1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 6 الى 7

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (۷)


تعتبر الآيتان الشريفتان من الآيات التربويّة التهذيبيّة، التي تهتم بالجانب المعنوي من الإنسان أكثر من الجانب المادي الذي سبق الاهتمام به في الآيات السابقة، حيث ذكر سبحانه و تعالى فيها ما يتعلّق بلذائذ الطعام، و طيّبات الأكل، و ملذّة النكاح و غيرها.
و خصّ تبارك و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين الصلاة بالذكر؛ لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها، و تعدّ بحقّ من أعظم الروابط الخلقيّة مع خالقهم و أكبر الطاعات.
و لا ريب أنّ الصلاة لها من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم تكن في غيرها من الطاعات، فذكر في الآية الأولى أعظم مقدّمة من مقدّماتها و شرطا عظيما من شروطها، و هي الطهارة- الحاصلة من الوضوء و الغسل و التيمّم- التي‏ تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و يحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة، فهي حسن على كلّ حال، كما ورد في الحديث، و لأهمّيّتها فقد ذكر عزّ و جلّ حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى‏ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: ٤۳]، إلّا أنّ آية المقام أوضح أسلوبا و أبين حكما، حيث ذكر مواضع الطهارة و طريقتها و موجباتها و الغاية منها و شروطها.
ثمّ بيّن سبحانه و تعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام و التكاليف هو تطهير النفوس- من درن الرذائل و الآثام- و الأبدان من أنواع الخبائث و الأدناس. و لم يرد سبحانه و تعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج و المشقّة، فإنّه تعالى أعظم و أكبر من ذلك، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم و يخفّف عنهم.
و أخيرا صرّح عزّ و جلّ أنّ تلك التكاليف و التشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزّ و جلّ العهد عليها من المؤمنين بالسمع و الطاعة، فيجب عليهم الوفاء بها و تنفيذها و مراقبته تعالى بالتقوى و الشكر على تلك النّعم الإلهيّة.
و بذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله، و هو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا و عمليّا، و تربيته بالتربية الإلهيّة، و إرشاده إلى الكمال الواقعي و السعادة الحقيقيّة.
و يرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة، و إشارات عرفانيّة، و حقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها اللّه تعالى عليهم.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي، و ذكرنا أنّه يشتمل على جملة من العهود و الالتزامات و التوجيهات و الإرشادات، و يكفي في عظمته أنّه تعالى يخاطب أحبّ عباده إليه، و يورده متى ما أراد تشريع حكم و بيان إرشاد أو توجيه ربوبي.
قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.
بيان لشرطيّة الطهارة للصلاة، و إرشاد إلى أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة، و تأكيد لحفظ شرعيّة الوضوء و حفظ صورته بالقيام بما ورد في الشريعة من الأحكام و الآداب فيه.
و تقدّم الكلام في مادة (قوم) في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة، الآية: 3] و اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من القيام في المقام، و لكنّ الظاهر المنساق من الآية الكريمة أنّ المراد منه هو إرادة الصلاة بالتهيؤ إليها، فإنّه قد يعبّر بالفعل و يراد منه إحدى المقدّمات القريبة منه، كما أنّ العكس أيضا صحيح، إما لعلاقة الملازمة و السببية، أو لعلاقة الأوّل و المشارفة، أو لشدّة الارتباط بينهما، و قد ورد كلاهما في الاستعمالات الصحيحة و كلمات الفصحاء، ففي القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [سورة النساء، الآية: 102]، حيث استعمل الفعل و هو القيام و أريد منه المقدّمات القريبة الملازمة للقيام للصلاة، أي: إذا أردت و أقمت لهم الصلاة، و قال تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 20]، أي: إذا طلّقتم زوجا و جئتم بأخرى.
و في المقام يراد من القيام إرادة الصلاة، فليس المراد منه القيام مقابل الجلوس الذي هو فعل من أفعال الصلاة؛ لأنّه قيام للصلاة كالركوع و السجود، لا قيام إلى الصلاة، و يدلّ على ما ذكرنا سياق التعبير في الآية المباركة إِلَى الصَّلاةِ و موقعه العملي؛ لأنّها عمل و كلّ عمل لا يتحقّق إلّا بالإرادة. و بعض الروايات، في تفسير العياشي: «عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ قلت:
ما عنى بها؟ قال عليه السّلام: من النوم». و مثلها غيرها، فإنّها تدلّ على أنّ المراد هو القيام التهيؤي للصلاة بالخروج عن الأحداث الموجبة للطهارة، و ذكر النوم إنّما هو من باب المثال، فتكون هذه الروايات مخصصة لعموم الآية الشريفة الدال على وجوب الوضوء لكلّ صلاة، فإنّها تختصّ بالمحدثين من المكلّفين، و أما غيرهم فيستحبّ لهم الوضوء لما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، و لما يستفاد من ذيل الآية الشريفة من أنّ الغرض من تشريع الطهارات هو تطهير النفوس و الأبدان، و هو حسن على كلّ حال، و سيأتي في البحث الفقهي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.
تفصيل لأعمال الوضوء بتعيين مواضعه حسب الترتيب، و هي غسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين.
و الغسل (بالفتح) إمرار الماء على الشي‏ء لإزالة ما عليه من الوسخ و غيره و تنظيفه منه، و إطلاقه من دون تحديده بأمر يقتضي الأخذ بما يجري عليه العرف في الغسل بالماء على النحو الذي لا يؤتى به لإزالة الوسخ و الدرن، لاحتياجه إلى كثرة إفاضة الماء و استيلائه على الوجه، بل يكفي فيه ما يحصل به غسل ما هو نقي عن الوسخ و الحاجب للماء عن البشرة.
و لا ريب في أنّ العرف و العادة في مثل ذلك يقضي بإمرار الماء باليد اليمنى- المعدّة للأعمال المحترمة- من دون الغسل بكلتا اليدين، إلّا في مقام كثرة الإفاضة زيادة على مسمّى الغسل، كإزالة الخضاب و نحوه، و استعمال اليد اليسرى لا يكون‏ إلّا في ما هو خارج عن الغسل، كصبّ الماء من الإناء في اليمنى و نحو ذلك، فلا دخل لها في الغسل.
و الرجوع إلى العرف في تشخيص المراد و تعيينه و بيانه هو القاعدة المتبعة في كلّ الموضوعات المأخوذة في الشريعة الإسلاميّة، إلّا إذا أورد من الشرع بيان أو تحديد خاصّ فيجب اتباعه حينئذ، و المسألة محرّرة في علم الأصول. هذا ما يتعلّق بالغسل.
و أما الوجوه، فهي جمع وجه، و هو ما يستقبل من الشي‏ء عند المواجهة و المشافهة و الرؤية، و في الإنسان ما فيه العين، و الأنف، و الفم، و هي ما يستقبل عند الرؤية. و إطلاقه يشمل جميع ما يسمّى وجها عند العرف، فيشمل شعر اللحية و الشارب أيضا، و ما هو الظاهر منه دون البواطن، لأنّها ممّا يستقبل عند الرؤية، و حدّه عندهم من جانب الطول من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة إلى آخر الذقن، و من جانب العرض ما دارت عليه الإبهام و الوسطى، و هذا هو المنقول في الروايات الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، فتدلّ على أنّه لم يرد تحديد خاصّ من الشرع المقدّس في الوجه، فالمرجع فيه العرف، فهو كما ذكرناه، فإذا لم يغسله كلّه لم يتحقّق منه الامتثال.
كما أنّ المعتاد الذي ينسبق إليه الذهن أن يكون من أعلاه إلى أسفله، دون العكس، و العرف هو المناط في الإطلاق، فلو أراد المتكلّم غيره، فلا بدّ من بيانه و النصّ عليه بما يكون حاضرا في ذهن المخاطب حين الامتثال، كما هو مفصّل في علم الأصول. و قد ذكر العلماء و المفسّرون في بيان الغسل و الوجه أمورا لا تخلو عن المناقشة، و الحقّ ما ذكرناه فيهما فراجع كتب الفقه و التفسير.
قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ.
أي: و اغسلوا أيديكم إلى المرافق، تقدّم الكلام في الغسل، و الأيدي جمع يد، و هو اسم للعضو المعروف من أطراف الأصابع إلى الكتف، و لا يدخل في مسماّها الشعر، فلا يكفي غسله عن غسل البشرة.
و مرافق: جمع المرفق (بالكسر فالفتح) و قرئ بالعكس، و لكنّ الأوّل أفصح، و هو مجمع عظمي الذراع و العضد، و إنّما ذكر بلفظ الجمع باعتبار صورة الخطاب بالجمع يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، و إن كان لكلّ مكلّف مرفقان فإنّه يصحّ الخطاب به أيضا، نظرا لانحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة، كما هو الشأن في كلّ عامّ إفرادي، إلّا أنّه لا يصحّ حلّ جمع الأيدي إلى أفرادها، فيقال: و يدكم إلى المرافق، و سيأتي مزيد بيان.
و تحديد غسل الأيدي إلى المرافق قد جرى على ما هو المتعارف أيضا، لأنّ معظم مقاصد اليد إنّما يحصل بما دون المرفق إلى الأصابع، و أنّها المعرّضة لما يحتاج إلى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف إلى المرفق، و لأجل ذلك تسمّى هذه القطعة باليد، تسمية البعض باسم الكلّ، كما تقدّم، فصار اليد مشتركا عند العرف، و لعلّ ذلك كان هو الموجب لتحديد اليد في المقام و نصب القرينة عليه بتقييد اليد إلى المرافق، ليكون الواجب هو غسل اليد إليها، و لم يكن الأمر كذلك في الوجوه، فكان المرجع فيها العرف، كما عرفت آنفا.
و من ذلك يعرف أنّ (إلى) في المقام لتعيين المغسول و تحديده، كما هو المعروف في نظائر المقام، تقول: اغسل ثوبك إلى جيبه، و اخضب كفّك إلى مفصل الزند، و اصقل السيف إلى ضبّته و نحو ذلك، فيكون الغسل مطلقا غير مقيّد بالغاية، فيصحّ أن يبتدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع، كما يحتمل العكس، و حينئذ لا بدّ في تعيين أحد الاحتمالين من الرجوع إلى القرائن الحافّة، أو ما ورد في السنّة الشريفة.
أما القرائن، فإنّ المتعارف في مثل غسل اليد أن يكون الابتداء من الأعلى إلى الأنامل، و أنّ النكس في مثل ذلك ممّا يستلزم صعوبة، و حينئذ لا يبقى إطلاق للآية الشريفة.
و أما السنّة، فقد ورد من الفريقين ما يدلّ على كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل، فقد أخرج الدّارقطنيّ و البيهقيّ في سننهما عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان‏ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه»، فإن ظاهره هو الابتداء من المرفق.
و أخرج أحمد و مسلم عن عمرو بن عتبة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديثه: «و إذا غسل وجهه- كما أمره اللّه تعالى- الّا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين إلّا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء- الحديث»، فهو بجملته يدلّ على أنّ منتهى مجرى الغسل و مجرى الماء هو أطراف اللحية و أطراف الأصابع.
و أما ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السّلام في أنّ الابتداء بالمرافق إلى أطراف الأصابع، فهو كثير بلغ حدّ التواتر، و عليه إجماع الإمامية و عملهم، و سيأتي نقل بعضها في البحث الروائي.
و بعد ذلك فلا غرابة في الحكم بابتداء الغسل من المرافق، كما زعمه الآلوسي في تفسيره، مدّعيا بأنّه لم يجد في ذلك مستمسكا، فإنّ الحكم صحيح، و المستمسك ظاهر الآية الكريمة مع القرائن و السنّة الشريفة، كما عرفت.
و من ذلك كلّه يعرف أنّه لا وجه للأخذ بإطلاق الغسل تمسّكا بإطلاق ما ورد في نظائر المقام، لأنّ القرائن و ما ورد في السنّة الشريفة لا يبقي إطلاقا للآية الشريفة.
كما يظهر بطلان ما ذكره جمع من رجوع القيد إلى الغسل دون المغسول، فيكون ظاهر قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وجوب الابتداء في الغسل من أطراف الأصابع و الانتهاء إلى المرافق، فإنّ ما ذكرناه آنفا لدليل على عدم رجوع كلمة (إلى) إلى الغسل، فيكون الظاهر من الآية المباركة منضما إلى ما ذكر من القرائن و السنّة هو وجوب الابتداء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع، فلو نكس، لم يصحّ و ضوؤه، لأنّه خلاف المأمور به.
ثمّ إنّه قد أطنب الكلام في دخول المرافق في الغسل، فكأنه لم تكن في الآية الشريفة بحوث إلّا هذا البحث، و الحقّ أنّه لا يمكن أن يستفاد من الآية المباركة دخولها في الغسل و لا عدم دخولها، فهي مجملة من هذه الناحية، فلا بدّ أن يستفاد أحد الاحتمالين من الخارج و قد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على دخولها في الغسل، و تقدّم حديث جابر الحاكي عن فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّ دخولها يكون ممّا زاده صاحب الشريعة مثل ما زاد في الصلوات الخمس، كما نطقت به الأخبار الصحيحة، أو من باب المقدّمة العلمية.
