الورثة حسب ما ينظره من المصلحة العامة و ما يقتضيه تكوين الإنسان و فطرته كسائر الاحكام الاسلامية التي تبتني على الفطرة و المصلحة العامة. و يدل عليه تقديم الآباء على الأبناء في الآية الشريفة و هما يشيران الى الأصول و الفروع في باب التوارث، فتشمل الأب و الام و الجد و الجدة و الأبناء الذكور و الإناث، و الاخوة و الأخوات و يستفاد من تقديم الآباء على الأبناء ان الآباء اقرب نفعا من الأبناء.
و المراد من النفع: الأعم من النفع الدنيوي المادي أو النفع‏ الاخروي المعنوي، ففي الحديث المعروف «إذا مات الرجل انقطع عمله الا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» و الآية الكريمة تؤكد مضمون ما ورد في الآيات السابقة.
قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ.
فريضة منصوب على انه مصدر مؤكد لنفسه اي: فرض عليكم فريضة، و قيل منصوب على انه حال من المواريث الموصى بها اى أوصى بتلك السهام حال كونها مفروضة.
و الآية المباركة تؤكد على ان تلك السهام مقدرة و معينة من اللّه تعالى وفق حكمة متعالية لا تقبل التغيير و التبديل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
اي: ان اللّه تعالى المحيط بعلمه بجميع مصالحكم، و لحكمته المتعالية البالغة التي يضع الأشياء بها في مواضعها فانه شرع لكم تلك الاحكام و الوصايا وفق الحكمة التامة و المصالح العامة.
قوله تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ.
بعد ما ذكر سبحانه و تعالى الموجب الأول للارث و هو النسب و القرابة و بين ما يتعلق بالطبقة الأولى و هو سهام الأولاد و الوالدين و بعض الاحكام كحجب الاخوة عن نصيب الأم.
يبين عز و جل في هذه الآية المباركة موجبا آخر و هو السبب فذكر قسما منه و هي الزوجية و انها تنص على انه يرث كل واحد من الزوجين من الآخر في جميع الحالات و لا يحجبهما عن النصيب الأعلى- و هو النصف للزوج و الربع للزوجة- الا الولد مطلقا، فيستفاد من‏ الآية الكريمة انهما يشاركان جميع الطبقات، فيشاركان الأولاد و ان نزلوا، و الآباء و ان علوا، و سائر الورثة بالأولوية.
و قد ذكر سبحانه جميع صور إرثهما و هي أربعة: الزوج مع عدم الولد للزوجة، و نصيبه النصف، و الزوج مع الولد لها، و نصيبه الربع، و الزوجة مع عدم الولد للزوج و نصيبها الربع، و الزوجة مع الولد له و نصيبها الثمن.
و المراد بالزوجة مطلق من تحققت بهن الزوجية الدائمية، سواء دخل بهن أم لا على ما فصل في الفقه؛ كما أن المراد بالولد مطلق من تولد منهن سواء كان ذكرا أم أنثى للصلب أم غيره و ان نزل واحدا كان أم متعددا. و يستفاد من قوله تعالى: «لَهُنَّ» ان المناط تحقق الولد منهن و ان لم يكن من الزوج الوارث لها.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ.
هذه هي الصورة الثانية، و المراد من الولد تحققه منهن، سواء كان من الزوج أم من غيره، فان في هذه الحالة للزوج الربع.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
اي: ان الزوج انما يرث في كلتا الحالتين بعد إخراج الدين و الوصية التي توصي بها الزوجة، فإذا فضل بعد ذلك شي‏ء يخرج منه السهام، و منها سهم الزوج على ما تقدم من التفصيل.
قوله تعالى: وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ.
هذه هي الصورة الثالثة، و الكلام فيها كالكلام في الصورة الاولى و المستفاد من «لَكُمْ» ان المناط تحقق الولد منه و ان لم يكن ولدا لها، و نصيب الزوجة في هذه الحالة الربع.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ.
الصورة الرابعة، و هي ارث الزوجة من الزوج ان كان له ولد فلها الثمن مما تركه الزوج على ما تقدم من التفصيل.
و اطلاق الآية المباركة يقتضي عدم الفرق بين الزوجة الواحدة و المتعددة فإنهن يشتركن في الربع ان لم يكن للزوج ولد و في الثمن ان كان له ولد.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
على ما تقدم من التفصيل، فان الزوجة انما ترث في الحالتين من تركة الزوج بعد وفاء الدين و إخراج الوصية التي اوصى بها الزوج.
قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ.
بيان لبعض احكام الطبقة الثانية من الموجب الأول للارث، و هم الاخوة و الأجداد.
و «كانَ» تامة، و رجل فاعل، و جملة «يُورَثُ كَلالَةً» صفة له و «كَلالَةً» حال من الضمير في «يُورَثُ» و (امرأة) عطف على رجل. و قيل، في وجه الاعراب غير ذلك و لكنه لا يخلو عن تكلف.
و مادة كلل تدل على الاحاطة، و كلالة مصدر من كلّ يكلّ، و تكلّله النسب بمعنى احاطه، و منه الإكليل و هو التاج لإحاطته بالرأس و كذا الكل (بالضم) لإحاطته بالجزء. و قيل: ان الكلالة بمعنى الإعياء و سميت القرابة البعيدة كلالة لضعفها بالنسبة إلى القرابة القريبة و هم الأصول و الفروع. و قيل: إنها بمعنى البعد، و منه كلت الرحم‏ بين فلان و فلان إذا تباعدت القرابة، و سميت القرابة البعيدة بها لبعدهم عن الميت، و الكلالة ما خلا الوالدان و الولد سموا كلالة، لإحاطتهم بنسب الميت. و لم يرد لفظ الكلالة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام، و الثاني في آخر هذه السورة و لم يقصد منهما إلا الاخوة و الأخوات. و هي اسم يجمع الوارث و المورث من جهة انتساب كل واحد منهما إلى الآخر، و هي تشمل الذكر و الأنثى، و لا تثنى و لا تجمع لأنها مصدر، كالوكالة و الدلالة.
و كيف كان فالمتفق عليه عند الجميع انها لا تشمل الآباء و الأولاد.
و المعنى: ان كان الميت المورث كلالة ليس له أب و لا ابن و الآية تختص بما إذا لم يكن للميت وارث من الطبقة الأولى في الإرث و هم الآباء و الأبناء و كان له أخ أو اخت، و المرأة حكمها حكم الرجل إذا كانت كلالة ليس لها أب أو ابن.
قوله تعالى: وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ.
الضمير في «لَهُ» يرجع إلى الرجل اكتفاءا به عن المعطوف لاشتراكهما في الحكم. و الأخ أصله «أخو» لدلالة التثنية (اخوان) عليه فحذف منه الواو و نقلت الضمة الى الخاء على غير قياس. و أما اخت فقد حكى جمع انه ضم أولها لأن المحذوف منها واو، كما كسر أول بنت لان المحذوف منها ياء اي: و ان كان المنتسب الى الميت واحدا من الكلالة إما أخ أو اخت فله السدس مما تركه الميت.
