1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآية 3

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۳)


بعد ما أحلّ سبحانه و تعالى بهيمة الأنعام و أسّس قواعد النظام العامّ، و أمر بالتعاون لحفظ الاجتماع من الضياع و تحقيق السعادة، ذكر تعالى في هذه الآية الشريفة الأمور الّتي استثناها آنفا من الحكم العامّ ممّا وعد بتلاوتها في القرآن الكريم، و هي عشرة أشياء، و أحلّها في حال الاضطرار و المخمصة.
ثمّ بيّن عز و جلّ أنّ هذا الدين قد كمل بتشريع أحكامه و تأسيس دعائمه و أركانه، فأخبر سبحانه و تعالى بأنّه قد أتمّ نعمته على المؤمنين أن نصّب عليهم من يحفظ لهم دينهم و يقيم شعائره و أحكامه، فرضي لهم الإسلام دينا و منهجا قويما ليس له بديل، بل لا يسعهم غيره؛ لأنّه لم ينقصه شي‏ء فليطمئن المؤمنون بأنّه لا يصيب هذا الدين أذى من أعدائه- الّذين ما برحوا في تقويض أركانه و هدم كيانه- فلا تخشوهم، بل لا بدّ أن تكون الخشية من اللّه العزيز المتعال باتّباع تعاليمه و طاعة من نصبه عزّ و جلّ هاديا لهم يهديهم بأمره جلّ شأنه، فإنّ اللّه غفور رحيم، يغفر لهم ذنوبهم و يرحمهم برحمته، فيدفع عنهم كيد الأعداء و صوارف الزمان و دواهي الأشرار و الفجّار.

قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
بيان لقوله عزّ و جلّ: إِلَّا ما يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ و المراد من الميتة كلّ حيوان مأكول اللحم فارقه الروح من غير سبب شرعي، و فيه تفصيل يأتي في البحث الفقهي التعرّض له إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ الدَّمُ.
و هو المادّة المعروفة الّتي هي قوام حياة الحيوان، و المراد منه المسفوح؛ لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً، الّذي كان أهل الجاهليّة يجعلونه في المباعر و الأمعاء، و يشوونه و يأكلونه و منه الطحال، لورود روايات متعدّدة تدلّ على حرمته.
و أمّا غير المسفوح كالكبد، فهو مباح لدخوله في عموم المستثنى منه، و كذا المتخلّف في الذبيحة، فإنّه مباح و طاهر إن غسل موضع الذبح بملاقاة الدم الّذي في محلّ الذبح، فإنّه من المسفوح و ليس من المتخلّف. و التفضيل مذكور في كتب الفقه فراجع.
قوله تعالى: وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ.
و إن جرى عليه عمل التذكية، و إنّما خصّ عزّ و جلّ اللحم بالذكر مع أنّه حرام بجميع أجزائه الّتي تحلّ فيها الحياة و ما لا تحلّ، إمّا لأنّ أكل لحمه هو الشائع عند المستحلّين له؛ أو لعدم إمكان الانتفاع من غيره، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق به أيضا.
كما أنّه تعالى خصّه بالذكر دون الكلب و غيره من الحيوانات المحرّمة؛ لاعتيادهم أكله دون غيره من السباع.
و من ذلك يظهر وجه الضعف في ما قيل من اختصاص الحرمة باللحم فقط، أخذا بظاهر الآية الشريفة، فإنّ السياق يدلّ على أنّ غير اللحم أيضا حرام.
قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.
الإهلال: رفع الصوت، و منه إهلال الصبي إذا رفع صوته عند ولادته، و المراد به ذكر ما يذبح له كاللات و العزى و غيرهما من الأصنام، بل ما سوى اللّه تعالى، فإنّ ذكر غيره جلّ شأنه و ذبح الحيوان له يوجب حرمة الذبيحة، و إن استجمعت باقي الشرائط، كما هو مذكور في الفقه.
و هذه الآية المباركة تؤكّد حرمة هذه الأربعة، فليس الحكم فيها تأسيسيّا لورودها في غير هذه السورة ممّا هي أسبق نزولا منها، فقد ذكرت في سورتي الأنعام و النحل، و هما سورتان مكّيتان، و وردت فيهما بصيغة الحصر، قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الانعام، الآية: ۱٤٥]، و قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ* إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: ۱۱٤- ۱۱٥]، كما ذكرت في سورة البقرة الّتي هي أسبق نزولا من هذه السورة و إن كانتا مدنيتين، قال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، فتكون هذه الآية الشريفة مؤكّدة لتلك و مشتملة على زيادة من المحرّمات.
و ممّا يؤكّد ذلك تشابه ذيل الآيات الثلاث في حلّية تلك المحرّمات عند الاضطرار و المخمصة إذا لم يكن متجانفا لإثم، فإنّ اللّه غفور رحيم، بل يمكن أن يقال إنّ النهي عن الثلاثة الاول- أي الميتة و الدم و لحم الخنزير- أسبق تشريعا من كلّ ذلك؛ لأنّ آية الأنعام تعلّل الحرمة فيها بأنّها رجس، فتدلّ على النهي عن أكل الرجس، و هو المرجع، و قد قال تعالى: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ [سورة المدثر، الآية: ٥]، و سورة المدثر أسبق نزولا من جميعها، فإنّها نزلت في أوّل البعثة.
و بالجملة: فإنّ النهي عن هذه الثلاثة قد ذكرت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم إمّا خصوصا أو على نحو العموم، ممّا يدلّ على شدّة النهي و عظيم الاعتناء بها؛ لأنّها أكثر الأفراد شيوعا في المجتمعات، لا سيما عصر نزول القرآن المجيد.
قوله تعالى: وَ الْمُنْخَنِقَةُ.
تفصيل للميتة و بيان لمصاديقها الّتي حرّمت في الشرع، و المراد منها كلّ ما لم يذك شرعا، لقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ، بخلاف أهل الجاهليّة و أقوام آخرين كالمجوس، فإنّهم كانوا يعتقدون أنّ الميتة ما مات حتف أنفه بمرض و نحوه ممّا لم يعرف سببه. و أمّا الأسباب الّتي يأتي ذكرها، فإنّها كانت عندهم كالذكاة.
و المعروف عن المجوس أنّهم لا يأكلون الذبائح؛ لأنّ الذبح أذيّة للحيوان، و يأكلون الميتة بجميع أصنافها الّتي ذكرت، و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختصاص هذه المصاديق من الميتة بالذكر.
و المراد من المنخنقة ما مات خنقا، و الخنق حبس النفس بأي سبب كان اختيارا من فعل الإنسان أو غير اختياري، كما إذا وقعت في الماء أو أدخلت رأسها بين خشبتين و نحو ذلك ممّا يوجب زهوق الروح.
و التأنيث هنا و في الميتة لأنّهما وصف لبهيمة الأنعام.
قوله تعالى: وَ الْمَوْقُوذَةُ.
مادّة وقذ تدلّ على الشدّة في أمر، يقال: وقذ يقذ وقذا، و هو شدّة الضرب حتّى تسترخي و تنحلّ قواها، يقال: فلان وقيذ، أي: مثخن ضربا، و منه الوقذ و هو شدّة المرض المشرف على الموت، كما أنّ منه وقذة النعاس، أي: الغالب منه.
و الوقذ قبيح عقلا؛ لأنّه إيذاء للحيوان، فيكون محرّما شرعا، و كان أهل الجاهليّة إمّا يخنقون الشاة أو يضربونها بالعصى حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها و إن لم يسل دمها.
قوله تعالى: وَ الْمُتَرَدِّيَةُ.
و هي الّتي تردّت و وقعت من مكان شاهق أو مرتفع كالسطح و قمة الجبل- و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الرجل ليتكلّم من سخط اللّه ترديه بعد ما بين السماء و الأرض» أي: توقعه قبل المهلكة- أو في منخفض كالبئر و الوادي فتموت. و هو أيضا قبيح عقلا؛ لأنّ بها هلاك الحيوان مع المشقّة و الإيذاء.
قوله تعالى: وَ النَّطِيحَةُ.
و هي الّتي تموت عن نطح حيوان آخر. و فعيل هنا بمعنى مفعول، و هو يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، فلا تحتاج الى التاء، يقال: عين كحيل لا كحيلة، و كفّ خضيب لا خضيبة. و أجيب عنه بوجوه يأتي ذكرها في البحث الأدبي.
و كيف كان، فإنّهم كانوا يناطحون بالكباش فإذا مات أحدها أكلوه.
قوله تعالى: وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ.
السبع: اسم جنس يشمل كلّ وحش ضار يعدو على الإنسان و الدواب أو يفترسها كالأسد، و النمر، و الثعلب، و الذئب، و الضبع و نحو ذلك، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «نهي عن أكل كلّ ذي ناب من السباع»، أي ما يفترسها الحيوان و يأكله قهرا و قسرا. و من العرب من وقف اسم السبع على الأسد فقط.
و المقصود من الآية الشريفة ما يفترسه السبع فيموت، فلا يشترط أكله من لحمه؛ لأنّ القيد منزّل على الغالب.
و كيف كان، فإنّهم كانوا يأكلون ما يأكله الأسد، و الذئب، بل ذكر بعضهم أنّ أهل الجاهليّة يأكلون بعض فرائس السباع، و هو ممّا تأنفه أكثر الطباع.
قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ.
استثناء من المذكورات ممّا يقبل التذكية و لو كانت ببقية من الحياة.
و المراد من الذكاة فري الأوداج الأربعة مع الشروط المذكورة في كتب الفقه، فإذا تحقّقت التذكية الشرعيّة و لو كان في الحيوان رمق الحياة يضطرب بها حلّ أكله، و على هذا لا يختصّ الاستثناء بالأخير، بل يشمل جميع المذكورات.
و من ذلك يظهر أنّ حرمة المذكورات إنّما هي لأجل موتها بتلك الأسباب و إلّا فإن لم يمت الحيوان بها، بل مات بالتذكية الشرعيّة و لو كانت عنده بقية حياة حلّ أكله كما عرفت، و كذا لو عاش مدّة من الزمن و مات إمّا بحتف الأنف فيحرم، أو بالتذكية الشرعيّة فيحل، فحينئذ لا يطلق عليه عنوان المنخنقة أو الموقوذة أو المتردّية أو أكيل السبع كما هو واضح من الآية الشريفة؛ لأنّ ظاهرها ما إذا استند الهلاك الى واحد من تلك الأوصاف دون غيرها.
و مادّة (ذكي) تدلّ على تمام الفعل و إتمامه، لا مجرّد وقوعه و إيقاعه، و منه الذكاء، أي السن (العمر) الّذي يقال في مرحلة الشباب، و في غيرها لا يقال ذكاء؛ يقال: الفرس المذكي، أي الّذي يأتي بعد تمام القروح- انتهت أسنانه- بسنة؛ لأنّ تمام اكتمال القوة فيه، و منه الذّكاء و هي سرعة الفطنة و كمالها، و الفعل منه ذكي، يذكي ذكاء، و من الذكاء إذا تمّ اشتعال النار، يقال: ذكت النار تذكو ذكوا و ذكاء، و الذكوة ما تذكو به النار، و أذكيت الحرب و النار إذا اوقدتا و تمّ اشتعالهما، و ذكاء اسم للشمس إذا اشتدّت حرارتها، كما أنّ الصبح ابن ذكاء؛ لأنّه من ضوئها. و ذكي البهيمة إذا أزهق روحها.
و معنى (ذكيتم) أدركتم ذكاته على التمام، و الذكاة في الذبيحة بمعنى التطييب و التطهير، و في الحديث عن أبي جعفر عليه السّلام: «ذكاة الأرض يبسها»، أي: طهارتها من النجاسة بشروق الشمس عليها، و في الذبيحة حلّيتها و تطييبها؛ لأنّ الحيوان إذا سيل دمه فقد طيب.
و التذكية الشرعيّة هي إزهاق روح الحيوان في غير الصيد بفري الأوداج الأربعة بآلة من الحديد، متتابعا من المذبح مستقبل القبلة ذاكرا اسم اللّه تعالى عليه، قاصدا للذبح، و أن يكون الذابح مسلما، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه الشروط في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.
قوله تعالى: وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
مادة (نصب) تدلّ على ما يكون علامة لشي‏ء، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج، الآية: ٤۳]، أي: إلى علم منصوب يسبقون إليه، و منه نصب الشي‏ء، أي: وضعه وضعا ثابتا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيبة و النصيب كلّ ما نصب و جعل علما، و جمعه نصائب و نصب (بضمتين)، و النصوب علم ينصب في الفلاة، و منه النصب (بالفتحتين) و النصب (بالضم) أو (بالضمتين) التعب، قال تعالى: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [سورة ص، الآية: ٤۱]، فإنّه علامة لداء و شرّ و بلاء.
و النصب (بضمتين) قيل: جمع نصاب، كحمر جمع حمار، و قيل: واحد الأنصاب كطنب و أطناب، و هي ما نصب و عبد من دون اللّه تعالى و يذبحون لها و عليه. و منه شعر الأعشى يمدح النبي صلّى اللّه عليه و آله:
و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا

و المراد من الآية الشريفة النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب الّذي كان من سنن الوثنيّة، فإنّهم كانوا ينصبون حول الكعبة أحجارا يقدّسونها و يذبحون عليها لتعظيمها، و كان ملونا بدم الذبائح، و هي غير الأصنام، و في حديث إسلام أبي ذر: «فخررت مغشيا عليّ ثمّ ارتفعت كأنّي نصب أحمر»، يريد أنّ المشركين ضربوه لأجل إسلامه حتّى ادموه فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح حول الكعبة، مثل ما كان المجوس يذبحون لبيوت النيران.
و (على) سواء كانت بمعنى اللام أم على أصلها، فإنّه لا يضرّ بأصل المعنى لأنّهم كانوا يقدّسون الأصنام و يذبحون عليها و لها.
و ذكر بعضهم أنّ هذا تكرار لقوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. و الحقّ أنّه غيره، فإنّه الذبح على الأحجار لغرض تقديسها، و أما الإهلال لغير اللّه عزّ و جلّ، فإنّه الذبح باسم أحد معبوداتهم، حتّى أنّ بعض القضاة أفتى بتحريم ما يذبح عند استقبال السلطان تقرّبا إليه؛ لأنّه ممّا اهلّ لغير اللّه به، و إن كان ذلك بعيدا جدا؛ لأنّ الذبح كذلك للاستبشار بقدومه، و الشكر للّه لسلامته كذبح العقيقة مثلا.
و كيف كان، فيمكن أن يكون المقام أخصّ، فما أهلّ لغير اللّه به قد يكون‏ بعيدا عن النصب، بخلاف ما ذبح على النصب، فإنّه لا بدّ و أن يذبح على الأحجار المخصوصة تقرّبا لأوثانهم.
