1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة النساء
  10. /
  11. الآيات 105 الى 115

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (۱۰٥) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (۱۰٦) وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (۱۱٤)وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (۱۱٥)


الآيات الشريفة تبيّن بعض الحقائق الواقعيّة و الدينيّة، فهي تشير إلى أهمّ‏ حقيقة يبتني عليها نظام السموات و الأرض، و هي العدل في جميع الأمور، لا سيما في القضاء و عدم الجور فيه، و ترك الخيانة بتعريض البري‏ء الى التهمة و العذاب و الإغفال عن المتهم و ترك الحكم عليه.
و توصي الآيات الشريفة المؤمنين بالحقّ في القضاء و عدم الميل و الجور فيه.
كما تشير إلى حقيقة اخرى، و هي عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حجيّة قضائه، ثمّ ترشد الناس إلى ترك الخيانة في جميع الأمور و بالنسبة إلى جميع الناس.
و تعتبر المجتمع الإنساني كنفس واحدة، فأي واحد منهم يتّهم برئيا و يخونه، فهو يخون نفسه. و تشير إلى حادثة واحدة كنموذج فذّ في التاريخ و ليست هي قصة عارضة ثمّ تنسى، بل هي درس تربوي تبقى للأجيال و على مرّ الزمن، و تطبيق عملي للعدل الرباني، و أحد مقوّمات الإسلام دين الحقّ و العدل، فكانت هذه الحادثة هي رمز العدالة في الإسلام؛ و لذا ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و أمر نبيّه العظيم بإظهار الحقّ و القضاء فيه، مع أنّ المنافقين أرادوا منها النيل من كرامته و اهتمّوا بإضلاله.
و تبتدأ القصة بأن نفرا من الأنصار غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض الغزوات فسرقت لأحدهم درع، فحامت حول رجل من الأنصار الشبهة، فاتّهمه صاحب الدرع عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو منافق يقول الشعر في ذمّ المؤمنين و ينسبه إلى غيره، فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل بري‏ء، ثمّ وجّه قومه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّ صاحبنا بري‏ء، و ألحّوا عليه بأن يقضي لهم و بالغوا في أن يغيروه صلّى اللّه عليه و آله على المتهم البري‏ء و طلبوا منه صلّى اللّه عليه و آله أن يعذر صاحبهم على رؤوس الناس، فنزلت الآيات الشريفة و برّأه اللّه تعالى ممّا قالوا. و هي ليست قصة عابرة بل درس عملي تطبيقي كما عرفت.
و تتضمّن الآيات الشريفة بعض أخلاق الإسلام و تذمّ الخيانة في جميع الأمور، و ترتبط الآيات المباركة بما قبلها في تشريع الأحكام و إظهار صفات‏ المنافقين. و قد أمر عزّ و جلّ فيها برعاية الحقّ و حفظه و العناية به و تطبيقه بعد أمره عزّ و جلّ في الآيات الكريمة السابقة الجهاد في سبيل الحقّ، فكانت هذه الآيات تطبيقا عمليا للآيات الشريفة السابقة.

قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ.
ذكرنا في إحدى الآيات الشريفة السابقة أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يراد منه تثبيت قدرته عزّ و جلّ و عظمته و قهّاريته و إظهار الحقّ، كانت النسبة إليه تعالى بضمير الجمع و العظمة، و كلّ مورد يراد منه إظهار عطفه و رحمته و حنانه و غفرانه كانت النسبة إليه بضمير المفرد، و في المقام إنّما أسند عزّ و جلّ الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند؛ و لأنّ المقام يستدعي ذلك لتثبت الحكم.
و تأكيد الحكم ب (إنّا) إيذانا بالاعتناء بشأنه، كما أنّ تقديم المفعول غير الصريح للاهتمام و التشويق له.
و الناس: يشمل جميع الأفراد المؤمن و غيره، و البرّ و الفاجر، و إنّه أعمّ الإنس و الجنّ، لكن غلب استعماله في الإنس، هو جمع إنس- لأنّهم يونسون- أصله أناس ادخل عليه اللام. و قيل: اسم وضع للجمع كالرهط و القوم، واحده إنسان من غير لفظه.
و الحكم بين الناس هو القضاء بينهم، سواء في المخاصمات و المنازعات- لرفع الاختلاف بينهم بالحكم- أم غيرها، و إنّه من أفضل الأعمال و أكملها لو كان الحاكم واجدا للصفات و الحكم جامعا للشرائط الشرعيّة، بل هو من شؤون الأنبياء و خلفائهم المعصومين.
و إيجاد الرأي إن كان ممّا أراه اللّه تعالى لصاحب الرأي، فهو صواب، كرأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كذلك رأي خلفائه المعصومين كما ستعرف، و أمّا رأي غيرهم فلم يعلم أنّه ممّا أراه اللّه تعالى أو الشيطان أو النفس الأمّارة بالسوء، الّتي هي من جنود الشيطان، أو الخيالات الفاسدة الّتي هي من أهمّ جنوده أيضا.
و قد جعل عزّ و جلّ في المقام الحكم بين الناس الغاية لإنزال الكتاب، نظير قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [سورة البقرة، الآية: 213]، إلّا أنّ الفرق بين الآيتين أنّ المقام خاصّ، و آية البقرة عامّ، كما يزيد المقام أيضا أنّ اللّه تعالى جعل حقّ الحكم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحجيّة لرأيه و نظره.
قوله تعالى: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً.
جملة مستأنفة و العطف فيها من عطف جملة إنشائيّة على جملة خبريّة هي في معنى الإنشاء، فيرجع المعنى إلى قوله: احكم بينهم و لا تكن للخائنين خصيما.
و الخصيم: من يدافع عن الدعوى و نحوها، سواء كان من أطراف النزاع و الخلاف، أم لم يكن، و في الدعاء: «اللهم بك خاصمت»، أي: بما ألهمتني من الدليل و البرهان خاصمت المعاندين و أظهرت لهم الحجّة، و في الحديث: «إذا خاصمكم الشيطان فخاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه تعالى»، و الذكر و الأنثى فيه سواء.
و فعيل هنا بمعنى فاعل، و يدلّ عليه قوله تعالى في ما يأتي: وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، و جمع الخصيم خصماء. و هو يشمل جميع ما يوجب تأييد الخائنين و تقويتهم بالحجّة و الدفاع عنهم بالمجادلة و الميل إليهم.
و لا فرق بين القوي و الضعيف، فيشمل القوى في الدعوى أيضا، و الصديق و العدو، و المؤمن و الكافر، أو القريب و البعيد، و غير ذلك ممّا يوجب تقوية الخيانة؛ لإطلاق الآية المباركة، و أنّ الخيانة مبغوضة و الخائن لا كرامة له عند اللّه تعالى.
الآية المباركة تدلّ على نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن أن يكون مدافعا للخائنين ذابا عنهم‏ على من يطالبهم بالحقّ، فيبطل حقوق المحقّين و يدافع عن المبطلين، و هي تطبيق لقوله تعالى: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [سورة المائدة، الآية: ٤۹].
و إطلاق الآية الكريمة يشمل النهي عن جميع أنواع الخيانة و مطلق التعدّي، فيشمل الخيانة في أحكام اللّه تعالى و شريعته، كالكفر و الفسق، و الخيانة في حقوق الآخرين، و يشهد له الأمر في صدر الآية المباركة بالحكم مطلقا، لا خصوص نوع خاصّ منه.
و الخطاب و إن كان موجّها للرسول الكريم، إلّا أنّ المراد منه غيره ممّن كان خصيما للخائنين، و تعليم منه عزّ و جلّ لمن يريد التصدّي لهم، و يشهد له قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
قوله تعالى: وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ.
الاستغفار هو طلب الستر و المغفرة، و الغفران مصدر، و هو منصوب غالبا بإضمار، و في الحديث: «كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك»، أي: اطلب غفرانك، و في تخصيصه بذلك دائما أقوال:
الأوّل: أنّ ذلك عبادة أتى بها جزاء لما سلف من ما أنعم اللّه تعالى بها عليه من العافية و الرزق و إطعامه و هضمه و بقاء قوى الطعام في بدنه، فكان يلتجأ الى هذه العبادة جزاء للإحسان.
الثاني: استغفر لترك ذكره تعالى لسانا في مدّة لبثه في ذلك المحلّ، فكأنه رأى في ذلك تقصيرا فتداركه بالاستغفار، و إن كان قلبه مشغولا بذكره تعالى و إنّه لا ينقطع عنه.
الثالث: أنّ ذلك من تواضع العبوديّة لعظمته جلّ شأنه؛ لأنّ الغفران يلازم ذلّ العبوديّة.
الرابع: أنّ ذلك اعتراف بعدم أداء نصيبه من الشكر الّذي خصّص له لما أنعم سبحانه و تعالى عليه من جميع الجهات.
و ظاهر الخطاب في الآية المباركة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فيكون المراد منه الطلب من اللّه تعالى الستر على ما في طبع الإنسان من الميل الى الهوى من هضم الحقوق، و الدليل عليه قوله تعالى في ذيل الآيات المباركة: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ، فإنّ الآية المباركة تدلّ على عصمة اللّه تعالى لنبيّه الكريم بعد بذل القوم غاية جهدهم في إضلاله و إيثار الباطل لديه و تحريضه على الحقّ، و لكن اللّه تعالى جعله في أمنه و أخبرهم بأنّهم لا يضرّونه، فلا يجوز في الحكم و لا يميل الى الباطل.
و يمكن أن يكون المراد من الأمر الاستغفار لأجل أنّه عبادة تدلّ على ذلّ العبوديّة، بل هو من شؤونها، فلا يختصّ بما إذا كان عن ذنب؛ و لذا ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و أنا استغفر اللّه في كلّ يوم سبعين استغفارة» و هو معصوم، فإن كان الاستغفار صادرا ممّن عصمه اللّه تعالى، يكون مزيدا للثواب و الدرجات، و إن كان الاستغفار صادرا ممّن حصل منه الذنب، فيوجب عفوه و ستره و غفرانه، فأمر اللّه تعالى له صلّى اللّه عليه و آله بالاستغفار ليس لأجل صدور ذنب عنه، أو همّه إلى الباطل و زيفه عن الحقّ، بل لأنّ الاستغفار عبادة، و هو صلّى اللّه عليه و آله سيد العابدين و رئيسهم كما عرفت.
أو لأن يعصمه اللّه تعالى من الوقوع في ما يوجب بعده عنه تبارك و تعالى.
أو لأجل سؤاله أن يغلبه على هوى النفس و إن كان معصوما، و لكنّه يستلزم علوّ الدرجة له.
كما أنّه يمكن أن يكون الاستغفار لاشتغاله بالنظر في أهمّ مصالح الأمة، مثل محاربة الأعداء، فإنّها و أمثالها شاغلة عن عظيم مقامه.