قوله تعالى: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ.
اي: و ان كان المنتسب اكثر من واحد اي أخوين فصاعدا أو أختين كذلك أو هما معا فلهم الثلث يقتسمونه بينهم بالسوية من دون تفاضل بين الذكر و الأنثى.
و الأخ و الاخت و ان كان مطلقا يشمل الاخوة من طرف الام و الاخوة من طرف الأبوين، أو الأب، و لكن اشتراكهم في الثلث بالسوية يدل‏ على ان المراد منهم خصوص كلالة الام فقط، و قد اجمع المسلمون على ذلك، و يشهد له الجمع بين هذه الآية و الآية الاخرى في الكلالة في آخر هذه السورة.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى‏ بِها أَوْ دَيْنٍ.
اي: انما ترث كلالة الأم السدس ان كانت واحدة، و الثلث ان كانت متعددة بعد وفاء الدين و إخراج الوصية من التركة، كما تقدم التفصيل.
قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ.
جملة حالية من الفاعل، و العامل فيها (يوصى) اي يوصي الرجل و مثله المرأة حالكونه غير مضار للورثة بوصيته بان يوصي بأكثر من الثلث أو يضرهم بافتعال الدين لنفسه فيحرمهم من الإرث.
و المضارة من الإضرار و هذا القيد يعتبر في جميع الموارد التي ذكر فيها الوصية في ما تقدم من الآيات الشريفة ك «يوصي و يوصين و توصون» و لكن حذف لدلالة ما بعده عليه، و انما ذكره في المقام لأنه مظنة الضرر، فان كلالة الأم كثيرا ما تكون ثقيلة على المورث.
قوله تعالى: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ.
مصدر منصوب بفعل مقدر اي: يوصيكم بذلك وصية من اللّه تعالى فيجب الإذعان بها و العمل بمضمونها، و انما نسبها اليه عز و جل للتأكيد على مضمونها و تعظيم شأنها و التحذير من مخالفتها.
قوله تعالى: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
اي: و اللّه عليم بمصالحكم و نياتكم فيعلم المطيع منكم و العاصي‏ المتعدي على حدود اللّه تعالى، حليم لا يعاجل بالعقوبة، فعليكم بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى.
و انما ذكر عز و جل هذين الاسمين المباركين لان أحدهما يبين حكمة التشريع، و الثاني يبين تنفيذ التشريع فانه شرع الاحكام لمصالحكم فيجب عليكم العمل بها و من يخالف يعاقب و ان يمهله اللّه تعالى لحلمه بكم.
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.
الحد هو الحاجز بين الشيئين بحيث يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و التمايز بينهما، و المراد بها تلك الاحكام التي شرعها اللّه تعالى في المواريث و غيرها التي هي حدوده عز و جل فلا يجوز التعدي و التجاوز عنها.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
تفريع على ما سبق فان كون الاحكام حدوده تعالى يستلزم الإطاعة و بيان الجزاء على الموافقة و المخالفة اي: و من يطع اللّه تعالى في العمل باحكامه على حدودها و يتبع ما ورد على لسان الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في تفسيرها و بيانها فانه واسطة الفيض و ما ينطق عن الهوى فانه يجزيه الجزاء الأوفى.
قوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها.
اي: ان جزاء المطيع هو ان يدخله اللّه تعالى جنات في غاية البهجة و استكملت جميع اسباب السرور خالدين فيها لا ينغص عيشهم حزن الفراق.
و انما جمع «خالِدِينَ» مراعاة لمعنى «مَنْ يُطِعِ» لأنه من الألفاظ التي تدل على العموم و لبيان انهم مجتمعين فان في الاجتماع كمال اللذة.
كما انه أفرد الضمير في «يُدْخِلْهُ» مراعاة للفظ «مَنْ».
قوله تعالى: وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
فانه عظيم بنفسه، لأنه في غاية البهاء و الصفاء و استكملت جميع اسباب البهجة و السرور و السعادة و خلي عن جميع المنغصات و الكدورات و عظيم بالإضافة لأنه من عند اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
بعد ان ذكر أن المناط في الطاعة هو العمل بحدود اللّه تعالى و ما جاء به الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله). بين عز و جل أن المناط في للعصيان هو التعدي عن حدود اللّه.
اي: و من يخالف احكام اللّه تعالى و لم يعمل بما أنزله عز و جل و ما جاء به الرسول العظيم (صلى اللّه عليه و آله).
قوله تعالى: وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ.
تفسير العصيان، و فيه التأكيد على ترك المخالفة، و لبيان ان مخالفة الرسول من التعدي عن حدود اللّه تعالى. و للاشارة بان الزيادة عليها يكون من التعدي عن حدود اللّه، فيكون ردا على بطلان العول و التعصيب كما ستعرف.
قوله تعالى: يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها.
اي: ان جزاؤه هو الخلود في النار. و انما أفرد «خالِداً» لبيان انه لا يتمتع من منفعة الاجتماع، و هي الانس لشدة العذاب‏ و مقاساة أهوالها، فهم كالفرادى في النار.
قوله تعالى: وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ.
اي: له مضافا إلى دخوله النار عذاب عظيم كنهه، مذل له، و انما اذله اللّه تعالى في العذاب لأنه اغتر بنفسه و تعدى حدود اللّه تعالى.

تدل الآيات الشريفة على امور:
الأول‏:
يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة اهمية الفرائض و احكام المواريث في الشريعة الاسلامية، فقد اعتنى القرآن الكريم بهذه الفرائض و اهتم بها اهتماما بليغا و تضمنت تلك الآيات رموزا و وجوها كثيرة تدل على ما قلناه.
منها: ان اللّه تبارك و تعالى شرّع تلك الاحكام و فرضها على الناس و أمرهم بمراعاتها و تعهدها حالا بعد حال، و في الوصية بالفرائض اهتمام بها و تأكيد على مراعاتها و العمل بها ما لم يوجد ذلك في غيرها.
و منها: انه ذكر عز و جل القواعد الكلية المتبعة في المواريث و لم يعهد مثل ذلك في غيرها، فمن تلك القواعد قاعدة «ان للذكر مثل حظ الأنثيين» و قاعدة «الأقرب يمنع الأبعد» و غيرهما من القواعد.
و منها: انه تعالى بسط السهام، و ذكر أصولها في هذه الآيات‏
و هي: النصف؛ و الربع، و الثمن، و الثلثان، و الثلث، و السدس.