و أما القول بأنّ (إلى) بمعنى مع، أو القول بدخول الغاية في المغيّى إذا كانا من جنس واحد، فلم يقم عليه دليل معتبر، و سيأتي مزيد بيان في البحث الأدبي إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ.
المسح: إمرار اليد أو كل عضو لا مس على الشي‏ء مباشرة أو بآلة، و هو تارة: يكون مع الاستيعاب، و اخرى يكون بغير استيعاب، و يختلف باختلاف القرائن، و المعروف بين العلماء أنّه إذا عدّي بنفسه أفاد الاستيعاب، و إذا عدّي بالباء سواء كانت للآلة أم غيرها، دلّ على التبعيض، يقال: مسحت العرق بالمنديل، أو مسح يده بالمنديل، أو مسح الشي‏ء بالماء ليزيل ما علّق به من غبار و نحو ذلك.
و لا ريب في أنّ المسح يتقوّم بتحريك الماسح على الممسوح، فوضع اليد أو الإصبع على الرأس لا يسمّى مسحا.
و أسلوب الآية المباركة يدلّ على كفاية مسح بعض الرأس، لمكان الباء، و هو ما يسمّى مسحا في اللغة أيضا.
و أما تعيين الجانب الذي يجب إمرار الماسح عليه و مقدار المسح، فهما خارجان عن مدلول الآية الشريفة، فلا بدّ من تعيينهما من السنّة الشريفة، و قد ورد فيها ما يدلّ على كونه في مقدّم الرأس، و كفاية مقدار إصبع واحدة في الامتثال، و إن كان الأفضل أن يمسح بمقدار ثلاث أصابع.
و إطلاق الآية الكريمة يدلّ على جواز النكس في مسح الرأس، فإنّه لم يكن هنا عرف أو دليل آخر ليكون موجبا لصرف الإطلاق، كما كان في غسل الوجه و اليدين، و لكنّ الأفضل تركه لما دلّت عليه بعض الروايات.
و على جميع الأحوال فلا تدلّ الآية الكريمة على وجوب مسح جميع الرأس. هذا و أنّ لعلماء الجمهور و مفسّريهم في تفسير الآية المباركة أقوالا و مذاهب هي بعيدة عن سياقها، بل تنافي فصاحة القرآن الكريم و الذوق الأدبي الرفيع، فراجع.
قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
مادة (كعب) تدلّ على العلو، و منه سمّيت الكعبة. و كعبت المرأة إذا فلك ثديها، و الكاعب هي الجارية التي نهد ثديها و علت، و كعب القناة هو أنبوبها، و في الحديث: «و اللّه لا يزال كعبك عاليا»، دعاء بالشرف و المجد تشبيها.
و الكعبين قيل: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق و القدم عن الجنبين.
و قيل: هو عظم مائل إلى الاستدارة، واقع في ملتقى الساق و القدم نات في ظهر القدم، و يدخل نتوئه في طرف الساق، و هو الذي يطلق عليه المفصل، لمجاورته له.
و إذا راجعنا كلمات أهل اللغة و علماء التشريح، يظهر أنّ المعنى الثاني هو المراد من الكعب حيث أطلق، إلّا إذا دلّ دليل على غيره، و يظهر ذلك أيضا من التتبع في الأخبار المعصومية عليهم السّلام كما يأتي نقل بعضها، و عن ابن الأثير أنّه «مذهب الشيعة»، و استشهد بأحاديث تدلّ على ذلك.
و الرجل يطلق على الكلّ و الأبعاض، فتطلق على القدم، و على ما تحت الركبة، و على ما يشمل الفخذ، فقد حدّ عزّ و جلّ الرجلين إلى الكعبين، ليكون غاية للممسوح، على نحو ما ذكره في غسل اليدين. و أما المسح بالبعض أو الكلّ فسيعرف من البحث الآتي.
و قد اختلف العلماء و المفسّرون في إعراب الجملة على وجوه:
الأوّل: النصب عطفا على الأيدي، فيكون العامل «اغسلوا»، فيجب غسل الأرجل، و قد استدلّ على هذا الوجه بأمور:
الأوّل: أنّه قراءة متواترة، كما ادّعاه بعض، فقد قرأها نافع، و ابن عامر، و حفص، و الكسائي، و يعقوب و غيرهم.
الثاني: أنّ في الآية المباركة تقديما و تأخيرا، أي تأخير الأرجل، و لكنّها في الواقع مقدّمة، فقد روى أبو عبد الرحمن قال: «قرأ عليّ الحسن و الحسين عليهما السّلام فقرأ:
«و أرجلكم إلى الكعبين»، فسمع علي عليه السّلام ذلك و كان يقضي بين الناس فقال:
«و أرجلكم» هذا من المقدّم و المؤخر من الكلام»، و مراده عليه السّلام كما نقله السدي:
اغسلوا وجوهكم و اغسلوا أرجلكم إلى الكعبين و امسحوا برءوسكم.
الثالث: أنّ غسل الأرجل هو قول جمهور الفقهاء و المفسّرين، و عليه عمل الصدر الأوّل، بل إجماع الصحابة عليه. و من ذهب إلى المسح من الصحابة قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.
الرابع: أنّ السنّة الصحيحة تدلّ عليه، و أحسن ما نقل في هذا الباب ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «تخلّف عنّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفره فأدركنا و قد ارهقنا العصر، فجعلنا نتوضّأ و نمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرّتين أو ثلاثا». و قال البخاري: «إنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح، لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل»، و غيرها من الروايات التي نقلها أرباب الصحاح و السنن.
الخامس: إمكان إرجاع قراءة الجرّ إلى قراءة النصب، و قد ذكروا له توجيهات. منها: أنّ العطف في الواقع على الأيدي، و أنّ الجرّ إنّما هو للاتباع، كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية 30]. و قولهم: هذا حجر ضب خرب، فجرّوه و إنّما هو رفع.
و منها: أنّه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى، كقوله: علقتها تبنا و ماء باردا.
و منها: أنّ العطف و إن كان في محلّه، إلّا أنّ المسح خفيف الغسل، فهو غسل بوجه، فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، و يقوي ذلك أنّ التحديد إنّما جاء في المغسول، و هو و الوجوه و الأيدي، و لم يجي‏ء في الممسوح، فالتحديد في الأرجل يدلّ على أنّ الحكم فيها الغسل.
و منها: أنّه يجوز تقدير: امسحوا قبل «ارجلكم»، فيكون من عطف الجمل، فإذا تعدّد اللفظ فلا بأس بأن يتعدّد المعنى، فيكون المسح المتعلّق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، و المسح المتعلّق بالأرجل بالمعنى المجازي، و لا بأس بأن يجمع بين الحقيقة و المجاز، أو يستعمل المشترك في معنييه.
السادس: أنّ الغسل و المسح كليهما مرويان عن السلف من الصحابة و التابعين، و قد عمل بهما جمع كثير، و لكنّ العمل بالغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلّا في مسح الخفّين.
السابع: أنّه يمكن الجمع بين القرائتين و الآراء المختلفة في الغسل دون المسح، و لا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، فيتمسح في أثناء الغسل، لأنّ الغسل هو إمرار الماسح على الممسوح و إلصاقه به، و صبّ الماء لا يمنع منه، بل يتحقّق به.
و إطلاق الأمر يقتضي المسح و لو ببل اليد بالماء و مسحها بالرأس، لمكان باء الإلصاق، و لم يكن الأمر كذلك في الرجلين، فكان الظاهر أن يغسلهما و يمسحهما في أثناء الغسل بإدارة اليد عليهما.
الثامن: أنّ الغسل: يجمع المسح و زيادة فإنّه تحصل به الطهارة، أي: المبالغة في النظافة التي شرع الوضوء و الغسل لأجلها، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة، فالمسح يدخل في الغسل دون العكس.
التاسع: أنّه لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة حكمة، بل هو خلافها، لأنّ طرو الرطوبة القليلة على العضو الذي أصابه غبار و وسخ، يزيد في و ساخته و ينال اليد الماسحة حظّ من هذه الوساخة.
العاشر: أنّهم اتّفقوا على أنّ من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه، و اختلفوا في من مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.
هذه هي أهمّ ما استدلّوا به على ترجيح قراءة النصب و الحكم بالغسل في طهارة الرجلين.
الوجه الثاني: الجرّ عطفا على لفظ «رؤوسكم»، فيكون العامل (الباء)، و هي قراءة جمع غفير مثل ابن كثير، و حمزة، و ابن عمرو، و عاصم، كما هي قراءة أهل البيت عليهم السّلام، فقد روى الشيخ الطوسي قدس سره عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله اللّه تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ على الخفض هي أم على النصب؟ قال عليه السّلام: و هي الخفض». و ادّعى جمع تواتر هذه القراءة، فيكون الحكم في طهارة الرجلين هو المسح دون الغسل.
و أهمّ ما استدلّوا به على هذا الوجه امور:
منها: القرب و عدم الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه، الذي هو من المرجّحات المعروفة، بل المسلّم عليه عند النحويين.
و منها: أنّ العطف على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة و أسلوب العربية، فإنّ اللّه تبارك و تعالى بيّن حكم الغسل و مواضعه، ثمّ قطع الكلام و بيّن حكم المسح و مواضعه، فلا يصحّ أن يعطف أحدهما على الآخر بعد القطع بينهما، و يدلّ عليه ما رواه زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال: يا زرارة- الحديث».
و منها: الأخبار الكثيرة التي تدلّ على أنّ المسح كان فعل صاحب الشرع صلّى اللّه عليه و آله و بعض أصحابه مثل علي عليه السّلام و ابن عباس، و أنس و غيرهم، و التابعين، و أهل البيت عليهم السّلام عامّة و شيعتهم و تابعيهم، و قد اشتهر الحديث المروي بطرق مختلفة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء غسلتان و مسحتان، من باهلني باهلته».
و أما الأخبار المرويّة عن الأئمة الهداة (سلام اللّه تعالى عليهم)، فقد بلغت حدّ التواتر و لا يمكن إنكاره، و هي تنصّ على أنّ الحكم هو المسح، و أنّ غيره‏ باطل، و شدّدت النكير على مخالفيهم، و سيأتي نقل بعضها، و حمل العلماء ما يدلّ على الخلاف على بعض المحامل، كما هو مذكور في الفقه.
الوجه الثالث: الرفع، و هي قراءة الحسن، و لم تنسب إلى غيره، على أن تكون «أرجلكم» مبتدأ و الخبر محذوف، و قد حمل بعضهم هذه القراءة على قراءة النصب بتقدير (مغسولة). كما حملها آخرون على قراءة الجرّ بأن يكون (ممسوحة).
إذا عرفت ذلك، فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الثاني، لأنّ الوجه الأخير غير معروف، و خلاف الإجماع المركّب، و مخالف لظاهر الآية الشريفة و القواعد المعروفة في علم النحو كما هو واضح، يضاف إليها أنّه لا يمكن استفادة حكم معيّن منها كما عرفت آنفا.
و أما الوجه الأول، فهو مردود من جهات كثيرة، و ما استدلّوا به لإثباته قابل للمناقشة، نذكرها في المقام على نحو الإيجاز، و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.
أما أوّلا: فإنّ دعوى تواتر قراءة النصب كما مرّت غير ثابتة، لأنّ التواتر قد حصل بعد عصر النزول و بعد ثبوت قراءة الجرّ و روايتها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و بعض كبار الصحابة، مثل علي بن أبي طالب الذي ورد فيه: «أنّه مع الحقّ»، و ابن عباس الذي يعدّ حبر هذه الأمة، و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و لا ريب أنّ قراءتهم أحقّ أن يتبع، لأنّهم أدرى بما في البيت.
و ما قيل: من رجوع القائلين من الصحابة بالمسح، فلم يثبت، لأنّ الروايات التي نقلت عن الأئمة الهداة أولاد علي بن أبي طالب عليهم السّلام كلّها تؤكّد عدم رجوعهم عن قراءتهم.
و على فرض التنزّل و القول بثبوت تواتر هذه القراءة و تعارضها مع دعوى تواتر قراءة الجرّ و فقد المرجح بينهما، فلا بدّ من الرجوع إلى الأدلة الخارجيّة التي سيأتي الكلام فيها.
مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏11، ص: 18
و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ في الآية الكريمة تقديما و تأخيرا، فإنّه لم يعلم نسبته إلى علي عليه السّلام.
و ثانيا: أنّ ما ذكر في ترجيح قراءة النصب من التوجيهات النحويّة لا يمكن الاعتماد عليها، فإنّ تطبيق الآية المباركة على احتمالات بعيدة لا يزيدها إلّا بعدا عن الواقع، و سيأتي في البحث الأدبي بعض الكلام.