أو عن عظيم ما مضى من أحواله، و الترقي منه إلى الأعظم لأنّ: «حسنات‏ الأبرار سيئات المقرّبين»، كما يحتمل أن يكون لتعليم الأمة من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة».
و ممّا ذكرنا يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من نسبة الذنب أو همّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، الّذي عصمه اللّه تعالى من الزلل و الخطأ و الذنوب كلّها، و قد نفى اللّه تعالى عنه كلّ ضرر و آمنه عن كلّ ميل إلى الباطل و اتّباع الهوى.
و ظهر ممّا تقدّم معنى الحديث الشريف: «انّه ليغان على قلبي حتّى استغفر اللّه في اليوم سبعين مرّة»، فإنّ قلبه الشريف أبدا مشغول باللّه تعالى، و لكن قد يعرض على قلبه المبارك عارض بشري من أمور الأمة و الملّة و مصالحهما، و عدّ ذلك في نفسه الأقدس تقصيرا، فيفزع إلى الاستغفار.
أو يتذكر رقيّ نفسه الشريفة من عظيم إلى أعظم فيتوجّه إليه بالاستغفار، و به يحصل الرقي. و منه يظهر شأن الاستغفار من بين الأذكار.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
أي: أنّ اللّه تعالى يحبّ المغفرة و الرحمة، فمن استغفره و استرحمه يجد اللّه غفورا رحيما دائما في تمام الأحوال و جميع العوالم.
قوله تعالى: وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ.
المجادلة المخاصمة، قيل: من الجدل، و هو الفتل، و منه رجل مجدول الخلق، أي: محكم الفتل، و يقال للصقر: الأجدل، و في حديث عليّ عليه السّلام حين وقف على طلحة و هو قتيل: «عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجدّلا تحت نجوم السماء»، أي: مرميا قتيلا ملقى على الأرض.
و قيل: إنّه مأخوذ من الجدالة، و هي وجه الأرض، و منه الحديث الشريف: «أنا خاتم النبيّين في أم الكتاب، و إنّ آدم لمنجدل في طينته»، أي: ملقى على الجدالة و هي الأرض، فكأن كلّ واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، و منه: تركته مجدلا، أي: مطروحا على الجدالة، كما مرّ في الحديث السابق أيضا.
و يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي: يخونونها و يحملونها على ما يخالف الفطرة و الدين، فتشمل كلّ معصية، سواء كانت خيانة أم غيرها، إلى النفس أو إلى الغير، فإنّ و بالها راجع إليها بالآخرة؛ لأنّ كلّ معصية تعدّ خيانة للنفس كما يعدّ ظلما لها.
و ربما تكون الخيانة إلى الغير أخذ؛ لأنّه يجب احترامه و حفظه و مراعاة العهد معه، فيكون التعدّي عليه بالخيانة في ماله أو في عرضه أو في غيرهما خيانة له و للنفس، و لعلّ التعبير به لبيان هذه الجهة أيضا.
و سياق الآية المباركة يدلّ على حرصهم و استمرارهم عليها، و قد ورد مثله في قوله تعالى: كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 187]، و تقدّم ما يتعلّق به فراجع.
و لا يختصّ مضمون الآية المباركة بعصر النزول، فإنّ في كلّ عصر يوجد من يكون خائنا للنفس بارتكاب المعاصي و الآثام، كما أنّ النهي و إن كان موجّها إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و لكنّه تشريع موجّه إلى جميع المكلّفين، فلا يجوز المدافعة عمّن يخون نفسه بارتكاب المعاصي و جعل نفسه عرضة للخيانة.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً.
الخوّان فعّال من أبنية المبالغة، أي: كثير الخيانة، و هو يدلّ على استمرارهم عليها و تعظيم الأمر فيها.
و الأثيم صفة مشبهة، و هو المنهمك في الإثم، و إنّما قدّم عزّ و جلّ الخيانة على الإثم لأنّها السبب له.
و تعليق البغض و عدم المحبّة بهؤلاء؛ لبيان إفراطهم في الخيانة و الإثم و أمنهم من العقاب الإلهي؛ لأنهم اعتادوا الخيانة و ألفوا الإثم، فلم يعد ينفرون منه، لا لأجل أنّه تعالى يبغض كثير الخيانة، فهو عزّ و جلّ لا يحبّ قليلها كما لا يحبّ كثيرها. و قد عدّ عزّ و جلّ جملة من خياناتهم و مآثمهم و معاصيهم، بالنسبة إلى اللّه تعالى و الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دين الحقّ و المؤمنين في جملة من الآيات الكريمة.
و يستفاد من سياق الآية الشريفة أنّها نزلت في قوم اعتادوا على الخيانة و ارتكاب الإثم و انهمكوا فيه، فنهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن أن يكون خصيما لهم، و أن يجادل عنهم لأجل خيانتهم، فهو تعالى يبغضهم لذلك و ينهى عن المدافعة عنهم، فلا فرق في الحكم بين قليل الخيانة و كثيرها، فإنّهما على حدّ سواء عنده عزّ و جلّ.
قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ.
بيان لأهمّ سجاياهم الّتي امتاز بها هؤلاء الخوانون الآثمون. منها: استتارهم عن الناس و استحياؤهم منهم عند ارتكاب الخيانة و الآثام، و عدم استتارهم عن اللّه تعالى لأنّهم أمنوا عقابه، فلا إيمان لهم؛ لأنّ الإيمان جنّة واقية يمنعهم عن ارتكاب و اقتراف الإثم، و هو أحقّ من أن يستخفى عنه و يستتر منه.
و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالاستخفاء منه تعالى و هو عليم بمنويات الصدور و لا تخفى عليه شي‏ء في الأرض و لا في السماء؛ تنزيلا على زعمهم، فإنّهم كانوا على درجة ضعيفة من الإيمان، فلم يعتقدوا مراقبة اللّه تعالى لهم، فبيّن عزّ و جلّ لهم هذه الحقيقة.
و من ذلك يعرف أنّه لا وجه لارتكاب المجاز في المقام و القول بأنّ المراد من الاستخفاء منه تعالى الاستحياء، فإنّه و إن كان صحيحا، لكنّه خلاف السياق.
و ممّا ذكرناه يعلم الوجه في ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الاستخفاء من اللّه تعالى أمر غير مقدور، إذ لا يخفى على اللّه شي‏ء في الأرض و لا في السماء، فطرفه المقابل له- اعني عدم الاستخفاء- أيضا أمر اضطراري غير مقدور، و إذا كان كذلك لم يتعلّق به لوم و لا تعيير، كما هو ظاهر الآية الشريفة، فالظاهر أنّ الاستخفاء كناية عن الاستحياء؛ و لذلك قيّد قوله: وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ بقوله: وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ، الدالّ على أنّهم كانوا يدبّرون ما لا يرضى من القول، أي: التبرّي من هذه الخيانة المذمومة، كما قيّده عزّ و جلّ بقوله: وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً، الّذي يدلّ على إحاطته تعالى بهم‏ في جميع الأحوال حتّى حال ارتكاب الجرم و صدور المعصية، فيكون التقييد بهذين القيدين من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ، و هو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من اللّه تعالى بعلّة خاصّة ثمّ بأخرى عامّة.
و ما ذكره قدّس سرّه تطويل بلا طائل تحته، فإنّ ما يذكره عزّ و جلّ من الآيات التالية كفيل في بيان المراد من عدم استخفائهم من اللّه، و هو التنزيل على ما كانوا يعتقدونه، و إنّه مذكور على ما كانوا يتخيّلونه من عدم حضوره عزّ و جلّ و أمنهم من عقابه، بخلاف استخفائهم من الناس، فإنّهم لم يكونوا في مأمن من عقابهم و توبيخهم، فكان الردّ عليهم حاسما، من أنّه معهم يعلم ما يبيّتون ما لا يرضى من القول، و أكّد ذلك بأنّه محيط بهم.
و ما ذكره أخيرا من الآيتين المباركتين الأخيرتين تعليل لعدم استخفائهم من اللّه تعالى صحيح، فهو عزّ و جلّ أحقّ من أن يستخفى منه- بأن لا يعصى لا جهرا و لا خفاء- فالاستخفاء منه تعالى أمر مقدور بترك المعصية و الإثم و مراقبته عزّ و جلّ في جميع الأحوال.
قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَهُمْ.
تعليل لعدم استخفائهم منه جلّ شأنه، فهو معهم يعلم ما تكنّ به صدورهم و يرى أعمالهم و يسمع أقوالهم. و معيّته تعالى لخلقه معيّة قيوميّة إحاطيّة علميّة، لا معيّة زمانيّة و مكانيّة، فإنّه تعالى محيط بهما.
قوله تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ.
تقدّم الكلام في مادة (بيّت)، و المراد به التدبير ليلا و في الخفاء بما لا يرضاه عزّ و جلّ من القول و الفعل، كالتبريّ من الخيانة و رمي البري‏ء بها و شهادتهم عليها زورا، فيكون المراد من القول الأعمّ منه و من الفعل المترتّب عليه، فكانوا يدبّرون ما لا يرضاه عزّ و جلّ في الخفاء و ينسبونه إلى البري‏ء.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً.
تعليل عامّ يبطل زعمهم في عدم استخفائهم من اللّه تعالى و تدبيرهم القول، فإنّه عزّ و جلّ محيط بهم في جميع الأحوال، فيعلم أفعالهم و أقوالهم و سرّهم و علنهم، عالم بجميع خصوصياتهم لا يعزب عن علمه شي‏ء و لا يفوته أمر.
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
بيان لعدم انتفاعهم بالمجادلة عنهم، و هو دليل على أنّ المجادلة المنهيّة في صدر الآية الشريفة الّتي خوطب بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليس المراد منه نفس الرسول الكريم، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله معصوم لا يجادل عن الّذين يخونون أنفسهم، بل كان واقعا من بعض المؤمنين، إلّا أنّ الخطاب كان موجّها لرسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله؛ تعظيما للأمر و تعليما لأمته، فإنّ الأمر بمكان من الأهميّة؛ لأنّ فيه تضييعا للحقوق و مسّا للعدالة الإسلاميّة و ترويجا للباطل و إزهاقا للحقّ، فكان ذلك سببا في توجيه الخطاب له صلّى اللّه عليه و آله و مثل هذا الأسلوب يراد منه الاستفزاز و التنبيه بأنّ الجدال عنهم لا ينفعهم و لو بذلتم غاية الجهد في ذلك، فإنّ جناياتهم على حدّ من الكثرة و العظمة بحيث يوجب مشاقّتهم بالتوبيخ و التقريع، لا المخاصمة و الجدال عنهم.
قوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
أي: لو نفعهم الجدال في الحياة الدنيا، فلا ينفعهم في يوم القيامة، يوم حضور الأعمال و يوم الشهود. و الاستفهام بمعنى الإنكار و التوبيخ.
قوله تعالى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا.