و منها: انه جلّ شأنه عظّم أمر تلك الفرائض ببيان جزاء المطيع و العاصي فذكر الثواب على إطاعة اللّه تعالى و اطاعة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فيها و العذاب المهين على المخالفة و العصيان.
و منها: انه تعالى جعلها من حدوده التي لا يجوز التعدي عنها، و قد وردت أحاديث متعددة تدل على اهمية الفرائض و الأمر بتعلمها ففي الحديث المعروف عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) انه قال: «تعلّموا الفرائض و علّموها الناس فاني امرؤ مقبوض، و ان العلم سيقبض، و تظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة و لا يجدان من يقضي بها» و غيره من الأحاديث الكثيرة.
الثاني‏:
يدل قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ» على ان حكم السهم و السهمين مخصوص بأولاد الصلب للميت مباشرا، و اما غيرهم فهم في حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان و لأبن البنت سهم واحد إذا اجتمعا و لم يكن هناك من يتقدم عليهم في المرتبة، و كذلك حكم الاخوة و الأخوات و أولادهم. هذا بخلاف الابن و البنت فإنهما اعمان من ان يكونا بواسطة أو بغيرها.
الثالث‏:
يدل قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بايجازه البليغ و أسلوبه الجذاب على أعظم حكم سنته الشريعة الإلهية في الفرائض و المواريث فانه يعلن أن جنس الذكر يعادل في النصيب سهم انثيين و هو يبين حقيقتين.
إحداهما: ارث الأنثى و انه امر مقرر معروف لا يمكن لاحد إنكاره و هو الأصل في ارث الذكر.
الثانية: ان للذكر مثل حظ الأنثيين. و بذلك يبطل جميع التقاليد و العادات البائدة التي لم ينزل بها سلطان، و قد قيل في وجه الحكمة في هذا الحكم الالهي وجوه كثيرة بعضها لا تخلو من المناقشة. و المهم ان القرآن الكريم في هذا الأسلوب يبين جهة فضل الفاضل و لم يتطرق إلى جهة نقص حظ الأنثى.
الرابع‏:
قد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة من موجبات الإرث النسب- المتحقق في الآباء و الأبناء و الاخوة- و السبب المتحقق في الزوجية و قد ذكر الأبناء و الآباء في قوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ». و كلالة الأم من الاخوة. فاما السبب فقد ذكر عز و جل سهم الزوجين الأعلى و الأدنى على ما عرفت من التفصيل.
الخامس‏:
يستفاد من التفصيل في سهام البنات انه لا يستغرق فرضهن التركة، فان الواحدة منهن تأخذ النصف و المتعددة يأخذن الثلثين و اما الزائد فيرد عليهن بالتساوي. هذا إذا لم يكن معهن وارث ذكر، و الا فان للذكر مثل حظ الأنثيين و يعلم من هذا التفصيل ان الذكر الواحد أو المتعدد يأخذون التركة و يتساوون فيها.
السادس‏:
يستفاد من قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» انه لا نصيب لذوي السهام في التركة قبل إخراج الدين و الوصية منها، فإذا اوفي الدين و أخرجت الوصية من التركة فما فضل منهما يتعلق به سهام ذوي الفروض.
و انما قدم الوصية لإثبات الاهتمام بها فان أداء دين المورث مفروغ عنه بين العقلاء بخلاف الوصية.
السابع‏:
يستفاد من نسبة السهام إلى التركة ان كل سهم من السهام الستة- و هي الثلث، و الثلثان، و السدس، و النصف، و الربع، و الثمن- يتعلق‏ بأصل التركة في عرض واحد و على حد سواء، فإذا اجتمع السدس و الربع مثلا فان السدس يخرج من اصل التركة كما يخرج الربع كذلك لا أن يخرج السدس أولا ثم يخرج الربع من ما بقي أو بالعكس و كذا في بقية فروض الاجتماع- كالثلث، و الثمن، أو الثلثان، و الربع- فالسهام كسور عشرية تتعلق بجميع المال و أصله فان كل جزء من اجزائه ينحل إلى كسور و كل كسر معين لصاحب فرض، فلا وجه لتقديم احد الفروض و إخراجه من المال المورث ثم إخراج فرض آخر من ما بقي و هكذا فان ذلك خلاف ظواهر الآيات الكريمة و خلاف المنساق من تعلق الكسور في مال معين.
الثامن‏:
يدل قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» على ان تلك الاحكام الإلهية و القسمة الربانية تبتنى على مصالح واقعية يعم النفع بها لجميع افراد البشر.

في اسباب النزول و الدر المنثور اخرج عبد بن حميد، و البخاري، و مسلم، و ابو داود، و الترمذي، و النساء، و ابن ماجة، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في السنن عن جابر ابن عبد اللّه قال: «عادني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و ابو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي (صلى اللّه عليه و آله) لا اعقل شيئا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني ان اصنع في مالي يا رسول اللّه؟ فنزلت. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ».
أقول: في ماء الوضوء آثار فكيف بماء وضوئه (ص) فانه قد يوجب احياء الموتى.
و في اسباب النزول ايضا عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «جاءت امرأة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بابنتين لها فقالت يا رسول اللّه هاتان بنتا ثابت بن قيس- أو قالت سعد بن الربيع- قتل معك يوم أحد و قد استفاء عمهما مالهما و ميراثهما فلم يدع لهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول اللّه؟ فو اللّه ما تنكحان ابدا إلا و لهما مال فقال يقضى اللّه في ذلك فنزلت سورة النساء و فيها: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ- الآية» فقال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ادع لي المرأة و صاحبها فقال لعمهما: أعطهما الثلثين و اعط أمهما الثمن و ما بقي فلك».
أقول: الرواية لا تتعرض لحكم الزائد عن السهام و هناك روايات اخرى تتعرض له و ان الزائد يرد على البنتين.
و يمكن أن يكون منشأ النزول متعددا و النزول واحدا و لا بأس بذلك.
و في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي قال: «كان اهل الجاهلية لا يورثون الجواري و لا الضعفاء من الغلمان لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن- أخو حسان الشاعر- و ترك امرأة له يقال لها أم كحة و ترك خمس جواري فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فانزل اللّه تعالى هذه الآية «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» ثم قال في أم كحة: وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ».
و فيه ايضا عن ابن عباس قال: «لما نزلت آية الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء احد يقاتل القوم و لا يحوز الغنيمة و كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث الا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر».
أقول: يعلم ان منشأ افتعال التعصيب في الإسلام و جذوره كانت من الجاهلية كما يعلم من ذلك ان قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» كان ردا على جميع هذه الخرافات و الافتعالات الجاهلية منها و ما كانت في الإسلام.