قوله تعالى: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.
عطف على ما قبله، أي: و حرّم عليكم الاستقسام، و هو من القسم، أي: إفراز النصيب، يقال: قسّمت كذا قسما و قسمة، و منه قسمة الغنيمة و قسمة الميراث، قال تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [سورة الحجر، الآية: ٤٤]، و قال تعالى: وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 28]، و الاستقسام هو طلب القسمة بالأزلام الّتي هي آلات خاصّة لهذا الفعل كما كانوا يفعلون في الجاهليّة.
و الأزلام جمع زلم محرّكة، كجمل أو كصرد (بضم ففتح)، و هي القداح الّتي لا ريش لها.
و الاستسقام بالأزلام في المقام هو طلب النصيب من الجزور بضرب القداح، و ذلك أنّهم كانوا يعمدون على الجزور فيجزئونه عشرة أجزاء ثمّ يجمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها الى رجل.
و السهام: عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، و ثلاثة أغفال لا أنصباء لها (خال من الكتابة)، و كانوا يضربون بها مقامرة؛ و لذا جعل عزّ و جلّ القسمة بها ميسرا، و قد تقدّم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ [سورة البقرة، الآية: 219] بعض الكلام.
و ذكر بعضهم أنّ المراد من الاستقسام بالأزلام هو مطلق الضرب بالقداح لاستعلام الخير و الشرّ في الأفعال، فإذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، و على الثاني: نهاني ربّي، و الثالث مهمل لا شي‏ء عليه، (غفل) فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شي‏ء أدخل يده فيها، فإذا خرج أحد المكتوبين ائتمر أو انتهى بحسب ما خرج له، و إن خرج القدح الّذي لا شي‏ء عليه‏ أعاد الضرب. و قال: إنّه حرام؛ لأنّه من الطيرة، أو ضرب من التكهّن و التعرّض لعلم الغيب.
و الحقّ أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على أنّها في مقام بيان محرّمات الأطعمة، و من جملتها قسمة اللحم بالمقامرة، و إن كان الاستقسام بالأزلام أعمّ من ذلك، فإنّه يستعمل في استعلام الخير و الشرّ أيضا، إلّا أنّه قد توجب القرائن الحافّة بالكلام صرف اللفظ عن عمومه و استعماله في مورد خاصّ، و هو كثير و المقام منه، يضاف الى ذلك أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة الاستقسام بالأزلام و حرمة طلب الخير أو الشرّ، منها محلّ الكلام، فإنّه ضرب من الاستخارة الّتي ورد الإذن فيها و لا يضرّ اختلاف الآلات في استعلام الخير، فقد يكون بالسهام، و قد يكون بغيرها.
نعم، لا بدّ أن يكون الاستخبار من اللّه تعالى، فلا موضوعيّة للآلات، بل هي طريق الى طلب الخير من اللّه العظيم، نظير التفاؤل الّذي كان نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يحبّه. و الادّعاء بأنّه من الطيرة و التكهّن. باطل كما هو واضح.
و أمّا التعرّض لطلب علم الغيب، فلا بأس به، و ذكرنا ما يتعلّق بالاستخارة و أقسامها و سائر خصوصياتها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع، و سيأتي في البحث الروائي مزيد كلام إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ.
الفسق: هو الخروج عن طاعة اللّه تعالى الى معصيته؛ لأنّه الخروج عن الاستقامة، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [سورة البقرة، الآية: ۲٦].
و الإشارة راجعة الى جميع المذكورات، فإنّها محرّمات شرعا، و استحلالها خروج عن طاعة اللّه تعالى و إعراض عن شرعه، كما أنّ الكفّ عنها من الوفاء بالعقود الّذي تقدّم في صدر السورة، و يشهد له قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة الأنعام، الآية: ۱٤٥]، فإنّه جعل غير الثلاثة الّتي هي رجس من الفسق و عدّ منه ما اهل لغير اللّه به.
و يحتمل رجوعها إلى الأخيرين من بعد الاستثناء إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ؛ لحيلولته عمّا قبله، أي: ما ذبح على النصب و الاستقسام بالأزلام.
و قيل: إنّها ترجع الى الأخير فقط. و هو بعيد عن سياقها.
و كيف كان، فإنّ الإشارة بالبعيد فيها الدلالة على بعدها عن الخير.
قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.
سياق الآية الكريمة يدلّ على أنّها جملة معترضة اقحمت في ضمن الآية الكبيرة المباركة الّتي نزلت لبيان محرّمات الطعام، و من عادة القرآن الكريم أنّه إذا أراد بيان أمر من الأمور الّتي لها أهميّة خاصّة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعدّدة، و يعتبر ذلك أسلوبا بلاغيا مستحسنا عند البلغاء و الفصحاء، و يظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى‏ وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً* وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى‏ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 32- ۳٤]، فإنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، إلّا أنّ قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ جملة معترضة ذات دلالة مستقلة لا تتوقّف على بقية الآية الشريفة تبيّن قضية مهمّة، و هي عصمة أهل بيت النبي الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعته.
و في المقام: صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة و بقية محرّمات الطعام، و ذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار و المخمصة، فمجموع الصدر و الذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شي‏ء آخر، نظير قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ‏ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، و يماثلها ما في سورتي الأنعام (۱٤٥) و النحل (۱۱٥)، فيكون قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام، و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة- الّتي هي كثيرة- تخصّ قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.
و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواضع هو اللّه تعالى، أو النبي صلّى اللّه عليه و آله بأمر منه عزّ و جلّ، أو كتّاب الوحي بأمر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يضرّ في أصل المطلب.
كما أنّ الجملة المعترضة و إن تركّبت من جملتين إحداهما تدلّ على ظهور هذا الدين على الشرك و أمنه من كيدهم، فلا خوف من أعداء هذا الدين و لا حاجة إلى مداراتهم، و الجملة الثانية تبيّن كمال الدين و إتمام النعمة، إلّا أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر، و هو يدلّ على أنّ هذه الجملة المعترضة كلام واحد لا كلامان، كما تدلّ عليه الروايات الّتي وردت في شأن نزولها. و لا يضرّ في ذلك تكرار لفظ (اليوم) الّذي يراد به في كلتا الجملتين يوم واحد، و هو اليوم الّذي يئس فيه الكفّار و أكمل فيه الدين كما ستعرف.
ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ‏ حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.
و اخرى: يطلق و يراد به من حين الفجر الى غروب الشمس، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الصومي، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ* [سورة البقرة، الآية: ۱۹٦].
و ثالثة: يراد به مجموع الليل و النهار، كما في قوله تعالى: وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [سورة الحج، الآية: 28]، و قوله تعالى: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ* [سورة الكهف، الآية: 19]، و قوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: ٤۷].
و رابعة: يراد به مقطع خاصّ من الزمان، سواء أ كان قصيرا أم طويلا، كما في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [سورة غافر، الآية: ٤۹]، و قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* [سورة يونس، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [سورة آل عمران، الآية: ۱٤۰]، و قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [سورة آل عمران، الآية: ۲٤].
الخامسة: يطلق و يراد به يوم القيامة الّذي يعدّ من أعظم الأيام في الشرائع السماويّة، و قد ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة، قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [سورة يس، الآية: ٥٤]، و قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [سورة يس، الآية: ٥٥]، و قال تعالى: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سورة يس، الآية: ٥۹]، و قال تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [سورة الحديد، الآية: 12]، و قال تعالى: يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [سورة إبراهيم، الآية: 31].
و لأهمّيّة هذه الكلمة في الأديان الإلهيّة فقد ذكرها عزّ و جلّ في القرآن المجيد في أكثر من أربعمائة مورد بصيغها المختلفة و هيئاتها المتعدّدة.
و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من اليوم في المقام.
فقيل: إنّه زمان ظهور الإسلام ببعثة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و دعوته الى التوحيد و نبذ الأنداد، فيكون المراد من قوله تعالى: أنّ اللّه أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين، و أتمّ عليكم النعمة و يأس الكفّار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.
و أشكل عليه بأنّه يلزم من ذلك أن يكون للمسلمين دين قبل الإسلام كان المشركون يطمعون فيه، و يخشى المسلمون منهم على دينهم، فأيأس اللّه الكافرين بإكمال دينهم و إتمام نعمته عليهم كما هو ظاهر سياق الآية المباركة، و هو خلاف الوجدان، فإنّه لم يكن لهم قبل الإسلام دين يطمع فيه الكفّار أو يكمله اللّه و يتمّ نعمته عليهم.
و قيل: إنّ المراد به ما بعد فتح مكّة، فإنّه اليوم الّذي أبطل اللّه تعالى كيد المشركين و أذهب شوكتهم و هدم بنيانهم، فانقطع رجاؤهم فلم يخفهم المسلمون على دينهم و لا على أنفسهم.
و يرد عليه: أنّ الآية المباركة تدلّ على كمال الدين و إتمام النعمة و في ذلك اليوم لم يكمل الدين و لم تتم النعمة بعد، و قد فرضت كثير من الشرائع و الأحكام و أنزلت عدد من الفرائض بعد يوم الفتح.
مع أنّ الآية الشريفة تدلّ على ايئاس جميع الكفّار من هذا الدين و لم يكن كذلك بعد يوم الفتح، إذ أنّ بعض العادات السيئة و الشرائع الفاسدة كانت موجودة عندهم حتّى بعث فيهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من أبطل تلك العادات السيئة و الشرائع الفاسدة.
و قيل: إنّ المراد به ما بعد نزول سورة البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب و عفيت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة، فلم يكن يخش المسلمون من كيدهم، و قد أبدلهم اللّه تعالى من بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.
و يرد عليه ما أورد على سابقه، فإنّ الإسلام و إن أمن من مكرهم و انبسط على الجزيرة و انقبرت سنن الجاهليّة، إلّا أنّ الدين لما يكمل بعد، و قد نزلت فرائض‏ و أحكام و مواثيق بعد نزول براءة كما هو معلوم، فإنّ سورة المائدة الّتي هي سورة الأحكام نزلت في آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله.
و قيل- و هو المعروف بينهم-: إنّ المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع، كما ذكره كثير من المفسّرين و وردت به بعض الروايات.
و فيه: أنّه إذا كان المراد به ذلك فما المراد من يأس الّذين كفروا من هذا الدين، فهل المراد به يأس مشركي قريش من الظهور عليه؟! فهو قد كان في يوم الفتح عام ثمانية للهجرة، لا يوم عرفة من السنة العاشرة.
أو يراد به يأس مشركي العرب من الظهور على الدين؟! فقد كان عند نزول براءة في السنة التاسعة من الهجرة.
و إن كان المراد به يأس الكفّار جميعهم الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم، كما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة: الَّذِينَ كَفَرُوا، فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين، إذ لم يكن لهم شوكة و منعة في خارج الجزيرة.
على أنّ المناسب لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أنّ كون الحكم الّذي أنزله اللّه تعالى له من الأهميّة بمكان بحيث يكون به كمال هذا الدين، و به تتمّ النعمة العظيمة، و بنزوله قد رضي اللّه سبحانه و تعالى أن يكون الإسلام دينا و منهاجا أبديّا خالدا إلى يوم القيامة.
و ما يمكن أن يقال من الاحتمالات في هذا الحكم النازل في يوم عرفة خمسة:
الأوّل: أن يكون المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الشريفة و تعليمه الناس تعليما قوليّا و عمليّا في آن واحد.
و فيه: أنّ حضوره صلّى اللّه عليه و آله في الحجّ و إكماله بتشريع الأحكام، فيه كمال للحجّ فقط لا للدين كلّه و إتمام للنعمة، فإنّ كلّ حكم إلهي بحدّ نفسه كمال و نعمة عظيمة، كما ورد في قوله تعالى عند تشريع الوضوء و التيمم: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، إلّا أنّ ظاهر الآية المباركة في المقام أنّ ما شرّعه عزّ و جلّ من الحكم في هذا اليوم يكون موجبا لكمال الدين كلّه و سببا لانقطاع رجاء الكفّار، مضافا إلى‏ ذلك أنّ تشريع الحجّ لم يكن موجبا لإيئاس الكفّار و انقطاع الرجاء عن هذا الدين كما هو معلوم، فتنقطع الرابطة بين الجملتين، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة.
الثاني: أن يكون المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم، فلا حلال بعده و لا حرام، و به استولى اليأس على الكفّار و انقطع رجاؤهم عن هذا الدين.
و فيه: مضافا الى ما أورد على سابقه أنّ الأحكام لم تكمل يوم عرفة، فقد نزلت بعده عدة أحكام كآية الصيف و آيات الربا، كما دلّت عليه جملة من الأخبار.
مع أنّ الكفّار الّذين انقطع رجاؤهم و استولى اليأس على نفوسهم، هل هم مشركوا قريش؟ فقد كانوا كذلك قبل نزول هذه الآية المباركة، أم مشركوا العرب؟ فقد خابوا عند نزول سورة براءة، أم الكفّار مطلقا من غيرهم؟ و قد عرفت أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.
الثالث: أن يكون المراد به إكمال الدين بتخليص بيت اللّه الحرام من رجس الوثنيّة، و براثن الشرك، و إجلاء المشركين عنه و خلوصه لعبادة اللّه الواحد الأحد.
و فيه: أنّ الأمر كان كذلك بعد فتح مكّة قبل هذا اليوم بسنة، يضاف الى ذلك أنّ تسمية مثل ذلك كمالا للدين و إن كان فيه إتمام للنعمة مشكل، فإنّ الدين مجموعة من الاعتقادات و التوجيهات و الإرشادات القيمة الّتي توجّه الإنسان إلى الصراط المستقيم و تعدّه إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا لنيل الكمالات الواقعيّة، و ليس في فتح مكة من الأهميّة العظمى الّتي يكون بها إكمالا للدين كلّه، و إن كان له أهميّة من النواحي الاخرى الّتي لا يستهان بها كما هو معلوم.
على أنّ إشكال يأس الكفّار يأتي في هذا الاحتمال أيضا، كما هو واضح.
الرابع: أن يكون المراد به إكمال الدين ببيان المحرّمات بيانا تفصيليّا، بعد أن ذكرت على سبيل الإجمال في بعض السور المكّية، لئلّا ينفر العرب من هذا الدين و يمتنعوا عن قبوله، و ليكون المسلمون على بصيرة منها فيجتنبوا عنها عن علم و معرفة و اطمئنان من دون خشية من الكفّار، فإنّهم يئسوا من هذا الدين بعد
إعزازه و ظهور الدين كلّه، فالمراد من اليوم هو يوم عرفة الّتي نزلت فيه هذه الآية الشريفة الّتي بيّنت هذه الأحكام و أبطلت بها سنن الجاهليّة، و هدم صرح الشرك بالبشارة بغلبة المسلمين و ظهورهم على المشركين ظهورا تامّا و عدم الخشية منهم، فإنّهم يئسوا من إزالة هذا الدين، فأبدل اللّه تعالى خوف المؤمنين أمنا و ضعفهم قوّة و فقرهم غنى، فالأجدر بالمسلمين أن يتوجّهوا الى العمل بالأحكام في أمن و أمان، فلا يبالوا بالكفّار و لا الى قوّتهم، و لا يخافوهم على دينهم و لا على أنفسهم.