أي: إذا حضرت الأعمال و تكشّفت السرائر و برزوا للّه الواحد القهّار، فمن يكون وكيلا يدافع عنهم، فإنّه في ذلك اليوم لا مدافع عن المجرمين و لا مجادل عنهم و لا كفيل يدبر أمرهم و يصلح شأنهم، فهناك لا ينفع الاستخفاء من اللّه تعالى، فإنّ الأعمال محفوظة لديه و هو محيط بهم.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ.
ترغيب للتوبة و حثّ إلى ترك السوء و الخيانة. و بيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه، و إرشاد إلى أنّ المعصية الّتي يقترفها الإنسان تؤثّر في نفسه و تخلّف تبعات و آثارا عليها، و تكتب في صحيفة أعماله، و لا يمكن إزالتها إلّا بالرجوع إلى اللّه تعالى و استغفاره، فلو فعل ذلك وجد اللّه جلّت قدرته توّابا رحيما.
و السوء: ما يسوء الإنسان، و لعلّ التدريج من السوء إلى الظلم إمّا لأجل أنّ السوء يراد به التعدّي على الغير و بالظلم التعدّي على النفس، أو من التدريج من المعصية الصغيرة إلى المعصية الكبيرة. و قيل: السوء ما دون الشرك؛ لأنّه ظلم عظيم.
و كيف كان، فهما مشتركان في العصيان و التعدّي على حرماته عزّ و جلّ.
قوله تعالى: ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
أي: يطلب منه المغفرة بالتوبة الصادقة، فإنّه يجد اللّه غفورا لذنوبه رحيما به، و من رحمته عزّ و جلّ أن وفّقه التوبة و أنّه يقبلها و لو بعد حين. و لعلّ الإتيان ب (ثم) إشارة إلى ذلك.
و التعبير بالوجدان لبيان سرعة الاستجابة، و عن علي عليه السّلام: «من اعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة»، و فيه الحثّ إلى التوبة و الاستغفار، و بيان إلى أنّ من لم يتب يحرم نفسه من رحمته تعالى.
و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الصغائر و الكبائر، كما أنّ سياقها يدلّ على التفضّل و الامتنان.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى‏ نَفْسِهِ.
بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي طالما غفل عنها الإنسان، و هي أنّ الإثم الّذي يكسبه إنّما يكسبه على نفسه و لن يتخطّاه و تلحقه آثاره و تبعاته، و يكون وباله عليه مهما تنصّل عن ذلك و رمي به غيره زورا و افتراء، فلا بد أن يتذكّر ذلك و يجعله نصب عينيه، فإنّه لا يجديه رمي الغير به، أو أن يتعهّد له متعهّد، فإنّه وحده يتحمّل إثمه، و وزره و وباله إنّما يكون على من كسبه فليحترز عن الذنب و تعريض النفس للعقاب.
و المراد بالكسب هو الفعل بقصد الانتفاع به؛ و لذا لا يوصف فعل الربّ بالكسب لعدم تصوّر الانتفاع فيه عزّ و جلّ، و الإثم هو الذنب.
و هذه الآية الشريفة كالمقدّمة للآية التالية المتعرّضة للرمي بالخطيئة و الإثم.
قوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
أي: أنّ اللّه عليم يعلم أفعال عباده حكيم بأن جعل لكلّ فعل جزاء خاصّا، و من حكمته أنّه لا يؤاخذ أحدا إلّا بسبب إثمه.
و قد فسّرت هذه الآية آيات اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏* [سورة الانعام، الآية: ۱٦٤].
و قال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 12]، و قال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: ۲۸٦].
قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً.
بيان إلى أنّ الخطيئة و الإثم الّذي يرتكبه أحد إذا رمى به بريئا كان إثما و خطيئة اخرى. و الخطيئة و الإثم و الذنب و السيئة في الشرع تطلق على المعصية، و لها مدلولات متفرّقة إلّا أنّه يمكن الفرق بينها أنّ الخطيئة تستعمل في المعصية الّتي تكون من غير تعمّد، ثمّ توسّع فيها و استعملت في كلّ ما لا ينبغي أن يقصده الإنسان، فتكون كلّ معصية و أثرها من مصاديق الخطيئة. و بناء على ذلك تكون‏ الخطيئة على قسمين، فإمّا أن يكون عملا أو أثر عمل لم يقصده الإنسان، فلا تعدّ حينئذ معصية، و من نسبة الخطيئة إلى الكسب الدالّ على القصد يراد من الخطيئة المعصية.
و أمّا الإثم فهو في الأصل التقصير، أي: ما يوجب قصر صاحبه عن الكمال، أو ما يوجب الحرمان عن الخيرات كالخمر، فإنّها تقصر بشاربها لذهابها بعقله، و هي توجب حرمان شاربها من الخيرات، سواء كانت فرديّة أم اجتماعيّة أو تكون مبطلة للثواب.
و أمّا الذنب، فهو الفعل الشنيع الّذي يتبعه الذمّ و اللوم.
و ذكر بعضهم أنّ الإثم هو القبيح الّذي عليه تبعة، و أمّا الذنب فهو القبيح من الفعل و لا يفيد معنى التبعيّة؛ و لذا يقال: أذنب الصبي، و لا يقال: قد إثم.
و كيف كان، فاجتماع الخطيئة و الإثم في الآية الشريفة و نسبتهما إلى الكسب يدلّ على أنّ لكلّ واحد منهما مدلولا خاصّا. فالمعنى: و من يكسب معصية و يفعل فعلا لا ينبغي أن يقصده، كترك الواجبات و فعل المحرمات- كأكلّ الدم- أو يكسب إثما يوجب حرمان صاحبه عن الخيرات و يبقى وبالها- كالسرقة و قتل النفس- ثمّ يرمي بريئا بنسبتها إليه، فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا.
و المراد من يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً نسبة الخطيئة و الإثم إليه، و زعم أنّه هو الّذي فعله افتراء.
قوله تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً.
البهتان هو الكذب على شخص بما يبهت منه و يتحيّر عند سماعه لفظاعته، يقال: بهته بهتا و بهتانا فهو باهت، و المقول مبهوت.
و الإثم المبين، أي: المبين الّذي لا شكّ فيه و لا خفاء، و اكتفى في البهتان بتنكير التفخيم. و يمكن أن يرجع وصف الإثم إلى البهتان أيضا، و عبّر بهما تهويلا للأمر و تعظيما لحال البري‏ء.
و في إطلاق الاحتمال بالنسبة إلى قبول وزر البهتان استعارة لطيفة، كأنّ المفترى يفتك بالمتهم البري‏ء و يرميه بالإثم و الخطيئة، فيوجب أن يتحمّل حملا يشغله عن كلّ خير، لا يفارقه مدى حياته.
و الآية المباركة تتضمّن أدبا من آداب الإسلام و خلقا كريما من مكارم الأخلاق. و هو ترك رمي البري‏ء و الافتراء عليه، فإنّه خطيئة أخرى و إثم عظيم؛ لأنّه يشتمل على الكذب و الافتراء و الظلم على الغير و ذهاب الثقة بين المجتمع و هدم الاعتماد في الأسرة و إشاعة الفحشاء بين الأفراد؛ و لذا كان معصية كبيرة توجب فساد الدنيا و عذاب الآخرة.
قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ.
الآية الشريفة تدلّ على أنّهم كانوا يهتمّون بإضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يرضونه بالدفاع عن الخائنين و المجادلة عنهم، و هؤلاء هم الّذين خاطبهم عزّ و جلّ بقوله: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة النساء، الآية: 109]، و تنطبق الآية الكريمة على القوم الّذين اتّهموا بريئا و أرادوا تعريض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجادلة عنهم، كما وردت في الروايات على ما سيأتي.
أي: و لو لا فضل اللّه عليك بالتأييد و العصمة، و رحمته بإخبارك و همهم و تنبيهك بالحقّ و الحقيقة، لهمّت طائفة من الّذين يختانون أنفسهم- و هم قوم أبي طعمة و غيرهم على ما ستعرف- الّذين انتصروا للخائن و طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجادلة عنهم و الحكم على المتهم البري‏ء، و هم يعلمون حقيقة الحال، و قد همّوا و بذلوا غاية جهدهم في إضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الواقع و القضاء بالحقّ، و الآية المباركة تدلّ على نفي تأثير همّهم فيه صلّى اللّه عليه و آله لا نفي الهمّ مطلقا.
قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ.
أي: أنّ إضلالهم لا يتعدّى إليك و لا يتجاوز عن أنفسهم، فإنّ وزره و وباله‏ راجع إليهم، فهم الضالّون و يعملون عملهم، و أنّهم أزالوا أنفسهم عن الحقّ و أوردوها مورد الهلاك.
قوله تعالى: وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ.
عطف تفسيري للآية الكريمة السابقة، أي: أنّهم بهمّهم لإضلالك لا يضرّونك بل يضرّون أنفسهم بتعريضها للهلاك و وبال عملهم عليهم، فلا يتعدّى عليك؛ لأنّك مؤيّد من عنده تعالى و معصوم، فلا يضرّك ما يخطر ببالك بادئ الأمر من همّهم و شدّة جهدهم في تلبيس الحقّ بالباطل.
و الآية المباركة تدلّ على نفي إضرارهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مطلقا و في جميع الحالات و الخصوصيات، و هي تدلّ على عدم صدور المجادلة عنهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مطلقا.
قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.
بيان لفضله تعالى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الرحمة له، و هو في مقام التعليل لقوله تعالى: وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ، أي: ما يضرّونك من شي‏ء مع إنزال اللّه عليك القرآن و الحكمة، و هي الفصل في القضاء، أو الاطلاع على الحقائق و دقائق الكتاب و سائر المعارف الإلهيّة. و علّمك من الحقائق و كشف لك الأسرار المكنونة و العلوم المخزونة و خفيّات الرموز ما لم تعلم إلّا بتعليمه.
و ذكر المفسّرون في تفسير الكتاب و الحكمة أمورا يمكن المناقشة فيها، فقيل: المراد من الكتاب: هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس، كما في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [سورة البقرة، الآية: 213].
و فيه: أنّ الظاهر من الكتاب- في المقام- النازل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المقابل للحكمة، و تعليم ما لم يعلم هو القرآن الكريم، و هو و الحكمة تكفّلا لرفع اختلاف الناس و الفصل بالحقّ في القضاء.
و قيل: المراد بالحكمة ما فيه من الأحكام، و ما ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الغيب و الأقدار المخفيّة على البشر.
و فيه: أنّه لم يقم دليل عليه، بل الحكمة متى ما أطلقت يراد بها تلك العلوم و المعارف الحقّة، الّتي لها مدخليّة في شؤون الإنسان العمليّة و المصيريّة.
و قيل: المراد بالكتاب القرآن، و بالحكمة السنّة، و ممّا لم تعلم الشرائع و أنباء الرسل الأوّلين؛ و هو بعيد جدا.