و في الدر المنثور اخرج الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: «أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و اللّه ما ادري كيف اصنع بكم؟ و اللّه ما ادري أيكم قدم اللّه و أيكم أخر؟ و ما أجد في هذا المال شيئا احسن من ان اقسمه عليكم بالحصص؟ ثم قال ابن عباس: و أيم اللّه لو قدّم من قدم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة فقيل له و ايها قدم اللّه؟ قال: كل فريضة لم يهبطها اللّه من فريضة إلا الى فريضة فهذا ما قدم اللّه و كل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخّر اللّه فالذي قدم كالزوجين و الام، و الذي أخر كالاخوات و البنات فإذا اجتمع من قدم اللّه و أخر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملا فان بقي شي‏ء كان لهن و ان لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء لهن».
و فيه ايضا اخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال. «ا ترون الذي احصى رمل عالج عددا جعل في المال نصفا و ثلثا و ربعا؟ إنما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و اربعة أرباع».
و في الكافي عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال: «جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس‏ سبحان اللّه العظيم أ ترون الذي احصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و ثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض فقال عمر بن الخطاب لما التفّت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا قال: و اللّه ما ادري أيكم قدم اللّه و أيكم أخر؟ و ما أجد شيئا أوسع من ان أقسم عليكم هذا المال بالحصص و أدخل على كل ذي حق حقه فادخل عليه من عول الفرائض. و ايم اللّه لو قدم من قدم اللّه و أخر من أخر اللّه ما عالت الفريضة فقال له زفر بن أوس: و أيهما قدم و أيهما أخر؟ كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة إلا الى فريضة فهذا ما قدم اللّه و اما ما أخر اللّه فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها ما بقي فتلك التي أخر، فاما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‏ء و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‏ء، و الام لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‏ء فهذه الفرائض التي قدم اللّه عز و جل، و اما التي أخر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر اللّه فإذا اجتمع ما قدم اللّه و ما أخر بدئ بما قدم اللّه فاعطي حقه كاملا فان بقي شي‏ء كان لمن أخر و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء له فقال له زفر فما منعك ان تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال هبته».
أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة و نفي العول مذهب اهل البيت (عليهم السلام).
و في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ان الذي احصى رمل عالج ليعلم ان السهام لا تعول على ستة لا تبصرون وجهها لم تجز ستة».
و فيه ايضا عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحمد للّه الذي لا مقدم لما أخر و لا مؤخر لما قدم.
ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى ثم قال يا أيتها الامة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدّم اللّه و أخّرتم من أخر اللّه و جعلتم الولاية و الورثة حيث جعلها اللّه ما عال ولي اللّه و لا عال سهم من فرائض اللّه، و لا اختلف اثنان في حكم اللّه و لا تنازعت الأمة في شي‏ء من امر اللّه ألا و عند علي علمه من كتاب اللّه، فذوقوا وبال أمركم و ما فرضتم فيما قدمت أيديكم و ما اللّه بظلام للعبيد، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».
أقول: الروايات في رد العول متضافرة، و اما كيفية تقسيم التركة على الوارث إذا كانت السهام اكثر منها فهي مذكورة في كتب الحديث و الفقه فليراجع إليها.
و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا تحجب الام عن الثلث إلا اخوان أو أربع أخوات لاب و أم أو لاب».
أقول: الاخبار في ذلك كثيرة و قد تقدم ما يستفاد ذلك من الآية ايضا.
و في التهذيب عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أول شي‏ء يبدأ به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث».
أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة و هي متفقة على ان الدين مقدم على الوصية و هي مقدمة على الميراث و الكفن من شؤون‏ الميت نفسه فلا بد من إخراجه أولا.
و في المجمع في قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و انكم تقرأون في هذه الآية الوصية قبل الدين و ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قضى بالدين قبل الوصية.
أقول: رواه السيوطي و غيره ايضا و تقدم الوجه في تقديم الدين على الوصية.
و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ان اللّه ادخل الزوج و المرأة على جميع اهل المواريث فلم يقصها من الربع و الثمن».
أقول: هذه الاخبار و نظائرها دليل على عدم العول و التعصيب بالنسبة إليهما و اما الرد إليهما ففيه كلام ذكرناه في الفقه و من شاء فليرجع إلى (مهذب الاحكام).
و في الكافي في معنى الكلالة عن الصادق (عليه السلام): «من ليس بوالد و لا ولد».
أقول: تقدم معنى الكلالة و ذكرنا ان ذلك مستفاد من نفس الآية الشريفة.

يستفاد من الآيات المتقدمة- التي فرض اللّه تعالى فيها السهام بضميمة الآيات الاخرى الواردة في الإرث منها الآية التي تقدم تفسيرها «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» و الآية التي‏ في آخر هذه السورة و غيرها- احكام مهمة تعتبر كليات باب الفرائض و المواريث و قد اعتمد عليها الفقهاء في كتبهم الفقهية و نحن نذكر المهم منها في ضمن مسائل.
المسألة الاولى: قاعدة: «تفضيل الذكر على الأنثى» التي هي من القواعد في الفرائض و الإرث و الأصل فيها قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» فإنها تقضي تقسيم التركة إذا اجتمع الذكور و الإناث من الورثة و لم يكن لواحد فرض على تفضيل الذكر على الأنثى في النصيب. و إذا تأملنا في الفرائض التي فرضها اللّه تعالى في الإرث للرجال و النساء نرى ان سهم النساء ينقص عن سهام الرجال مطلقا إلا في مورد واحد و هو الأبوان إذا اجتمعا فان سهم الام قد يزيد على سهم الأب، كما إذا اجتمع الأب و الام و البنت الواحدة فان للبنت الواحدة النصف، و للأب و للام السدسان و الباقي يرد على البنت و الام دون الأب فيزيد سهم الام على الأب حينئذ، و لعل الوجه في ذلك ان الأم أمس رحما للولد من الأب لما تتحمله من المصاعب و تقاسي من الهموم في سبيل تربيته و حضانته، فلها المنزلة العظمى في الإسلام و في غير هذا المورد يكون نصيب المرأة اقل من نصيب الرجل، فالزوج له النصف مع عدم الولد للزوجة و الربع مع وجوده، و اما الزوجة فلها الربع مع عدم وجود الولد للزوج و الثمن لها مع وجوده و نحو ذلك.
و اما وجه الحكمة في كون سهم الرجل ضعف سهم الأنثى في الجملة فانه يبتني على أمرين: أحدهما اجتماعي اقتصادي و الآخر يرجع إلى الخلق و التكوين و يشير إلى كلا الأمرين قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» النساء- 34 فان المراد من الفضل الوارد فيها هو تعقل الرجال و استيلاء روح التعقل بحسب الطبع و التكوين عليهم و ما يمتاز به الرجل من زيادة البأس، و الصلابة و الشدة، و الغلظة و الخشونة. فان جميع ذلك امور يتطلبها المجتمع الانساني في مواطن الدفاع و الأعمال الشاقة، و في تحمل الشدائد و المحن، و الثبات في الأهوال و نحو ذلك مما هو ضروري في الحياة فالرجال على الأكثر يقومون بهذه الشؤون.
