1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 51 الى 53

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥۱) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥۲) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥۳)


الآيات الشريفة الثلاثة تبيّن أهمّ الأمور الاجتماعيّة التي فيها حياة الإسلام و استقلال المسلمين و ثبات عقيدتهم، فقد حذّر سبحانه و تعالى المؤمنين اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، و اعتبر توليتهم ظلما يسلب الهداية التي يحتاج إليها المسلم في حياته الظاهريّة و المعنويّة، و هدّدهم بأنّه من فعل ذلك يكون منهم، لا علاقة له بهذا الدين، ثمّ ذكر عزّ و جلّ بعض صفات المنافقين الذين لم يبرح الإسلام و المسلمون يعانون منهم الأمرين، يثبّطون العزائم و يبثّون الأكاذيب لزلزلة العقائد و إزالة الثبات و الطمأنينة عن النفوس. ثمّ يبيّن حال اليهود و النصارى و الذين اتّخذوهم أولياء ينتصرون بهم على الإسلام و دين الحقّ، أنّهم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.
و الآيات الشريفة تبيّن حاجة المؤمنين إلى وليّ يعصمهم من أعدائهم، يطبق فيهم ما أنزله اللّه تعالى، فينهى عن موالاة الكافرين و يثبت موالاة المؤمنين و إطاعة من جعله اللّه وليّا يرعى شؤونهم و يدبّر أمورهم، فكانت هذه الآيات و ما بعدها حلقة وصل بين التشريع و التنفيذ و الضمان على تنفيذ أحكام اللّه تعالى و تشريعاته.
فقد أمر عزّ و جلّ في الآيات السابقة تنفيذ أحكام اللّه و ما أنزله على رسوله و الإعراض عن غيره. و يأتي في الآيات اللاحقة أنّه عزّ و جلّ أمر المؤمنين باتّباع‏ الرسول و من جعله اللّه وليّا عليهم، ينفذ فيهم أحكامه و يسعى في تطبيق تشريعاته و أوامره، فكان لا بدّ من الضمان على ذلك من الذين يعتبرون تهديدا على الإسلام و المسلمين، فنهى عن مولاة الكافرين و المنافقين الذين يتربّصون بدين اللّه الدوائر.
و من ذلك كلّه تعتبر هذه الآيات مع سابقتها و لاحقتها على ارتباط تامّ وصلة وثيقة، و كلّ آية منها في حدّ نفسها حلقة لا يمكن الاستغناء عنها في تثبيت ما ورد فيها من الأحكام، و تأويلها إلى غير ظاهرها يكون إبطالا لمعانيها السامية و أحكامها القويمة، و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع في توجيه هذه الآيات و صرفها عن معانيها على ما ستعرف.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ.
خطاب تحبّب و اهتمام بالمؤمنين و اعتناء بالموضوع اعتناء بليغا، و قد تقدّم الكلام في مثل هذا الخطاب. و مادة (أخذ) تدلّ على تناول شي‏ء اعتمادا عليه. و منه:
أخذ منه العلم، أي: تناول منه معتمدا عليه في نقله. و منه: الاتّخاذ الذي هو الاعتماد على شي‏ء لإعداده لأمر ما، و هو افتعال باب، و المعنى لا تعتمدوا على اليهود و النصارى مستنصرين بهم، تلقون إليهم بالمودّة و المحبّة، تعاشرونهم معاشرة الأحباب.
و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مظاهر لهذا الاتّخاذ، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، كما حدّد سبحانه و تعالى المحبّة لهم، فقال: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، فإنّ المستفاد منه أنّ شروط المحبّة هي أن لا يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم و لم يظاهروا العداء للمسلمين.
و أما المحبّة، فلا بدّ أن تقتصر على البرّ بهم و القسط إليهم، فلا تشمل جميع أنواع المحبّة التي يجب تحقّقها بين أفراد المؤمنين. و من ذلك يستفاد أنّ التعبير بالاتّخاذ في المقام له دلالته الخاصّة، لا سيما بعد ذكر المتعلّق، و هي الولاية.