و هذا العلم النازل من اللّه تعالى على قلبه الشريف، هو الملاك في العصمة الّتي هي عبارة عن علم الشخص بأمور تمنعه عن ارتكاب المعصية و التلبّس بالخطإ، فإنّ أثر هذا العلم هو منع صاحبه عن الضلال، كما أنّ أثر الشجاعة و السخاء و نحو ذلك من السجايا الفاضلة و الملكات، مترتّب عليها تمنع صاحبها من التلبّس بما يضادها من الجبن و البخل و التبذير و نحو ذلك، و سيأتي في البحث الفلسفي في الآيات المناسبة له ما يتعلّق بالعصمة إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.
امتنان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إذ لا فضل أعظم من النبوّة و الرحمة الإلهيّة و تعليم الكتاب و الحكمة و عصمته من الوقوع في الضلال، فذلك كلّه فضل لا يمكن أن تحويه عبارة و لا تحيط به إشارة.
قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ.
بيان للصراط المستقيم و المنهج القويم الّذي لا بد و أن يتّبعه الخائنون، دون ما حكى عنهم عزّ و جلّ- كما مرّ- من تبييت ما لا يرضى من القول و فساد النية و سوء الفعال.
و ما تضمّنته هذه الآية المباركة تعليم إلهي لسائر الناس، و إرشاد لهم بأنّهم إذا تناجوا فلا بد أن يكون نجواهم بالخير و المعروف و الإصلاح بين الناس و التأليف بينهم بالمودّة، و إلّا فلا خير في نجواهم و يكون وزره و وباله عليهم.
و النجوى: السرّ بين الاثنين، و ناجيته، أي: ساررته، تقول: ناجيت فلانا مناجاة و نجاء، و هم ينتجون و يتناجون، و نجوت فلانا انجوه نجوا، أي: ناجيته، و هو من نجوت السرّ أنجوه، أي: خلصته و أفردته، و منه نجوّة الأرض، أي المرتفع منها لانفراده بارتفاعه عمّا حوله. فالنجوى المسارّة مصدر، و قد تسمّى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل و رضا، قال تعالى: وَ إِذْ هُمْ نَجْوى‏ [سورة الإسراء، الآية: ٤۷]، أي: متناجون، و في الحديث: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اللّه عليّا عليه السّلام يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه، فقال: ما انتجيته و لكن اللّه انتجاه»، أي: أنّ اللّه تعالى أمرني أن أناجيه. و في الدعاء: «اللهمّ بمحمّد نبيّك و صفيّك، و بموسى نجيّك»، أي: المناجي و المخاطب معك.
و الضمير في نَجْواهُمْ يعود إلى القوم المختانين أنفسهم، الّذين يبيّتون ما لا يرضى من القول، و الّذين يستخفون من الناس و لا يستخفون من اللّه تعالى، و قد غلب الشرّ عليهم فلا خير فيهم، لا في أفعالهم و لا أقوالهم و لا في مناجاتهم فيما بينهم.
و إنّما عبرّ عزّ و جلّ ب لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ؛ لأنّ ما تناجوا فيه من الأمور الّتي نفى عنها الخير، فلا يحتاج إلى النجوى فيها، أو لأنّ النجوى إن كان راجعا الى شؤونهم الخاصّة الّتي لا ربط لها بإبطال الحقّ و إحقاق الباطل، فليس داخلا في مضمون الآية الشريفة، و هي قليلة عندهم. أو أنّ نفي الخير عن الكثير راجع إلى نفي الخير كلّه، باعتبار أنّ الكثير إذا لم يكن فيه الخير فقليله لا ينفع؛ لأنّ النجوى مظنّة الإثم و العدوان، قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [سورة المجادلة، الآية: 10]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ‏ تُحْشَرُونَ [سورة المجادلة، الآية: 9]، فإنّ الإثم و العدوان إنّما يتحدّث عنهما في السرّ، دون الخير فإنّه يتحدّث عنه في الملأ.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏ إرشاد إلى أنّ الخير في كلّ نجوى واقع بين الطرفين أو أكثر لا بدّ أن يكون باعثا لهذه الأمور الثلاثة، و هي الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس، و على هذا فالاستثناء متّصل، أي: أنّه لا خير في النجوى، بل الخير فيه ما كان باعثا إلى هذه الأمور المذكورة في الآية الكريمة.
و قيل: إنّ الاستثناء منقطع على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف.
و كيف كان، فهذه الأمور الثلاثة هي مجامع الخير الّتي يحتاج إليها في تنظيم أمور معاشهم و معادهم، و إنّها هي الّتي يحتاج فيها إلى النجوى، و غيرها لا خير فيها.
و إنّما ذكر عزّ و جلّ هذه الأمور الثلاثة؛ لأنّ كمالها إنّما يكون بكتمانها و التعاون عليها سرّا و جعلها نجوى.
و الصدقة هي العطيّة المتبرّع بها الغير بقصد القربة. و المعروف: ما يعمّ أعمال البرّ كلّها، و الإصلاح بين الناس: هو رفع الاختلاف و إلقاء المودّة بينهم، و تقدّم أنّ هذه الأمور الثلاثة هي الجامعة لجميع أبواب الخير، و هو إمّا أن يكون فيه إيصال نفع إلى الغير، و هذا على قسمين، فإمّا أن يكون النفع جسمانيّا و مادّيا، و هي الصدقة. و إمّا أن يكون معنويّا و روحانيّا، و هو المعروف. و إمّا أن يكون الخير دفع المضرّة عن الغير، و هو الإصلاح بين الناس.
و إنّما قدّم الصدقة على المعروف و الإصلاح؛ لأنّ الأمر فيها أشقّ، فإنّ فيها بذل المال الّذي هو شفيق الروح، بل عن عليّ عليه السّلام: «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على حرب».
كما أنّ تخصيص المعروف و الإصلاح بالذكر مع إمكان دخولهما في الصدقة لأنّ «كلّ معروف صدقة»؛ إيذانا بالاعتناء بشأنهما و للترغيب بهما، فإنّ المعروف يحبّه جميع الناس، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المعروف كاسمه و أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة المعروف و أهله»، و تقدّم في عدّة آيات شريفة الأمر بفعل المعروف، و المستفاد من مجموعها أنّ المعروف لا يتمّ إلّا بثلاث خصال: بالتعجيل، و الستر، و التصغير.
و أمّا الإصلاح بين الناس ففيه إزالة الفساد من ذات البين، و فيه الفضل الكبير و الثواب الجزيل، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أدلّك على صدقة يحبّها اللّه و رسوله، تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، و تقرّب بينهم إذا تباعدوا»، و عموم الإصلاح بين الناس يشمل جميع أفراده، في الدماء و الأموال و الأعراض و في كلّ شي‏ء يرفع الاختلاف بين الناس حتّى الكذب، بلا فرق بين المسلمين و غيرهم، فإنّه أمر محبوب إلّا فيما ورد من الشارع نهي بالخصوص حتّى في مثل المقام، و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «و الكلام ثلاثة، صدق و كذب و إصلاح بين الناس»، و في الحديث عنه عليه السّلام أيضا: «إنّ اللّه فرض التمحّل في القرآن، فقيل: و ما التمحّل؟ قال عليه السّلام: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له»، و هو قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ.
و المراد من التمحّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان، و قد ضبط التجمّل بالجيم، و التحمل بالحاء أيضا.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ.
بيان لحال النجوى من حيث المثوبة و العقوبة ليتّضح وجه الخير في النجوى و عدمه. و ينقسم المتناجون إلى قسمين: قسم يبتغي في فعله مرضاة اللّه تعالى، فله الأجر العظيم، و قسم آخر يفعل لأجل مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتّباع سبيل آخر غير سبيل المؤمنين، فسيكون جزاؤه جهنّم، و الآيات التالية بين القسمين.
أي: من يأمر بالمذكورات من الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس و يفعل ذلك لأجل طلب رضا اللّه تعالى و تقرّبا إليه عزّ و جلّ، فقد نال الخير و سيثيبه سبحانه و تعالى الأجر العظيم.
و إنّما عدل عزّ و جلّ عن الأمر إلى الفعل؛ لبيان أنّ مجرّد الوعد غير كاف، بل لا بدّ أن يتلبّس بالفعل و يتحقّق في الخارج.
قوله تعالى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ.
بغي الشي‏ء طلبه، و ابتغاه يدلّ على شدّة الطلب و الاجتهاد فيه، فهو أبلغ من الطلب، أي: من يفعل من الصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس لأجل طلب رضا اللّه تعالى و الانقطاع إليه- لأنّ الأعمال بالنيّات- فقد فاز بالأجر منه جلّت عظمته و يمنحه من عطاياه و يشرّفه من كرمه، فيدلّ على أنّ فعل الخير إنّما يكون مظهرا لرحمته عزّ و جلّ في ما إذا أراد مرضاة اللّه تعالى منه، فيكون الخير و العمل أنفع و أدوم و يكون مظهرا من مظاهر رحمته عزّ و جلّ، و كلّ ما كان الفعل أخلص لوجه اللّه تعالى كان أكمل و أنفع و أبقى، و على درجات الإخلاص يثاب الفاعل.
و تدلّ هذه الآية الشريفة على نظرية الإسلام في الخير و الأخلاق الفاضلة، فإنّه يؤكّد عليه أشدّ تأكيد و يحثّ على التخلّق بها و التحلّي بالفضيلة و عمل الخير ابتغاء لمرضاة اللّه تعالى و خالصا لوجهه الكريم، فهو ينظر إلى الجانب الروحاني و المعنوي أكثر من البعد المادّي، فلا يعير للأخلاق الفاضلة إذا طلبت لأجل البعد المادّي من قضاء الحوائج و تمشية الأمور الدنيويّة و حصول النفع كما تراه عليه الجاهليّة المعاصرة و المذاهب النفعيّة في الأخلاق، فالخلق الكريم إنّما يكون صالحا و كاملا و موجبا لإصلاح النفس إذا كان ابتغاؤه لأجل مرضاة اللّه تعالى، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا الأخلاقيّة، فراجع.
قوله تعالى: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
أي: نعطيه مثوبة عظيمة يقصر عنها الوصف في الكثرة و الصفة و المنزلة، و يستحقر دونها ممّا فات من أعراض الدنيا، و أمّا كون الأجر كثيرا فلأنّه دائم، و أمّا كونه في منتهى كمال الصفات فلأنّه لا ينغصه شي‏ء و لا يشوبه ما يعيبه، و أمّا المنزلة فلأنّها مقارنة للتعظيم، فإطلاق الآية المباركة يشمل جميع ما تقدّم لانتساب إعطاء الأجر إلى ذاته الأقدس و توصيفه بالعظمة المتجلّية عن مقامه الربوبي جلّ شأنه، و ظاهر الآية المباركة من قبيل ترتّب السبب على المسبّب، و يستفاد منها تثبيت قدرته و قهّاريته.
قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏.
بيان للقسم الثاني من المتناجين بعد بيان حال المتناجين بالخير و الأمر بالصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس، و ابتغاؤهم مرضاة اللّه تعالى، و وعدهم عزّ و جلّ الجزاء الأحسن.
و في هذه الآية الشريفة يبيّن تعالى حال المتناجين بالشرّ و مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتّباعهم طريقا غير طريق المؤمنين، و أوعدهم عزّ و جلّ الإملاء و الاستدراج ثمّ إصلائهم جهنّم و ساءت مصيرا.
و المشاقّة المخالفة و المعاداة، مشتق إمّا من شقّ العصا، أو من الشقّ، و هو القطعة المبانة من الشي‏ء، فكأنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر.
و قد ورد في القرآن الكريم هذه الكلمة تارة: بالإدغام الّتي هي لغة بني تميم، قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [سورة الحشر، الآية: ٤].
و أخرى بالفكّ كما في المقام، و في سورة الأنفال- الآية 13 قال تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و هي لغة الحجاز. و لعلّ الفكّ في المقام لبيان شدّة الانفكاك بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مخالفه، كما في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ [سورة الأنفال، الآية: 13].
و التعرّض للرسالة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ تعليلا لما سيذكره عزّ و جلّ، و لبيان كمال شناعة مخالفتهم و مشاقّتهم، و المراد من قوله عزّ و جلّ: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏، أي: من بعد ما ظهر الحقّ، و فيه من التقبيح العظيم لهم ما لا يخفى.
و المعنى: و من يخالف الرسول من بعد ما ظهر له الحقّ بالدلائل و المعجزات و موافقة ما أتى به للفطرة و لم يطعه، و إنما ذكر عزّ و جلّ القيد: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏؛ لبيان شدّة المعاندة، و أنّ المشاقة إنّما كانت عصبيّة و اتّباعا للشهوات و النفس الأمّارة، فكانت سببا لزوال الهداية و تفويتها عنهم.
قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
سبيل المؤمنين إنّما هو سبيل الهداية، و ما هم عليه من الحنفيّة الصافية الموافقة للفطرة الخالية عن كلّ شائبة، كما أنّ سبيلهم إنّما يكون سبيل التقوى، فكان سبيلهم طاعة اللّه، و اجتماعهم إنّما كان عليها، و قد ورد الحثّ على اتّباع سبيلهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الانعام، الآية: ۱٥۳]، و قال تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [سورة آل عمران، الآية: 103].
قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى.
أي: من خالف الرسول و اتّبع غير سبيل المؤمنين في ما هم عليه من التقوى و الهداية و إطاعة اللّه من ما بعد ظهر له، نجعله على ما تولّاه من الضلالة و الغواية الّتي اختارها.
و الآية الشريفة تدلّ على اختيار الإنسان في أفعاله و سلوك عقائده، و أنّ لها الأثر الكبير في هداية الإنسان و سبلها، فإنّ الخروج عن ربقة المؤمنين و الإعراض عن تعاليم سيد المرسلين، موجب للخروج عن الفطرة المستقيمة و الدخول في سلك‏ الكافرين، و يكفي في سلب الهداية إيكال اللّه تعالى الإنسان إلى نفسه و عدم توفيقه له، و هذا هو الجزاء الدنيوي لهم حيث استدرجهم و أملاهم.
و هذه الآية المباركة تتضمّن من الحكمة القويمة و المنهج الصالح للإنسان ما لم تكن في غيرها، و يستفاد من سياقها أنّها في مقام الامتنان على الأمّة المرحومة.
قوله تعالى: وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً.
بيان للجزاء الأخروي بعد بيان الجزاء الدنيوي، أي: ندخله في جهنّم جزاء لما اختاره في الدنيا من الطغيان و الغواية؛ و لذلك يصلّى جهنّم و بئس المصير الّذي يصير إليه.
و الآيات الكريمة و إن نزلت في قوم معاندين للحقّ و لكن العبرة بعموم اللفظ، لا خصوص السبب و المورد.

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:
الأوّل:
يدلّ قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أنّ الحكم الحقيقي بين الناس و القضاء فيهم من شؤون النبوّة، بل يستفاد منها أنّهما من مختصاتها و لا يمكن أن يتصدّى لهما إلّا إذا كان مأذونا من قبله، و لعلّ ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السّلام في شأن القضاء من أنّه من مناصب الأنبياء و الأوصياء، مأخوذ من أمثال هذه الآية المباركة.
الثاني:
يستفاد من الآية الشريفة المتقدّمة أنّ القضاء و الحكم بين الناس لا بدّ أن يستند إلى كتاب اللّه تعالى أو السنّة المباركة من ما ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قوله و فعله، فإنّه ممّا أراه اللّه تعالى.
الثالث:
يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أنّ أهمّ ما يفسد القضاء هي الخيانة مطلقا، و يؤكّد ذلك تعقيب الأمر بالحكم بين الناس بالحقّ بهذه الآية الكريمة، و أنّ الخيانة في القضاء من الظلم الّذي لا بدّ من طلب المغفرة من اللّه تعالى، و التوبة من مثل هذا الظلم إنّما تتحقّق بترك الخيانة و الرجوع إلى الحقّ.
الرابع:
يدلّ قوله تعالى: وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أنّ الدفاع عن الخائنين و مرتكبي الظلم و الآثام من أسباب إعراض اللّه تعالى عن العبد و عدم محبّته له، و أنّ الدفاع عنهم لا يرفعهم عنده جلّت عظمته، فإنّه لا يؤاخذهم إلّا بذنوبهم.
الخامس:
يدلّ قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ على أنّ الخيانة إنّما تتحقّق بالاستخفاء من الناس أو الحياء منهم لئلّا يؤاخذوه بما صدر منه من المعصية و الظلم، و عدم الحياء من اللّه تعالى الّذي هو معهم و لا تخفى عليه خافية.
و من ذلك يستفاد أن أساس كلّ معصية و ارتكاب كلّ ظلم و سوء إنّما هي الخيانة بهذا المعنى العريض الشامل لكلّ مخالفة، و أنّها تحصل بترك المراقبة للنفس، و سيأتي في الموضع المناسب التفصيل في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
السادس:
يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ انحصار الطريق في رفع أثر الظلم على النفس و المعصية و السوء، بالتوبة و الرجوع إلى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه عزّ و جلّ، أمّا الشفاعة للظالمين الخائنين لأنفسهم و الدفاع عنهم و اتّخاذ الدليل لهم، فلا فائدة في ذلك كلّه، فرحمته عزّ و جلّ إنّما تشمل العباد لو طلبوها من الطريق الصحيح.
السابع:
يدلّ قوله تعالى: الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ على معنى دقيق، و هو أنّ الإنسان إنّما خلقه عزّ و جلّ و أودع فيه غريزة خاصّة بها يطلب الكمال و يسعى له، و قد بيّن عزّ و جلّ الطريق الّذي يوصله إليه، و لا يمكن أن يطلبه من غير ذلك و ما يطلبه، فإنّه خيال و وهم و ليس هو الكمال الحقيقي المنشود، فمن ارتكب المعصية و يقترف الإثم و السوء، فإنّه خان نفسه الّتي تسعى إلى الكمال و أضلّها عن الطريق المستقيم و عن ما أودعه عزّ و جلّ في فطرة الإنسان عنها و تضييعها و تعطيلها، و لو أحرز شيئا لم يكن ذلك من الكمال المنشود.
الثامن:
يستفاد من قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ أنّ الأنبياء عليهم السّلام كسائر البشر يتأثّرون بكلّ ما يحيط بهم من قول الشرّ، إلّا أنّ العصمة الّتي أودعها اللّه تعالى فيهم تحفظهم و تمنع من ظهور آثار الضلال عليهم، فلا يضرّونهم أهل الضلال.
و هذه الآية المباركة من الآيات الشريفة الّتي تدلّ على عصمة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، الّتي هي قوّة شعوريّة علميّة إراديّة غير مغلوبة لسبب من أسباب الضلال و الفساد.
و هي تدلّ على أنّ العصمة لا تخرج المعصوم عن كونه فردا من أفراد الإنسان، بل هي موهبة الهية عظيمة و فضل كبير عليهم، تعزف أنفسهم بها عن ارتكاب المعاصي و الآثام، كما تعزف نفوس سائر الناس و تأنف عن أ كلّ ما تشمئز منه النفوس.
و هذه العصمة تثبت على جميع جوارح المعصوم و جوانحه و تظهر أثرها في الأقوال و الأفعال، فيكون في أمن من اتّباع الهوى و الميل إلى الباطل، و أساس هذه العصمة- كما يستفاد من هذه الآية الكريمة- هو العلم الّذي يمنع صاحبه عن التلبّس بالخطإ و كلّ ضلال، كما قال عزّ و جلّ: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، و هذا النوع من العلم يختلف عن إنزال الكتاب و الوحي بواسطة الملك، بل هو إلهام خاص و إلقاء في القلب، و هذا هو علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المعروف الّذي يختلف عن سائر علوم الناس، فإنّها لا تحصل إلّا بالأسباب العاديّة المعروفة في طرق اكتساب العلوم.
كما يختلف عنها في أنّه لا يتأثّر بسائر القوى الشعوريّة الاخرى، من الوهم و الخيال و الضلال، بل هو غالب عليها، و أنّه يصون صاحبه من الضلال و الخطيئة.
و قد يعبّر عن هذا العلم بالعلم اللدنّي أو الملك الّذي يحفظ الإمام عليه السّلام. و قد ورد في بعض الروايات أنّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام روحا تسمّى بروح القدس تسدده و تعصمه من المعصية، و يشير إليها قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [سورة الشورى، الآية: ٥۲]، و تقدّم في الجزء الأوّل بحث العصمة فراجع.
التاسع:
يدلّ قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ على مرجوحيّة كلّ نجوى و مسارّة، إلّا إذا كانت تأمر بالإصلاح و الصدقة و المعروف، و لعلّ السرّ فيه أنّ النجوى من سبل غواية الشيطان و لا بدّ أن يكون الإنسان بعيدا عنها، قال تعالى: إِنَّمَا النَّجْوى‏ مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة، الآية: 10] إلّا إذا كان في مرضاة اللّه تعالى و سبل رضاه عزّ و جلّ، و هي ما ورد في هذه الآية المباركة من الصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس، و إنّها هي الخير الّذي لا بدّ أن يبتغيه المتناجون.
و في ذكر الصدقة في المقام مع كونها من المعروف لعلّه لأجل مرغوبيّة المسارّة فيها، كما أنّ إثبات الأجر العظيم في النجوى الّذي يكون في مرضاة اللّه تعالى؛ لأنّه يتمحّض في الخير و يبتعد عن غواية الشيطان، فيكون مثل هذا النجوى خيرا محضا، و يكون الجزاء المترتّب عليه عظيما.