و يرد عليه ما أورد على سوابقه، مضافا الى أنّ التدريج في المقام ليس كالتدريج في آيات الخمر، فإنّ هذه الآية المباركة لم تأت بحكم جديد، إضافة الى ما ورد من التحريم في سورة البقرة و الأنعام و النحل، إلّا أنّ في المقام شرحا للميتة ببيان أفرادها، فإن أريد من التدريج خوفا من امتناع الناس عن قبول هذا المعنى، فهو غير وجيه، إذ أنّ هذه المحرّمات ذكرت في غير موضع واحد.
على أنّ تشريع حكم واحد مثل هذا الّذي ورد في الآية الكريمة، و إن كان كمالا في حدّ نفسه و تماما للنعمة، لكنّه لم يكن كمالا للدين كلّه- كما عرفت- كما هو شأن بقية الأحكام الإلهيّة الّتي شرّعت في أوقات متعدّدة، فلم يرد فيها مثل ما ورد في ما شرّعه اللّه تعالى في هذا اليوم بأنّه كمال للدين و إتمام للنعمة العظيمة، و أنّه سبب لا لإيئاس الكفّار من هذا الدين، و أنّ به رضا اللّه تعالى أن يكون الإسلام دينا الى يوم القيامة.
الخامس: أن يكون المراد بإكمال الدين هو سدّ باب التشريع، فلم ينزل حكما آخر بعد نزول هذه الآية في يوم عرفة.
و فيه: أنّه لم ينسد باب التشريع عند نزول هذه الآية الشريفة في هذا اليوم كما عرفت مكرّرا، فقد شرّعت أحكام كثيرة بعدها أيضا.
و الحقّ أن يقال: إنّ الدين مجموعة قوانين و نظم و توجيهات و إرشادات قيّمة تعدّ الإنسان إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للوصول الى الكمال اللائق به في الدارين، و تكون سببا في سعادته، و هي و إن كانت مجموعات و أحكاما متعدّدة، إلّا أنّها مترابطة و متكاملة، و يعتبر كلّ واحد منها نعمة على الإنسان، كما يدلّ عليه ما ورد في تشريع الوضوء و التيمم في قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة، الآية: ٦].
كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام يكون اللاحق منها مكملا للسابق و كمالا له، و يعدّ كلّ تشريع من التشريعات الإلهيّة دعامة من دعامات هذا الدين، و سببا في تقويته و تثبيته و منعته و صدّه لكيد الكافرين و مكرهم الّذين ما برحوا في تفويض هذا البنيان المنيع و إطفاء نور اللّه تعالى، و لهم في ذلك أساليب مختلفة كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم و حذّر المؤمنين من كيدهم و مكرهم و خدعهم.
و كان من جملة ما توسّلوا به في زعزعة هذا الدين هو افتتان المؤمنين و بثّ النفاق بينهم و إفساد دينهم بإلقاء الشبه و الشكوك في نفوسهم، و قد تصدّى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله لدفع جميع ذلك و ردّ كيدهم بوحي من السماء و إمداد ربوبي، فعاش فيهم ثلاثا و عشرين سنة يكابد المحن و يكافح أعداء الدين و يجاهد مع المنافقين، و يمدّه عزّ و جلّ بتوجيهات و إرشادات و ينزل من الأحكام ما تطمئن نفسه الشريفة و نفوس المؤمنين، حتّى نما الإسلام و قويت شوكته و دخل المشركون في هذا الدين و انمحت آثار الشرك من الجزيرة و علت كلمته و ظهر على الدين كلّه و إن كره الكافرون، إلّا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و إن أمن من كيدهم في حال حياته، و لكنّه لم يأمن منهم بعد رحيله و غيابه عن جماعتهم، و كان من أهمّ ما كان يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيبة بعد موته صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا يفترون عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بشتى السبل، منها أنّهم كانوا يقولون: إنّ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله أبتر ليس له عقب يحفظ له دينه بعد موته، و سينقطع أثره و يموت ذكره و لا يبقى دينه كما هو المشهود في موت الملوك و السلاطين، فكان هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور النبي صلّى اللّه عليه و آله و يهمه و يقلق باله. و لعلّه كان يرى أنّ هذا الدين لو بقي كذلك من دون أن يكون في البين تشريع يحفظه بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله يكون ناقصا، و كان يخشى الكافرين أعداء هذا الدين من الانقضاض عليه مرّة اخرى و إفساده‏ و هو غائب لم يقدر على حفظه من كيدهم، و هذا هو الّذي كان يخشى المؤمنون منه أيضا، فلا بدّ من تشريع يزيل هذا النقص منه و تكميله بإنزال حكم يثبت دعائمه إلى الأبد، مع العلم بأنّه دين أبدي لا يكون بعده دين أو تشريع آخر، فيكون هذا التشريع و الحكم الإلهي له من المميزات ما يفوق به على أي تشريع آخر، فإنّه يزيل الخشية عن المؤمنين من كيد الكافرين، فلا يخاف منهم، و به يكمل هذا الدين و تثبت دعائمه الى الأبد و يؤمن من كيد أعدائه و مكرهم و خدعهم و أباطيلهم، و هو من النّعم العظيمة على المؤمنين في حفظ دينهم من الضياع، و به رضى اللّه عزّ و جلّ أن يكون الإسلام دينا أبديّا و منهاجا خالدا، فأيّ تشريع عظيم هذا يكون سببا لرضائه تعالى به دينا كاملا، فهو تبارك و تعالى كان راضيا بهذا الدين قبل ذلك و لكنّه الآن رضي أن يكون دينا كاملا و تامّا لا يخشى المسلمون من أعدائه، فهو باق ببقاء الدهر محفوظا من كيدهم و مكرهم، فلا يخافهم المؤمنون لا على دينهم و لا على أنفسهم.
و من ذلك يعلم أنّ المراد من اليوم في المقام هو المقطع الخاصّ من الزمان الّذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهي العظيم، فلا يختصّ بخصوص يوم عرفة أو قبله أو ما بعده حتّى ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ لهذا التشريع مقدّمات و معدّات لم تكن في غيره لأهمّيّته، فهو يختلف عن سائر الأحكام و التشريعات كما عرفت.
و به يمكن أن يجمع بين الأقوال، فإنّ لكلّ واحد منها دخلا في هذا التشريع بنحو من الأنحاء، و سيأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.
و يشهد لما ذكرنا امور:
منها: أنّ سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ يدلّ على تفخيم أمر هذا اليوم و تعظيم شأنه، لما في تقديم الظرف و تعلّقه بقوله تعالى: يَئِسَ من الدلالة على ذلك كما هو معلوم، و لعلّ السرّ في ذلك هو ما ذكرناه من إنزال حكم إلهي في هذا اليوم يكون فيه الضمان لحفظ هذا الدين و ديمومته، و به خرج من الظهور و الحدوث الى مرحة البقاء و الدوام.
و منها: أن يأس الكفّار و انقطاع رجائهم عن هذا الدين لم يتحقّق إلّا بتشريع حكم يضمن بقاءه و يحفظه من الضياع إذا مات القائم بأمره، فإنّ كلّ مذهب و نحلة لا تبقى على شوكتها و قوّتها و صفاتها و نضارتها إذا مات حملتها و حفظتها و القائمون بأمرها، فلا بدّ من أن يقوم بعدهم من يحفظها و يدبّر أمرها، و كان رجاء الأعداء الوحيد هو موت صاحب هذا الدين ليقضوا عليه بعد ما لم ينفعه التهديد، و التوعيد و القهر، و الجبر، و القتل، و الضرب في حياة صاحبه، و قد حصل لهم اليأس عند ما خرج الدين من القيام بفرد معين و شخص خاصّ الى أشخاص متعدّدين يتحمّلون الأمانة بصدق و وفاء، و يكونون مظاهر للشريعة قولا و عملا، و انقطع رجاؤهم عند ما علموا بأنّ الدين خرج من مرحلة الحدوث الى مرحلة البقاء، و لعلّ في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة، الآية: 109] إشارة إلى ذلك، فإنّ الكفّار عند ما انقطع رجاؤهم من تقويض هذا الدين في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله تمنّوا الانقضاض عليه و ردّ المؤمنين عن إيمانهم بعد ارتحاله و موته صلّى اللّه عليه و آله، و لكن اللّه جلّت عظمته وعد المؤمنين بأن يأتي بحكم يرفع هذا الخوف الكامن في نفوسهم، و هو الّذي ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة في المقام.
و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يختلف عن سياق مثيلتها الّتي ورد فيها نفس الأسلوب، كقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، الّذي يدلّ على تشريع حكم إرفاقي ينبئ عن عظيم امتنانه على الامة، حيث أحلّ لهم الطيبات و طعام أهل الكتاب، كما ستعرف.
و أمّا المقام، فإنّ سياقه يدلّ على تعظيم أمر «اليوم» الّذي نزل فيه حكم‏ عظيم يتضمّن البشرى للمؤمنين بحفظ دينهم عن تلاعب أيدي الّذين كفروا، و هو يشمل اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم.
و أمّا الآية الاخرى فيختصّ الحكم فيها بأهل الكتاب، كما أنّ الحكم في المقام تكويني، بينما يكون الحكم في الآية التالية تشريعي إرفاقي، فيستفاد من جميع ذلك عظمة الحكم الوارد في المقام و أهميّة اليوم الّذي شرّع فيه ذلك الحكم.
و منها: أنّه ورد بعض الروايات في المقام الّذي يدلّ على أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في أمر ولاية علي عليه السّلام، كما ستعرف.
و منها: قوله تعالى في الآية الكريمة: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الدال على النهي عن الخشية منهم. و الظاهر أنّ النهي إرشادي، لا أن يكون مولويا، بمعنى ارتفاع الموجب عن الخشية بعد يأس الّذين كفروا من التعرّض لدينكم، فلا بدّ أن تكون الخشية من اللّه تعالى فقط في عدم التعرّض لما يوجب سخطه و عقابه.
و من البديهي أنّ الخشية منه عزّ و جلّ واجبة على كلّ تقدير من غير أن تكون في وقت خاصّ أو حالة مخصوصة، فإنّ ذلك يشعر بأنّ الخشية المأمور بها في المقام هي خشية خاصّة، و هي الّتي كانت حاصلة من الأعداء بالنسبة الى دين اللّه تعالى، و بعد أن أيأسهم اللّه تعالى و أمن المؤمنون، فلا موجب للخشية منهم، و يجب على المؤمنين توجّه خشيتهم الى اللّه تعالى لئلّا يقعوا في ما يوجب غضبه و الانتقام منهم.
و لا تخلو الآية المباركة من التهديد و التحذير للمؤمنين كما هو واضح من سياقها.
قد يقال: إنّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ يكون مثل قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: ۱۷٥]، فكلّ ما يقال فيه يقال في المقام أيضا.
و يرد عليه: بأنّ الحكم في الآية الشريفة الثانية مولوي مشروط بالإيمان، و يكون مفادها أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكافرين لا على دينهم و لا على‏ أنفسهم، بل يجب عليهم أن يخافوا اللّه تعالى وحده، فإنّه العزيز القادر على كلّ شي‏ء، بل المؤمن لا يخاف غيره جلّ شأنه، كما يشعر به التعليل في ذيل الآية المباركة.
و أمّا آية المقام، فإنّها لا تنهى عن الخشية منهم إلّا بعد تشريع حكم خاصّ أوجب يأس الأعداء و انقطاع رجائهم عن نيل هذا الدين، فحينئذ لا بدّ أن تكون خشيتهم عن اللّه فقط، فهي لا تنهى عن الخشية مطلقا كما نهت الآية الاخرى عن الخوف، بل لأجل أنّه لا موجب للخشية بعد اليأس؛ و لذا كان الحكم تكوينيّا لا تشريعيّا.
و من جميع ذلك تعرف عظمة هذه الآية الشريفة و أهميّتها، و أنّها تؤذن بأنّ هذا الدين في أمن و أمان من ناحية الّذين كفروا بعد ما يئسوا من النيل منه، فلا يتطرّق إليه ما يوجب الخطر عليه أو فساده إلّا من ناحية المسلمين أنفسهم بترك العمل بالأحكام الإلهيّة و الإعراض عن التوجيهات الربوبيّة، فإذا تغيّروا تغيّر اللّه تعالى عليهم، فإنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فقد يسلب منهم التوفيق، و يزيل النعمة، و يذيقهم لباس الخوف و الجوع كما حكي عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [سورة النحل، الآية: 112]، فحينئذ تنحصر الخشية من اللّه فقط في أن يسلب منهم النعمة العظيمة إذا تغيّر المؤمنون و رفضوا العمل بتعليمات هذا الدين، و قد حذّر اللّه تعالى العباد عن نفسه في عدّة مواضع من الكتاب الكريم إذا لم يتولوا اللّه عزّ و جلّ و الرسول في جميع أمورهم.
قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ.
الخشية: هي الخوف و الحذر مع التعظيم، و الغالب فيها عن علم و معرفة؛ و لذا قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]، و قال‏ تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [سورة النور، 2 لآية: ٥۲].
و الآية الشريفة بمنزلة الغاية لما قبلها. أي: بعد ما وفى اللّه تعالى بوعده، حيث أظهر دينه و يئس الكفّار من الغلبة لما شاهدوا من الكمال في الدين، فلا تخشوا الكفّار من أن يظهروا على دينكم و يغلبوكم، بل أخلصوا الخشية للّه جلّ جلاله وحده لما منّ عليكم بالنصر و الغلبة و الإظهار على العقائد الفاسدة و الأديان المنحرفة.
و يحتمل أن يكون المراد من الخشية الرجاء.
و لكنّه بعيد؛ لأنّهما متضادّان، نعم الرجاء يلازم الآخر غالبا في ضدّ متعلّقه.
فمن يخشى المرض يرجو طبعا الصحّة، و كذا من يخشى الفقر يرجو الغنى، و كذا سائر الأضداد. و سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرناه و اللّه العالم.
قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
بشارات ثلاث تنبئ عن عظيم المنّة على المؤمنين، و تدلّ على كمال هذا الدين و هيمنته على الدين كلّه، فلا دين و لا شريعة بعد هذا الدين الكامل الّذي ارتضاه اللّه تعالى أن يكون منهاجا علميّا و عمليّا للبشريّة كلّها، و أنّ ما سواه باطل و ناقص، فهو النعمة التامّة الّتي لا ينقصها شي‏ء، و هو الدين الكامل الّذي لا يعوزه تتميم من متمم، و قد ذكرنا آنفا أنّ هذه الفقرة ترتبط مع الفقرة السابقة، أعني: قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أشدّ ارتباط، و هما مسوقتان لغرض واحد، فإنّ اللّه تعالى أكمل هذا الدين و أتمّ نعمته على المؤمنين، و ارتضاه أن يكون دينا خالدا كاملا، فكان ذلك سببا لانقطاع رجاء الكافرين عن النيل من هذا الدين و يأسهم من محوه و إفساده، فلا موجب للخشية منهم، و إنّ الخشية إنّما تكون من اللّه سبحانه و تعالى وحده في أن ينزع هذا الدين من المؤمنين‏ أنفسهم و يسلب هذه النعمة العظيمة عنهم إذا لم يطيعوا اللّه تعالى في تشريعاته و أحكامه و توجيهاته.
و مادة (كمل) تدلّ على الوفاء و التمام، و كمل الشي‏ء إذا حصل ما هو الغرض منه، و ذكر العلماء أنّ الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى. و لكن التتبع في موارد استعمالاتهما يفيد بأنّهما مختلفان، فقد يستعمل التمام و الإتمام في مورد لا يصحّ استعمال الإكمال فيه أو بالعكس، فإنّ الإتمام يستعمل في ما إذا كان للشي‏ء أجزاء و شروط و قد تحقّقت جميعها، بحيث لو فقد واحد منها لم يترتّب عليه أثره أو الغرض الّذي سيق له، قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [سورة البقرة، الآية: 187]، فإنّ الصيام إنّما يوصف بالتمام إذا لم يختل شروطه، فلو أختل واحد منها و لو في جزء من النهار، فإنّه يفسد.
و أمّا الإكمال، فإنّه يستعمل في ما إذا كان للشي‏ء أجزاء و لكلّ جزء أثره الخاصّ المترتّب عليه، فلو حصلت جميع تلك الأجزاء لتحقّقت جميع تلك الآثار المطلوبة، و إلّا فيتحقّق جزء من مجموع الأثر، فالاختلاف بين المادّتين (الإتمام) و (الإكمال) كالاختلاف بين العامّ المجموعي و العامّ الإفرادي المعروفين في علم الأصول. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة، الآية: ۱۹٦]، فإنّ لكلّ واحد من تلك العشرة أثره المطلوب، فإذا تحقّقت كاملة حصلت جميع الآثار المطلوبة، و إلّا فيتحقّق الأثر الخاصّ المترتّب على الجزء المأتي به فقط، و قال تعالى: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [سورة البقرة، الآية: ۱۸٥]، فإنّ الأثر يترتّب على البعض كما يترتّب على الكلّ، كلّ بحسبه، فهذا هو الفرق بين المادّتين اللتين اجتمعتا في هذه الفقرة، فإنّ الاولى تدلّ على أنّ هذا الدين مجموعة معارف و أحكام، و قيم، و توجيهات، فكلّ واحد منها كمال في حدّ نفسه، و لكن أضيف إليها أمر في هذا اليوم أصبح به الدين كاملا لا يمكن أن ينال ذلك الأثر العظيم المترتّب على هذا الدين إلّا بتنفيذه، فهو المكمّل لها، كما أنّ النعم الإلهيّة و إن كانت كثيرة في هذا الدين، و لكنّها تمّمت بهذا الأمر الّذي شرّعه عزّ و جلّ في هذا اليوم؛ فلذا ارتضى جلّ شأنه هذا الإسلام دينا تامّا كاملا لا يعوزه شي‏ء آخر و لا يحتاج الى مكمّل، و سيبقى مدى الدهر يقاوم الصعاب و يصمد أمام كلّ صروف الزمان، لا يثنيه تشكيك المبطلين و لا زيغ الزائغين الضالّين.
و أمّا النعمة، فهي عبارة عمّا يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و هي من الإمدادات الربوبيّة للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و قد كثر ورودها في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: ۳٤]، و ذلك لحكم كثيرة، منها الإعلام بأنّها من شؤون ربوبيّته العظمى لخلقه، و تذكيرا للمنعم عليه بالمنعم ليشكره على ما أنعم، و إرشادا له بإيفاء حقّ النعمة، و بيانا بأنّ نظام التدبير قائم بها على نحو تكون بينها وحدة مترابطة متكاملة.
و هي بحدّ نفسها توصف بالخير و الحسنة؛ لأنّها توافق الغرض الإلهي الّذي خلق من أجله الإنسان، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: ٥٦]، فكلّ ما أوجب التقرّب إليه عزّ و جلّ و ابتغاء مرضاته و التعبّد لديه تكون نعمة، و إلّا كانت نقمة و شرّا. و لعله لأجل ذلك وصف سبحانه و تعالى بعض النّعم الإلهيّة في القرآن الكريم بصفات غير محمودة، قال تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [سورة آل عمران، الآية: 178]. كما وصف عزّ و جلّ الدنيا الّتي هي من أهمّ النعم الربوبيّة بأنّها متاع قليل، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [سورة العنكبوت، الآية: ٦٤]. و إنّما وصفها عزّ و جلّ بتلك الأوصاف لأنّها لم تستغل من قبل الإنسان في الغرض الّذي عيّنه خالقها لأجله، و هو الدخول في ولايته عزّ و جلّ بالعمل بوظائف العبوديّة.
و من ذلك يعرف أنّ الإسلام الّذي هو مجموعة تشريعات و وظائف و أحكام و توجيهات و إرشادات أنزلها اللّه تعالى لغرض إعداد الإنسان إعدادا علميّا، و عمليّا، و عقائديّا؛ ليكون عبدا قائما بوظائف العبوديّة، و من المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلّا بالدخول في ولايته تعالى و ولاية رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أوليائه عليهم السّلام بعده بالطاعة لهم و العمل بما جاء به الدين، كما قال عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: ٥۹]، فيكون اليوم الّذي أتمّ اللّه النعمة على المؤمنين هو اليوم الّذي شرّع فيه ما يكون موجبا للدخول في ولاية اللّه تعالى و ولاية رسوله الكريم، و متمّما لهاتين النعمتين العظيمتين، و هو اليوم الّذي فرض فيه ولاية أولياء اللّه تعالى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، الّذين بهم تقام أركان الدين و يبسط العدل، و يحمى دين اللّه تعالى، فهم القيمون على الشريعة بعد أن كان القيّم عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي كان مؤيّدا بوحي إلهى، فإذا انقطع لا بدّ من أن يقوم مقامه أحد في هذه المهمة العظيمة و تتمّ به ولاية اللّه تعالى و ولاية الرسول الكريم، و به أيس الكفّار عن هدم هذا الدين، و رضى اللّه تعالى بهذا الدين إسلاما.
و ممّا ذكرناه يعرف أنّ هذه الولاية لها أساس تشريعي به كمل الدين في تشريعه، و أساس تكويني به تمّت النعمة و كان لها الأثر العميق في أمن المؤمنين بعد خوفهم ليعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا، و لعلّه الى ذلك يشير قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [سورة النور، الآية: ٥٥]، فإنّ هذه الآية المباركة تشير بوضوح الى ما سيتحقّق من الوعد الّذي وعده عزّ و جلّ به في آية المقام بتشريع ما يكمل به الدين و تتمّ به النعمة و ييأس الكفّار و يأمن المؤمنون بعد خوفهم، فتكون هذه الآية المباركة من مصاديق آية سورة النور الّتي هي أسبق نزولا من سورة المائدة.
و ذيل الآية الشريفة: وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يدلّ على تشديد الأمر في الموعود الّذي وعده عزّ و جلّ.
هذه خلاصة ما يمكن أن يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة ما ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة.
و من ذلك كلّه تعرف أنّ ما ذكره بعض المفسّرين و العلماء في تفسيرها إنّما هو بعيد عن سياقها.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ.
عود الى صدر الكلام الّذي حرّم جملة من أصناف الميتة، و بيان لحكم ثانوي اضطراري، و الاضطرار: افتعال من الضرر، و المراد به الوقوع في الضرورة.
و المخمصة: المجاعة الّتي تورث خمص البطن و ضموره، بحيث يخاف معها الموت، أي: فمن وقع في ضرورة من مجاعة تعرض للإنسان تلجأه الى تناول شي‏ء من المحرّمات المتقدّمة، فلا إثم عليه.
قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ.
الجنف: الميل و الانحراف، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [سورة البقرة، الآية: 183]، و في الحديث: «إنّا نرد من جنف الظالم مثل ما نرد من جنف الموصي».
و المراد به عدم تجاوز الحدّ عن ما يوجب رفع الضرورة و الأكل زائدا على ما يمسك به رمقه و يسكن به ألم جوعه، فإنّ التجاوز عنه يكون إثما؛ لأنّ الضرورات إنّما تتقدّر بقدرها، و يبيّن المقام قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ*، أي: غير طالب له و لا متعدّ في الأكل و متجاوز عن قدر الضرورة، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.
و الآية المباركة تدلّ على أنّ الأحكام الثانويّة إنّما تتحدّد بقدر الضرورة الّتي أوجبت تشريع الحكم، فإذا ارتفعت يرتفع ذلك، كما هو مفصّل في كتب اصول الفقه.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فمن اضطر الى تناول تلك المحرّمات فأكل منها بقدر ما يرجع به الضرورة و يدفع عنه الجوع و الهلاك، غير متعد حدود اللّه تعالى في ذلك بأن لا يكون جائرا و متجاوزا قدر الضرورة، فإنّ اللّه غفور لمثله لا يؤاخذه رحيم به.
و عموم الآية المباركة يدلّ على أنّ صفة المغفرة و الرحمة كما تتعلّقان بالمعصية الّتي توجب العقاب، كذلك تتعلّقان بمنشأها و هو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّتي تستتبع العقاب.

ذكرنا في التفسير أنّ التاء في (النطيحة) للنقل لا للتأنيث؛ لأنّ فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، و قال بعض: إنّ ذلك صحيح في ما إذا ذكر الموصوف مثل كفّ خضيب، و أمّا إذا حذف كما في المقام فيجوز دخول التاء فيه، فلا حاجة الى القول بأنّها للنقل. و قرئ (المنطوحة).
و السبع بضمّ الباء، و لغة أهل نجد بسكون الباء، و قرأ ابن عباس: (و أكيل السبع).
و الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ متّصل ب وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ و ما قبله، أي: إن أدركتم ذكاتها، و (ما) في موضع النصب، و قيل: إنّه منقطع، أي: يحرم كلّ المذكورات إلّا ما يحلّ أكله بالذكاة. و لكنّه ليس بشي‏ء، فإنّ القاعدة في الاستثناء الاتصال؛ لأنّ حقّه أن يكون مصروفا الى ما تقدّم من الكلام، و لا يجعل منقطعا إلّا بدليل مقبول.
و (اليوم) في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا منصوب على الظرفيّة، و كذا في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ، و تقديم الجار في الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ؛ للإيذان بأنّ الإكمال إنّما يكون لمصلحتكم و منفعتكم، و تشويق الى ذكر المؤخّر.
و أمّا الجار في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، فقد قيل: إنّه لا يتعلّق (بنعمتي)؛ لأنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله، و قيل: إنّه متعلّق به و لا بأس بتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا، و النعمة مصدر بناء نوع، أي: أنّ بناءها يستفاد منها النوع.
و ذكر بعض أنّ الرضا في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً نظّر فيه معنى الاختيار؛ فلذا عدّي ب (اللام) للدلالة على أنّ ارتضاه عزّ و جلّ للإسلام إنّما هو لصالح المؤمنين و لأجل سعادتهم.
و منهم: من جعل الجارّ صفة ل (دين) منصوبا على الحاليّة من الإسلام أو تمييزا من (لكم)، و قيل: (دينا) منصوب على الحاليّة من الإسلام أو تمييز من (لكم).
و قيل: إنّ الجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت)، و إلّا كان مفهوم ذلك أنّه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم.
و لكنّه باطل، فإنّ الإسلام لم يزل دينا مرضيا للّه عزّ و جلّ، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و ما ذكره من المفهوم فاسد لا اعتبار به، فالجملة معطوفة على سابقتها، و هي لبيان عظمة هذا اليوم، و أنّ الإسلام الّذي أكمل بهذا التشريع و اتمّ بهذه النعمة قد صار دينا خالدا أبديّا لا ينسخ و في مأمن من الأعداء كما عرفت، و هذه من جملة التشكيكات الباطلة في هذه الآية المباركة لإخراجها عن مفادها الواقعي و إدخالها في متاهات المفسّرين.
و المخمصة: من الخمص، و هو ضمور البطن، يقال: رجل خميص و خمصان و امرأة خميصة- على المبنى كما مرّ- و خمصانة، و منه: أخمص القدم، أي: باطنها الّذي لا يصيب الأرض؛ فيكون في مشقّة و تعب، و يستعمل كثيرا في الجوع الغرث قال الشاعر:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

و في حديث صفات المؤمن: «خماص البطون خفاف الظهور»، أي: أنّهم أعفّة عن أموال الناس و هم ضامروا البطون من أكلها، خفاف الظهور من ثقل وزرها و محنة إثمها.
و الخماص: جمع الخميص، و هو البطن الضامر، كما أنّ الخمائص جمع خميصة، و منه الحديث: «كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا»، أي تغدو بكرة و هي جياع‏ و تروح عشاء و هي ممتلئة الأجواف. و الخميصة هي ثوب خز أو من صوف معلّم، و كانت من لباس الناس قديما.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل: يدلّ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ على اصول المحرّمات في اللحوم، و هي هذه الأربعة و قد جمعت جميع الوجوه الّتي يمكن تصويرها في هذا النوع من المأكولات.
أمّا الأوّل: فلأن التغذّي به يوجب فساد المزاج و يجلب الضرر، كما أثبته العلوم الحديثة.
و الثاني: فإنّه ممّا يستقذره الطبع الإنساني، مضافا الى أنّ التغذّي عليه يفسد المزاج و يؤثّر على النفس و البدن.
و الثالث: فإنّه مضافا الى كونه يفسد المزاج و ممّا يؤثر على النفس و البدن، يستقذره الطبع المعتدل.
و الرابع: فإنّه خلاف الفطرة المستقيمة الّتي ترشد الإنسان الى التوحيد و نبذ الأنداد، و لأنّ فيه تشويش الفكر الإنساني الداعي الى الاستقامة، ففيه الضرر المعنوي، كجلب الشقاء للنفس كما ثبت ذلك في علم النفس.