و ثالثا: أنّ ما ذكر في ترجيح الغسل على المسح من أنّه خلاف الحكمة، أو أنّ الغسل هو المسح و زيادة و غير ذلك ممّا عرفت، فإنّ كلّ ذلك من مجرّد الاستحسان، و احتمالات لا يمكن ابتناء الأحكام الشرعيّة عليها، فإنّ الوضوء و الغسل و التيمّم أمور تعبديّة توقيفيّة، لا بدّ من ورود دليل من الشرع في جميع خصوصياتها، فإذا أمر بالغسل في موضع، لا يجوز المسح فيه، و كذا بالعكس، فإنّه تشريع محرّم يوجب بطلان العبادة، كما هو معلوم.
و لا إشكال من أحد في أنّ الغسل و المسح مفهومان متغايران عند العرف، و يشترط في كلّ واحد منهما ما لا يشترط في الآخر، و من ذلك أنّه يشترط في المسح أن يكون الممسوح خاليا عن الرطوبة الغالبة على ما يكون على الماسح من الرطوبة، و إلّا لم يتأثّر الممسوح برطوبة الماسح الذي هو قوام المسح، فلو تحقّق الغسل قبل المسح تكون الرطوبة غالبة فيبطل المسح، لانتفاء الشرط، و إن كان بعده فلا فائدة فيه، إلّا أن يكون بقصد التشريع و الورود، فيوجب البطلان، فلا يمكن الجمع بين الغسل و المسح.
و أما الحكمة المزعومة في الغسل دون المسح، فلا ريب و لا إشكال في أنّ الطهارة و النظافة أمران مندوبان و قد حثّ عليهما الشرع المبين، و لكنّهما لا تنحصران في الوضوء فقط، فإنّ لها طرقا و سبلا متعدّدة، مع أنّ الحكمة في الوضوء لا تنحصر في النظافة الظاهريّة، فلعلّ الغاية منه الطهارة الباطنيّة، ففي الحديث المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء نور»، و ما ورد في تفسير الغرّ المحجلين‏ و غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ العمدة هي الطهارة الباطنيّة.
و رابعا: أنّ القول بأنّ الغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلّا في مسح الخفّين، فلا يصير مرجّحا، فإنّ العمدة دلالة الدليل و ما يستفاد من ظاهره، مع أنّ للقائلين بالمسح أن يقولوا بأنّ المسح مرويّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصحابة- كما اعترف به الخصم- و هو الذي غلّب عندهم و استمر، و لا مرجّح لمذهب غيرهم على مذهبهم.
و خامسا: أنّ ما ذكره بعضهم من أنّ جعل الغاية في الرجلين، لدليل على أنّ المطلوب هو الغسل. كما أنّ جعل الكعبين دليل آخر، لأنّ الغسل لا يحصل إلّا باستيعابهما بالماء، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجلين.
فهو غير صحيح، فإنّ جعل الغاية لا يدلّ على كون المطلوب هو الغسل، بل هو أعمّ كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّ الغاية ليست للغسل، بل هي غاية للممسوح، على نحو ما ذكرناه في غسل الأيدي.
و أما ما ذكر في معنى الكعب، فقد تقدّم الكلام فيه، و ذكرنا أنّ المراد منه هو العظم البارز في ظاهر القدم، و تقدّم الكلام في وجه إتيان صيغة التثنية، و قلنا: إنّ مثل هذه الخطابات تنحلّ إلى خطابات متعدّدة بتعدّد المخاطبين المكلّفين، فذكر الكعبين باعتبار كلّ مكلّف، و لم يسمع في فصيح الكلام أن تنحل جمع الأرجل إلى أفرادها، فيقال: و أرجلكم إلى الكعب، باعتبار الرجل الواحدة، إلّا أن يقال:
(و امسحوا بأرجلكم، كلّ رجل إلى الكعب)، و السرّ في ذلك أنّ غير الجموع الخطابيّة لا علاقة لها بحلّها إلى المفردات، إلّا أن يشار إلى المفرد بالتصريح في الخطاب، كما يقال: كلّ رجل يجب مسحها إلى الكعب، و هو خلاف الفرض.
و من ذلك يعرف أنّه لو كان المراد من الكعب هما العظمين الناتئين في جانبي الرجل لقال: إلى الكعاب، لأنّ في كلّ رجل كعبين، بخلاف ما إذا كان كعب في كلّ رجل، كما عرفت فافهم.
و سادسا: بعد أن عرفت عدم صلاحية تلك الوجوه لترجيح قراءة النصب، ننتقل إلى أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على الإماميّة، و هي الأخبار التي استدلّوا بها على وجوب غسل الرجلين، و فيها أنّه إذا كانت الآية تدلّ على المسح، فتكون الأخبار ناسخة لها، كما قال به بعض السلف كأنس و الشعبي، فقد نقل عنهم أنّه قال: «أتى جبرئيل بالمسح و السنّة بالغسل»، فحينئذ يأتي الكلام في أنّه هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد؟ و البحث طويل.
يضاف إلى ذلك أنّها متعارضة في ما بينها، فإنّ بعضها يدلّ على الغسل، و بعضها يدلّ على المسح، كما أنّها معارضة بالأخبار التي ينقلها الإماميّة الدالّة على المسح، فلا بدّ من التماس المرجّحات السنديّة و الدلاليّة فيما بينها، و كلّ طائفة تدّعي الترجيح و لو فرضنا تعادلها من جميع الجهات، فيطرحان و يرجع إلى كتاب اللّه تعالى، و قد تقدّم أنّه يدلّ على المسح دون الغسل. هذا موجز الكلام في المقام و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.
و الحقّ أنّ الآية المباركة هي بعيدة عن تلك الوجوه و الاحتمالات الواهية، و لو عرضناها على مستقيم الطبع- الخالي من الشوائب- و الذهن الصافي يأبى حمل الكلام البليغ عليها، و يفهم من ظاهر الآية الكريمة: أَرْجُلَكُمْ معطوفة على ما تقدّم عليها بلا فصل، أي: بِرُؤُسِكُمْ، و يحكم بوجوب مسح الأرجل في الوضوء، و الأخبار إنّما تؤكّد هذه الجهة فقط و ترشد إليها، لا أن تضيف إلى الآية الكريمة شيئا جديدا. و قد كانت الأمة في غنى عن هذا الجدل العنيف إذا رجعوا إلى كتاب اللّه العزيز و طرحوا التعصّب و العناد، و لم يصل الأمر إلى الآلوسي في تأليف كتاب في الردّ على الإماميّة و التحامل عليهم و اتهامهم بالكذب و توهينهم، حتّى قال صاحب المنار: «إنّ في كلامه- أي الآلوسي- تحاملا على الشيعة و تكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة»، مع أنّهم كانوا بحاجة إلى موضوعات أكثر أهميّة و أشدّ نفعا، لو لا التعصب و الجهل اللذان ابتلت بهما هذه الأمة فوقعت في ما وقعت فيه الأمم الماضية. و قد حذّرنا اللّه تعالى منها أشدّ تحذير، نسأله جلّت عظمته الهداية و التوفيق لما فيه الخير و السعادة.
قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا.
بيان لنواقض الطهارة و موجباتها، و هي على قسمين: الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل، و هي الجنابة. و الحدث الأصغر الموجب للوضوء، و هو البول و الغائط. ثمّ يذكر عزّ و جلّ مسوّغات التيمّم، و به تتمّ الطهارات الثلاث مع ذكر موجباتها و نواقضها و واجباتها.
و الجنب بضم الجيم و النون، من أصابته الجنابة، التي هي معروفة عند المكلّفين، و لها سببان:
أحدهما: ما ذكره عزّ و جلّ في ما يأتي أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، الذي هو كناية عمّا يستقبح ذكره، أي: الوقاع و الجماع، بلا فرق بين خروج المني و عدمه، فإنّ الموجب هو الدخول.
و الثاني: خروج المني في اليقظة أو المنام، كما دلّت عليه السنّة الشريفة، على ما يأتي في البحث الروائي.
و الجنب مصدر استعمل بمعنى الوصف، و يقع على الواحد، و الاثنين و الجمع، و المذكر و المؤنث، كما يقال: رجل عدل، و امرأة عدل و قوم عدل. و تقدّم الكلام في اشتقاقه و معناه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43].
و الطهارة: تطلق تارة، و يراد منها المعنى المصدري، أي: نفس الفعل الذي هو الاغتسال. و اخرى: يراد بها معنى الاسم المصدري، أي: الأثر الحاصل من الغسل، و المراد بها في المقام المعنى الأوّل، أي: الاغتسال، كما دلّ عليه قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43]، و كذلك دلّت عليه جملة من الأخبار، و قد استدلّ بعضهم بالتبادر أيضا.
و الآية الشريفة تبيّن أنّ للطهارة إطلاقين، أحدهما نفس الفعل الذي هو الاغتسال، كما بيّنته آية النساء و الآخر الطهارة الحاصلة بالغسل، فإنّها أثر مترتّب على الفعل الذي هو الغسل.
و الجملة: عطف على جزاء الشرط الأوّل، أي: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم جنبا فتطهّروا.
و قيل: إنّها عطف على جملة الشرط السابق، فلا تكون حينئذ مندرجة تحت القيام إلى الصلاة، بل هي مستقلّة برأسها، فتدلّ الآية الكريمة على وجوب الغسل لنفسه، و استدلّوا على هذا القول بأمور سيأتي ذكر بعضها في البحث الأدبي.
و يستفاد من سياق الآية الكريمة المبالغة في أمر الصلاة، و التأكيد على الطهارة و مطلوبيتها لنفسها. كما أنّها تدلّ على شرطيّة الطهارة لطبيعة الصلاة، و كفاية الغسل للدخول في ما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، و مسّ كتابة القرآن، و قراءة آية السجدة في سور العزائم الأربع، و الدخول في المساجد و غير ذلك، لأنّ المسوّغ في الدخول في ذلك كلّه إنّما يكون بالطهارة و رفع الجنابة، و هو إنّما يتحقّق بالاغتسال، و تدلّ عليه جملة من الروايات، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع.
قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏.
شروع في مسوّغات الطهارة الترابيّة بعد ذكر الطهارة المائيّة، و بيان لموارد ترك الوضوء و الغسل و إتيان بدلهما و هو التيمّم. و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الأمور تجمعها عناوين ثلاثة: العجز، و المشقّة، و عدم وجدان الماء، فتكون المذكورات في الآية المباركة بعض المصاديق لها، و هي الأربعة التي يكثر ابتلاء المكلّفين بها و تصاحب فقدان الماء، إما غالبا كالمرض و السفر، أو اتفاقا كالتخلّي و مباشرة النساء، فتدخل في أحد العناوين الثلاثة المتقدّمة.
و لكن ما ذكره عزّ و جلّ منه ما يكون حدثا بنفسه يستوجب الطهارة، كالأخيرين المعطوفين على الأوّلين بكلمة (أو). و منه ما لا يكون كذلك، بل يكون‏ مظنة لتحقّق الحدث فيه، و هما الأوّلان، أي: المرض و السفر، فإنّهما ليسا بنفسهما يستوجبان الطهارة، بل لأنّهما مظنّة لتحقّق الحدث- سواء أ كان أصغر أم أكبر- فلم تكن المقابلة بين الأخيرين و الأوّلين حقيقيّة، و لذا احتمل بعضهم أن تكون (أو) بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصفات، الآية: 147]. و لكنه بعيد، لما ذكرناه آنفا من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان مسوّغات التيمّم التي تجمعها العناوين المتقدّمة، و لا ريب في أنّ شاهد الحال و العرف يقضيان باعتبار الحدث في كلّ ما يسوغ التيمّم، فتكون (أو) باقية على ظاهرها من التقسيم و التنويع، لكون المقام مقام التردّد فيه بالطبع، فلا يحتاج إلى التجوّز.
و المراد بالمرض في المقام ما يضرّ معه استعمال الماء، و ما يكون سببا للعجز عن تحصيله، بلا فرق فيه بين أن يكون شديدا أو يسيرا، إلّا أن يكون يسيره ممّا ليس فيه مشقّة و كلفة، بحيث لا يصدق عليه المرض عرفا.
و إنّما يحكم بالمرض و أقسامه الذي يسوّغ التيمّم التجربة و أهل الخبرة، و تدلّ على ذلك جملة من الروايات، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ.
فرد آخر من الأفراد التي قد يبتلى بها المكلّف ممّا لا يمكن تحصيل الماء فيه، كما يرشد إليه تنكير (سفر)، و الجملة عطف على قوله تعالى: فَامْسَحُوا.
و المعنى: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم على سفر و لم تجدوا ماء فتيمموا، فلا يستفاد من الآية المباركة أنّ هذه الجملة قيد لغيرها من المذكورات.
و إطلاق الآية الشريفة يشمل السفر الطويل و القصير بما يسمّى سفرا عرفا، بحيث يشقّ فيه تحصيل الماء و يغلب فيه فقدان الماء.
قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ.
الكلام في عطف هذه الجملة نفس الكلام في سابقتها، و التقدير: إذا قمتم إلى‏ الصلاة و قد جاء أحد منكم من الغائط فلم يجد ماء، فيتيمم. و قد ذكرنا أنّ هذا الفرد بنفسه موجب للطهارة.