العاشر:
يستفاد من تعقيب قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ للآية المباركة السابقة الناهية عن النجوى، إذا لم يكن في مرضاة اللّه تعالى بما يبيّنه عزّ و جلّ إنّما تكون لمشاقّة الرسول و مخالفته و معصيته، و يفسّر هذه الآية المباركة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ [سورة المجادلة، الآية: 9].
الحادي عشر:
يستفاد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏ أنّ المشاقّة لا تتحقّق إلّا بعد تبيّن الهدى و وضوح الحجّة و إقامة البرهان. و هنا بحث نفيس في أقسام الهداية و أصناف الناس في اتّباعها، لا يسع الحال لذكرها و نحن في هذه الظروف الشاقّة المحزنة- و الحمد للّه على كلّ حال- و سنذكرها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
الثاني عشر:
يدلّ قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أنّ سبيلهم بما هم مجتمعون على الإيمان، من سبل اللّه تعالى و من مظاهر طاعته عزّ و جلّ و طاعة الرسول الّتي أمرنا اللّه تعالى بها في عدّة آيات شريفة.
و المناط في هذا السبيل هو الاجتماع على الإيمان، الّذي هو الحافظ لوحدة سبلهم، و الإيمان إنّما يتحقّق بطاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101]، و قال تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [سورة آل عمران، الآية: 103]، و قد وصف عزّ و جلّ سبيل المؤمنين بعدة أوصاف في القرآن الكريم، منها أنّه سبيل التعاون على البرّ و التقوى، قال تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2].
الثالث عشر:
يدلّ قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ على النهي على شقّ عصا المؤمنين، و أنّ مخالفتهم من معصية اللّه و الرسول و مشاقّته.
الرابع عشر:
يدلّ قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى على حرية ما يختاره الإنسان، حيث إنّه عزّ و جلّ بعد ما يأمره بالطاعة له و للرسول، و بعد ما يبيّن له سبل الهداية و يتمّ له الحجّة، فإن أعرض عن ذلك فإنّه تولّى غير ما يريده اللّه تعالى، فيدعه إلى ما يريده و يتولّاه.
الخامس عشر:
يستفاد من سياق هذه الآيات المباركة أنّ وبال الشرّ يعود على صاحبه، كما أنّ منفعة الخير تعود على فاعله، و أنّ الأسباب الظاهريّة لا تكون منشأ للضرر لو عصم اللّه تعالى منه عبدا، فالآيات الكريمة جامعة لفضائل كثيرة و ناهية عن مساوئ عديدة.

في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال: «قال الصادق عليه السّلام: لا و اللّه ما فوّض اللّه إلى واحد من خلقه إلّا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأئمة عليهم السّلام، قال اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، و هي جارية في الأوصياء».
أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ الآية الشريفة في مقام الامتنان على هذه الأمّة، و معنى تفويض اللّه تعالى ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ردّ أمر دينه إليه في التطبيق؛ لأنّه جلّ شأنه يعلم أنّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله يحفظ حدود دينه و يثبت قوائمه، و في الحديث: «فوّض اللّه إلى النبيّ أمر دينه و لم يفوّض إليه تعدّى حدوده»، و أنّ الأوصياء لم ينفذوا إلّا ما أمرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا أودعه عندهم من الأحكام و المعارف.
و في الكافي بسنده عن موسى بن أشيم قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّي أريد أن تجعل لي مجلسا، فواعدني يوما فأتيته للميعاد فدخلت عليه، فسألته عمّا أريد أن أسأله عنه، فبينما نحن كذلك إذ قرع رجل الباب فقال: ما ترى هذا رجل بالباب؟
فقلت: جعلت فداك، أمّا أنا قد فرغت من حاجتي فرأيك، فأذن له فدخل الرجل فجلس ثمّ سأله عن مسائلي بعينها لم يخرم منها شيئا، فأجابه بغير ما أجابني فدخلني من ذلك ما لا يعلمه إلّا اللّه. ثمّ خرج فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى استأذن عليه آخر فأذن له فجلس ساعة فسأله عن تلك المسائل بعينها، فأجابه بغير ما أجابني و أجاب الأوّل قبله، فازددت غمّا حتّى كدت أن أكفر ثمّ خرج، فلم يلبث إلّا يسيرا حتّى جاء ثالث فسأله عن تلك المسائل بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابنا أجمعين، فأظلم عليّ البيت و دخلني غمّ شديد، فلما نظر إليّ و رأى ما قد دخلني ضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: يا ابن أشيم، إنّ اللّه فوّض إلى ابن داود ملكه فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ، و إنّ اللّه عزّ و جلّ فوّض إلى‏ محمد صلّى اللّه عليه و آله أمر دينه فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، و إنّ اللّه فوّض إلينا من ذلك ما فوّض إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله.
أقول: لعلّ اتّحاد المسائل من الأشخاص لأنّها كانت من الأمور الشائعة في ذلك الوقت، و اختلاف الأجوبة من الإمام عليه السّلام إنّما كان لأجل قرائن حافّة بها لم يفهمها ابن أشيم و عرفها الإمام عليه السّلام، أو لأجل طرو عناوين أخرى يرى عليه السّلام المصلحة فيها.
و كيف كان، فقد ظهر ممّا تقدّم الوجه في الرواية.
و في تفسير علي بن إبراهيم أنّ سبب نزول قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أنّ قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين بشر و بشير و مبشر، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان، و كان قتادة بدريا و أخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، فشكى قتادة ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قوما نقّبوا على عمّي و أخذوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، و هم أهل بيت سوء و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له: لبيد بن سهل، فقالوا: بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهيل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه و خرج عليهم، فقال: يا بني أبيرق، أ ترموني بالسرقة؟! و أنتم المنافقون تهجون رسول اللّه و تنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك اللّه، فإنّك بري‏ء من ذلك، فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة و كان منطيقا بليغا، فمشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرقة و اتّهمهم بما ليس فيهم، فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك و جاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: عمدت الى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة، و عاتبه عتابا شديدا، فاغتمّ قتادة من ذلك و رجع إلى عمّه، و قال: يا ليتني متّ و لم أكلم‏ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد كلّمني بما كرهته، فقال عمّه: اللّه المستعان، فأنزل اللّه تعالى في ذلك: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ- الآية».
أقول: و في رواية أبي الجارود في ذيل الآية المباركة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه لم يصدر منه صلّى اللّه عليه و آله شي‏ء، و هي قال: «إنّ إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نكلّمه في صاحبنا أو نعذره، إنّ صاحبنا بري‏ء فلما أنزل اللّه تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ- الآية، فأقبلت رهط بشير فقالوا: يا بشير استغفر اللّه و تب إليه من الذنوب، فقال: و الّذي أحلف به ما سرقها إلّا لبيد، فنزلت: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً، ثمّ إنّ بشيرا كفر و لحق بمكّة، و أنزل اللّه في النفر الّذين أعذروا بشيرا ليعذروه قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ».
و الرواية من باب التطبيق، و إنّ سبب النزول لا يخصّص الآية، و إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق، و قريب منها ما ذكره السيوطي في الدرّ المنثور، و أبيرق طائفة من اليهود.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «إنّ نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم، فأظنّ بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بري‏ء و قال لنفر من عشيرته: إنّي غيبت الدرع و ألقيتها في بيت فلان و ستوجد عنده، فانطلقوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبي اللّه، إنّ صاحبنا بري‏ء، و إنّ سارق الدرع فلان و قد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس و جادل عنه، فإنّه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبرّأه و عذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً* وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً، ثمّ قال للذين أتوا رسول اللّه ليلا: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ- إلى قوله تعالى- وَكِيلًا، يعني الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستخفين يجادلون عن الخائنين، ثمّ قال: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً، يعني السارق و الّذين جادلوا عن السارق».
أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد ورد هذا المعنى بطرق كثيرة و باختلاف يسير، و أمّا المضمون فهو متّفق عليه، و كلّها من باب الجري لا التخصيص، و لا بدّ من تطبيقها على ما لا ينافي العصمة، كما يأتي و اللّه العالم.
و في أسباب النزول للواحدي: «أنزلت الآية المباركة كلّها في قصة واحدة و ذلك أنّ رجلا من الأنصار يقال له: طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث، سرق درعا من جار له يقال له: قتادة بن النعمان و كانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينثر من خرق في الجراب حتّى انتهى إلى الدار و فيها أثر الدقيق، ثمّ خبّأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده و حلف لهم: و اللّه ما أخذها و ما له به من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى و اللّه، قد أولج علينا فأخذها و طلبنا أثره حتّى دخل داره فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه و اتّبعوا أثر الدقيق حتّى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إليّ طعمة بن أبيرق، و شهد له أناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر- و هم قوم طعمة-: انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكلّموه في ذلك و سألوه أن يجادل عن صاحبهم و قالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا و افتضح و برئ اليهودي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفعل- و كان هواه معهم- و أن يعاقب اليهودي حتّى أنزل اللّه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ».
أقول: تقدّم منّا مكرّرا أنّ منشأ النزول لا يكون سببا للتخصيص، بل المناط عموم الآية المباركة، فتنطبق على موردها في كلّ عصر و زمان، كما لا بدّ من حمل تلك الروايات و الآثار على وجه لا تنافي عصمته صلّى اللّه عليه و آله، و إلّا فلا بدّ من ردّها إلى أهلها، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله همّ أن يفعل و كان الاهتمام لأجل مصلحة وقتيّة، و إلّا كان صلّى اللّه عليه و آله يعلم الحقّ و الواقع. و قد وردت في قوله تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ روايات في الكافي و تفسير العياشي ذكرت فيها أسماء أشخاص، كلّها من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق.
و عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «و كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح و قد كتب كفّارة ذلك الذنب على بابه، و إذا أصاب البول شيئا منه قرّضه بالمقراض، فقال رجل: لقد أتى اللّه بني إسرائيل خيرا، فقال ابن مسعود: ما آتاكم اللّه خيرا ممّا آتاهم، جعل لكم الماء طهورا و قال: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
أقول: ورد مضمون هذا الأثر في رواياتنا الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، و صدر الرواية كذيلها يدلّ على التشديد، و قد منّ اللّه تعالى على هذه الأمّة المرحومة برفعه، و ذكرنا في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بقرض أبدانهم إذا أصابها البول.
و كيف كان، فإنّه من باب التطبيق.
و في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن وضوءه ثمّ قام فصلّى و استغفر من ذنبه، إلّا كان حقّا على اللّه أن يغفر له؛ لأنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
أقول: المراد من الحقّ في هذه الرواية و أمثالها أنّه ممّا حقّق عليه القضاء و التقدير، أو أنّه ثبت أو كتب على نفسه، كما في قوله تعالى: كَتَبَ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، أو بمعنى اليقين.
و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.