و قد جمعت هذه الأربعة الأصول الّتي يمكن أن يكون كلّ واحد منها سببا للمنع و التحريم في غيرها أيضا، و هي الضرر بقسميه البدني و المعنوي و استقذار الطبع و نفرته، و التأثير النفسي الموجب لخروج الإنسان عن الفطرة المستقيمة و تخبّطه في الأمور.
و يعتبر الإسلام من أعظم الأديان السماويّة الّتي تراعي تلك الأمور بدقّة في جميع ما يطعمه الإنسان، و قد تقدّم في تحريم الخمر بعض الكلام أيضا، فيشترط في‏ حلية اللحوم أن تستطيبه الطباع المعتدلة، لا ما يكسبه الطبع بحكم المجاورة و العقيدة و بعض العادات السيئة، فإنّ الطبع شديد التأثّر بهذه الأمور، فلا يستشكل بأننا نرى الأقوام تأكل أشياء تعدّ في الشريعة الإسلاميّة من المنفّرات، و ممّا يستقذره الطبع، فإنّ الإسلام يرى الطبع المعتدل الّذي لم يتأثّر بالعوامل الخارجيّة، ثمّ لم يجعل ذلك على الإطلاق، فقد قيّدها بأن تكون اللحوم من ذوات الأربع، و خصّصها ببهائم الأنعام فقط، و مع ذلك فقد نزّه عن أكل بعضها كالفرس و الحمار؛ لحكم كثيرة، فخرج بذلك السباع و الوحوش.
و أمّا الطير، فقد خصّصه بغير الجوارح، و اشترط فيه أن يكون فيه حوصلة، و أن يكون دفيفه أكثر من صفيفه.
و أمّا حيوان البحر، فاشترط أن يكون فيه الفلس، فاختصّ ببعض أنواع السمك، و أن لا يموت في ما هو حياته فيه كما فصّلناه في الفقه.
فكانت هذه الشروط علامات لتمييز النافع للإنسان عن الضار، فاجتمع في التشريع الإسلامي الجانب المادّي- و هو مراعاة النفع و عدم الضرر، و عدم استقذار الطبع- و المعنوي و هو حفظ الفطرة المستقيمة عن الانحراف و تصحيح الفكر و ابقائه على الاستقامة و عدم تلوّث النفس الإنسانيّة بأمور تفسدها و تصرفها عن نيل الكمالات الواقعيّة.
و لعلّ اهتمام الشرع الإسلامي بطعام الإنسان؛ لأجل تأثيره الكبير في نفسه، فإنّه إذا كان خيّرا و طيّبا فتتأثّر النفس و الفطرة به، فتكون طيبة و تستعدّ لنيل الكمال، و إلّا فسدت و خرجت عن حدّ الاستقامة.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ على أنّ ذكر اسم غير اللّه يوجب حرمة الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا.
و ذكر بعضهم أنّه يفهم من ذلك كلّما ذكر اسم اللّه تعالى عليه حلّ أكله، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا، فيدخل فيه ذبائح أهل الكتاب، فتكون على القاعدة.
و هو مردود: بأنّ الآية المباركة ليست في مقام بيان هذه الجهة، و المسألة محرّرة في الفقه مفصّلا فراجع.
الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أنّ الحرمة في هذه الأمور المذكورة مضافا الى كونها من مصاديق الميتة، أنّ قتلها بالكيفيّات الموصوفة خلاف الفطرة و الرحمة الّتي ينشدها الإسلام في هذا الموضوع، فهو يمنع من التعذيب و القتل الفظيع، فإنّه دين الرحمة يبتغي الرحمة في جميع الشؤون و يأمر بنشرها في كلّ الأمور، و ينهى عن زجر الحيوان و أذيته في القتل و قطع أعضاء الحيوان و سلخه قبل زهاق روحه، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»، و وضع للتذكية شروطا و آدابا يوجب الرفق بالحيوان.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ على أنّ ما يوجب تحليل الحيوان الّذي أباح الشرع أكله أو الصلاة في جلده و سائر أجزائه هو التذكية، و هي تتحقّق إمّا بالذبح أو النحر، أو الصيد، أو إخراجه ممّا هو حياته فيه، أو وضع اليد عليه، و لكلّ واحد من هذه الأمور شروط معيّنة مذكورة في الفقه.
و في التذكية الشرعيّة اجتمعت الفطرة و ما تهدي إليه الخلقة، و الرحمة، فلا يردّ بأنّ الاقتصار على اللحوم الّتي تتهيّأ بالموت العارضي، كحتف الأنف و نحو ذلك ممّا يجتمع فيه حكم الفطرة و الخلقة الّتي تدعو الى أكل اللحوم، و حكم الرحمة، الّذي يدعو إلى نبذ تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح و نحوهما، فلا يحتاج الى التذكية و الذبح.
و الجواب عنه يتّضح ممّا ذكرناه آنفا، فإنّ الرحمة إنّما يجب اتباعها في ما إذا لم يستلزم ضررا و حرجا منها على الإنسان، و إلّا كان خلاف الرحمة، فلا يجب اتباعها، مع أنّك عرفت أنّ الإسلام قد أمر بإعمالها في هذه الحالة أيضا قدر المستطاع.
الخامس: يدلّ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ‏ نِعْمَتِي أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع و نظام التكوين، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات، لا سيما في المقام؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع، و هذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها اللّه تعالى للأئمة الطاهرين عليهم السّلام، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية اللّه تعالى و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين و التشريع، و تدلّ على ذلك روايات متعدّدة، و في الدعاء المأثور: «بكم يجبر المهيض و يشفى المريض و تزداد الأرحام و تغيض»، و أنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.
السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ على انتفاء سبب الخشية من الكفّار بعد يأسهم اليوم، فيتضمّن الوعد بحفظ هذا الدين من كيدهم و زيغهم و أباطيلهم و أمن المؤمنين بعد خوفهم، كما يدلّ على الوعيد و التحذير أيضا، فإنّ السبب انتقل من الأعداء الى ما عند اللّه تعالى وحده، فإنّه لا بدّ من ابتغاء مرضاته و حفظ دينه بالطاعة و العمل بما أنزله عزّ و جلّ على رسوله العظيم صلّى اللّه عليه و آله، فلا يتسرّب الى هذا الدين من طوارق الفساد إلّا ما كان من قبل المسلمين أنفسهم.
و من المعلوم أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحذّر العباد عن نفسه في كتابه الكريم إلّا في باب الولاية و الطاعة، فقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ* يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 28- 30] بعد نهي المؤمنين عن اتّخاذ الكافرين أولياء؛ فهذه قرينة اخرى على أنّ هذه الآية المباركة لها ارتباط و ثيق بالولاية.
السابع: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ أنّ الاستقسام بالأزلام‏ الّذي هو نوع من المقامرة في تعيين اللحم و قسمته بالأقداح فسق و يحرم أكل ما يخرج به؛ لأنّ الآية الكريمة هي في مقام تعداد محرّمات الطعام من اللحم، فلا يستفاد منها حرمة مطلق الاستقسام بالأزلام في غير اللحم؛ فإنّه ليس من الفسق في تعيين بعض الأمور بذلك إذا لم يستلزم منه محرّم آخر.
و كيف كان، فالآية الشريفة بمنأى عن الاستخارة بأي وجه كان، و القرعة بأي أنواعها، و طلب الغيب بوجه مشروع.

الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة المتقدّمة حسب ما وردت في قطاعاتها على أقسام:
الأوّل: ما عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسين، عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام قال: «سألته عمّا اهلّ لغير اللّه به؟ قال: ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر، حرّم اللّه ذلك كما حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير- فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه أن يأكل الميتة. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، متى تحلّ للمضطر الميتة؟ قال: حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل فقيل له: يا رسول اللّه إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة، فمتى تحلّ لنا الميتة؟
قال: ما لم تصطحبوا، أو تغتبقوا، أو تحتفّوا بقلا فشأنكم بهذا، قال عبد العظيم:
فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما معنى قوله: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ*؟ قال: العادي السارق، و الباغي الّذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا، لا ليعود به على عياله و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار، و ليس لهما أن يقصّرا في صوم و لا صلاة في سفره، فقلت له: قوله تعالى: وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ، قال: المنخنقة الّتي انخنقت باخناقها حتّى تموت، و الموقوذة الّتي مرضت حتّى قذّها المرض حتّى لم يكن بها حركة، و المتردّية الّتي تتردّى من مكان مرتفع الى أسفل أو تتردّى من جبل أو في بئر فتموت، و النطيحة الّتي نطحتها بهيمة اخرى فتموت، و ما أكل السبع منه فمات، و ما ذبح على النصب على حجر أو صنم، إلّا ما أدركت ذكاته فذكي، قلت: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، قال: كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشر أنفس و يستقسمون عليه بالقداح، و كان عشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها، أمّا الّتي لها أنصباء فالفذ، و التوأم و النافس، و الحلس، و المسبل، و الرقيب، و المقلى، و أمّا الّتي لا أنصباء لها فالفسيح، و المشيح، و الوغد، و كانوا يحيلون السهام بين عشرة، فمن خرج بينهما باسمه سهم الّتي لا أنصباء لها الزم ثلث من البعير، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السهام الّتي لا أنصباء لها الى ثلاثة، فيلزمونهم ثمن البعير ثمّ ينحرونه و تأكل السبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، و لم يطعموا منه الثلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا، فلما جاء الإسلام حرّم اللّه تعالى ذكره ذلك فيما حرّم، و قال عزّ و جلّ: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني: حرام».
أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:
الأوّل: أنّ ما ذبح لغير اللّه تعالى ميتة، سواء كان لأجل الجماد أو الإنسان، إلّا أن يرجع إليه تعالى كما في العقيقة، أو ما يذبح لأجل السلامة الّتي منحها اللّه تعالى للإنسان، أو لأجل الشكر على العافية، أو لأجل الحفظ عن الخطر الّذي توجّه على الإنسان فأصرفه اللّه تعالى عنه.
و هذا أمر فطري؛ لأنّ مثل هذا التعظيم لا ينبغي إلّا لخالق الكائنات و مبدع الآيات و منزّل البركات.
و هل يأثم لو ذبح لغير اللّه تعالى مضافا إلى الحكم الوضعي؟ و البحث الفقهي يتكفّل هذا الجانب.
الثاني: أنّ الاضطرار الّذي يبيح المحظورات، في أكل الميتة بالخصوص مقيّد بما لم يكن منشأه البغي و العدوان، كما يأتي تفسيرهما و باق فيهما عليها، إلّا إذا تاب حلّ لهما أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار، كما يأتي في البحث الفقهي.
و أنّ المراد منهما السارق، و الّذي يبغي الصيد بطرا، لا لأجل المعيشة و دفع الجوع عن نفسه أو عياله أو مسلم آخر، فهو الباغي فيجري عليهما حكم الاختيار في حال الاضطرار إن لم يتوبا.
الثالث: يستفاد من هذه الرواية قاعدة عامّة في مورد الاضطرار المحلّ و المبيح للمحظورات، و هي أن يصل المكلّف الى مرحلة لا يمكنه حفظ نفسه إلّا بارتكاب المحذور، و لا وقع في مهلكة أو طرأ عليه مشقّة عرفا، و لعلّ هذا هو المراد من كلامه صلّى اللّه عليه و آله: «ما لم تصطحبوا»، أي: لم تأكلوا لقمة الصباح، أو «تغتبقوا»، أي: العشاء أو لم تجدوا بقلة بها يحفظ الإنسان نفسه، فحينئذ يحلّ أكل الميتة لابقاء رمق الحياة و رفع ألم الجوع.
و عن بعض أنّ المراد من قوله صلّى اللّه عليه و آله ليس لكم أن تجمعوا أكل الصبوح و العشاء من الميتة، و لكن سياق الحديث يدلّ على ما ذكرناه.
و عن الأزهري في تفسير الحديث: «إذا لم تجدوا لبينة تصطحبونها أو شرابا تغتبقونه بعد عدم الصبوح و الغبوق لم تكن بقلة تأكلونها حلّت لكم الميتة، و هذا هو الصحيح»، و هذا عين ما ذكرناه.
الرابع: أنّ السفر للصيد اللهوي كسائر الأسفار الّتي قصد بها المعصية، لا يوجب القصر في الصلاة و لا الإفطار في الصوم.
الخامس: فسّر الموقوذة في هذه الرواية بالمرض الّذي يصيب الحيوان، بحيث لا يجد ألم الذبح و لم يتمكّن من الحركة فيترك حتّى يموت، و ذلك من باب التفسير بالمصداق؛ لأنّ المضروب أيضا كذلك لا يجد ألم الموت و لا يمكن له الحركة، فيترك حتّى يموت و الجامع موجود.
السادس: أنّ قوله عليه السّلام: «إلّا ما أدركتم ذكاته فذكي» يرجع الى جميع‏ الأقسام كما في الآية المباركة، لا خصوص الأخير فقط؛ لتحقّق سببيّة الحلّ و عدم ورود نهي من الشارع.
و عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم سنة سبع و ثلاثمائة بإسناده عن أبان بن تغلب- الّذي هو من أجلّاء أصحاب الصادقين عليهما السّلام- عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «الميتة، و الدم، و لحم الخنزير معروف، و ما اهلّ لغير اللّه به يعني ما ذبح للأصنام. و أمّا المنخنقة، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم، فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها. و المتردّية كانوا يشدّون عينها و يلقونها من السطح، فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش، فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلّا ما ذكيتم، فكانوا يأكلون ما يقتله (يأكله) الذئب و الأسد و الدبّ، فحرّم اللّه عزّ و جلّ ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ كانوا يعمدوا الى جزور فيجتزءون عشرة أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام و يدفعونها الى رجل، و السهام عشرة- الحديث».
أقول: يستفاد من الآية الشريفة و مجموع هذه الروايات أنّ الشريعة الإلهيّة في زمن الجاهليّة لم تحل تلك الطرق السيئة الّتي كانت سائدة في الأمم الغابرة، كالمجوس، و الوثنيين، و غيرهما؛ لأنّ غالبها ممّا تأباها الفطرة المستقيمة.
و كيف كان، فإنّ الرواية من باب الجري و التطبيق و ذكر المصداق، و لا فرق بين الروايتين إلّا في موارد بسيطة جدا.
و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كلّ شي‏ء من الحيوان غير الخنزير، و النطيحة، و المتردية و ما أكل السبع، و هو قول اللّه: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ فإذا ذكيت شيئا منها و عين تطرف، أو قائمة تركض، أو ذنب يمصع‏ فقد أدركت ذكاته فكله. قال: و إن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك أو جبل، إذا كنت قد أجدت الذبح فكل».