و الآية الشريفة في غاية الأدب و منتهى الفصاحة، حيث كنّي فيها عمّا يستقبح ذكره بأسلوب أدبي رفيع، و بولغ في الإبهام من دون الإضافة التي شوب التعيين رعاية لجانب الأدب.
و الغائط: المكان المنخفض من الأرض، و قد كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس و تأدّبا. و قيل: إنّه المطمئن من الأرض. و قيل: عمق الأرض الأبعد.
و كيف ما كان، فسمّي الحال باسم المحلّ حتّى غلب استعماله في معناه المعروف، و هو النجوّ نفسه، كالعذرة التي هي بمعنى عتبة الدار و فنائها، فغلب استعمالها في معناها المعروف، و هو ما يخرج من الأسفل من بقايا الطعام، و المراد به في المقام مطلق الحدث الأصغر الموجب للطهارة الخارج عن أحد السبيلين، كما بيّنته السنّة الشريفة.
قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ.
كناية عن الجماع، و هو أيضا أدب قرآني، صونا للسان عمّا يستقبح ذكره، و قد ذكرنا في سورة البقرة أنّ المسّ و اللمس بمعنى واحد. و لعلّ التصريح به في المقام مع أنّه داخل في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً، لبيان أحد موجبات الجنابة، فيكون تفسيرا لها، أو للإشعار بأنّ الأمر ممّا تقتضيه الطبيعة كسابقه، و لكثرة وقوعها. و لكنّهما يفترقان في أنّ الأوّل حدث أصغر يوجب الوضوء، و الثاني حدث أكبر يوجب الغسل، بخلاف المرض و السفر اللذين هما أمران اتفاقيان.
و قد استجمعت الآية الشريفة جميع الحالات الطارئة للإنسان، الطبيعيّة منها و الاتفاقيّة، و عالجتها بأسلوب أدبي رفيع يفهمه كلّ مكلّف، و هو من إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي تحدّى جميع الكتب السماويّة و خضعت له الفصاحة و البلاغة.
و ممّا ذكرناه يعرف فساد ما نسب إلى بعضهم من كفاية مطلق لمس النساء في الطهارة، أخذا بظاهر اللفظ و إبقاء له على معناه الحقيقي من دون حمله على معناه الكنائي، الذي هو أسلوب من الأساليب البلاغيّة المعروفة، مع أنّ سياق الآية الكريمة لا يلائمه، لأنّ الآية المباركة بيّنت الحدث الأكبر ابتداء، ثمّ ذكرت الحدث الأصغر في الحالة الاعتياديّة، ثمّ ذكر الحدث الأصغر في الحالة الاضطراريّة، فلو حملناه على المعنى الذي ذكره يستلزم منه إهمال فرض من الفروض، و هو الحدث الأكبر في الحالة غير الاعتيادية، و عدم بيان حكمه، و هو التيمّم بدل الغسل، و أنّ به تستوفى الفروض.
قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً.
جواب الشرط «إن كنتم»، فيكون المراد من عدم الوجود أعمّ من عدم الوجدان و العجز من تحصيله، و عدم التمكّن من استعماله من جهة المرض و غيره، و هو الأنسب، و العطف بالفاء لبيان أنّ عدم الوجدان إنّما يكون معتبرا لعدم حصول هذه الأسباب.
و قال بعضهم: إنّه معطوف على قوله: «جاء»، فيكون قيدا للسفر، و الغائط، و ما عطف عليه. و يكون حكم من كان المرض مانعا له عن تحصيله- لا استعماله- مستفادا من دليل آخر، و لكنّه تبعيد للمسافة.
كما أنّ القول بأنّه معطوف على «لامستم»، لأنّه أقرب لفظا.
مردود أيضا كما هو واضح، و قد تقدّم الكلام في هذه الآية المباركة في سورة النساء الآية- 40.
و الظاهر منها أنّ المراد بوجود الماء، وجود ما يكفي للطهارة، فلو وجد ما يكفي لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم الفاقد لها أجمع، كما أنّ الظاهر منها أنّه إذا كان قادرا على الطلب في الجملة يجب عليه، إذ مع وجوده في أحد أطرافه لا ينطبق عليه عنوان أنّه لم يجد، و سيأتي في البحث الفقهي ما يناسب الموضوع.
قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
التيمّم: هو القصد، و قد استعمل في الشرع في مسح الجبهة و اليدين بالتراب.
و الصعيد: هو وجه الأرض. و قيل: الصعيد هو الغبار الذي يصعد، أي: من الصعود، و لهذا قالوا لا بدّ للمتيمم أن يعلق بيده الغبار.
و لكن ادّعى الزجاج عدم الخلاف بين أهل اللغة أنّه مطلق «وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن»، و نقل المحقّق عن ابن الأعرابي ذلك أيضا. إذا لا وجه لهذا القول كما هو واضح.
و الطيب: هو الخالص المنزّه عمّا يستخبث و يكره، سواء كان بحسب حاله و ذاته أو المراد منه أو يرغب فيه و منه، فيشمل الطهارة و الإباحة و عدم خروجه عن حالته الطبيعيّة بالطبخ و نحوه، فتكون من وجوه الطيب، و هذا هو الظاهر من موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب و السنّة الشريفة، فيكون ما ورد في السنّة الشريفة مؤكّدا لما تدلّ عليه الآية الكريمة.
و قيل: إنّ المراد بالطيب الطاهر، فيكون دليلا على اشتراط الطهارة لما يتيمم به، و لكنّه تخصيص للآية المباركة بغير دليل، و قد تقدّم الكلام في سورة النساء الآية- 40 فراجع.
قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ.
بيان لكيفيّة التيمّم بعد ذكر المتيمم به بلفظ بليغ، و هو بإيجازه يشمل كثيرا من المعاني، و تقدّم الكلام آنفا في المسح، و الوجه، و اليدين، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها في التيمّم ما يراد منها في الوضوء، فإنّهما من باب واحد، إلّا أنّ في التيمّم يكفي مسح الوجه و بعض اليدين، لمكان (الباء)، و قد حدّدتهما السنّة الشريفة بما بين الجبينين إلى أطراف الأنف في الوجه، و بما دون الزند إلى أطراف الأصابع في اليدين، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام.
و لكن لا ينبغي الشكّ في دلالة الآية المباركة على أنّ المسح يتقوّم بالماسح‏ و الممسوح و الممسوح به، و تدلّ عليه الروايات البيانيّة و غيرها التي تبيّن كيفيّة تيمّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما سيأتي في البحث الروائي.
و إنّما اكتفى القرآن الكريم بذكر تيمّم بالصعيد الطيب و ذكر الممسوح به و الماسح، و استغنى عن ذكر الضرب على الصعيد أو مسّه بباطن الكفين، لأجل التفنّن في العبارة و البراعة فيها، إلّا أنّ الأسلوب يدلّ على ما ذكرناه كما عرفت، و الضمير في «منه» يرجع إلى الصعيد.
و اختلف في «من» فقيل: إنّها تبعيضيّة، أي: ببعض الصعيد بما علق باليدين من تراب و غبار، فتدلّ الآية الشريفة على اشتراط العلوق، أي: بقية الصعيد على اليدين، فلا يصحّ التيمّم إن لم يكن عليهما بقيّة منه.
و قيل: إنّها ابتدائيّة، أي: يجب التيمّم مبتدأ من الصعيد.
و الحقّ: أنّه لا فرق بين أن تكون (من) تبعيضيّة أو ابتدائيّة في عدم استفادة العلوق باليدين في التيمّم، فإنّ التيمّم ببعض الصعيد أو مبتدأ منه باعتبار كونه مورد ضرب اليدين أو الاعتماد عليه، أجنبي عن تعلّقه باليدين، إلّا أن يستفاد بضميمة القرائن الخارجيّة، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من عدم اشتراط العلوق إشارة إلى ما ذكر.
و بالجملة: أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب ضرب اليدين على الصعيد و كونه موردا لاعتمادهما، بلا فرق بين أن يكون مبتدأ أو يكون الضرب على بعضه و مسحهما على بعض الوجه و بعض اليدين، كما تدلّ عليه الروايات البيانيّة، و سيأتي نقل بعضها.
قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ.
بيان لقاعدة من القواعد التسهيليّة الامتنانيّة التي بنيت عليها الشريعة السمحاء، و تمسّك بها الفقهاء في مواضع كثيرة في الفقه، و أسموها ب «قاعدة نفي الحرج»، و تعتبر من إحدى الحكم في تشريع الطهارات الثلاث التي سيذكرها جلّ‏ شأنه في الآيات الكريمة التالية، و من سرد تلك الحكم في المقام يستفاد أهميّة تلك الأحكام و عظيم أثرها في تهذيب النفس و تزكيتها.
و أسلوب الآية الشريفة يدلّ على نفي جعل و تشريع كل الأحكام الإلهيّة التي يراد بها الحرج على المؤمنين، فإنّ نفي الإرادة أبلغ من نفي الفعل و أشدّ في تأكيده، كما عرفت في نظائر هذا الأسلوب في الآيات المباركة السابقة، و تؤكّد ذلك أيضا دخول «من» الجارّة على مفعول «ما يريد»، فتكون بيانيّة لا زائدة، كما زعمه بعضهم.
و يدلّ على ما ذكرناه أيضا قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الدالّ على نفي الحرج في ملاكات الأحكام مطلقا، فإنّها شرّعت لأجل مصالح و حكم واقعيّة، لا لغرض الحرج و المشقّة.
و إطلاق الآية الشريفة يشمل نفي كلّ حرج، سواء كان في التكاليف الأوليّة، أو التكاليف الثانويّة، فإنّه إذا عرض ما يوجب الحرج و المشقّة اتفاقا في حكم، فإنّه ينتقل إلى البدل فيه إن كان ممّا له بدل- كما في الصوم و غيره من التكاليف غالبا- و إلّا فيسقط الحكم رأسا في تلك الأفراد الحرجيّة، و لا يسقط غيرها.
و الحرج: هو الضيق و المشقّة، قال تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [سورة النساء، الآية: 65]، و قال سبحانه و تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78].
و المعنى: لم يكلّف اللّه تبارك و تعالى المؤمنين بتحصيل الطهارة المائيّة على وجه يستلزم الحرج و المشقّة عليهم، إما بإتلاف مال أو بالتغرير بالنفس أو الضرر عليها و نحو ذلك ممّا فيه كلفة عليهم، فإنّه ينتقل إلى البدل و هو الطهارة الترابيّة، فقد كلّفهم بها بما لم يستلزم المشقّة و الحرج أيضا، و إلّا فيسقط الحكم رأسا، كما هو مذكور الفقه، فإنّ اللّه تعالى ما يريد من الأمر بالطهارة المائيّة ثمّ الترابيّة إلّا التوسعة على المؤمنين، لا الحرج و المشقّة، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.
قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ.
حكمة اخرى، أي: إنّما يريد اللّه تعالى- من الوضوء و الغسل و التيمّم- تطهيركم، فاللام تكون للتعليل. و الجملة مفعول (يريد) المحذوف. و ذكر الرضي أنّ اللام زائدة، و (يطهّركم) مفعول بتقدير (أن) بعد اللام، كما هو الشأن في نظائر المقام، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: 26].
و كيف ما كان، فإنّ إطلاق الطهارة يشمل الطهارة المعنويّة الحاصلة من رفع الحدث بأحد تلك الأسباب الثلاثة التي يشترط الصلاة بها، و النظافة الظاهريّة من الدرن و الأوساخ. و أما الطهارة من الخبث، فإنّها قد تحصل بالعرض، فلا تدلّ الآية المباركة عليها.
و يستفاد من الآية الكريمة أنّ الشرط في القيام إلى الصلاة هو الطهارة، فلو كان متطهّرا لا يجب عليه الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إليها مرّة اخرى.
قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ.
الإعراب فيه كما ذكرناه في الجملة المتقدّمة، و سبق الكلام في معنى النعمة و إتمامها في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، و المراد بالنعمة في المقام تلك الأحكام و التوجيهات و المعارف التي نزلت لتكميل الإنسان و إرشاده إلى سعادته في الدارين، و منها تلك التي ذكرت آنفا التي يستلزم العمل بها الدخول في ولاية اللّه تعالى، الذي هو المقصد الأسنى في خلق الإنسان.
و إطلاق الآية الشريفة يشمل النعمة التي أرادها اللّه تعالى للمؤمنين، و هي طهارة النفوس من درن الذنوب و آثارها و تزكيتها، التي هي غاية خاصّة لتشريع الطهارات الثلاث، و نعمة الدين الذي هو مجموعة أحكام و توجيهات و إرشادات قيّمة لتكميل النفوس المستعدة و إعدادها لنيل الفيوضات الإلهيّة و هدايتها إلى ما يوجب سعادتها، فاجتمعت في هذه الآية المباركة الغايتان الخاصّة- للتشريعات الثلاثة المتقدّمة- و العامّة لمجموعات الأحكام الإلهيّة.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
غاية اخرى، و هي إعداد الإنسان إعدادا علميا و عمليا لطاعته و القيام بشكره، ليكون سببا لدوام نعمه عزّ و جلّ، و هو القائل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 7].