و في تفسير العياشي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد أذنب ذنبا و استغفر اللّه من ذنبه إلّا كان حقيقا على اللّه أن يغفر له؛ لأنّه يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
و قال: «إن ليبتلي العبد و هو يحبّه ليسمع تضرّعه، و قال: ما كان اللّه ليفتح باب الدعاء و يغلق الإجابة؛ لأنّه يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»، و ما كان ليفتح باب التوبة و يغلق باب المغفرة و هو يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً».
أقول: تضرّع العبد لدى المولى نحو كمال و استكمال للعبد؛ لأنّه يكشف عن الانقطاع إليه جلّت عظمته و التوجّه إليه، و في تأخير إجابة دعاء المؤمن- مع قطع النظر عن المصالح- نحو استكمال للعبد و شرف له؛ لأنّ اللّه تعالى يحبّ أن يسمع تضرّعه، هذا هو منتهى الكمال و غاية الشرف له. و المراد من الحقيق الجدير، كما هو واضح.
و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه ممّا قد ستره اللّه عليه، فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول اللّه: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً».
أقول: لا بدّ من تقييدها من المغتاب (بالفتح) لا يكون من أهل البدع أو من الّذين أسقط الشارع احترامهم، كما ذكرنا في المكاسب المحرّمة من (مهذب الأحكام). و في الحديث: «انّ عائشة قالت لامرأة مرّت بها: ما أطول ذيلها، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اغتبتيها، قومي إليها فتحلليها».
و في تفسير علي بن إبراهيم بسنده عن الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام: «انّ اللّه‏ فرض التحمّل في القرآن، قلت: و ما التحمّل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك اعرض عن وجه أخيك فتحمل له، و هو قول اللّه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ».
أقول: المراد من الوجه الرضا؛ لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه و إذا كرهه أعرض بوجهه عنه، و إنّ النجوى تنافي المجاملات الأخلاقيّة المفروضة في القرآن، إلّا في ما استثناها الآية الشريفة.
و لعلّ المراد من التحمّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان، و قد ضبط بالجيم (التجمّل)، و ضبط بالحاء (التحمّل)، كما مرّ.
و في تفسير علي بن إبراهيم عن علي عليه السّلام قال: «إنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكوه ما ملكت أيديكم».
أقول: إنّ بذل الجاه في سبيل قضاء حوائج الإخوان تقرّبا إلى اللّه تعالى من أجلّ المكارم و أسمى الفضائل، و من الأدب الرفيع الّذي حثّ عليه الإسلام، و به ينبسط العدل على وجه البسيطة و تحصل السعادة القصوى للمجتمع و شرف المنزلة لأفراده؛ و لذا قرنه عليه السّلام بأهمّ الفرائض الّتي بني عليها الإسلام و يدور عليها نظام اقتصاده.
و في الكافي بسنده عن أبي الجارود قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني عنه من كتاب اللّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، و قال: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً، و قال: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ».
أقول: هذا النهي تنزيهي و إرشادي تربوي، و قد أثبت العلم الحديث‏ مضمون هذه الرواية و أكّد على النظام و الهدوء و الصمت و عدم الإسراف على الإطلاق.
و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.
و في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «و من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».
و عن البيهقي في وصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر: «أوصيك بتقوى اللّه، فإنّه أزين لأمرك كلّه، قلت: زدني، قال صلّى اللّه عليه و آله: عليك بتلاوة القرآن و ذكر اللّه، فإنّه ذكر لك في السماء و نور لك في الأرض. قلت: زدني، قال: عليك بطول الصمت، فإنّه مطردة للشيطان و عون لك على أمر دينك، قلت: زدني قال: و إيّاك و كثرة الضحك، فإنّه يميت القلب و يذهب بنور الوجه، قلت: زدني، قال: قل الحقّ و لو كان مرّا، قلت: زدني، قال: لا تخف في اللّه لومة لائم، قلت: زدني، قال: ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك».
أقول: هذه الوصية جامعة لخير الدنيا و نعيم الآخرة، و بها ينال الإنسان شرف العبوديّة و كمال الانقطاع إليه جلّ شأنه و يزيد عرفان العبد و فضله و تقواه و يصلح المجتمع عن كلّ عيب، و قد مدح الصمت في كثير من الروايات، فإنّ المؤمن العارف و المتوجّه يكون كلامه صمتا و صمته كلاما، و ببالي كان بعض مشايخنا من أهل العرفان و التوجّه كثير الصمت و كثير الذكر، و قد ظهرت على يديه كرامات كما شاهدناها.
و في تفسير العياشي بسنده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني بالمعروف القرض.
أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين، و هو من باب ذكر أحد المصاديق.
و في الدرّ المنثور عن سفيان بن عبد اللّه الثقفي، قال: «قلت: يا رسول اللّه مرني بأمر اعتصم به في الإسلام، قال: قل: آمنت باللّه، ثمّ استقم، قلت: يا رسول اللّه ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال: هذا، و أخذ رسول اللّه بطرف لسان نفسه».
أقول: الروايات في مدح الصمت كثيرة بين الفريقين، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».
و عن البيهقي بسنده عن أنس: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقي أبا ذر فقال: ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر و أثقل في الميزان من غيرهما؟ فقال: بلى يا رسول اللّه، قال: عليك بحسن الخلق و طول الصمت، و الّذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما».
أقول: ورد مضمون هذه الرواية عن أئمتنا عليهم السّلام أيضا، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».
العياشي بسنده عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لما كان أمير المؤمنين عليه السّلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان، فقال: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، و ارمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضجّ الناس و كرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون، ليصلّي بهم من شاء و ائتم قال تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً».
أقول: لعلّ نهيه عليه السّلام إمّا لأجل عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل، كما ثبت عندنا، أو أنّ النهي كان موقتا لمصالح كان يراها و بعد ما رأى عدم الانقياد منهم خلّى سبيلهم.
و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.
و هناك بعض الروايات يدلّ على أنّ من اتّخذ إماما و ولّاه في هذه الدنيا، يكون إمامه في يوم الجزاء و استشهد فيها بالآية المباركة، و لكن ذلك كلّه من باب التطبيق كما هو معلوم.
و عن البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى‏: لا يجمع اللّه هذه الأمّة على الضلالة أبدا و يد اللّه على الجماعة، فمن شذّ شذّ في النار».
أقول: على فرض صحّة الحديث لا بدّ و أن يكون الاجتماع على أمر لم يكن مخالفا لكتاب اللّه العظيم و سنّة نبيّه الكريم، و إلّا فلا عبرة به و أن يكون المجتمعين من أهل الخبرة و المتدينين، و في حجيّة الإجماع الّذي هو أحد الأدلّة الّتي يعتمد عليها المجتهد شرائط ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول)، من شاء فليرجع إليه.

المعروف: كلّ ما يستحسنه العقل و يقرّره الشرع من أصناف الجميل و أنواع البر و مكارم الأخلاق، فهو في مقابل ما تكرهه النفوس- سواء كان مشتملا على رجحان أم لا- فيعمّ الواجب و المندوب و غيرهما ممّا يدخل في الحسن.
و للمعروف مراتب أحسنها ما كان فيه الصلاح و الإصلاح- بلا فرق بين أن يتعلّق بالفرد أو الأسرة بأقسامها- و أسماها ما كان فيه صلاح المجتمع و إصلاحه، و قد عدّ من المعروف، كما في بعض الروايات ما لو كان فيه صلاح الحيوان، أو ما فيه نفع يعود له أو يحميه من الأذى.
و الجميل قد لا يختلف فيه أحد و اتّفق العقلاء على حسنه و بمدح فاعله، كإغاثة الملهوف، و إصلاح ذات البين، أو الخدمات الّتي فيها نفع المجتمع، و قد لا يكون كذلك فيتّصف بالإضافة لا محالة، و حينئذ لا بدّ و أن يرجع إلى القوانين الشرعيّة، فما وافقها و لم تنكره فهو من المعروف، و إلّا فلا يكون منه لاحتوائه على‏ مفسدة أو ضرر و إن لم يدركا فعلا؛ لما ثبت في محلّه أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد و إن لم يكشف العقل المادي عنهما.
و الترغيب إلى فعل المعروف يعمّ جميع المجتمعات الإنسانيّة و الأديان السماويّة بل الملل المستحدثة المختلفة، فيمكن أن يقال: إن ذا إقامة المعروف نحو حقّ على أفراد المجتمع- تحكم به الفطرة الخالصة- لأجل سوق مجتمعهم إلى الكمال المنشود، و لإصلاحه عن الطوارئ الفاسدة، و هذا الحقّ ثابت على أفراده ما لم يتحقّق الهدف المقصود و لم تحصل الصلة المفقودة و لم تثبت السعادة المنشودة لذلك المجتمع.
أقسام المعروف:
يختلف المعروف حسب اختلاف الفقر و الحاجة إليه، فتارة: يكون الاحتياج شخصيّا و فرديّا، سواء كان ذلك من الكمالات المعنويّة أو المظاهر الخارجيّة.
و اخرى: يكون نوعيّا عامّا، و في كلّ منهما قد يكون المعروف خلقيّا و قوليّا أو غيرهما، و لجميع ذلك مراتب و آثار خاصّة.
و المعروف قد يصدر من الإنسان عن شعور و اختيار- سواء كان بباعث ديني أو إلهام سماوي- و قد لا يكون ذلك، فجميع أقسامه حسن إلّا أنّ ما فيه الإخلاص للّه جلّ شأنه يكون أكثر نفعا و أطول زمانا و أشدّ تقرّبا له عزّ و جلّ.
آثار المعروف:
يستفاد من الأحاديث الواردة عن المعصومين عليه السّلام في شأن المعروف و مدحه و الترغيب إليه أنّ له آثارا وضعيّة تخصّ صاحبها و فاعلها لا تنالها يد الاختيار، و أنّها تترتّب على المعروف كترتّب الأثر على المقتضي التامّ.
بل يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك؛ لأنّ الأفعال الحسنة الّتي تصدر عن‏ الإنسان تخلّف في نفس عاملها آثارا خاصّة و حالات مخصوصة، توجب ارتياح النفس و بعدها عن القلق النفسي الموجب للأمراض المتنوّعة، على خلاف الأفعال السيئة الّتي تخلّف التأنيب الضميري و الصراع النفسي، كما أثبتها علماء النفس قديما و حديثا، فمن كان صادقا- مثلا- في كلامه دائما أو يغمض عن إساءة الغير له و يعفو عنه و لا يكون في مقام الانتقام، يشعر بالراحة النفسيّة و يكون بعيدا عن الضيق و الهمّ النفسي، و في الحديث عن الصادق عليه السّلام: «صنايع المعروف تدفع ميتة السوء»، و عنه عليه السّلام أيضا: «صنايع المعروف تقي مصارع الهوان»، أي: الذلّ، و غيرهما من الأحاديث. و في المأثور عن بعض الصلحاء: «انّ امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثمّ ذهبت إلى مزرعتها فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب، فقالت: يا ربّ ولدي، فأخذ عنق الذئب رجل و استخرج ولدها من غير أذى، ثمّ قال: هذه اللقمة بتلك اللقمة الّتي وضعتها في فم السائل»، فآثار المعروف تظهر على صاحبه في هذه الدنيا قبل الآخرة.