و أما الولاية، فقد تقدّم الكلام في معناها، و ذكرنا أنّ مادة (ولي) تدلّ على التبعية و تحقّق شيئين أو أكثر حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و لذلك مصاديق مختلفة، منها: الوليّ، و هو الذي يلي أمر غيره، فيكون تابعا له، كوليّ اليتيم، و وليّ المرأة، و وليّ الأمر، و نحو ذلك. و التبعية تشتدّ و تضعف في الموارد، و قد اختلط على كثير هذه المراتب، فاعتبروا لكلّ مرتبة معنى خاصا لها، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك.
و منها: الصديق و القريب، إلى غير ذلك ممّا ذكروه، و الجميع إنّما هي مصاديق لهذه المادة التي لها مراتب مختلفة شدّة و ضعفا، فكلّما اشتدّت التبعية و القرب الذي له دواعي و أسباب متعدّدة، كانت الولاية شديدة، أعلاها الولاية التكوينيّة و التشريعيّة، الثابتتان للّه تعالى و رسوله و أولياء اللّه تعالى، و قد جمعت في قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة المائدة، الآية: ٥٥]، فتكون جهة الولاية هي الطاعة، و قد تكون من جهة التقوى و الانتصار، فالوليّ هو الناصر، و إن كانت جهة الالتيام في المعاشرة و المحبّة التي هي الانجذاب الروحيّ. و إن كانت من جهة النسب، فالوليّ هو الذي يرثه من غير مانع يمنعه، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها في هذه المادة التي هي إلى الدواعي أقرب، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في غير المقام أيضا، فالولاية نوع اقتراب و معاشرة مع شي‏ء، توجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما، و يختلف شدّة و ضعفا، كما تختلف من جهة الدواعي، و أعظمها ولاية اللّه تعالى لعباده المؤمنين التي هي أشدّ مراتبها التي تجتمع فيها الكثير من الجهات و الدواعي، ففيها النصرة و التقوى و المحبّة و الطاعة، و الوليّ فيها هو الذي يحكم في أمره بما يشاء، و غير ذلك ممّا ذكروه.
و الولاية قد تكون ولاية الانتصار، فحينئذ يكون الولي هو الناصر الذي لا يمنعه شي‏ء عن نصرة من اقترب منه، و قد تكون ولاية المحبّة التي هي الانجذاب، فالولي هو الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و قد تكون ولاية النسب الذي هو نوع اقتراب بين المنتسبين تكوينا، فالوليّ هو الذي يرث من الآخر من غير مانع يمنعه، و سيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
و أما سياق الآية الشريفة، فهو يدلّ على أنّ المراد من الولاية هي ولاية النصرة و المحبّة، اي: لا تعاشروا اليهود و النصارى معاشرة الأحباب، تلقون إليهم بالمودّة و تستنصرونهم في بعض شؤونهم، كما هو الأمر بالنسبة إلى ولاية المشركين. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، و يدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة التي تقيّد إطلاق صدرها، فيختصّ النهي عن تلك الولاية التي توجب المحبّة و الخلطة بينهم، بحيث يستلزم النصرة و الامتزاج الروحيّ، و يرشد إلى ذلك ما اعتذر به المنافقون الذين حكى عنهم عزّ و جلّ: نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فتدور عليهم الدائرة فتصيبهم منهم و من غيرهم الجور فيتأيدون بنصرة اليهود و النصارى و يتخذونهم أولياء بالمحبّة و النصرة ليسلموا من دائرتهم و دائرة غيرهم.
و قد نهى عزّ و جلّ المؤمنين عن مثل هذه الولاية.
و ممّا ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة التي تجري بين شخصين أو قومين التحالف و التعاهد على نصرة أحدهما الاخر عند الحاجة، كما كانت دائرة في الجاهليّة، فيختصّ النهي بجماعة المسلمين دون جملتهم، كيف و قد حالف النبي صلّى اللّه عليه و آله يهود المدينة و قد أصرّ على ذلك و أنكر أشدّ الإنكار أن تكون ولاية المحبّة فقط، كما ذكره جمع كثير من المفسّرين، و اعتبر كون الولاية بمعنى ولاية المحبّة ممّا تتبرّأ منه الآية الشريفة في مفرداتها و اسلوبها، كما يتبرّأ منه سبب نزولها و الحالة العامّة التي كان عليها المسلمون و غيرهم في عصر التنزيل.