أقول: الرواية تبيّن حكم الشكّ في حياة الذبيحة، فيكفي أحد الأوصاف في الحكم ببقاء الحياة، فإذا ذبحت على تلك الحال حلّ أكلها، و المراد من (عين تطرف) أي: تتحرّك، و في دعاء الصلوات: «اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد كلّما طرفت عين أو ذرفت»، و المراد من «قائمة تركض» أن تضرب الأرض. و من «ذنب يمصع» أي: الحركة مع الضرب، و المراد من جودة الذبح أن يكون جامعا للشرائط الشرعيّة.
و في تفسير العياشي عن محمد بن عبد اللّه، عن بعض أصحابه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، لم حرّم اللّه تعالى الميتة، و الدم، و لحم الخنزير؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه تبارك و تعالى فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق و علم ما يقوّم به أبدانهم و ما يصلحهم فحلّه و أباحه؛ تقصّدا منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه لهم في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثمّ قال: أمّا الميتة، فإنّه لا يدنو منها أحد و لا يأكلها إلّا من ضعف بدنه و نحل جسمه و وهنت قوّته و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة.
و أمّا الدم، فإنّه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلّة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.
و أمّا لحم الخنزير، فإنّ اللّه تعالى مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير و القرد و الدبّ، و ما كان من الإمساخ ثمّ نهى عن أكل مثله لكي لا ينتفع بها و لا يستخفّ بعقوبته.
و أمّا الخمر، فإنّه حرّمها لفعلها و فسادها، و قال: إنّ مدمن الخمر كعابد وثن و يورثه ارتعاشا، و يذهب بنوره و يهدم مروّته، و يحمله على أن يكسب على المحارم‏ من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يورد شاربها إلّا الى كلّ شرّ».
أقول: تدلّ هذه الرواية- مع قطع النظر عن السند- على امور:
الأوّل: أنّ سؤال الرواة عن بعض الحكم للأحكام مع أنّ الحكم فطري و عقلي لا ينافي الفطريّة كما في المقام، فإنّ سؤاله عن العلل في الحرمة للأمور المذكورة لا ينافي أن يكون قبح أكلها فطريا تتنفّر الطباع السليمة البشريّة عنها كما تقدّم؛ لأنّ الفطرة المستقيمة قد تخمد و تضيع، و أنّ الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام يخرجونها عن خمودها و يبرزونها عن خفائها، فإنّ المشرّع الّذي هو غني في ذاته و صفاته، لا حاجة له فيما شرّع، و إنّ المصالح و المفاسد ترجعان بالآخرة الى المكلّف.
الثاني: أنّ الحكم و المصالح أو المفاسد الّتي وراء الأحكام قد تظهر في هذا العالم- حسب سيره بأطواره، و أدواره، و مراحله- أو في عالم البرزخ أو في عالم الآخرة، و في الأخيرين لا محيص الى ذلك إلّا بالوحي؛ لأنّ سلطان العلم مقهور فيهما.
و قد تكشف العلوم الحديثة عن بعض الحكم الّتي وراء الأحكام، إلّا أنّها محدودة، فقد تكون الحكمة في تشريع الحكم أوسع و أسمى ممّا كشفتها، فإنّها نظريات محدودة قد لا يقتنع بها علماء آخرون، و من هنا قال بعض العلماء: «إنّ حكم التكاليف هي في غاية الخفاء، لا يمكن دركها إلّا بدليل شرعي فقط».
و كيف كان، فما ورد من الشرع في بيان حكم التكاليف ممّا لا شكّ في واقعيتها و صحّتها، و ما خفيت علينا كانت لمصالح لعلّ منها حفظ الانقياد، و صون العبوديّة عن الخلل.
الثالث: أنّ ما ذكر فيها من الحكم إنّما هو من باب الغالب لا من باب الاستقصاء الكامل. و من هنا لا وقع للإشكال بأنّ ما ذكر من الحكم فيها كضعف البدن، و نحولة الجسم، و انقطاع النسل، و غيرها ممّا يمكن رفعها بغذاء أو دواء آخر؛ لأنّ الحكم عنده تعالى في تشريع الأحكام أوسع و أكثر ممّا وصل إلينا، مع أنّ الحكمة ليست كالعلّة بحيث يدور الحكم مدارها، كما ثبت في محلّه.
الرابع: أنّ المفاسد الّتي تكون وراء تشريع الأحكام- المعبّر عنها بالحكم أو المصالح- قد تكون ظاهريّة مشهودة، مثل انقطاع النسل في أكل الميتة أو موت الفجأة فيه، و كذا نحولة الجسم، و قد تكون معنويّة كالكلب (الحرص) في شرب الدم أو قسوة القلب، و كذا قلّة الرأفة و الرحمة، فإنّها صفات دنيّة معنويّة، فقد يوجب ارتكاب الحرام المفسدة الظاهريّة و المعنويّة، و قد يوجب إحداهما دون الاخرى.
الخامس: أنّ قوله عليه السّلام: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن»، في الإثم و البعد عن ما يوجب التقرّب لديه تعالى.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تأكل الشريطة فإنّها ذبيحة الشيطان».
أقول: الشريطة هي الذبيحة الّتي لا تقطع أوداجها و يستقصي ذبحها، و كانت العرب في الجاهليّة يقطعون بعض حلق الذبيحة و يتركونها حتّى تموت للقسوة الّتي توطّنت في نفوسهم، و إنّما أضافها الى الشيطان لأنّه هو الّذي علّمهم ذلك و حمّلهم عليه و سوّله لهم.
القسم الثاني: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في تفسير العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في الآية: «يوم يقوم القائم (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) يئس بنو امية، فهم الّذين كفروا يئسوا من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله».
أقول: الاختصاص بذلك اليوم لأنّه يوم ظهور الحقّ، و زمان بسط العدل، و تقدّم في التفسير أنّ المراد من اليوم الزمان اللائق لإظهار الحقّ، و هو ممتد من حين البعثة الى يوم القيامة.
و تقدّم أنّ للكفر مراتب، و في كلّ مرتبة دركات، و إنّ الرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.
و في تفسير علي بن إبراهيم قال: ذلك لما أنزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام.
أقول: إنّ ذلك من باب التفسير بأجلى المصاديق؛ لأنّ الحقّ إذا ظهر و ثبت يحصل اليأس لمقابله و معانده.
و في شعب الإيمان للبيهقي عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، و لكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، و هي الموبقات يوم القيامة، فاتّقوا المظالم ما استطعتم».
أقول: الموبقات المهالك.
و في حديث جابر عنه صلّى اللّه عليه و آله «و لكن في التحريش بينهم»، أي: أنّ الشيطان يحرش بينكم حتّى يوقعكم في الموبقات.
القسم الثالث: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، و قد وردت روايات كثيرة جدا متواترة- نصّا و معنى- عن العامّة و الخاصّة أنّ المراد من هذه الآية الشريفة هو يوم الغدير الّذي نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام بالولاية، و قد ضبط أكثرها مع التحقيق في أسانيدها و كونها ثقات غير واحد من علماء الفريقين، و كتبوا في ذلك كتبا كثيرة جدا.
فعن ابن شهر آشوب في كتاب المناقب قال: «سمعت أبا المعالي الجويني- إمام الحرمين و أستاذ الغزالي- يتعجّب و يقول: شاهدت مجلدا ببغداد في يدي صحاف، فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلد الثامن و العشرون من طرق قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و يتلوه المجلد التاسع و العشرون»، و قد ذكر الكتب بأسمائها و سرد أحوال مؤلّفيها السيد مير حامد صاحب كتاب عبقات الأنوار، و تبعه الشيخ الأميني في كتابه الغدير و غيرهما (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين).
و من العجب أنّه لم تنل فريضة من فرائض اللّه تعالى بمثل هذه الأهميّة بالوحي، و الضبط، و التأكيد، و الإشهاد كفريضة الولاية، و لم تجحد و لم تنكر كمثل هذه الفريضة في الشريعة المحمديّة الغراء، و مع ذلك كلّه فالحقّ واضح و الشمس ساطعة، فعن مولانا الصادق عليه السّلام أنّ حقوق الناس تعطى بشهادة شاهدين، و ما اعطي أمير المؤمنين بشهادة عشرة آلاف أنفس، يعني: يوم غدير خم، إن هذا إلّا الضلال عن الحقّ المبين، قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ* كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
و في الدرّ المنثور عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية و هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
أقول: بعد ما سبق أنّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الشريفة متواترة و متّفقة المعنى، لا يجدي رمي الحديث بضعف السند بعد التواتر و صراحة الدلالة.
كما فعله بعض المفسّرين، و لم يذكر وجه الضعف في هذا السند و أمثاله.
بل إنّ الروايات الدالّة على أنّ المراد من اليوم يوم عرفة لم تكن نقية السند؛ لأنّ فيها سمرة و هو معلوم الحال، و معاوية بن أبي سفيان، و على فرض الصحّة، فلا يبعد أن تكون الآية المباركة نزلت في يوم عرفة، و لكنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخّر إعلان الولاية الى يوم الغدير بوحي من السماء و لمصالح كثيرة كما يأتي، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله تلا الآية الشريفة مقارنة مع التبليغ في يوم الغدير، و يدلّ على ذلك تهنئة الخليفة الثاني لعلي عليه السّلام في يوم غدير خم مع قوله: إنّها نزلت في يوم عرفة كما في بعض الروايات.
فعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب اللّه له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم، بها أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيعة علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن‏ أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فأنزل اللّه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ».
أقول: هذه الرواية صريحة في ما قلناه و ظاهرة في أنّ الآية الشريفة نزلت في يوم غدير خم و غير قابلة للتأويل.
و في تأريخ بغداد للخطيب البغدادي روى بسنده عن أبي هريرة قال: «من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيد علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال: أ لست ولي المؤمنين؟! قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مسلم، فأنزل اللّه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».
أقول: الرواية ذكرها الخطيب في ترجمة حبشون الّذي نقل الرواية، و روى قريبا منها السّبيعي في تفسيره، و ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه السّلام.
و في شواهد التنزيل بإسناده عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الطواف إذ قال: أ فيكم علي بن أبي طالب؟ قلنا: نعم يا رسول اللّه، فقرّبه النبي صلّى اللّه عليه و آله فضرب على منكبيه و قال: طوباك يا علي، أنزلت عليّ في وقتي هذا آية ذكري و إيّاك فيها سواء: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
أقول: لا منافاة في أنّ الآية المباركة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل يوم الغدير بأيام و علم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جمع آخرون، و لكن أخّر صلّى اللّه عليه و آله إعلانها الى يوم الغدير حتّى نصّب عليا بالولاية كما تقدّم، و يدلّ على ذلك ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي، قال: حدّثني علي بن أحمد بن خلف الشيباني، عن عبد اللّه بن علي ابن المتوكل، عن بشر بن غياث، عن سليمان بن العمر العامري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أيّام الموسم‏ إذ التفت الى علي فقال: هنيئا لك يا أبا الحسن! إنّ اللّه قد أنزل عليّ آية محكمة غير متشابهة، ذكري و إيّاك فيها سواء الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية».
أقول: الظاهر تعدّد الواقعة، و تدلّ على ما ذكرنا روايات اخرى.
و في شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما نزلت عليه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً قال: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي و ولاية علي بن أبي طالب، ثمّ قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله».
أقول: و في رواية اخرى عن أبي سعيد الخدري أيضا: «انّ النبي دعا الناس الى علي فأخذ بضبعيه فرفعهما ثمّ لم يفترقا حتّى نزلت الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»، فمن سياقهما يستفاد أنّ الآية المباركة نزلت في يوم غدير خم، و تقدّم في التفسير معنى إكمال الدين و إتمام النعمة عليه.
و في تفسير علي بن إبراهيم بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «آخر فريضة أنزلها (اللّه) الولاية، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمّ أنزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بكراع الغميم، فأقامها رسول اللّه بالجحفة فلم تنزل بعدها فريضة».
أقول: كراع الغميم واد بالحجاز بينه و بين المدينة نحو من مائة و سبعين ميلا، و بينه و بين مكّة نحو ثلاثين، و هذه الرواية تقرب ما ذكرناه من أنّه لا تنافي بين أن تكون فريضة الولاية نزلت في مكّة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو في عرفة، و اخّر إعلامها حتّى وصل الى كراع الغميم الّذي هو في طريق الجحفة، فنزلت الآية المباركة عليه و نصّب عليا عليه السّلام في الجحفة لأهمّيّة الأمر؛ لأنّ الإسلام كالمادة للولاية، و لا قوام للمادة إلّا بالصورة، و لا صورة إلّا بالمادة، و قد ورد مضمون ذلك في روايات كثيرة.
و في أمالي الشيخ بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن علي عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: بناء الإسلام على خمس‏ خصال: على الشهادتين، و القرينتين، قيل له: أما الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان؟ قال: الصلاة، و الزكاة، فإنّه لا تقبل إحداهما إلّا بالأخرى، و الصيام و حجّ بيت اللّه من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
أقول: الروايات الواردة بهذا المعنى من أنّ الإسلام بني على الخمس كما في الرواية فوق حدّ التواتر- لو صحّ التعبير- و قد جعل لها صاحب الوسائل بابا في مقدّمة العبادة من كتابه الشريف، و السرّ في هذا الاهتمام من قبل الشرع للولاية فإنّها كالحياة لأصول التكاليف و الشعائر الّتي قوام الدين بها، و هي بدونها مجرّد هيكل و قصب، و لم يتمحض في القلب حتّى تكون بها الحركة و السير الى اللّه تعالى.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «ولد نبيكم يوم الاثنين، و نبئ يوم الاثنين، و خرج من مكّة يوم الاثنين، و دخل المدينة يوم الاثنين، و فتح مكة يوم الاثنين، و نزلت سورة المائدة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الاثنين، و توفي يوم الاثنين».
أقول: لو صحّ الخبر لكان من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّه الى ذلك أشارت ابنة أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبها: «آه من يوم الاثنين»، أي المصائب الّتي حلّت بالأمة من بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و في بعض التواريخ أنّ واقعة الطفّ كانت يوم الاثنين أيضا.
القسم الرابع: من الروايات الواردة في تفسير الآيات المباركة هي ما عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قال: «هو رخصة للمضطر أن يأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و المخمصة الجوع».
و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ قال: «يقول غير متعمّد لإثم».
أقول: المخمصة و إن كانت هي المجاعة، و لكن تستعمل في كلّ شدّة و ضيق؛ و لذا لا يبعد استفادة تشريع التقيّة من هذه الآية المباركة؛ لأنّ في تركها شدّة و ضيقا، فيتبع الإثم، أي: المعاند للحقّ من غير ميل قلبي، أي: غير متجانف، و سيأتي البحث عنها في محلّه.