و الآية الشريفة جمعت كلّ ما له دخل في سعادة الإنسان و ما يهديه إلى الكمال المنشود، و من ذلك كلّه يظهر أهميّة الأحكام الإلهيّة في حياة الإنسان الظاهريّة و المعنويّة.
قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
ترغيب إلى دوام طاعة اللّه سبحانه و تعالى، و حثّ على الوفاء بعهده، و تذكير لهم بما أنعم اللّه تعالى على المؤمنين من الفيوضات العليّة و المواهب الجميلة و الدخول في الإسلام الذي جمعهم بعد أن كانوا متباغضين متفرّقين، و أرشدهم إلى الكمالات و المعارف الواقعيّة بعد أن كانوا في جاهلية عمياء، مع أنّ حالهم في الإسلام من حيث أمنهم و غناهم، و صفاء قلوبهم، و خلوص نياتهم، و طهارة أعمالهم معروف لا يمكن إنكاره، و تبيّن هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: 103].
فيكون المراد بالنعمة في المقام تفضيلهم على سائر الناس بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم، و أنزل عليهم الكتاب الذي اشتمل على جميع المعارف الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة الذي فيه تفصيل كلّ شي‏ء، و شرع الأحكام و التشريعات التي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و تزكيتها، و يجمع الكلّ الإسلام الذي ارتضاه اللّه تعالى دينا لهم و منهاجا، و لعلّ في الآية الشريفة الإشارة إلى ما ذكر في أوائل هذه السورة في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ.
الميثاق هو العهد المؤكّد، و تذكيرهم بالميثاق لأجل دوام الطاعة و حثّهم على‏ العمل بما أخذ عليهم من الميثاق، و المراد به تلك العهود و الأحكام التي أنزلها اللّه تعالى عليهم و أخذ منهم العهد بالعمل بها، و الدخول في ولاية اللّه تعالى التي تستلزم قبول ولاية رسوله الكريم و من نصبه صلّى اللّه عليه و آله وليا على المؤمنين.
قوله تعالى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا.
بيان لقوله تعالى: واثَقَكُمْ بِهِ و تذكير لهم بوجوب مراعاته بعد التزامهم بالسمع و الطاعة و المحافظة عليه، فقد أعطوا السمع و الطاعة للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بأن يطيعوا اللّه تعالى في تعليماته و توجيهاته، منها تلك التي يتعلّق بالطهارات الثلاث، و تحريم المحرّمات، و الدخول في ولاية اللّه تعالى و الرسول و المؤمنين.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ.
تأكيد آخر على المحافظة على عهود اللّه تعالى و مراعاة أحكامه المقدّسة، فلا يكونوا كالذين أخذ اللّه منهم الميثاق فنسوا حظا ممّا ذكروا به، و قد حرّفوا الكلم عن مواضعه، و نقضوا حدود اللّه بالزيادة و النقصان فيها، كما حكي عنهم عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
تحذير لهم في نسيان نعمه، و نقض مواثيقه، و ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخيانة و السوء، فإنّ اللّه تعالى عالم بخفايا القلوب و ما تضمره النفوس، و لعلّ الأمر بالتقوى في آخر الآيات المتقدّمة، لأنّها روح تلك التشريعات، و بها تتّصف بالخلوص، و يسلم العمل عن كلّ نقص و عيب.

اختلف العلماء في إعراب الآية الشريفة اختلافا كبيرا، و قد ذكرنا شطرا منه في التفسير، و نذكر الشطر الآخر في هذا البحث.
قال بعض العلماء: إنّ الوجه مشتقّ من المواجهة، و اشتقاق الثلاثي من المزيد إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه شائع، بل قال بعضهم: إنّ ما ذكر من منع الثلاثي من المزيد إنّما هو في الاشتقاق الصغير، و أما في الاشتقاق الكبير الذي يكون بين كلمتين بينهما تناسب في اللفظ و المعنى، فهو جائز.
ثمّ إنّهم اختلفوا في معنى (إلى) في قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ، فقيل: إنّها بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى‏ قُوَّتِكُمْ [سورة هود، الآية: ٥۲]، و قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ* [سورة آل عمران، الآية: ٥۲]، و قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ [سورة النساء، الآية: 2].
و يردّ عليه: أنّه لا إشكال في مجي‏ء (إلى) بمعنى (مع)، إلّا أنّ الآية المباركة كما تحتملها تحتمل أن تكون بمعنى (من)، كما ذكره بعض أعاظم النحويين كابن هشام في المغني و غيره، مستشهدين بقول الشاعر:
تقول و قد عاليت بالكور فوقها أ يسقى فلا يروى إليّ ابن احمرا

أراد منّي. و نحن في غنى عن هذا الخلاف، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على تحديد المغسول كما ذكرنا في التفسير، فتكون (إلى) بمعناها الحقيقي و هو الانتهاء، و مجيئها بمعان اخرى في غير المقام لا يصير دليلا على كونها في المقام كذلك، لا سيما أنّ بعض الآيات التي استشهد بها في إثبات المطلوب إنّما كان لأجل قرائن خاصّة حفّت بها، مثلا فقد ضمن الأكل في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ معنى يتعدّى بهذا الحرف (إلى)، كالضمّ و نحوه.
و القول بأنّ الباء في قوله تعالى: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ زائدة، باطل، لأنّه خلاف الأصل، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم، فهي بمعنى التبعيض، كما دلّت عليه الاستعمالات الفصيحة، و انشد ابن مالك:
شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت متى لجج خضر لهن نتيج‏

و أما قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ، فقد عرفت الخلاف العظيم في إعرابه و ذكرنا الحقّ في التفسير، و نزيد هنا أنّ مجال النحو واسع، و العمدة هو الرجوع إلى العرف و الأذهان المستقيمة و كلمات الفصحاء في استفادة الظاهر من الكلام و تعيين المراد منه، كما عرفت آنفا.
ثمّ إنّه يستفاد من تغيير الأداة في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً مع أنّ الآية الشريفة تصدّرت بكلمة (إذا)، اهتماما بأمر الصلاة و التأكيد عليها، و أنّ (إذا) تدلّ على ما هو متيقن الوقوع، تنبيها على أنّ المؤمن لا يكفّ عن إقامة الصلاة و لا يتركها بحال.
مع أنّ الاختلاف يرشد إلى أنّ مدخول (إذا) كثير الابتلاء، بخلاف (ان) التي تدلّ على أنّ مدخولها نادر و قليل الحدوث.
و قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في أعلى مراتب الفصاحة و البلاغة، حيث يدلّ على نفي الفعل بنفي الإرادة. و قيل: إنّ هذا الأسلوب من مختصّات الكتاب العزيز. و اختلف النحاة في اللام، فقيل: إنّها زائدة لتأكيد المفعول. و قيل: إنّ المفعول مقدّر و اللام للتعليل. و الحقّ هو الثاني، كما عرفت من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

الآيتان الشريفتان من أعظم الآيات القرآنيّة التي تبيّن أحكام الطهارات الثلاث التي يشترط بها أهمّ العبادات في الإسلام، و هي الصلاة التي تعتبر عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها و إن ردّت ردّ ما سواها.
و قد بيّن عزّ و جلّ في هاتين الآيتين المباركتين جمع ما يتطلّبه هذا الحكم الإلهي، فذكر تعالى واجباته، و شروطه، و آدابه، و الضمان على تنفيذه، و يستفاد من الآية الكريمة أنّ هذا الحكم ممّا أخذ عزّ و جلّ عليه الميثاق، لبيان أهميته، و لعلّ السرّ في ذلك علمه عزّ و جلّ بتهاون جمع كبير به، و اختلاف الامّة فيه مع علمهم بأنّ له شأنا كبيرا في تطهير النفوس و تزكيتها و توقّف امور كثيرة عليه.
و يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل‏:
يستفاد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا اشتراط الصلاة بالطهارة، إما أنّها واجبة لنفسها، أو واجبة للغير، قيل: بالثاني، لدلالة الفاء على الترتيب، كما يشهد بها العرف و التبادر. و قيل بالأوّل، كما تدلّ عليه ذيل الآية المباركة وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ و يشهد له بعض الأحاديث، و الفاء إنّما تدلّ على الترتيب لو لم تكن في البين قرينة على الخلاف كما في المقام، بل يمكن أن يقال: إنّ الفاء إنّما استفيد منها الفرعيّة في المقام كما هو واضح، أما كون الطهارة واجبة بالوجوب النفسي أو الغيري، فلا يمكن أن تستفاد من الآية الكريمة لوحدها، إلّا مع انضمام القرائن الخارجيّة التي تدلّ على الثاني، كما هو الحقّ، و المسألة محرّرة في الكتب الاصوليّة و الفقهيّة.
الثاني‏:
يدلّ قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ على لزوم النيّة، فإنّ الفعل الاختياري، لا يقع من الفاعل بدونها، هذا إذا لم نقل بأنّ المراد من (إذا قمتم) أردتم و قصدتم، و إلّا فالدلالة أوضح و تدلّ عليه جملة كثيرة من الروايات، و في الحديث‏ المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات».
الثالث‏:
يستفاد من أسلوب الآية الشريفة الترتيب- في واجبات الوضوء و التيمّم- و الموالاة بينها، فيجب غسل الوجه ثمّ اليدين، ثمّ مسح الرأس، ثمّ مسح الرجلين تسبقها النيّة، و لعلّ ما ورد في الأخبار: «ابدءوا بما بدأ اللّه»، مأخوذ من مثل هذه الآيات الشريفة، و تدلّ عليها روايات متعدّدة.
و قد يستدلّ على الترتيب بالواو التي تفيد الترتيب، كما صرّح به بعض أعاظم النحويين. و لكنّه مشكل، فإنّها حقيقة في مطلق الجمع، و أما الترتيب فهو يستفاد من القرائن.
و كيف كان، فإنّ سياق الآية المباركة بل ظاهرها الذي هو الترتيب فهو يستفاد من في مقام البيان، يفيد ما تقدّم.
الرابع‏:
يستفاد من ظاهر قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، أنّ التيمّم مساوق للوضوء و الغسل، فيباح به كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، فيجوز أن يصلّي بتيمم واحد صلوات متعدّدة، أو يمسّ كتابة القرآن كذلك إذا كان العذر باقيا، و لا يجب عليه الإعادة مطلقا بعد رفع العذر.
الخامس‏:
يستفاد من قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت باليسر في أحكام الدين، لا سيما في أحكام الطهارات الثلاث و نبذ المشقّة فيها، و لعلّ ذكره في المقام عقيب الطهارات الثلاث، لشدّة ابتلاء المكلّفين بها، و لعلمه تعالى بما يلاقونه من المصاعب و المتاعب و وسوسة الشيطان لهم، خصوصا للفاقدين من المعرفة لأحكام الدين.
السادس‏:
يستفاد من قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، أنّ أحكام اللّه تعالى الفرعيّة هي من نعمه عزّ و جلّ التي أتمّها على عباده المؤمنين و أحكمها عليهم، و يجب عليهم شكرها بالتذكير و دوام الطاعة، لا سيما بعد أن أخذ اللّه تعالى عليهم الميثاق بالسمع و الطاعة، فاجتمع داعي العقل و داعي الشرع في الوفاء بعهود اللّه تعالى.
و لا يخفى أنّ قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إشارة إلى ما ذكره عزّ و جلّ في أوّل هذه السورة من الوفاء بالعهود، فيكون المقام قرينة اخرى على أنّ المراد من العقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هو العهود.
السابع‏:
يستفاد من إطلاق الآية الشريفة كفاية الغسلة الواحدة، و مسمّى المسح في الوضوء و التيمّم.
و ذكر بعض المفسّرين أنّ إطلاق قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا يدلّ على وجوب غسل جملة البدن كلّه من دون استثناء، فيدخل فيه كلّ ما يمكن إيصال الماء إليه، إلّا ما خرج بالدليل- كبواطن العين و الاذن و الأنف و الفم- فإنّه عزّ و جلّ لم يقيّد أن تكون الطهارة ببعضه.
و الحقّ: أنّ الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل إنّ إطلاقها يدلّ على كفاية مسمّى التطهير و لو لم يستوعب جميع البدن كلّه، و إنّ الاستيعاب قيد مشكوك و كلفة تنفى بالأصل. إلّا أنّ السنّة الشريفة البيانيّة منها و غيرها بيّنت الاستيعاب في الغسل و ذكرت خصوصياته بأتمّ وجه و أكمل بيان، فلا مجال حينئذ للأصل.
نعم، لو فرضنا الشكّ في تحقّق الاستيعاب، فمقتضى الأصل بقاء الجنابة، إلّا إذا حصل الاستيعاب، و يكفي مسمّاه.
الثامن‏:
إطلاق قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يشمل جميع أنواع الطهارة و أقسامها من طهارة الباطن و الظاهر، ففي الحديث عن الكاظم عليه السّلام: «من توضّأ للمغرب، كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في النهار، و من توضّأ لصلاة الصبح، كان ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليله»، و قريب منه غيره.