و استغرب أن تحمل الآية الشريفة على النهي عن المعاشرة معهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي ذمّة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و مع‏ الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة.
و الحقّ أنّ الآية الشريفة تدلّ على معنى أعظم ممّا ذكره، فإنّها تدلّ على حكم اجتماعيّ له الأثر الكبير في حفظ كيان الإسلام و المسلمين و عدم ضياع معالمهم و حفظ أخلاقهم السامية، فإنّ النهي عن محبّتهم و التودّد إليهم يستوجب كراهة عقيدتهم و أعمالهم المنافية مع تعاليم الإسلام الحنيف و عدم الاستنصار منهم، و قد غفل عمّا ترمز إليه الآية الشريفة، و ما ذكره في توجيه مراده لا يمكن الاعتماد عليه، فإنّ الإسلام لم يضيع حقّا من حقوق أهل الأديان الإلهيّة التي تكون في بلاده، فإنّ التزامهم تنفيذ شروط الذمّة ممّا يجعلهم في مصاف الموادين للإسلام و عدم صدور ما يغيض المسلمين أو يكرهه الإسلام. و ما ذكره من براءة الآية بمفرداتها و اسلوبها من ذلك فهو عجيب، فإنّ الآية باسلوبها الرفيع و دلالة سياقها و أجزائها تدلّ على أنّ المراد هو الأعمّ دون ولاية الحلف فقط، فإنّ قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، فإنّ ذلك كلّه يدلّ على أنّ المراد من الولاية الأعمّ، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران، الآية: 28]، فإنّه صريح في ذلك، و يزيد أنّ هذه الولاية المنهي عنها قد يحتاج إليها في موارد الضرورة، كما كان هناك معاهدات و أحلاف بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين اليهود و المشركين، فلو كانت مختصّة بولاية المحبّة فقط، لما كان وجه لجوازها عند الضرورة، فإنّ المحبة القلبيّة لا تصل إليها الضرورة، كما في سائر الأمور النفسيّة و القلبيّة، و سيأتي ما يرتبط بالمقام.
و بالجملة: الآية الشريفة تدلّ على النهي عن تولّي اليهود و النصارى بالمحبّة و النصرة، فإنّ من تولّى قوما لحق بهم، و قد قيل: إنّ المرء مع من أحبّ، و توجب الدخول في زمرتهم.
و إنّما ذكر اليهود و النصارى دون أهل الكتاب كما عبّر به في غير المقام، لبيان‏ سبب المعاداة بينهم و بين المسلمين، و أنّه الأوهام الباطل، لا من حيث كتابهم، فإنّه لو عبّر به لكان فيه إشعار إلى قربهم من المسلمين نوعا ما يوجب إثارة المحبّة، فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء، هذا بخلاف ما ورد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: ٥۷]. فإنّ توصيفهم باتّخاذهم دين اللّه هزوا يستدعي أن يكون الوصف، أي: كونهم ذو كتاب، ذمّا لهم و نقصا لا مدحا، فإنّ كونهم ذوي كتاب تقتضي أن لا يتّخذوا دين دين اللّه هزوا و لعبا، فإنّ ذلك يكون ادعى لأنّ لا يتّخذوا أولياء.
قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.
بيان و تأكيد لما سبق، و تعليل للنهي السابق في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏. و المعنى: لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم مع تفرّقهم و اختلافهم و شقاقهم و مضادتهم و تنافرهم فيما بينهم، لكنهم أولياء في العون و النصرة على الحقّ و أهله، فقد اتّحدت آراؤهم و تجاذبت نفوسهم بسبب تلك الولاية البغيضة التي ثبتت فيما بينهم على الاستكبار عن قبول الحقّ، و اجتمعت كلمتهم على المعاداة له و إطفاء نور اللّه تعالى و تناصرهم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين، لأنّهم استرسلوا في اتّباع الهوى و انغمسوا في مشتهيات النفس، فالكلّ متّفقون على الكفر، مجمعون على مضارّتكم و مضادّتكم، فلا يرجى منهم خير و لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة و المحبّة، فلا يتصور بينكم و بينهم موالاة.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.