ثبت في الفلسفة الإلهيّة أنّ الكمال المطلق- أو الكمال الحقيقي- منحصر في المبدأ، و به جلّ شأنه، و هو تعالى يفيض على الكائنات عامّة و على الخواص منها، كما يفيض على أخصّ الخواص كالأنبياء و الأولياء و الأبرار من الأخيار، كلّ حسب لياقته.
و المراد من الإطلاق هنا عدم إمكان التحديد من جميع الجهات و الجوانب و المراتب؛ لأنّ جلّ شأنه موجد الكمال، و عين الكمال و منه الكمال و الكمال كلّه يرجع إليه جلّت عظمته.
و بتعبير أهل الذوق من العرفاء: حقيقة كماليّة وسيعة- لا يمكن تحديدها- و إنّ الحدود بأقسامها، و التحاليل بأنواعها، و إنّ النفوس مهما بلغت من العلوّ و السمو قاصرة عن دركها، فهو جلّ شأنه غيب و ظهور، و غيبه من أسمى الكمال و ظهوره عين الكمال و غايته، فإنّه الكمال و إليه ينتهي شرف الكمال.
و لا نقصد من هذا التعبير وحدة الوجود و الموجود حتّى يستلزم محاذير و مفاسد، و إنّما نعني أنّ الكمال الواقعي و الحقيقي منحصر به تعالى و فائض منه، و أنّ الكمالات مهما بلغت من الرتبة إشراق منه و ظل، و هذا يستلزم وحدة الوجود الّذي هو مقرّر في الشرع، و عليه معظم الحكماء من المشّائيين و الإشراقيين؛ لأنّ التحديد- بمعناه العامّ- في شأنه جلّت عظمته أو في صفاته نقص و يستتبع تخلّفات، و يستلزم المفاسد الّتي لا يمكن الالتزام بها و يجب الفرار عنها؛ و لذلك ترى أنّ الأئمة المعصومين عليهم السّلام كانوا يتوسّلون بالجانب السلبي في تعريف ذاته أو بيان صفاته، كما تقدّم مكرّرا، فعن علي عليه السّلام في تعريف قدرته تعالى: «لا يعجزه شي‏ء»، و في إحاطته تعالى: «لا يمنعه شي‏ء»، و في حياته: «لا يموت»، و في قيموميته: «لا وجود و لا دوام إلّا به» و هكذا.
و تدلّ على ما تقدّم من أنّ الكمال المطلق منحصر به تعالى و أنّ صفاته جلّ شأنه عين الكمال الحقيقي بالأدلّة العقليّة و النقليّة.
أمّا الاولى، فهي كثيرة، أهمّها هو: أنّه تعالى جامع لجميع الصفات الكماليّة.
فلا يعقل كمال فوق ذلك، و إلّا استلزم الخلف أو النقص الّذي في حقّه محال.
و أنّ الكمالات كلّها فيوضات ترجع إليه تعالى و تصدر منه، فلا يعقل أن يكون معطي الشي‏ء فاقدا له.
على أنّه لا تحديد لقدرته فتتعلّق القدرة بما سواه، فكلّ كمال تحت قدرته و ذاته فوق الكمال؛ و لذا قال بعضهم: سلب الكمال في حقّه محال.
مع أنّه خالق كلّ شي‏ء، فمقتضى إيجاده لكلّ شي‏ء أن يكون جامعا للكمالات، و أنّها ترجع إليه سبحانه و تعالى، و إلّا استلزم الخلف و لا يكون خالق كلّ شي‏ء، و قد ثبت في محلّه أنّه جلّ شأنه بوحده خالق كلّ شي‏ء، و في الحديث: «نعمتان ما خرج موجود عنهما، نعمة الإيجاد و نعمة الإمداد»، و هناك أدلّة اخرى مذكورة في المفصّلات من الفلسفة الإلهيّة.
و اما الأدلّة النقليّة، فهي كثيرة، أهمّها هي: الآيات الشريفة الدالّة على نفي الشريك بتعابيرها المختلفة، فإنّها تدلّ على نفي الشرك في الذات و في الصفات، و هذا عين الكمال الحقيقي، و إفاضة الكمالات منه إلى العوالم و إضافة كمالاتها إليه كمال آخر منحصر به تعالى.
و كذا قوله تعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فالعزّة بمعناها الوسيع غير المتناهي له جلّت عظمته، فتشمل جميع الكمالات؛ لأنّها من أجلى مصاديق العزّ، و بمقتضى الحصر في الآية المباركة تكون الكمالات كلّها له و منه و إليه.
و كذا قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: ۲٦]، فالملك بمعناه العامّ و بمراتبه اللامحدودة تحت إرادته، و كذا الخير، و هما من أسمى الكمالات. و الآيات المباركة الدالّة على ذلك كثيرة جدا.
ثمّ إنّ صفات الذات كالعلم و الحياة، و القيّوميّة و غيرها هي الكمال الحقيقي و إليها ترجع الكمالات كلّها في جميع العوالم، و هذا ممّا لا شكّ فيه.
و أمّا صفات الفعل كالرزق، و الخلق، و الهبة، و الرحمة، و الغفران، و العذاب كلّها من الكمال المطلق؛ لأنّها من مظاهر أسمائه المنحصرة به جلّ شأنه، و اتّصافها بالوجود و العدم لا يضرّ بالمقام.
و إنّ ما سواه تعالى من الكائنات كلّها متّصفة بنوع من الكمال، و هو الوجود الّذي هو الأصل لإضافتها إليه تعالى بالإيجاد.
و ما اتّصفت منها بالحياة بمراتبها و أقسامها غير المتناهية لها نوع آخر من الكمال يعبّر عنه بالكمال العامّ، و ما كان فيها من الآثار و الخواص كان لها كمال خاصّ حسب لياقتها و قابليتها.
و أمّا ما أفاض على الإنسان من العقل- الّذي يدرك به و يفكر و يرتقي- فيعبّر عنه بالكمال الأخصّ، و لهذا الكمال مراتب حسب شرف القرب إليه تعالى و بعده، كما أنّ ما أفاض على الأولياء و الأنبياء هو من أشرف الكمالات حسب استعدادهم و لياقتهم.
و إنّ الشرائع الإلهيّة و التكاليف السماويّة و الكتب المنزلة على الأنبياء كلّها من الكمالات النازلة من الربّ الجليل؛ لاستكمال نفس الإنسان و الرقي بها الى المقامات العالية، و كذا العلوم بأقسامها.
ثمّ إنّ الأديان السماويّة الّتي نزلت لأجل تهذيب النفوس و إيصالها الى السعادة و إخراجها من الظلمات الى النور، لا بدّ فيها من الاستعداد و الأهليّة في‏ النفوس، فتكون الإكمال الوارد في الآية الكريمة بهذا المعنى كما تدلّ على ذلك روايات وردت عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هذا كلّه في الكمال المطلق و الحقيقي.
و إنّ الكمالات و جميع العوالم ترجع الى كمالاته تعالى.
و أمّا النقائص، فترجع إمّا الى عدم الاستعداد للتلقّي، أو لأجل طروّ مانع، أو لأجل إغواء الشيطان في الإنسان. و سيأتي إن شاء اللّه تعالى البحث عن كلّ منها في المورد المناسب.

يستفاد من الآية المباركة قواعد فقهيّة، مضافا الى أحكام خاصّة.
أمّا الاولى فهي ثلاثة:
الاولى: قاعدة: «حرمة أكل الميتة إلّا ما خرج بالدليل»، كما في حالات الاضطرار، أو ميتة السمك مع تحقّق شروط حلّيتها.
و تختصّ هذه القاعدة بالحيوانات الّتي يحلّ أكلها ذاتا- كالأنعام الثلاثة، و أنواع الظبي، و أقسام الطيور الّتي فيها إحدى علامات الحلّ- و أمّا غيرها من محرّمات الأكل- كالفيران، و السباع، و الحشرات و بعض الطيور الفاقدة لعلامات الحلّ، فلا أثر لهذه القاعدة؛ لأنّ لحومها محرّمة مطلقا، سواء ذكيت أم ماتت حتف أنفها. نعم للتذكية أثر خاصّ، و هو طهارة جلودها فقط، و لا أثر لها في الحشرات؛ لأنّها طاهرة حيّا كانت أم ميتة، كما فصّل في الفقه.
و أمّا الحيوانات الّتي حرّم أكل لحمها بالعارض كالجلال، و موطوء الإنسان، فإنّ لحومها حرّمت إمّا بالفعل الشنيع، أو بأكل النجاسة. نعم في خصوص الجلل جعل الشارع سببا لزواله كما هو مذكور في الفقه، بخلاف الوطء فلا تزول الحرمة مطلقا، فيجب قتله و دفنه إن كان ممّا يراد أكله، و الجلل ليس مانعا عن وقوع التذكية الّتي كانت ثابتة قبل الجلل، لإطلاقات الأدلّة، و أنّ المحرّم بالذات لو كان قابلا لها فالمحرم بالعرض بالأولى، و كذا في الوطء.
كما أنّ القاعدة من القواعد الّتي لم تنلها يد التخصيص إلّا في الحيوانات البحريّة بشرائطها، و في غيرها باق على عمومها، و أمّا الاضطرار فعدّه من التخصيص لها نحو تسامح، بل هو تخصّص- كما في مورد النسيان- إذ «ما من شي‏ء إلّا و قد أحلّه الاضطرار»، إلّا أنّه مضيّق في المقام كما يأتي.
و كيف كان، فقد دلّت الأدلّة الأربعة على حجّيتها.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ، و قد تكرّر هذا التعبير في القرآن الكريم أكثر من ثلاثة مواضع، و إنّ متعلّق الحكم (الحرمة) هو الأكل؛ لأنّه النفع الشائع و الغالب منها.
و أمّا السنّة، فروايات كثيرة متواترة تقدّم بعضها في البحث الروائي، و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة لم يذكر اسم اللّه عليها».
و في معتبرة محمد بن قيس عنه عليه السّلام أيضا: «ما فعلت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت، و كلوا ممّا أدركتم حيّا و ذكرت اسم اللّه عليه» و غيرها من الروايات.
و من الإجماع ممّا لا خلاف بين المسلمين، بل عدّ ذلك من ضروريات الفقه، كما بيّنا ذلك في الفقه.
و أمّا العقل، فإنّه يستقذر أكل الميتة؛ لأنّه لا يؤمن من الأمراض و الاضرار.
ثمّ إنّ المراد من الميتة الأعمّ ممّا مات حتف أنفه، أو قتل، و ذبح على غير الوجه الشرعي.
و تثبت على الميتة أحكام أربعة:
الأول: النجاسة «فكلّ ميت نجس إلّا ما خرج بالدليل»، كالسمك و الحشرات ممّا لا نفس سائلة له، و ما ذبح على غير الوجه الشرعي على المبنى، و إلّا فالمشهور النجاسة، و هذه قاعدة مستقلّة اخرى.
الثاني: عدم صحّة الصلاة فيها و في أجزائها، إلّا ما استثنى.
الثالث: حرمة الانتفاع منها في الجملة كما ثبت ذلك في المكاسب، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).
الرابع: حرمة الأكل.
و التفكيك في هذه الأحكام لا يصحّ إلّا بالدليل المعتبر شرعا.
القاعدة الثانية: «كلّ دم يحرم شربه إلّا ما خرج بالدليل»، سواء أ كان دم إنسان أم حيوان- مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم- مسفوحا أم غير مسفوح، نجسا أم طاهرا كدم العلقة.
و الدليل عليها قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ بتقريب ما تقدّم في حرمة أكل الميتة.
إن قلت: إنّ الدم الوارد في الآية المباركة هو الدم المسفوح، فلا تصير الآية الشريفة أصلا للقاعدة.
قلت: الدم المسفوح هو الغالب و الأكثر في الدماء المراقة، و غيره يلحق به للأدلّة الدالّة على ذلك في السنّة، إلّا أن يدلّ دليل خاصّ على الحلّية.
و قول أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «و حرّم اللّه الدم كتحريم الميتة»، و قريب منه غيره من الروايات، و قد ورد عن الصادق عليه السّلام في تعليل حرمة أكل الطحال: «لأنّه دم».
و ادّعى غير واحد من الفقهاء الإجماع على ذلك، مضافا إلى أنّ الدم نجس- إلّا ما استثني- و شرب كلّ نجس حرام بالضرورة الفقهيّة.
و إنّه من الخبائث الّتي تستقذرها الطباع السليمة، فالعقل يحكم باجتنابه.
و لا فرق في الدم من الحيوان ذي النفس السائلة أو غير ذي النفس السائلة كالوزغ، و الضفدع، و القرد، مسفوحا أو غير مسفوح كالعلقة، و الدم في البيضة.
كما لا فرق بين أن يكون مايعا فيشربه أو يابسا فيأكله، كما لا فرق بين أن يكون ممتزجا مع شي‏ء آخر أو لا، إلّا أن يكون مستهلكا بحيث يراه العرف معدوما، كلّ ذلك للقاعدة المتقدّمة.
ثمّ إنّ القاعدة لا تشمل ما تداول في هذه الأعصار من التزريق؛ لعدم تحقّق عنوان الشرب، كما لا تشمل ما لو انقلب الدم الى شي‏ء آخر.
و قد استثنيت من القاعدة المتقدّمة موارد:
منها: الدم المتخلّف في الذبيحة لإطلاق دليل حلّية أكل الذبيحة، كما مرّ.
و يشترط فيه أن يخرج الدم عن الذبيحة بالقدر المتعارف من مثلها، و أن تكون مأكول اللحم، و أن لا يرجع دم المذبح الى الجوف، كلّ ذلك لأجل أدلّة خاصّة ذكرناها في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام).
و منها: الدم من غير ذي النفس ممّا حلّ أكله كالسمك الحلال إذا أكل مع السمك، و أمّا لو شرب منفردا فلا يبعد الحرمة للقاعدة المتقدّمة، و أنّه من الخبائث و إن كان طاهرا.
و منها: القلب و الكبد من الحيوان مأكول اللحم، لقاعدة الحلّية، و عموم حلّية الذبيحة الشامل لجميع أجزائها الداخليّة و الخارجيّة. و لكن المسألة مع ذلك مورد الإشكال تعرّضنا له في الفقه.
و هذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة لها امتيازاتها، كتقدّمها على الأصول العمليّة، و حجّية لوازمها، و التمسّك بها في موارد الشكّ.
و تثبت على الدم أحكام ثلاثة:
الأول: النجاسة، فكلّ دم نجس إلّا ما أخرجه الدليل، كدم الحيوان الّذي لا نفس له سائلة، كالسمك و البرغوث و غيرهما.
الثاني: عدم جواز الانتفاع منه، إلّا إذا كان فيه غرض عقلائي معتدّ به فيصحّ بيعه، كما ذكرناه في المكاسب.