و ذكر بعضهم أنّ الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل، و طهارة الذكر من النسيان، و طهارة اليقين من الشكّ، و طهارة العقل من الحمق، و طهارة الظنّ من التهمة، و طهارة الإيمان بما دونه، و طهارة القلب من الإرادات. و إسباغ طهارة الظاهر يورث طهارة الباطن، و إنّ إتمام الصلاة يورث الفهم و اليقين و القرب لديه عزّ و جلّ.

عن الشيخ بإسناده عن ابن بكير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ما يعني بذلك؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع و لا يسمع الصوت».
أقول: يستفاد من هذه الصحيحة امور:
الأوّل: أنّ النوم ناقض للوضوء و رافع للطهارة، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة ذكرها المحدّثون في كتبهم و استقر عليه المذهب، فما عن صاحب المنار في تفسيره من أنّ الشيعة ذهبوا إلى عدم نقض النوم للوضوء، مجرّد افتراء، و كم لهم من هذه الافتراءات على هذه الطائفة التي تلقّت أحكامها من عين صافية مرتبطة أشدّ الارتباط بالمبدأ جلّ شأنه، لا من الأمور الوهميّة الظنيّة. و كيف كان غفر اللّه تعالى لنا و له.
الثاني: أنّ المدار على تحقّق النوم لا مقدّماته، و يعرف ذلك بعلامات أقواها الغلبة على السمع، لأنّ حاسة السمع من أدقّ الحواس، فإذا فقدت ذهبت البقيّة غالبا، و في بعض الروايات: «فإن حرّك في جنبه شي‏ء و هو لا يعلم، أي: لا يسمع»، و لعلّ ما ورد في تلقين المحتضر أن يدنو الملقّن فمه إلى اذنه أو يجعله على اذنه، لأجل هذه الجهة، لضعف سمعه في تلك الحالة، أعاننا اللّه تعالى في تلك الشدّة.
إن قلت: إنّ الواقع خلاف ذلك، فقد يكون حسّ اللمس أقوى، إذ النائم يحرّكه و خز الإبرة مثلا أو و خز الهوام، مع أنّه لا يسمع صوت من بجنبه.
قلت: على فرض الكلّية في ذلك لا ينافي ما تقدّم، لأنّ الصوت و الوخز من الأمور التشكيكيّة، قابلة للشدّة و الضعف في الجسم السليم.
الثالث: أنّ النوم ناقض لمطلق الطهارة، سواء حصلت من الوضوء أو الغسل، مثل غسل الجنابة أو التيمّم.
الرابع: لا فرق في النوم بين ما حصل مقدّماته بالاختيار أو بغير الاختيار، بواسطة دواء- كما إذا شرب أو بلع من الأدوية العصريّة المنوّمة- أو تعب، كلّ ذلك لإطلاق ما تقدّم.
الخامس: أنّ المدار في عدم السماع النوع و الغالب، فلو كان شخص فاقد السمع لصمم أو غيره، يرجع فيه إلى العلامات الاخرى المقرّرة في الشرع، كالغلبة على البصر، أو عدم الإحساس مثلا، فإن حصل له الاطمئنان بالنوم بطلت طهارته، و إلّا فيرجع إلى الحالة السابقة.
و في الدر المنثور للسيوطي بإسناده عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: «انّ ذلك إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم».
أقول: القيام إذا تعدّى ب (إلى) يفيد العزم و الإرادة كما مرّ، و إذا تعدّى ب (من) يفيد الانتهاء، و الجامع فيه العزم، سواء أ كان بالشروع في الشي‏ء و الابتداء فيه، أم الفراغ و الانتهاء منه.
و عن الشيخ، عن المفيد، بإسناده عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ على الخفض أم على النصب؟ قال: بل هي على الخفض».
أقول: تقدّم أنّ الخفض هو الموافق للقواعد الأدبيّة.
و في سنن البيهقي بإسناده عن رفاعة بن رافع: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: للمسي‏ء صلاته: إنّها لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه، يغسل وجهه و يديه إلى المرفقين، و يمسح رأسه و رجليه إلى الكعبين».
أقول: الرواية ظاهرة بل ناصّة في مسح الرأس و الرجلين كما تقدّم في التفسير، و إنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يديه إلى المرفقين» قيد للمغسول لا للغسل، أي: أنّ اليد إلى المرفق تغسل، لا كلّها.
و عن البيهقي في السنن بإسناده عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه».
أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا، و إنّها مطابقة للمرتكز العرفي.
و في الكافي بإسناده عن الهيثم بن عروة التميمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فقلت: هكذا؟ و مسحت من ظهر كفّي إلى المرافق، فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنّما هي: (فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق)، فقام ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه».
أقول: فسّر الإمام عليه السّلام الآية المباركة قولا و فعلا، و المراد من التنزيل التفسير و نقل الآية الشريفة بالمعنى.
و عن ابن عباس: «الوضوء غسلتان و مسحتان».
أقول: ورد مثله عن أئمتنا عليهم السّلام، و هو يدلّ على مسح الرأس، كما يدلّ على مسح الرجلين.
و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قلت له: أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي له أن يتوضّأ، الذي قال اللّه عزّ و جلّ، فقال: الوجه الذي أمر اللّه بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه و لا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، و إن نقص منه أتمّ ما دارت عليه السبابة و الوسطى و الإبهام من قصاص الرأس إلى الذقن، و ما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه، و ما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت: الصدغ من الوجه؟ قال: لا».
أقول: ما ورد في الرواية من باب التحديد الشرعي، و الإتيان لأجل المقدّمة العلميّة، و الاحتياط لا بأس به في الزيادة، و أما النقيصة فيأثم لعدم إتيان المأمور به، و الصدغ بضمّ الأوّل ما بين العين و الاذن.
و في الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أخبرني عن حدّ الوجه، أ رأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء».
أقول: طلب ما تحت الشعر بإجراء الماء عليه نحو حرج، و الآية الشريفة و الرواية تنفيانه.
و في الكافي بإسناده عن زرارة و بكير: «أنّهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فافرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرافق، ثمّ غمس كفّه اليمنى ففرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق و صنع ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه، لا يحدث لهما ماء جديدا، قال: و لا يدخل أصابعه تحت الشراك، ثمّ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلّا غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلّا غسله، لأنّ اللّه يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ، ثمّ قال: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فإذا مسح بشي‏ء من رأسه أو بشي‏ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه، فقلنا: أين الكعبان؟ قال: هنا، يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق و الكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك اللّه و الغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذراع؟
قال: نعم إذا بالغت فيها و اثنتان يأتيان على ذلك كلّه».
أقول: التور إناء صغير يجعل فيه الماء، و هذه الصحيحة من امّهات الروايات البيانيّة التي تبيّن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تشرحه شرحا وافيا غير قابل للشكّ فيه، و قد تمسّك الفقهاء بها في باب الوضوء لنفي الشرط أو الجزء المشكوكين، و قد جمع فيها الإمام عليه السّلام الفرض و السنّة و تعيين السنّة لا تكون إلّا بروايات اخرى.
و يستفاد من هذه الصحيحة و أمثالها أنّ الوضوء- الذي هو شرط لصحّة طبيعة الصلاة التي هي عمود الدين- في غاية اليسر، لعموم الابتلاء به، و لم يكن‏ فيه أي تعقيد و تضييق، و لعلّه لأجل ذلك ختمت الآية المباركة بنفي الضيق و الحرج.
و في الكافي بإسناده عن حريز، عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال: يا زرارة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نزل به الكتاب عن اللّه تعالى، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فعرفنا حين قال: برؤسكم، أنّ المسح ببعض الرأس، لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس- كما وصل بالوجه- فقال: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس فضيعوه، ثمّ قال: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ، فلما وضع الوضوء إن لم تجدوا ماء، أثبت بعض الغسل مسحا، لأنّه قال: بِوُجُوهِكُمْ ثمّ وصل بها وَ أَيْدِيَكُمْ، ثمّ قال: مِنْهُ، أي: من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ و لا يعلق ببعضها ثمّ قال: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».
أقول: سؤال زرارة- مع جلالة قدره، و أنّه من أجّلاء الأصحاب و أكابر الرواة، و به و بأمثاله حفظ اللّه الحقّ، و لو لا هم لاندرست معالم الدين و أطفئت أنوار اليقين- لا موضوع له بعد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و لعلّ ضحكه عليه السّلام تلويح إلى ذلك. و كيف كان فالإمام عليه السّلام استدلّ بالكتاب لجميع أجزاء الوضوء و التيمّم استدلالا وافيا غير قابل للشكّ.
و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السّلام قال: «الأذنان ليسا من الوجه و لا من الرأس، قال: و ذكر المسح فقال: امسح على مقدّم رأسك و امسح على القدمين و ابدأه بالشقّ الأيمن».
أقول: الأذنان من الرأس في الإحرام، و أما في الوضوء فليستا من الرأس، بل هو منبت الشعر فقط و هو مع الأذنين رأس الصائم، و في الغسل مع الرقبة، كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ، و إلّا فمقتضى اللغة لا تكونان منه، و كذلك أنّهما ليستا، من الوجه فلا يجب غسلهما و لا مسحهما، و ذيل الرواية يدلّ على الترتيب مقدّما الرجل اليمنى على اليسرى.
و في تفسير العياشي عن زرارة بن أعين و أبي حنيفة، عن أبي بكر ابن حرم قال: «توضّأ رجل فمسح على خفّيه فدخل المسجد، فصلّى، فجاء علي عليه السّلام فوطئ على رقبته فقال: ويلك تصلّي على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطاب، فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال: انظر ما يروي هذا عليك؟ و رفع صوته فقال: نعم أنا أمرته أنّ رسول اللّه مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي و أنت لا تدري؟ سبق الكتاب الخفّين».
أقول: يعتبر في المسح المماسة، و لا يجوز المسح على الحائل، خفّا كان أو غيره، و الظاهر من هذه الرواية أنّ المسح على الخفّين شاع في عصر الخليفة الثاني، و بعد نزول آية الوضوء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه لم يمسح على الخفّين أصلا، بل و قبله أيضا، و ذلك متّفق عليه، و لأجل ذلك كان المسح على الخفّين في زمن عمر محلّ خلاف شديد بين المسلمين، و الشاهد على ذلك ما رواه الكافي بإسناده الصحيح عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: في المسح على الخفّين تقيّة؟
فقال عليه السّلام: ثلاث لا أتقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر، و المسح على الخفّين، و متعة الحجّ»، فيستفاد منها أنّ استنكار المسح على الخفّين ممّا ذهب إليه أغلب المسلمين في زمن الخليفة الثاني كاستنكار شرب المسكر، فلا مجال للتقيّة فيهما، كما لا مجال لها في متعة الحجّ.
و من هنا لو استلزم المسح على الخفّين في مورد قتل نفس محترمة أو إهانتها أو غيرهما، تجري التقيّة بلا شكّ، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ.
و ما قيل: إنّه ورد عن طرق العامّة أن جمعا: كبراء و بلال، و حرير، و غيرهم- رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين.
مردود، أمّا أولا: فإنّه تنافيه الروايات البيانيّة التي صدرت عن المعصومين عليهم السّلام كما تقدّم بعضها، بل و غيرها كما ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور و غيره.
و ثانيا: محمول على مورد خاصّ و فرد نادر لأجل مصالح خاصّة مسح على الخفّين، فانتهى أمد الحكم برفعها.
و كيف كان، فإنّه بعد نزول الآية المباركة لا يبقى مجالا للمسح على الخفّين، لأنّها تثبت المسح إلى الكعبين، و الخفّ ليس من القدم بالوجدان، فاستنكار علي عليه السّلام في محلّه.
و في تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام أنّ عليا عليه السّلام خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطاب، قالوا: رأينا النبي صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين. فقال على عليه السّلام: قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: و لكن أدري أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة، و لأنّ أمسح على ظهر حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين، و تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله تعالى- وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».
أقول: الرواية تدلّ على ما تقدّم، و التنزيل إنّما هو في عدم الأثر.
و فيه أيضا عن محمد بن أحمد الخراساني قال: «أتي أمير المؤمنين عليه السّلام رجل فسأله عن المسح على الخفّين، فأطرق في الأرض مليا ثمّ رجع رأسه فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أمر عباده بالطهارة و قسّمها على الجوارح، فجعل للوجه منه نصيبا، و جعل للرأس منه نصيبا، و جعل للرجلين منه نصيبا، و جعل لليدين منه نصيبا، فإن كانتا خفّاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما».
أقول: استدلاله عليه السّلام بالآية المباركة لنفي المسح على الخفّين كان استدلالا وافيا غير قابل للخدشة، و منه يظهر عدم جواز المسح على العمامة أو الخمار و الحذاء.
و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت: يمسح الرأس؟ قال: إنّ اللّه يقول: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فما مسحت من رأسك فهو كذا. و لو قال: (امسحوا رؤوسكم) فكان عليك المسح كلّه».
أقول: تقدّم ما يدلّ على ذلك، فإنّ التبعيض ظاهر من الآية الشريفة.