و اما المرأة فهي متصفة بالاحساسات و العواطف التي لا غنى للمجتمع عنها فان لهما آثارا عجيبة في الإنسان لما يتطلبه من الوداعة في العيش و السكن و المحبة و الانس و الرحمة و الرأفة مضافا إلى تحمل المرأة أثقال الحمل و الوضع و الحضانة و خدمة البيوت و لا يصلح لهذا الجانب إلا الرحمة و الرأفة و الاحساس اللطيف و العاطفة الرقيقة، فالرجل و المرأة يتبادلان هذين الأمرين الضروريين و يتعادل بهما الحياة و ينتظم شؤونها فإنها يتقوم بهما.
و اما الوضع الاجتماعي فان وضع الرجل الاجتماعي يقتضي الصرف و ادارة المعاش و السعي فيهما و يجب عليه الانفاق غالبا و ذلك يتطلب التدبير المالي في الإنتاج و الاسترباح فهذا إلى روح التعقل انسب إذ لا فائدة للاحساس و العواطف التي هي إلى روح التصرف و المصرف انسب و لذا كانت المرأة اكثر من الرجل فكانا متعاكسين في الملك و المصرف فإذا ملك الرجل الثلثين فان المرأة تذهب بنصف هذين الثلثين بينما تملك المرأة الثلث و لكنها تملك زمام ملكه و مصرفه. و يستفاد ما ذكرناه من عدة آيات كما مر و روايات.
منها: ما رواه هشام: «ان ابن أبي العوجاء قال لمحمد بن النعمان الأحول ما بال المرأة الضعيفة لها سهم واحد، و للرجل القوي الموسر سهمان؟ قال فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال: ان المرأة ليس عليها عاقلة و ليس عليها نفقة و لا جهاد، و عدّد أشياء غير هذا، و هذا على الرجل فلذلك جعل له سهمان و لها سهم» و في مضمونها وردت روايات اخرى.
المسألة الثانية: قاعدة «تقريب الأقرب و تقديمه، و ان القريب يمنع البعيد» و يدل عليها قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فانه اعتبر الاقربية إلى الميت امرا مفروغا عنه و لكن الإنسان يجهل خصوصيات الاقربية و بضميمة الآيات الاخرى يتبين الأقرب و الأبعد اللذان يكونان مؤثرين في زيادة السهم و قلته و يدل على ان الأقرب نسبا يمنع الا بعد قوله تعالى: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»* الأحزاب- ٦ فمن الآيات المتقدمة يستفاد: ان اقرب الأقارب و الأرحام هو الأب و الأم و الإبن و البنت و مع وجودهما لا تصل النوبة إلى أولادهما، لأن الإبن و البنت يتصلان بالميت بدون واسطة و أولادهما يتصلون به بواسطتهما.
ثم بعد هذه الطبقة تأتي الطبقة الثانية و هم اخوة الميت و أخواته و جدودته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة و هي الأب و الأم و أولاد الأخ و الأخت كأولاد الإبن و البنت فإنهم يتصلون بالميت بواسطة آبائهم، و أمهاتهم و هم يمنعون الأولاد.
ثم تأتي الطبقة الثالثة و هم أعمام الميت و عماته و خالاته و أخواله فإنهم يتصلون بالميت بواسطتين الجدودة و الأبوين و الأم و هكذا القياس في جميع الإفراد.
و من ذلك يظهر ان ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد فإذا اجتمع الأبوين مع كلالة الأب فان الاول مقدم على الثاني و اما كلالة الأم فلا يزاحمها احد من كلالة الأبوين أو الأب لأدلة خاصة.
المسألة الثالثة: قاعدة الحجب و يستفاد تلك القاعدة من الآيات المباركة المتقدمة و السنة الشريفة فان بعض الإفراد يحجب صاحب سهم عن سهمه و هذا على نحوين فانه تارة يحجبه عن سهم إلى سهم آخر كحجب الاخوة لنصيب الأم من الثلث إلى السدس و يدل عليه قوله تعالى: «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» و في حجب الاخوة شروط مذكورة في كتب الفقه.
منها: ان يكون الاخوة متعددين سواء كانوا ذكرين أو أخا و أختين أو اربع أخوات، و يدل عليه ظاهر الآية الشريفة و بعض الاخبار و الإجماع المحقق.
و منها: ان يكونوا للأب و الأم أو للأب، و يدل عليه الاخبار كما عرفت و الإجماع ايضا.
و منها: ان يكون الأب حيا و غير ذلك من الشروط المذكورة في الفقه.
و اخرى: يكون الحجب من سهم معين و لكن لا ينتقل إلى سهم آخر مثل حجب الأبن و البنت لسهم الأب و الأم.
المسألة الرابعة: التركة إذا قيست مع السهام فتارة: تكون مساوية للسهام مثل بنتان و أب و أم فان للبنتين الثلثين و للأب السدس و للام السدس، فاستغرقت السهام التركة و المال الموروث أو زوج و اخت فان للاخت الواحدة النصف و للزوج النصف ايضا.
و اخرى: تكون السهام اكثر من التركة مثل زوج و أختين أو أخوات فان للزوج النصف و للاخوات الثلثين و كما إذا اجتمع ابوان و بنتان و زوج فان السهام سدسان و ثلثان و ربع و هي تزيد على التركة بربع إذا هي لا تزيد عن السدسين الثلثين.
و ثالثة: تكون السهام انقص من التركة كما إذا اجتمع أب و بنت واحدة فان للأب السدس و للبنت الواحدة النصف و هي تنقص عن التركة بمقدار السدسين و كما إذا كان بنتا فقط أو بنتين فقط أو أختين فقط.
و الصورة الثانية: تسمى في اصطلاح الفقهاء بالعول، و الصورة الثالثة: تسمى بالتعصيب و فيهما النزاع المعروف بين الامامية و الجمهور فإنهم حكموا بورود النقص في مسألة العول على جميع الورثة؛ كما حكموا في مسألة التعصيب بأن الزائد يرد على عصبة الميت- و هم أقاربه من الذكور فقط- فحرموا الإناث منه.
و لكن الامامية شددوا النكير على ذلك تبعا لما ورد من ائمة اهل البيت (عليهم السلام) و اعتبروا ذلك خروجا عن حدود اللّه تعالى و تعد عليها، و يستفاد من تشديد التنكير في آخر الآيات المتقدمة على التعدي عن حدوده سبحانه و الاقتران بين عصيان اللّه و الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و التعدي عن حدود الباري عز و جل ان ذلك خروج عما فرضه اللّه تعالى، و لعل ما ورد في السنة الشريفة من انكار العول و التعصيب مأخوذ من الآيات المتقدمة.