نعم، للزمان فيها دخل قد يؤجّل لمصالح لا يعلمها إلّا اللّه تعالى.
و أمّا آثار المنكر و القبيح قد تظهر على صاحبه و قد تؤجّل إلى عالم الآخرة، فإنّ مقتضى رحمته تعالى أنّه عزّ و جلّ يظهر الجميل و يستر القبيح، و أنّ أثره القبيح قبيح يستره اللّه و يؤجّله إلى دار الآخرة و الخلود.
عوائق المعروف:
لا شكّ أنّ الفطرة المستقيمة الإنسانيّة تميل إلى المعروف و إقامته و الى الجميل و صنعه، و إلى البر و فعله ما لم تعوقها السبل عن مسيرها الاستكمالي، فعن اللّه تبارك و تعالى في القدسيات: «خلقت عبادي حنفاء»، أي: مستعدين لقبول الحقّ و إقامة المعروف، فالفطرة بخلقتها الأوليّة قابلة للترقي بالتربية و الوصول إلى أعلى‏ مراتب الكمالات و أسماها بالإرادة و الاختيار، و يتحقّق ذلك بفعل المعروف و بثّه و ترك المنكر و إزالته.
كما أنّ الفطرة لها قابلية النزول عن خلقتها المستقيمة مع الإرادة و الاختيار بالانحراف الّذي يحصل من أمور أهمّها حبّ البقاء، و الجهل، و الخوف و حبّ المال، و يجمعها «حبّ الدنيا»، و هو السبب لتنزّل الفطرة تدريجيا و بلا شعور- كما في الروايات- عن استقامتها المنفطرة بقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ.
و الأسباب كلّها- سواء كانت للرقي أو للنزول- إراديّة اختياريّة، و لو كان هناك أسباب غير اختياريّة، فإنّها ترجع بالاخرة إلى الاختيار و إن كان مع الواسطة أو الوسائط، كما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة.
و من عوائق المعروف و المانع عن تحقّقه الذنوب الّتي توجب البعد عن ساحته تعالى و تطمس نور الفطرة و تكون صدّا في الطريق إلى الكمال و مانعا عن الاستكمال، و للبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى بعد رفع هذه الشدائد و كشف هذه الغمّة و زوال الظلم و أهله بحوله و عنايته، إنّه هو الرؤوف الرحيم.

الأفعال الصادرة عن الإنسان في حقيقتها- تكون كالأشياء النامية- لها صورة خارجيّة و روح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات، فالإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان مركّب في واقعه من جسم و روح، و كذا أفعاله لها صورة- و هي عبارة عن ما يتشخّص في الذهن من الكيفيّات، و هذا يعمّ جميع أفعال الحيوانات- و روح يتفرّد بها عن بقيّة الحيوانات، و هي أمر معنوي يحصل من التوجّه إلى الباري جلّ شأنه و السوق إلى الخالق جلّت عظمته- و لا ربط له‏ بالإرادة- و أثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه و التبرّي عن كلّ ما دونه تعالى، و هو الباعث لتحقّق الإضافة إليه تعالى، الّتي هي السبب لتحقّق الفعل خارجا، و إذا وجد الفعل بدونها كان مجرّد صورة، كالأفعال التعليميّة.
و يعبّر عنه في الكتاب و السنّة بالإخلاص في الأفعال العباديّة أو المضافة إليه تعالى، المتفرّد بها الإنسان عن غيره، قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [سورة الزمر، الآية: 2]، و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة البينة، الآية: ٥]، فكما لا قيام للأشباح إلّا بالأرواح و إلّا كانت ميتة ساقطة، كذلك الأعمال العباديّة، فلو لا الإخلاص و الروح المعنوي فيها كانت مجرّد شبح و هيكل. و مراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان، كما يأتي.
حقيقة الإخلاص:
و هي من الحقائق المحجوبة و لا تعرف إلّا بالأثر، و لا يمكن وصفها و إن أدركها العرفاء الشامخون، فإنّها تشرق على القلب و تنوّر النفس و يتشرّف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال بلذّة ذلّ العبوديّة له تعالى، و به يخرق الحجب و يصل إلى معدن العظمة، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّه سئل عن الإخلاص فقال صلّى اللّه عليه و آله: حتّى اسأل جبرائيل، فلما سأله قال: اسأل ربّ العزّة، فلما سأله قال له: هو سرّ من أسراري أودعه قلب من أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده»، و عن سيد العرفاء أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه»، فحقيقة الإخلاص يدركها الخلّص من عباده، و لكنّها لا توصف، و الإخلاص من أعلى مراتب التفويض.
درجات الإخلاص:
كما أنّ للعبوديّة درجات، و لكلّ منها مراتب، و لكلّ مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان و مراتب المعرفة و منازلهما، و أنّ التقرّب لديه جلّ شأنه يحصل بجميعها، و أنّ أسمى المراتب و أعلى الدرجات قبوله عزّ اسمه بالعبوديّة- و إن كان للقبول مراتب أيضا- فإنّه هو الفوز العظيم، فعن بعض العرفاء: «قيل له بعد وفاته- في الرؤيا-: كيف حالك مع الملكين (النكير و المنكر)؟ فقال: لما قالا لي: من ربّك؟ قلت لهما: اسألا ربّي، فإن قال: هو عبدي و أنا ربّه، يكفي، و إلّا فلو قلت: هو ربّي و أنا عبده مرارا لا يفيد بلا قبوله»، كذلك للإخلاص له درجات، و في كلّ منها مراتب، و في كلّ مرتبه أنواع أهمّها و جامعها أقسام ثلاثة: إخلاص العوام، و إخلاص الخواص، و إخلاص أخصّ الخواص. و إن شئت قلت: مطلق الإخلاص، و إخلاص المحبّين، و إخلاص الموحّدين.
و الأوّل: هو الإخلاص في العبادة لأجل الحظوظ- سواء كانت دنيويّة أم أخرويّة- كحفظ البدن وسعة المال و القصور و الحور.
و الثاني: لأجل السعادة الأخرويّة و الدخول في الجنّة دون الحظوظ الدنيويّة.
و الثالث: هو إخراج الحظوظ بالكليّة، بل الإخلاص لأجل جنّة الشوق بالقرب له جلّت عظمته: «و فؤادي ليس فيه غيره».
و لكلّ من هذه الأقسام مراتب كما مرّ، و أنّ جميعها حسن إلّا أن أسماها و أعلاها القسم الأخير، و في دعاء كميل: «هب لي صبرت على حرّ نارك، فكيف اصبر على فراقك»، و عن سيد العرفاء المتألّهين الشامخين أمير المؤمنين عليه السّلام: «الهي عبدتك لا خوفا من نارك و لا طمعا لجنّتك، بل رأيتك أهلا لذلك فعبدتك»، و عن بعض العرفاء المتألهين:
ليس سؤلي من الجنان نعيما غير أنّي أحبّها لأراكا

و لهذا القسم درجات و مراتب، نسأل اللّه العظيم الفوز بمرتبة منها، و لا تنال هذه النعمة الكبرى إلّا لمن عصمة اللّه تعالى و أمدّه بحقّ اليقين بالتجلّي له، و كشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه، و قرّبه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه، و كرّمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى و نبذ الأغيار، و شرّفه بالرقي إلى مقام عرفانه بالتوجّه إليه و القرب لديه.
منافيات الإخلاص:
الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيئة، و تفسدها الصفات المنافية لها، فالشجاعة مثلا يفسدها الخوف؛ لأنّه ينافيها و لا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس، و كذا القناعة ينافيها الحرص و الجشع، كما أنّ الزهد ينافيه طول الأمل، و كذا غيرها من الصفات.
و الإخلاص ينافيه أمور كثيرة؛ لأنّ سبب الإخلاص للّه تعالى المعرفة و الخوف، فإذا زال أحدهما لم يتحقّق الإخلاص. و أهمّ ما ينافي الإخلاص أمور:
منها: الريا- نستجير باللّه العظيم منه- فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه تعالى في القدسيات: «أنا أغنى الشركاء، من أشرك معي غيري تركته لغيري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أخوف ما أخاف على أمّتي الشرك الخفي، و هو الريا»، و غيرهما من الروايات، و أنّه دقيق جدا، «أدق من دبيب النمل في صخرة ملساء»، و سببه حبّ الدنيا بأقسامه، و للتخلّص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرّض لها.
و منها: العجب بالعمل، فإنّه مناف للإخلاص و قادح في كمال العمل، و قد ورد في ذمّه روايات كثيرة.
و منها: الاستهانة بالعمل- تحقيره- كما دلّت عليه روايات كثيرة.
و منها: الإيكال في الأمور على غيره تعالى، سواء كان على النفس أو غيرها.
و منها: التعمّق في حكمة الأشياء و البحث عن حكم الأحكام الشرعيّة، فإنّه مناف للإخلاص، كما دلّ عليه بعض الروايات، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إيّاكم و الغلو في الدين»، أي: البحث عن عللها و غوامض متعبّداتها، و عن بعض مشايخنا من أهل العرفان ادّعاء التجربة في ذلك.
و منها: عدم الثقة باللّه العظيم، فإنّ ذلك مناف للإيمان، فكيف بالإخلاص، و إنّه من المعاصي الكبيرة على ما فصّل في محلّه.
و هناك أمور أخرى منافية للإخلاص، ذكرها علماء الأخلاق و مشايخ العرفان في كتبهم و رسائلهم، و من شاء فليرجع إليها.
الفرق بين الرضا و الإخلاص:
تقدّم أنّ للإخلاص مراتب، أدناها مرتبة الرضا، بل هو كتمهيد له؛ و لذا أنّ الإخلاص يتضمّن الرضا و لا عكس، هذا كلّه في العبيد. و أمّا رضائه تعالى، فهو عين محبّته، و إنّ محبّته عين إخلاصه، فلا يمكن التفكيك بينهما.
و ممّا ذكرنا يظهر أنّ للرضا مراتب و درجات، و أنّ أسماها هو التفويض، و أنّ أعلى مراتب التفويض الإخلاص، الّذي هو مختصّ بالأولياء و الصالحين.
و انّ الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة من الصدقة و المعروف، و الإصلاح بين الناس، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالى و خالصا لوجهه الكريم، كان ذلك مظهرا من مظاهر أسمائه، و يكون أدوم و أنفع للمجتمع- كما تقدّم- و إلّا فالأمر إضافي.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"