و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن التيمّم فقال: إنّ عمّار بن ياسر أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: أجنبت و ليس معي ماء؟ فقال: كيف صنعت يا عمّار؟ فقال: نزعت ثيابي ثمّ تمعكت على الصعيد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ، ثمّ وضع يديه جميعا على الصعيد ثمّ مسحهما ثمّ مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه ثمّ ذلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكفّ، بدأ باليمين».
أقول: هذه الرواية من الروايات البيانيّة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بيّن كيفيّة التيمّم.
و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».
أقول: الآية المباركة و السنّة الشريفة هما من أدلّة «قاعدة نفي الحرج»، التي يأتي البحث عنها.
و في الأسماء و الصفات للبيهقي بإسناده عن معاذ بن جبل قال: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك الصبر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سألت البلاء فاسأله المعافاة. و مرّ على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك تمام‏ النعمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن آدم هل تدري ما تمام النعمة؟ قال: يا رسول اللّه دعوت بها رجاء الخير. قال صلّى اللّه عليه و آله: تمام النعمة دخول الجنّة و الفوز بالنجاة من النار. و مرّ على رجل و هو يقول: يا ذا الجلال و الإكرام. قال صلّى اللّه عليه و آله: قد استجيب لك فسل».
أقول: عن بعض مشايخي في العرفان: أنّ ذكر «يا ذا الجلال و الإكرام» له آثار كثيرة، منها كشف المهمّات، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اشتدّ عليكم البلاء فلوذوا بيا ذا الجلال و الإكرام»، و قد ورد هذا الذكر المبارك في كثير من الدعوات المأثورة عن أئمتنا المعصومين عليهم السّلام.
و في تفسير علي بن إبراهيم قال: «لما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية قالوا: سمعنا و أطعنا، نقضوا ميثاقه».
أقول: الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها، و يناسب ذلك الربط بين الآيات المباركة.
و عن الطبرسي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام: «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات، و كيفيّة الطهارة، و فرض الولاية».
أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و أنه تابع لمتعلّقه.
و في الكافي باسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، قال: هو الجماع، و لكنّ اللّه ستير يحبّ الستر فلم يسم كما تسمّون».
أقول: من أدبه سبحانه و تعالى أن يكنّى عن مطلق ما يستقبح ذكره، لأنّه تعالى حيي و يحبّ الحياء.
و في الدر المنثور عن ابن عباس: «انّه كان يطوف بالبيت بعد ما ذهب بصره و سمع قوما يذكرون المجامعة، و الملامسة، و الرفث و لا يدرون معناه واحد أم شتى؟
فقال: اللّه أنزل القرآن بلغة كلّ حي من أحياء العرب، فما كان منه لا يستحي الناس من ذكره فقد عناه، و ما كان منه يستحي الناس فقد كنّاه، و العرب يعرفون‏ معناه لأنّ المجامعة، و الملامسة، و الرفث- و وضع إصبعيه في أذنيه ثمّ قال: ألا هو النيك».
أقول: لعلّ وضع حبر الامّة إصبعيه في أذنيه مع أنّه يعلم شرف المكان و قداسته، و ما عرض عليه من الانقطاع إليه جلّ شأنه بذهاب بصره كما هو الغالب، لأجل إعلامهم و تفهيمهم معاني الكلمات بتصريح يصحّ ذكره، و اللّه العالم.

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام و القواعد التالية:
الأوّل: شرطية الطهارة للصلاة، و بطلانها بلا طهارة. و هذا الشرط واقعيّ لها لا علميّ بالأدلّة الثلاثة، فمن الكتاب الآية المباركة كما عرفت، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى‏ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: 43].
و يمكن تأسيس قاعدة كلّية، و هي: «أنّ كلّ شرط ورد في الكتاب الكريم واقعيّ، إلّا إذا دلّ دليل معتبر على أنّه علميّ»، كالطهارة و الاستقبال في الصلاة، و الرضاء في التجارات، و شرائط الإرث مطلقا و غيرها، و ما خرج بالدليل كالتسميّة في الذبيحة، و سيأتي الاستدلال على هذه القاعدة و الاستثناء عنها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
و من السنّة روايات كثيرة بلغت التواتر، ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا صلاة إلّا بطهور»، و عن علي عليه السّلام في المعتبرة: «افتتاح الصلاة الوضوء»، و في الصحيح أيضا عن الصادق عليه السّلام: «الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود»، و غيرها من الروايات التي يستفاد منها أنّ الطهارة شرط واقعي‏ للصلاة، فإذا انتفت انتفى المشروط.
و من الإجماع ما هو ضروري بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، بل و آرائهم المتشتّتة.
و ممّا ذكرنا يمكن استفادة قاعدة كلّية، و هي: «كلّ صلاة لا تصحّ إلّا مع الطهارة»، عدا صلاة الميت و فاقد الطهورين.
و لا فرق في الطهارة المبيحة للصلاة بين مناشئها كالوضوء و التيمّم- إن حصل مسوّغاته- و غسل الجنابة لا مطلق الغسل المندوب و غيره، على ما ذهب إليه المشهور، و من فقهائنا (رضوان اللّه عليهم أجمعين) و هو المؤيّد المنصور.
الثاني: يستفاد من الآية المباركة اعتبار النيّة في الوضوء، و الصلاة، لقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ، و قوله تعالى: فَاغْسِلُوا، و قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا، و غيرها من الأفعال المتقوّمة بالقصد و الإرادة، فلا تصحّ طهارة الساهي و صلاته، و كذا الغافل، بل كلّ صلاة فاقدة للنيّة، أو كلّ عبادة إذا لم يتحقّق فيها النيّة و قصد التقرّب إليه تعالى، محكومة بالفساد.
الثالث: كفاية وضوء واحد- أو طهارة واحدة- لصلوات متعدّدة أو كلّ ما يشترط فيه الطهارة، و كذا غسل واحد و إن تعدّدت الأسباب، كتعدّد الجماع و غيره، لإطلاق الآية الشريفة و كثير من الروايات، و نصوص خاصّة، منها:
قوله عليه السّلام: «إذا اجتمع عليك من اللّه حقوق، يكفيك غسل واحد»، و يعبّر عن ذلك بقاعدة: «التداخل»، و هي و إن كانت خلاف الأصل، و لكنّها في الطهارات متّفق عليها، لما تقدّم، و التعدّي عنها يحتاج إلى دليل.
ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة تعميم الحكم لمطلق المكلّفين- المحدثين و غيرهم- أي: كلّ من قام إلى الصلاة، و لكن خصّ ذلك بالمحدثين، لما تقدّم من الروايات. نعم ورد في بعض الروايات: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، الظاهر منه الاستحباب، فإنّ في كلّ وضوء تقرّبا إليه تعالى، و لا يجري ذلك في غيره من ذوات الأسباب، كغسل الجنابة و غيرها، فتأمّل و اللّه العالم.
الرابع: مقتضى الأصل في الطهارات الغسل بالماء مع الشرائط، إلّا ما دلّ دليل على بدليّة التراب، حدثا كان أو خبثا، و مستند هذا الأصل الآية الشريفة، و السنن المعصوميّة، و سيأتي في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ما يتعلّق به.
الخامس: يستفاد من هذه الآية الكريمة و غيرها من آيات الأحكام قاعدة كلّية، و هي: «إتيان المكلّف العمل العباديّ مباشرة مع تمكّنه، إلّا ما خرج بالدليل»، و يدلّ عليها قوله تعالى: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، و من السنّة الشريفة روايات مذكورة في الأبواب المتفرّقة.
و يمكن إقامة الدليل العقليّ عليها، فإنّ التكليف- أو المسؤولية المتوجّهة إلى الشخص- لا يسقط إلّا بقيامه بالعمل بنفسه، و لو أتى به غيره فمقتضى الأصل بقائه و عدم سقوطه، و الفطرة المستقيمة تدلّ على ذلك أيضا. و أما الاستعانة في مقدّمات العمل العباديّ كصبّ الماء في الغسل، فيجوز- حتّى ورد ذلك في غسل الميت- و لكن في خصوص الوضوء تكره فيه، للنصّ المحمول عليها.
السادس: ظاهر الآية الشريفة يدلّ على إيصال الماء إلى جميع محال الوضوء أو الغسل برفع الموانع عنها، لأنّ التعبير فيها بالغسل دون الصبّ أو الجري، و لعلّ ما ورد في السنّة من وجوب إيصال الماء إلى جميع محالّ الوضوء أو الغسل، مأخوذ من الآية المباركة. نعم هناك موارد خاصّة لا يضرّ الحجب، لأدلّة خاصّة مذكورة في الفقه يعبّر عنها بالجبيرة.
كما أنّ المستفاد من إطلاق المسح في الآية المباركة بالرأس و الرجل، المسح على بعضهما، لمكان الباء، و جواز النكس في مسح الرأس، بل إطلاقها يدلّ على جواز المسح بماء مستأنف و مطلق الرطوبة، كما في التيمّم، حيث لا حاجة فيه إلى العلوق- إلّا أنّ الروايات البيانيّة و غيرها قيّدت ذلك ببقيّة بلل الكفّ من الوضوء.
السابع: الآية المباركة تدلّ على وجوب الترتيب بالنيّة مقارنا لغسل الوجه‏ ثمّ اليد اليمنى و بعده اليسرى ثمّ مسح الرأس، و ينتهي الوضوء بمسح القدمين، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ابدءوا بما بدأ اللّه به».
كما يستفاد منها الموالاة، لأنّ الأمر- الوارد في أعمال الوضوء المذكورة فيها بقرينة قول الصادق عليه السّلام في صحيحة الحلبي: «اتبع وضوءك بعضه بعضا»، و للروايات البيانيّة و الإجماع- للفور، و ذكرنا معنى الموالاة في كتابنا (مهذب الأحكام) في باب الوضوء.
الثامن: إطلاق الآية الكريمة يقتضي كفاية مرّة واحدة في الوجه أو اليدين، و أنّ الغسلة الثانية مستحبّة، لأجل روايات خاصّة، و في المسح يكفي مرّة، لظاهر الآية المباركة.
التاسع: ذكر سبحانه و تعالى في الآية المباركة أصحاب الأعذار في استعمال الماء، فمنها: المرض، و إطلاقه يشمل جميع أقسامه و أنواعه، بلا فرق بين أن يحصل باستعمال الماء، أو كان حاصلا و يتأخّر البرأ منه باستعماله، فالمدار كلّه المرض الذي يضرّه استعماله الماء، إما بالوجدان أو بإخبار أهل الخبرة. نعم لو كان المرض لا يضرّه الماء، كوجع الاذن مثلا، أو الأمراض الباطنيّة التي ظهرت في هذه الأعصار، كمرض ضغط الدم، أو بعض أقسام الصداع، فحينئذ يجب الوضوء بلا شكّ.
و منها: السفر كما هو الغالب خصوصا في البراري و الصحاري، و يدلّ على ذلك تنكير (سفر).
و منها: مطلق الحدث الأصغر، سواء كان المحدث مسافرا أو مريضا أو صحيحا في بلده و لكن يعجزه تحصيل الماء.
و منها: ما يوجب الغسل بالجماع أو الاحتلام، و الآية الشريفة ذكرت الفرد الغالب أو الأكثر من محلّ الابتلاء بالكناية كما تقدّم.
فهذه اصول الأعذار و ما سواها يرجع إليها كما هو واضح.
العاشر: يستفاد من الآية المباركة الواردة في التيمّم الأحكام التالية:
الأوّل: عدم وجود الماء الأعمّ من عدم الوجدان، أو عدم التمكّن من استعماله، سواء لم يجد ما يكفيه للطهارة، أو وجد ما يكفيه لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم العدم، لأنّ المراد من قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا لتحصيل الطهارة المبيحة لما هو مشروط بها.
الثاني: القصد مقارنا لضرب اليدين على الأرض، لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا.
الثالث: أن يكون التيمّم بمسمّى الأرض- سواء كان ترابا أم صخرا أو مدرا أم حصى- لإطلاق الصعيد الوارد في الآية الكريمة.
الرابع: أن يكون طاهرا و غير مغصوب، لإطلاق قوله تعالى: طَيِّباً.
الخامس: أن يكون المسح بباطن الكفّ، لقوله تعالى: فَامْسَحُوا، فإنّ المتبادر من المسح لغة و عرفا إمرار باطن الكفّ على الممسوح، إلّا أن تكون قرينة على الخلاف أو مانع شرعيّ فيه.
السادس: مقتضى إطلاق الآية الشريفة كفاية وضع اليدين معا على ما يصحّ به التيمّم، إلّا أنّ الوارد في السنّة المباركة (الضرب)، و هو الوضع المشتمل على الاعتماد، لا مجرّد الوضع، لصحيحتي الكاهلي و زرارة المذكورتين في الفقه.
و لا يشترط العلوق باليد، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة.
السابع: مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين و إلى الطرف الأعلى المتصل بالجبهة، لأنّه القدر المتيقّن من التبعيض الوارد في الآية الشريفة، مضافا إلى الروايات البيانيّة و غيرها.