و كيف كان فان ائمة الهدى (عليهم السلام) حكموا في مسألة العول ان النقص يدخل على خصوص الذين لم يعين لهم الا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم كالام و الزوج الذين عين لهم اللّه تعالى فرائضهما الأعلى و الأدنى في جميع الفروض و في مسألة التعصيب يكون الزائد للجميع حسب نسبة السهام و التفصيل يطلب من محله و تقدم في البحث الروائي ما يتعلق بذلك ايضا.
المسألة الخامسة: ظاهر اطلاق الآية الشريفة في الأولاد و غيرهم‏ ان الأولاد يقومون مقام آبائهم في مقاسمة الأبوين و يرث كل واحد منهم نصيب من يتقرب به كما تقدم في البحث الدلالي، و يدل عليه اخبار كثيرة و الإجماع المحقق.
المسألة السادسة: اطلاق الأزواج في قوله تعالى: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ» يشمل المعقود عليها و ان لم يحصل المقاربة و الدخول فترثه و يرثها، كما يتناول المطلقة طلاقا رجعيا لأنها بحكم الزوجة ما دامت في العدة. و بعد العدة إلى سنة يقع فيها الوفاة و يدل على ذلك الإجماع و الاخبار المستفيضة إلا انه استثنى من القسم الاول ما إذا تزوج المريض زوجة فلم يدخل بها حتى مات في مرضه الذي تزوج بها و يدل على ذلك الاخبار و الإجماع.
كما ان ظاهر اطلاق الآية الشريفة «وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ» ارث الزوجة من جميع التركة من العقار و البناء و نحو ذلك فلا تحرم من شي‏ء منها و لكن الروايات المستفيضة و الإجماع المحقق يدلان على حرمانها من بعض الأشياء. و اختلف الفقهاء في تعيين ذلك تبعا لاختلاف الاخبار و المتفق بينهم انها تحرم من العقار بلا اشكال كما فصلناه في الفقه.
المسألة السابعة: ظاهر قوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» ان الاخوة و الأخوات لا يرثون مع الوالدين و الأولاد، و لا مع واحد منهم، لما ذكرناه من ان طبقة الاخوة و الأخوات بعد طبقة الوالدين و الأولاد فإذا وجد واحد من الطبقة الاولى لا ترث الطبقة الثانية و هو متفق عليه عند الامامية، و لكن الجمهور يورّثون الاخوة مع الام و تعرضنا لذلك في الفقه فراجع (مهذب الاحكام).

الوراثة على اقسام: الاول الوراثة المالية و هي كما تقدم ان الإنسان يورّث مالا للطبقات التي بعده و قد شرحها اللّه عز و جل بأحسن شرح و أفضل بيان و فصلتها السنة المقدسة بما لا مزيد عليه خصوصا في الموارد التي لها المعرضية للتشاجر و الاختلاف.
و علم هذا التشريع منحصر به جلت عظمته فهو تبارك و تعالى يبين أصولها و السنة المقدسة تبين شرائطها و قيودها و غيرهما مما يتعلق بها و اما الفروع و الاحكام فيبيّنها الأولياء العظام و الائمة الكرام، و هذا مما لا شك فيه لان الإنسان مهما بلغ من الكمال لا يمكن له درك الحقائق الواقعية و المصالح النوعية على ما هي عليه فلا بد و ان يرجع إلى وحي السماء و هو يبيّنها كما أنزلها تعالى بالترتيب المتقدم و يدل عليه قوله تعالى «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً».
الثاني: الوراثة في الملكات الراسخة في نفس الموّرث- حسية كانت أو حدسية- و هي وجدانية لكل احد في الجملة فقد يؤثر ملكات الآباء أو الأجداد في الأولاد غالبا، و قد ثبت ذلك في العلم الحديث المعبر عنه ب (قانون الوراثة).
و علم هذا القسم و خصوصياته منحصر به جلّ جلاله ايضا لأنه العالم بالواقعيات و المحيط بدقائق الأمور- كلياتها و جزئياتها- و من هذا القسم نشأت القبائل و العشائر و عليه بنيت اكثر الأمور الاجتماعية و الاعتبارية الشرعية على ما فصل في الفقه.
و هو من اقدم الأمور فكان مقارنا مع أول نسل آدم (عليه السلام) و قد كشف العلم الحديث كشفا صحيحا بمشيته و اذنه تعالى و في السنة المقدسة ما يدل على ذلك و قد ورد بعضها في كتاب النكاح و غيره قال تعالى: «وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى‏ إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» الصافات- 113 بدعوى ان الإحسان في المحسن حصل من الملكات الموروثة و كذا ظلم الظالم لنفسه صار مقتضيا لظلم الذرية و قال تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» الحديد- ۲٦، و قال تعالى:
«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً».
الثالث: الوراثة الروحانية و في بعض المعنويات في الجملة فيورثها الأب لذريته قال تعالى: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» الطور- 21 و غيره من الآيات المباركة.
و هذا القسم يختص بأولياء اللّه تعالى يتقدمهم سيد الأنبياء و ذلك مشروط بعدم النقص و الخلل في الذرية فإنهما يمنعان عن تلك الوراثة بعد الاعتقاد بانه تعالى عليم حكيم.
و يمكن ان يجتمع في ولي من اولياء اللّه تعالى أو نبي من أنبيائه الوراثة في المال و الصفات الحسنة و الوراثة التشريعية الروحانية فما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الأنبياء لا نورّث درهما و لا دينارا» ليس في مقام نفي الوراثة أصلا و إلا لخالف الآيات الشريفة بل في مقام ان الأنبياء ليسوا في مقام جمع المال و ادخاره لورّاثهم- كما يصنع أبناء الدنيا- فان شأنهم و مقامهم يجل عن ذلك نعم لو فرض شي‏ء لهم ينتقل بعدهم إلى وارثهم و ان الورثة يصرفونه في ذوي الحاجات و هذا هو معنى ما الحق بذيل الحديث: «و ما تركناه صدقة» فمعنى صدر الحديث و ذيله ان النبي و وارثه الروحاني كل منهما ليس في مقام ادخار المال بل أموالهم تصرف في ذوي الحاجات و إلا فإنهما كسائر الناس يرثون، فان وارث النبي يرث منه من جهتين الجهة المالية و الجهة الروحانية و لا يمكن التفكيك بينهما.
ثم إن اهتمام القرآن في تشريع اصول سهام الإرث بهذا التقسيم البليغ انما هو لأجل ان الموضوع كان مورد التشاجر و التخاصم في المجتمع فشرع السهام على وجه معقول و أكد الالتزام بها بقوله تعالى: «وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» و قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فهذه كلها لدفع التشاجر و التخاصم و الافتعالات الخاطئة و ان ما سوى ما شرعه اللّه تعالى يكون «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» النور- 39.