الثالث: حرمة شربه، إلّا في موارد خاصّة كما مرّ، و أمّا الصلاة مع الدم في اللباس أو على البدن، ففيه تفصيل لا يسع المقام ذكره، و من شاء فليرجع الى كتاب الطهارة في شرائط لباس المصلّي. و اللّه العالم.
القاعدة الثالثة: «كلّ حيوان قابل للتذكية إلّا ما خرج بالدليل»، و الأصل‏ في هذه القاعدة عموم قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ، بقرينة ما ورد في السنّة الشريفة.
و دعوى: أنّ الآية المباركة في مقام بيان كيفيّة زهوق الروح، فبعض منها توجب الحرمة، و بعض منها توجب الحلّية، و هو التذكية.
قابلة للمناقشة؛ لأنّ الآية الكريمة- بضميمة الروايات- أثبتت التذكية في الحيوانات و جعلت الحرمة للبقية، سواء أ كان الحيوان غير قابل لها، أو أنّ زهوق الروح لم يكن بطريق التذكية، فعموم الآية الشريفة بقرينة السنّة يكون أصلا للقاعدة.
و من السنّة الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة في الفقه، كأبواب الصيد و الذباحة، و لباس المصلّي، و الإحرام و غيرها، و هي كثيرة فمنها:
صحيح ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود قال عليه السّلام: لا بأس بذلك»، فإذا لم تكن الجلود قابلة للتذكية، فجواب الإمام بنفي البأس مطلقا لم يكن صحيحا، كما هو واضح.
و في صحيح ابن بكير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله و حرّم عليك أكله، فالصلاة في كلّ شي‏ء منه فاسد، ذكاه الذابح أو لم يذكه»، إذ لو لا قبول التذكية لما صحّ قوله عليه السّلام: «ذكاه الذابح أو لم يذكه»، و غيرهما من الروايات.
و من الإجماع ما ادّعاه صاحب الحدائق على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية إلّا ما خرج بالدليل، كالكلب و الخنزير و الإنسان، و أيّده صاحب الجواهر قدس سرّه، كما ذكرناه في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).
و يمكن استفادتها من توسعة الشارع في هذا الأمر العام البلوى تقريبا، إذ لو كان حيوان غير قابل للتذكية لبيّنه الشارع كما بيّنه في الكلب و الخنزير و غيرهما.
ثمّ إنّ المراد من التذكية الاستعداد، بمعنى أنّ الحيوان له اقتضاء التذكية. و أمّا أنّه هل تؤثّر التذكية فيه؟ فذاك بحث آخر. و الحيوان الّذي يقبل للتذكية بحكم الشرع على أقسام:
الأوّل: الحيوان الّذي يحلّ أكله ذاتا و إن حرم بالعارض- كالجلال و الموطوء- بحريّا كالسمك أو بريّا، وحشيّا كان أو مأنوسا، طيرا كان أو غيره.
و إن اختلف في كيفيّة التذكية على ما فصّل في الفقه، و لا شكّ في وقوع التذكية في هذا القسم، و هي تؤثّر فيها لطهارة لحمها و جلدها و الصلاة و الطواف في أجزائها و حلّية أكل لحمها إن لم يحرم اللحم بالعارض.
الثاني: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و كان له نفس سائلة و لكنّه نجس العين، كالكلب و الخنزير، فإنّه غير قابل للتذكية؛ لفرض أنّه حرام و نجس على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فلا أثر للتذكية، و أنّ القاعدة لا أثر لها في هذا القسم، و يلحق بهذا القسم المسوخ كالفيل و الذئب؛ لأجل دليل خاصّ، فيجري عليها حكم عدم التذكية و لو بعد التذكية.
و لكن، نسب الى جمع من الفقهاء منهم الشهيد و المرتضى قبولها للتذكية، مستدلّين بأدلّة تعرّضنا لها في الفقه و ناقشناها، فمن شاء فليرجع الى كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).
الثالث: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و له نفس سائلة و لم يكن نجس العين، كالسباع الّتي تفترس الحيوانات و تأكل اللحوم، سواء أ كانت من الوحوش كالأسد و النمر و الفهد و الثعلب و ابن آوى و غيرها. أم من الطيور كالصقر، و البازي و الباشق و غيرها، فتؤثّر التذكية فيها و بها تطهر لحومها- و إن حرم أكلها- و جلودها و حلّ الانتفاع بها في غير الصلاة و الطواف، دبغت أو لم تدبغ.
الرابع: الحشرات الّتي تسكن جوف الأرض، كالفارة و ابن عرس، فمقتضى القاعدة المتقدّمة أنّها قابلة للتذكية؛ للشكّ في قبولها، كما ذهب إليها صاحبا الحدائق و الجواهر، و إن نسب الى المشهور خلاف ذلك. و يظهر ممّا تقدّم المناقشة في ثبوت الشهرة في المقام.
الخامس: الحيوان الّذي ليس له نفس سائلة لا أثر للتذكية فيه أصلا، لا من حيث الطهارة، و لا من حيث الحلّية؛ لأنّه طاهر و محرّم أكله على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فالقاعدة المتقدّمة لها الأثر في قسم خاصّ من الحيوانات كما عرفت، و كذا في موارد الشكّ في المسخ.
ثمّ إنّ تذكية جميع ما يقبل التذكية من الحيوان المحرّم الأكل إنّما يكون بالذبح مع الشرائط المعتبرة- من التسمية، و الاستقبال، و إسلام الذابح، و فري الأوداج، و تتابع الفري- و كذا الاصطياد بالآلة الجماديّة في خصوص الممتنع. و أمّا تذكيتها بالكلب المعلّم بالاصطياد مورد الإشكال، و المسألة محرّرة في الفقه و اللّه العالم.
ثمّ إن هنا أصلا موضوعيّا، و هو أصالة عدم التذكية تمنع من جريان أصل البراءة و الإباحة؛ لأنّهما أصل حكمي، و المراد من عدم التذكية (غير المذكي) في اصطلاح الكتاب و السنّة الميتة، فهما و إن اختلفا مفهوما لكنّهما متّحدان شرعا و خارجا، و يترتّب عليه أن بجريانها يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل؛ لأنّه مع وحدة الموضوع يثبت كلّ منهما، فلا يكون الأصل مثبتا هذا.
و إن أمكنت المناقشة في ذلك من أنّه لا دليل على الاتّحاد، إلّا أنّ المشهور بين فقهاء الإماميّة (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) ذلك، و أنّ مخالفة المشهور نحو تعدّ، و اللّه العاصم من الزلل.
و كيف كان، فإنّ مورد جريان هذا الأصل في الشبهات الموضوعيّة فقط، و فيها أيضا لا بنحو السعة في أية شبهة موضوعيّة فرضت و تحقّقت، فلو شكّ في أنّه هل يعتبر الاضطجاع على الأيسر أو على الأيمن في الحيوان المذبوح؟ أو هل يعتبر أن يكون الحيوان مربوطا بأن يشدّ يد الغنم مع إحدى رجليه أو لا؟ أو هل يعتبر أن يكون الذابح قائما؟ إلى غير ذلك، فإنّ في جميع هذه الموارد و أمثالها لا تجري أصالة عدم التذكية، بل يرجع الى أصالة عدم الاشتراط أو إلى العموم و الإطلاق.
و إنّما تختصّ أصالة عدم التذكية في خصوص الشروط الّتي نصّ الشارع‏ على اعتبارها ثمّ شكّ في تحقّقها في الخارج و عدم أمارة شرعيّة تدلّ عليها؛ لأصالة عدم تحقّق ذلك الشرط، فلا تحلّ الذبيحة حينئذ و تكون محكومة بالنجاسة.
و تدلّ الأدلّة الشرعيّة على اعتبارها، فمن الكتاب قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ، بتقرير أنّه لا تحلّ الذبيحة إلّا إذا أحرزتم التذكية.
و من السنّة روايات كثيرة، منها ما عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها»، و مثله غيره، و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل ممّا لا ينكر. و أمّا النجاسة فهي كما ذهب إليها المشهور، و هناك روايات اخرى ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول).
و من الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء، و بقية الكلام موكولة إلى علمي الأصول و الفقه.
و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآية المباركة فهي:
الأوّل: أنّه لا فرق في أسباب الموت و الخنق و غيرهما بين أن تكون بالاختيار أو بغير الاختيار، عن علم كانت أو جهل؛ لإطلاق الآية المباركة. نعم لو كان الموت و الخنق و الإهلال لغير اللّه تعالى و غيرها ممّا ذكر في الآية الكريمة عن علم و عمد، فإنّه مضافا الى جعل الحيوان ميتا أنّه ارتكب محرّما أيضا؛ لذيل الآية الشريفة: ذلِكُمْ فِسْقٌ، إن لم يترتّب عنوان محرّم آخر، كالإسراف و غيره.
الثاني: تدلّ الآية المباركة على أنّ الاضطرار المتجانف للإثم لا يوجب رفع الحرمة، هذا إن كان باقيا على بغيه و تجرؤه. و أمّا لو تاب يجوز له أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار؛ لتحقّق عنوان «غير متجانف لإثم».
الثالث: لا بدّ في مورد الاضطرار من ارتكاب أخفّ المحذورين، فلو دار الأمر بين أكل لحم الخنزير أو شاة منخنقة، فالظاهر يتعين الثاني؛ لأنّه أخفّ من الأوّل. و كذا بالنسبة الى نفس الأكل كما في بعض الروايات: «يسد رمقه».
الرابع: أنّه لا يتحقّق الاضطرار لو وجد سبيلا الى الحلّية موضوعا أو حكما.
الخامس: لو تحقّق الاضطرار من غير مخمصة، بل كان لأجل التداوي مثلا يعتبر فيه أيضا أن لا يكون متجانفا لإثم، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ* [سورة الأنعام، الآية: ۱٤٥].
السادس: أنّ المستفاد من سياق الآية المباركة أنّه لو اضطر الى أكل ميتة حال المخمصة، و لم يكن متجانفا لإثم و لم يأكل- أو صام- فمات أثم؛ لأنّه أعان على نفسه و خالف تكليفه، فإنّ حفظ النفس واجب شرعا و عقلا.
و أمّا لو امتنع عن التداوي بالميتة أو بالخمر حتّى مات، فإنّه لا يأثم لأنّه لا يعلم أنّ الميتة أو الخمر يشفيه. نعم لو علم ذلك و لم يأكلها- أو لم يشربها- كان حكمه حكم الفرع الأوّل، و اللّه العالم.

ظاهر الآية المباركة و إن كان خطابا للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم و تنوير قلوبهم، و لكن يحتمل أن يكون باطنها عتابا لأهل السير و السلوك الّذين يطلبون الحقّ و يسعون للوصول الى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي: الدنيا بأسرها، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة، فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة و السلام): «و اللّه لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت»، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ و السالكين الى ساحة قربه، وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ كذلك حرّمت عليهم الصفات الّتي توجب البعد عن الأخلاق السامية كالحرص و القسوة، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا و متغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ و أيضا حرّمت عليهم كلّ فعل رفع صوت النفس بالأمر به؛ لأنّ صوتها لغير اللّه تعالى، وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ و كذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية الى اللّه العظيم بمخالب‏ الأطماع، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنة فيها بالرياء و الإسماع، أو بضرب جرح الصدر المنشرح بالإسلام و المهيّأ للحضور عند صاحب القلب و خالقه العلّام، وَ الْمُتَرَدِّيَةُ فحرّم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين إلى أسفل السافلين باتّباع الشهوات و التعلّق بالماديات، وَ النَّطِيحَةُ أي: حرّم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر و المماراة بالعلم و الزهد- حتّى في السير و السلوك- بين الأخوان، وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ فحرّم عليهم القرب عن كلّ ظالم الّذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب، وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ كما حرّم عليهم تقرّب نفوسهم لبيوت الأوثان، و هي المظاهر الموجبة للصدّ عن معرفة اللّه تعالى بالتوغّل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخيار و الأبرار، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فلا تكونوا متردّدين متفئلين غير متوكّلين على اللّه تعالى بفتح قلوبكم لسهام الشيطان.
فإذا خلصتم من هذه الدواهي، و تركتم هذه القبائح، و خرجتم من هذه الظلمات لكون ذلِكُمْ فِسْقٌ، أي: أنّ جميعها مهالك و ظلمات توجب إماتة القلب، و إخماد الفطرة، و العذاب الأليم؛ لأنّه يوجب الخروج عن طاعة اللّه تعالى ف الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا لتحلية نفوسكم بالفيوضات الإلهيّة بعد التخلية عن المكائد الشيطانيّة، و يأسهم عن إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزيّنت و تلوّنت؛ لحصول المقصود بعد ما خلّصتم أنفسكم من تلك الظلمات، فعادت ليلكم نهارا و نهاركم أنوارا مِنْ دِينِكُمْ لأنّه المنهج الوحيد للرقي الى المراتب العالية، و الوصول الى المقامات السامية و الفوز بالسعادة الأبديّة، فَلا تَخْشَوْهُمْ لأنّكم بلغتم المرحلة الّتي لا تؤثّر فيكم مكائد الشيطان و مصائده، و نلتم المقام الّذي قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما فعلت يا بلال سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة»، وَ اخْشَوْنِ لأنّ الكمال و التكامل منه تعالى و أنّ كيده متين و بطشه شديد، و لو لا إمداده لانعدمت الكائنات و زالت السماوات و فنيت الموجودات، الْيَوْمَ و هو يوم ظهور الحقّ و كشف الحقيقة، أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنّ كمال الدين كان في‏ الأزل موجودا و لكن أنعمت عليكم بالتوفيق لاستعدادكم بالتديّن به، و به تنكشف الحجب و ترتفع الأستار بعد صفاء نفوسكم و حياة قلوبكم، «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الّتي أنعمت بها عليكم من التوفيقات و التأييدات و إظهار دينكم على الأديان كلّها في الظاهر و الحقيقة بالولاية، وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً حتّى تستكملوا به نفوسكم و تسلكوا به الى اللّه تعالى بالخروج عن الوجود المجازي بالوصول الى الوجود الحقيقي، فإنّ ابتغاء رضاءه من أسمى الكمالات، و إنّ الإسلام هو دينه الى الأبد. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ بالالتفات الى الدنيا مضطرا إليها في غاية الاضطرار، غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل إليها قلبا و غير متجاوز عن قدر الضرورة مع حفظ الحقّ و الحقيقة الّتي نزلت في قلبكم، و المعرفة الّتي أفاضها اللّه تعالى عليكم، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما ابتلى من الالتفات الى غيره تعالى المضطر إليه، رَحِيمٌ يهديهم الى الحقّ بإقامة الدين و السير في الصراط المستقيم بعد الاستغفار و طلب الاستعانة من العزيز القهّار. و من اللّه الاعتصام.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"