الثامن: أن يكون المسح بباطن كلّ من كفّيه معا، لظاهر الآية الشريفة و ما ورد من الروايات. نعم لا يجب المسح بتمام كلّ من الكفّين، و يكفي المسح ببعضهما على نحو يستوعب الجبهة و الجبينين.
كما يكفي الضربة الواحدة فيه، لظاهر الآية الشريفة، سواء كان بدلا عن‏ الوضوء أم الغسل، و لكن المسألة محلّ خلاف، و لا مبرّر لذكره هنا، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).
التاسع: مسح ظاهر الكفّين، و حدّهما الزندان، لظاهر الآية الشريفة و الروايات البيانيّة و غيرها.
العاشر: الترتيب- بأن يضرب على الأرض بعد النيّة، ثمّ يمسح الوجه، ثمّ ظاهر اليمنى باليسرى ثم ظاهر اليسرى باليمنى- و الموالاة، لظاهر الآية الشريفة بإعانة الروايات التي سبقت للبيان، و ذكرنا ما يتعلّق بمعنى الموالاة في الوضوء و التيمّم في الفقه.
الحادي عشر: أنّ الضرب للتيمم واحد في جميع الأغسال، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة في بيانه.
الثاني عشر: ظاهر الآية الشريفة أنّه يباح بالتيمم كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، لمساوقته لما قبله، فيجوز أن يصلّي بتيمّم واحد صلوات متعدّدة، و لا يجب عليه الإعادة بعد المكنة من الماء، و يتعقّب المقام فروع كثيرة ذكرناها في الفقه. كما أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التيمّم أيضا، لما تقدّم.
الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، على قاعدة عامّة تجري في جميع أبواب الفقه، و هي: «قاعدة نفي الحرج»، و أنّها من امّهات القواعد الفقهيّة، و تختصّ بالأحكام الفرعيّة الإلزاميّة، كما هو شأن كلّ قاعدة فقهيّة، و مقتضاها سقوط الحكم الحرجيّ إن لم يكن له بديل لا حرج فيه، و إلّا ينتقل الحكم إليه.
و المراد من الحرج عدم الطاقة و الشدّة في امتثال الحكم أو إتيان التكليف من ناحية المكلّف، و أما لو كان التكليف في حدّ نفسه حرجيّا بحسب الظاهر- كالجهاد، و الحجّ، و أداء الحقوق الشرعيّة، و الصوم- فلا تشمله القاعدة أصلا، لأنّ التشريع كذلك، ففي الواقع لا حرج، فالأحكام تابعة للمصالح و المفاسد.
ثمّ إنّ الحرج المنفي فيها الحرج العرفيّ الشخصيّ، كما في المرض و الخوف‏ و غيرهما، لاختلاف النفوس و الاستعدادات حسب الأفراد، فإذا كان في امتثال الحكم حرج بحسب الأنظار العرفيّة و الأمزجة الخاصّة، يتبدّل الحكم أو يرتفع.
و مستند القاعدة الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و غيره كما يأتي.
و من السنّة روايات مختلفة مذكورة في أبواب متفرّقة، منها ما عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، كيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه السّلام: تعرف هذا و أشباهه في كتاب اللّه تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ».
و من الإجماع، فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.
و من العقل حكمه بقبح التكليف في مورد الضيق و الشدّة، و أنّ العسر على الإطلاق غير مرغوب فيه، و لعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت بالشريعة السمحاء السهلاء» في مقام الامتنان إشارة إلى ذلك.
و ممّا تقدّم ظهر أنّ استيعاب محال الوضوء بالتراب في التيمّم ليكون على نحو الطهارة المائيّة، حرج مرفوع لم يكلّف اللّه تعالى به العباد.
و هذه القاعدة لا تجري في حلّية المحرّمات، فمن كان في حرج من عدم الاغتياب أو التهمة أو الكذب، لا تحلّ له، للإجماع، و لأنّ مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص. و أنّها مقدّمة على جميع الأحكام و القواعد حتّى قاعدة: «لا ضرر».
و ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول) الفرق بين الضرر المرفوع في الشرع و الحرج، بأنّ الأوّل أعمّ من الثاني.
و قاعدة «لا حرج» كقاعدة «لا ضرر» ترخيصيّة امتنانيّة، لا أن تكون على نحو العزيمة، و تظهر الثمرة فيما لو ارتكب العمل مع الحرج بناء على الترخيص، يصحّ العمل دون العزيمة.
و دعوى: سقوط الأمر لأجل الحرج، فلا وجه لصحّة العلم العباديّ المتقوّم بقصد الأمر.
مدفوعة: بأنّ سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك، و مقتضى الأصل بقاؤه إلّا أن يدلّ دليل على سقوطه أيضا.
و الفرق بين الحرج و الضرر أنّ الأوّل أعمّ موردا من الثاني، لشموله للمشقّة التي لا تتحمّل عادة، و إن لم يكن نقص في البين، و قد ثبت في محلّه أنّ الأمور إما دون الطاقة، أو بقدرها، أو فوقها، و الأول مورد في جملة من الأخبار، و الثاني مورد الحرج، و الثالث مورد الضرر.
و نفي الحرج كنفي الضرر يحتاج إلى التقدير، و فيه أقوال ذكرناها في علم الأصول، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (تهذيب الأصول) و اللّه العالم.

الإنسان المتخلّق بأخلاق اللّه تعالى يكون مظهرا من صفات لطف الحقّ، و لذا يكون قبوله قبول الحقّ، و ردّه ردّ الحقّ، و لعنه لعن الحقّ، و يكون دعاؤه دعاء الحقّ و كذا صلاته، فإذا صلّوا على أحد كان صلاتهم صلاة الحقّ، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية: ۱٦۲]، و قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب، الآية: 43].
و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلّا بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيّا، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ: قالُوا بَلى‏ شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل- كما هو المصطلح عند العرفاء-.
و أهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا، فمرتبتهم و إن كانت راقية و لكنها دون مرتبة الصف الأوّل، كما هو واضح و هم الخواص.
و أهل الصف الثالث آمنوا بعد ما سمعوا الخطاب سماع فهم و رواية، و هم المرتبة النازلة عن المرتبتين، و هم المسلمون و عوام المؤمنين.
و أهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا، لأنّهم ما عاينوا، و لا شاهدوا، و لا سمعوا، فكانوا بعيدين عن خطاب الحقّ فلم يسمعوه، و إنّما انتظروا و لم يؤمنوا حتّى سمعوا جواب أهل الصفوف، و كان سماعهم سماع قهر و نكاية، و هم المنافقون المذنبون.
و أهل الصف الخامس و هم اعترفوا ثمّ أنكروا، لقربهم إلى الشيطان و بعدهم عن الرحمن، و هم الكافرون.
و أهل الصفوف آمنوا في ذلك العالم- بالعيان أو المشاهدة، أو السماع، أو التقليد- كذلك آمنوا في هذا العالم حسب ذلك الإيمان، كما سيأتي في قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى‏ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا.
و لعلّ المراد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ من نوم الغفلة، و خرجتم من ظلمات الجهالة، و انتبهتم من رقدة الفرقة و من عتاب الأحبّة، إِلَى الصَّلاةِ التي بها تصفي النفوس من لوث الأشباح، و هي المعراج للرجوع إلى مقام القرب، و إنّها أرق و أصفى من المناجاة مع الربّ:
و لقد خلوت مع الحبيب و بيننا سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى‏

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه، و قامت الملائكة يصلّون بصلاته»، فإذا تمّت‏ التصفية، و استخفّت الروح و رفع الحجاب، فحينئذ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ، و قبل ذلك كلّه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، التي توجّهتم بها إلى الأغيار و دنوتم بها إلى الشيطان، بماء التوبة و الاستغفار، وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ، فاغسلوا أيديكم عن الدنيا كلّها حتّى عن الصديق الموافق و الرفيق المرافق، و في الأثر: «انّ المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين خوفا منه». و توجّهوا إلى بارئكم، و خالقكم، و رازقكم، وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ببذل نفوسكم و فنائها حتّى تشرق عليها شوارق الأنوار، وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ اغسلوا أرجلكم عن تراب الأنانيّة و طين الشهوة إلى أن يحصل لكم شرف حضور القلب بكعب مقام الخلّة، وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً بالالتفات و التوجّه إلى الحجب الماديّة بالسير في الملذّات النفسانيّة، فَاطَّهَّرُوا النفوس عن المعاصي، و القلوب عن رؤية الأغيار، بذلّ العبوديّة للّه تعالى و مخالفة الهوى، ففي الأثر: «انّ سلمان الفارسي سافر في زيارة بعض الأصحاب من العراق إلى الشام راجلا و عليه كساء غليظ غير مضموم، فقيل له:
أشهرت نفسك؟ فقال: الخير خير الآخرة، و إنّما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا اعتقت لبست حلّة لا تبلى حواشيها»، فلا بدّ بطهارة الأرواح عن الاسترواح من غيره، وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ بمرض حبّ الدنيا و طلب الجاه، و النيل إلى المقام أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ في متابعة الهوى و السير في زوايا الأوهام بالاستيناس مع الأغيار، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ في قضاء حاجة مادّية و شهوة شيطانيّة، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بتحصيل لذّة من اللذّات بالبيع من الأشباح أو شراء ما يوجب الاستيناس بغيره جلّ و علا، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للطهارة عن الأدناس بالبعد عن الحقائق، و لم يهدكم أحد إلى التوبة و الاستغفار من ضعف نفوسكم، فَتَيَمَّمُوا بالتمعّك في تراب أقدام الأنبياء، فإنّه طهور للذنوب العظام و سبيل للدخول في نعم الرحمن، فإنّ الجنّة تجرّ أهلها، قال صلّى اللّه عليه و آله: «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسلاسل»، فلا تيئسوا من رحمته و فيوضاته، صَعِيداً طَيِّباً فإنّ إخلاصهم للّه‏ تبارك و تعالى يوجب خلاصكم و نجواهم معه جلّ شأنه سبب لنجاتكم، و في الأثر: «من صلّى خلف مغفور، غفر اللّه له»، فطهّروا نفوسكم بالاقتداء بهم، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ من غبار نعالهم و شمّروا لخدمتهم، ففي الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما صنعت يا بلال؟! سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة، فقال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم اتطهّر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلّا صلّيت بذلك الطهور»، فسيروا على نهجهم و تمسّكوا بهم، وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي: اعتصموا بقوّة لهم، لأنّهم حبل اللّه الأعظم، بهم ينوّر اللّه تعالى قلوب العباد، و بهم يخرجون الناس من الظلمات و ترفع الحجب المهلكات، ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، لأنّه تعالى يحبّ خلقه فلا يريد لهم الذلّة بالضيق في الحجاب، وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينقيكم من الشرك بالرقي إلى المقام الرفيع، بالنيل إلى الإخلاص و الفوز بالجزاء، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، و الوصول إلى ساحة القرب بالوصال: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بكسر أنوار الهواية و الاستقرار في الجنّة العالية، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بعد هدايتكم للنعم الإلهيّة و الأنوار الربانيّة و الهبات السماويّة، فاذكروا تلك النعم و اشكروه حتّى يزيدكم من فضله، وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فلا تنسوا آلائه تعالى عليكم، و ما منّ عليكم بختم النبوّة في أشرف الكائنات و فخر الموجودات، و بالولاية لسيّد الأوصياء الذي اصطفاه لحبّه و اجتباه لحضرته، وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ في ظهر آدم و عالم الميثاق، أو الميثاق الذي أخذه نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين بايعه المسلمون، فعن أبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) قال: «بايعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسا و أوثقني سبعا و أشهد اللّه عليّ سبعا أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»، فهو (رضوان اللّه عليه) رفض الدنيا و هاجر إلى ربّه بعد ما مدّ يد البيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دافع عن الحقّ و الولاية بوحده، حتّى عاش وحده زاهدا و مات وحده شهيدا، و هاجر إلى ربّه مظلوما، فسلام اللّه تعالى عليه حين أسلم و حين قام و قعد و حين رجع إلى‏ ربّه مطمئنا و فاز بما وعد اللّه تعالى له على لسان النبي الأمين إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا، لأنّه أخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود، فسمعتم قول ربّكم حيث قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، و أطعتم حيث قلتم «بلى» حسب اختلاف تأهّلكم، وَ اتَّقُوا اللَّهَ في نقض ميثاقه و نسيان نعمه، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، لأنّه يعلم الأسرار و الخفايا و ما يكن في الصدور، فأوفوا بعهوده و لا تنقضوها، و اتّقوه في جذب الأخلاق المرضية، و ابتغاء الوسيلة إليه بفناء الناسوتيّة في بقاء اللاهوتيّة و تخلّص العبد من ظلمة الأوصاف الناشئة من الزلات النفسانيّة، بالجهاد في سبيل اللّه تعالى لاضمحلال الأنانيّة.
اللهم اجعلنا ممّن سبقت له العناية، و أفضت عليه توفيق العبادة، و تفضّلت عليه بالرقيّ إلى المقامات العالية، إنك سميع مجيب.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"