الإرث:
من الأمور الاجتماعية التي لازمت المجتمع الانساني من أول حدوثه و قد مرت اطوار كثيرة على هذا الأمر المهم حتى وصل إلى الحالة التي نراها في الإسلام الذي يعتبر بحق احسن ما شرع فيه لأنه يبتني على حكمة متعالية و مصلحة عامة و نحن نذكر في هذا البحث ما يتعلق به:
بداية الإرث و تحوله:
الإرث من أقدم الأمور الاجتماعية بل يمكن ان نقول انه امر طبيعي لا يسع لاحد إنكاره و قد برز للوجود بظهور الملكية و التملك عند الإنسان فانه من مصادر الملكية، لكنه يختلف عن سائر المصادر بانه مصدر قهري للملكية، فان بموت احد يتملك غيره سواء كان قريبا له أو لا ما كسبه في حياته و تركه لغيره، اختلاف المجتمعات في هذه الظاهرة شدة و ضعفا لا يضر ان يكون الإرث من اقدم العهود و السنن الاجتماعية.
و من الطبيعي ان هذا الأمر الاجتماعي كان في بداية ظهوره بسيطا كسائر الأمور الاجتماعية فان الحياة كانت بسيطة و غير معقدة و لم يتكون المجتمع إلا من افراد قليلين و لم يكن المال الذي يرثه سوى بعض الأشياء البسيطة، و لكنه تطور و تحول تدريجيا و ان لم تصل إلينا كيفية ذلك.
تطور الإرث و تقسيمه:
بعد ما عرفت ان الإرث و التوارث هو امر طبيعي و قد كان بسيطا ثم تطور و كان في ابتداء امره مبنيا على القرابة و الولاء فان لكل فرد أبوين و اولادا و زوجة و قرابة و صديقا و رحما و هذه الإفراد تتفاوت في القرب و البعد و الأولوية و من هؤلاء تتشكل العشيرة و القبيلة و نحو ذلك فكانت قسمة الإرث تتفاوت في المجتمعات تبعا لاختلاف الآراء في الأولوية و الاقربية، ففي المجتمع الجاهلي مثلا كانوا يحرمون كثيرا من الورثة عن التركة لأنهم كانوا يعتبرون القوة في الوارث فبعضهم كانوا يعتبرون القوي هو رئيس القبيلة، و الآخر يعتبره الأب و ثالث يعتبره أشجع القوم و ظل هذا الأمر الاجتماعي مختلفا فيه و يتحول من حال إلى حال آخر.
و لكن الأمر المتفق عليه انهم كانوا يحرمون الصغار و النساء و الضعفاء من الإرث. و بلغ هذا الأمر الاجتماعي أوج كماله في الشريعة الاسلامية لأنها تبتني على الفطرة و الحكمة بخلاف غيرها فإنها لا تنبع عن الفطرة بل تتبع العواطف و النزوات و الإحساسات حتى عند الأمم الراقية التي سنت القوانين في حياتها مثل اليونان و الرومان و لذا كان يطرأ عليها التغير و التبدل بخلاف ما شرعه الإسلام في الإرث فان المسلمين قبلوا هذا الحكم بمجرد نزوله على صاحب الشرع و اسرعوا إلى العمل به و ظلوا على ذلك منذ اربعة عشر قرنا.
مقارنة الإرث في الأمم المتمدنة:
أما اليونان فكانوا يحرمون النساء مطلقا الزوجة و البنت و الاخت من الإرث كما كانوا يحرمون صغار الأولاد و لكنهم كانوا يحتالون في توريث من حرموه من الميراث بالوصية إليهم.
و اما الرومان فإنهم كانوا يقسمون الإرث على القرابة التي يبتني عليها البيت عندهم و ما يريده أب البيت، فإنهم كانوا يعتبرون ان للبيت شخصية قانونية و استقلالا مدنيا عن المجتمع العام و كانت تشكيلة البيت من رب البيت و الزوجة و الأولاد و العبيد، و كان رب البيت‏ هو المعبود لأهله و هو يعبد رب البيت السابق من اسلافه كما انه المالك و غيره لا يملك و القيم عليهم و الأولاد ان بقوا في البيت بعد تأسيسهم لبيت جديد فانه تابع لرب البيت و إلا فهو رب للبيت الجديد بعد ما كان من افراد البيت القديم و اما إذا مات فانه يرثه احد ابنائه أو إخوانه و لا ترث النساء مطلقا الأم و البنت و الاخت و الزوجة بحكم القانون الذي يسنه أب البيت، فالنساء ذوات قرابة طبيعية دون القرابة الرسمية التي بموجبها يرث افراد البيت. و لعل السبب في ذلك انهم كانوا يحرمونهن من الإرث لئلا ينتقل مال الميت إلى بيت آخر بالازدواج، فان المال عندهم ملك للبيت الذي اكتسبه و لا يجوزون انتقال الثروة من بيت إلى بيت آخر.
و اما سائر الأمم- كالهند و الصين و غيرهما- فإنهم كانوا يحرمون النساء و ضعفاء الأولاد و يقتربون في ذلك إلى اليونانين و الرومانيين.
و اما الفرس فإنهم كانوا يحرمون بعض النساء في بعض الحالات مثلما كانوا يحرمون البنات المزوجات و الزوجات غير الكبيرات و اما الزوجة الكبيرة و البنت غير المزوجة فإنهما ترثان، و رب البيت قد يحب بعض النساء حبا بجعلها مقام الأولاد فترثه كما يرث الابن و الدعي لأنهم كانوا يجوزون الإرث للبنين و اما البنت فإذا لم تتزوج فهي ترث نصف الابن و اما إذا تزوجت فلا ترث شيئا لئلا تنتقل الثروة إلى خارج البيت.
و اما في العصر الجاهلي المعاصر لنزول القرآن فإنهم كانوا يورثون الأولاد تبعا للرشد و القوة، فحرموا النساء و صغار الأولاد فان لم يكن في الأولاد رشيد قوي فيرث المال العصبة.
الإرث في الإسلام:
بعد ما عرفت حال هذه السنة الاجتماعية قبل الإسلام و عصر نزول القرآن و قد اتفقوا على منع النساء و الضعفاء و من لا حول له و لا قوة من الإرث و الجميع أسسوا هذه القواعد و الاحكام على أساس العصبية و العواطف التي لا تهدى إلى السعادة و الحقيقة.
اما الإسلام فقد سن حكمه على الفطرة و الحكمة و التعقل و شرع قانون الإرث على أساس محكم متين و هو النسب و السبب و الولاء، و اعتبر ان القرابة تقوم على أساس الرحم الذي هو أم تكويني و الغي كثيرا من الأمور التي كانت متبعة عند المجتمعات قبل الإسلام منها التبنّي و الادعاء و القوة و النفوذ و الشجاعة و الرشد و نحو ذلك من الأوهام الخاطئة التي بها حرم كثير من الورثة، بل يمكن ان نقول ان الإرث مطلقا كان يبتني على ارادة رب البيت و ما تمليه العادات و التقاليد دون الحكمة و التعقل. و قد عرفت ان الإسلام يبني الإرث على اصلين جوهريين هما اصل القرابة و الرحم الذي هو الرابط بين الفرد و أقربائه و في هذا الأصل لا يختلف الذكور و الإناث و الكبار و الصغار بل حتى الجنين في بطن امه فإنهم جميعا يشتركون في الرحم و القرابة لكن الإفراد تختلف في القرب و البعد و لذلك سنّ قانون الاقربية و ان الأقرب يمنع الأبعد و على ذلك بنيت طبقات الإرث المتتالية و هي ثلاث طبقة الآباء و الأبناء، و طبقة الأجداد و الاخوة، و طبقة الأعمام و الأخوال على ما هو المعروف و لا ترث الطبقة اللاحقة عند وجود فرد من الطبقة السابقة و في كل طبقة تجري قانون أن الأقرب يمنع الا بعد. و كان أساس‏ ذلك أمر تكويني و حكم رباني مبني على الحكمة المتعالية و المصلحة العامة.
كما له اصل آخر قويم و هو: اختلاف الذكر و الأنثى في الإرث و أسس القانون العظيم و هو: «للذكر مثل حظ الأنثيين» و ذلك لاختلاف الطبائع في كل واحد منهما الموجب لاختلاف منزلتهما الاجتماعية و ان كان الجميع سواء في الشخصية الانسانية بلا اختلاف بينهما في هذه الجهة، و بذلك أبطل جميع التشريعات الوضعية التي أسست على العاطفة و الاحساس، فكانوا يحرمون النساء لأنهم كانوا لا يرون لهن منزلة في المجتمع الانساني و لكن الإسلام رد المرأة إلى منزلتها الطبيعية و ارجع لها الحقوق التي اغتصبت برهة من الزمن.
و اما ما تدعيه المدنية المعاصرة من تساوي الحقوق بين المرأة و الرجل فهذه ليست إلا بدعة أرادوا بها إذلال المرأة و جعلها لعبة يستفيد منها المغرضون في الميل عن الحق و اثبات أغراضهم الفاسدة و اعمال نواياهم السيئة فاي حق لها كان ضايعا في الإسلام حتى يردوه إليها.
و كيف كان فالإسلام بنى الإرث على هذين الأصلين و قسّمه على الكيفية المعهودة كما عرفت سابقا. و جاء رد الإسلام واضحا في قول اللّه تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فإنهم قصدوا المنافع الدنيوية من الإرث و في تقسيمه و لكنهم جهلوا خصوصياته فضلّوا و اضلّوا.
و من ذلك تعرف الفرق الجوهري بين النظامين الاسلامي و الوضعي فانه يفترق عن غيره في المنهج و القاعدة و الغرض كما عرفت مما سبق.
و من نافلة القول ان بعض من يدعي الفضل يرى ان قانون الإرث في الإسلام مأخوذ من الإرث الروماني، و كأنه غفل عن التباين الكلي بينهما و انه جهل أساس كل من القانونين و نحن في غنى عن التفصيل‏ بعد ما اتضح لك الحال.
الإرث في الأمم المعاصرة:
يختلف الإرث في الأمم المعاصرة المتمدنة عن قانون الإرث في الإسلام في الأصل و المنهج، و لكنها تتفق معه في توريث المرأة لاعتمادهم على تساوي الحقوق بين الرجل و المرأة و يدّعون انهم خالفوا بذلك جميع المجتمعات التي حرمت النساء من حقوقهن و لكن بعد التأمل في ما ذكرناه ترى ان فضل ذلك يرجع إلى الإسلام عند ما اعتبر المرأة جزء من الاجتماع و ان لها حقوقا كما للرجال.

و لقد ثارت في الجاهلية المعاصرة منذ القرن السادس عشر قضية المرأة و شغلت بال النساء و الرجال على حد سواء برهة من الزمن و كانت في بداية الأمر لا تتعدي عن بعض الأمور و لكنها اتسعت و تعدت حتى وصلت إلى المساواة المطلقة في كل شي‏ء بل نادى بعضهم بالحرية للمرأة في ان تهب نفسها لمن تشاء. و شتان بين الجاهلية التي جعلت المرأة كالمتاع و حكّمت العواطف و الإحساسات على التعقل و الحكمة و بين ما أثيرت في عصر نزول القرآن من المسلمات المؤمنات اللواتي أردن المساواة بينهن و بين الرجال في الحقوق و درجة الشهادة و التساوي في الميراث فجاء الخطاب السماوي الذي يفصل بين الواقع و الخيال وردا على التمنيات التي توجب الفوضى و الفساد قال تعالى: «وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً» النساء- 32 فان اللّه خلق كل واحد من الجنسين لمهمة معينة تقوم‏ بها الحياة و ينتظم النظام الأحسن و جعل لكل جنس حكمه المختص به التي تتطلبه وظيفته الفطرية و في غيرها يشترك الجنسان في جميع الاحكام و الحقوق، و قد أسست في الفقه الاسلامي قاعدة معروفة يعتمد عليها الفقهاء و هي: «اشتراك الرجال و النساء في جميع الاحكام إلا ما خرج بالدليل» كما عرفت في احد مباحثنا السابقة. و تطبيقا لتلك المشاعر العاطفية و النعرات الجاهلية فقد وضعت القوانين الحديثة احكاما تشرك النساء مع الرجال في جميع المجالات منها تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالاباء و الأمهات و البنات و البنون سواء فيه.

و قد سن القانون الوضعي في فرنسا في الإرث أمورا منها انه رتب الطبقات على اربع: الاولى البنون و البنات. الثانية: الآباء و الأمهات و الاخوة و الأخوات. الثالثة: الأجداد و الجدات. الرابعة: الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات. و لم يجعل القانون موضعا للزوجية في هذه الطبقات لأن الجاعلين اعتبروا علاقة الزوجية من مجرد المحبة القلبية و لكنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج فلا يحق لها ان تتصرف في الأموال التي ترثها من أقاربها إلا باذن زوجها. إلا ان القوانين التي وضعت بعد ذلك أخرجت المرأة عن قيمومية الرجل و ساوت بينهما في الملك و التصرف. و بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعرف الفرق الكبير بين قانون الإسلام و القوانين الوضعية التي تباين الإسلام من جهات كثيرة، فان الشريعة التي وضعت على الحكمة و المصلحة العامة و أعرضت عن الاحساس و العواطف الوقتية لجديرة بالعمل بها و الاعراض عن غيرها.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"