وعيد لمن خالف النهي، و تهديد شديد مبالغة في الزجر. و (من) تبعيضية، و التولي: هو الاتّخاذ، أي: و من يتّخذهم منكم أولياء، فإنّه يكون من جملتهم و جماعتهم، و يكون حكمه حكمهم تنزيلا، و مثل ذلك كثير، فإنّ ارتكاب نهي من المناهي الشرعيّة أو إتيان فعل من أفعال أعداء اللّه تعالى، أو ترك واجب من الواجبات الإلهيّة، قد يوجب الكفر و يلحق المؤمن بالكافرين، و إن كان على الإيمان‏ ظاهرا، لأنّ للإيمان و الكفر مراتب متفاوتة و كثيرة، شدّة و ضعفا، قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة سورة يوسف، الآية: 106]، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا السابقة فراجع.
و السرّ في هذا التنزيل و إلحاقهم باليهود و النصارى، لأنّهم لم يسلكوا سبيل الهداية و الرشاد الذي هو الإيمان، بل سلكوا سبل أعداء اللّه تعالى، فكانوا من أهل دينهم و ملّتهم، فيؤول أمرهم إلى ما يؤول إليه أمر الكافرين، فلا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق في إيمانه.
و الآية الشريفة إنّما تبيّن أصل التنزيل، و أما سائر الخصوصيات فلا بدّ من الرجوع فيها إلى السنّة الشريفة، نظير قوله: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 297]، فإنّه يدلّ على أنّ من خالف هذا الحكم يكون من الكافرين تنزيلا، و أما الأحكام الفرعيّة المترتّبة على هذا التنزيل، فلا يمكن أن تستفاد من إطلاق هذه الآيات، لأنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
تعليل للوعيد السابق، و بيان لجهة التنزيل، أي: أنّ من يتولّاهم من المؤمنين لا يكون سالكا سبيل الإيمان، بل هو ظالم مثل من تولّاهم، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين، فهم قد ظلموا أنفسهم، لأنّهم حرموها من الهداية الإلهيّة و ظلموا قومهم بمولاتهم للكفّار الذين نصبوا الحرب للمؤمنين.
قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
تفريع على ما سبق، فإنّ من آثار عدم هداية اللّه تعالى للقوم الظالمين أنّهم يسارعون في الغواية و الضلال و موالاة الكافرين.
و مرض القلب الذي اختصّ القرآن الكريم بذكره من أسوأ الأمراض التي تصيب الإنسان، فإنّه يخرجه عن استقامة الفطرة و الطريق السوي إلى الشكّ و الريب اللذين يستوليان على عقيدته و دينه و خلقه، فلا يمكن له أن يحصل ثبات‏ و اطمئنان و استقرار في إدراكاته الدينية، فيكون ضعيف الإيمان متذبذبا فيه غير مستقرّ على خلق كريم، و يظهر أثره على عمله، فيصدر منه ما يناسب الكفر و النفاق، كما في المقام، فإنّك ترى أنّ مرضى القلوب يبتدرون في توثيق ولائهم مع الكافرين و توكيده، فيسارعون في هذا الطريق مسارعة من يرغب في شي‏ء و يجدّ في طلبه. و سيأتي في البحث الأخلاقيّ مزيد الكلام في هذا المرض العجيب و الداء العضال.
قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ.
تقدّم الكلام في معنى المسارعة، و تختلف المسارعة في الشي‏ء عن المسارعة إليه، فإنّ الاولى حاصلة من الداخل في الشي‏ء و الثابت فيه المستقرّ، و إنّما كانت مسارعة من مرتبة إلى اخرى، فهم إنّما يسارعون في مولاتهم للكافرين لزيادة تمكّنهم فيها و ثباتهم عليها. بخلاف المسارعة إلى الشي‏ء الداخل فيه من خارجه.
قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.
بيان لبعض وجوه الضلال التي أوجبت المسارعة في مولاة الكافرين، و هي خشية وقوعهم في المصائب و الدواهي، فيرجون منهم النصرة، فهم لم يسارعوا فيهم لخشية إصابة الدائرة عليهم، و إنّما يخشون إصابتها لهم فيستنجدونهم و تكون لهم يد عند ما تدور الدوائر و تكون للكافرين الدولة و السلطة الظاهريّة على المؤمنين، و هذا من آثار مرض القلب الذي أحاط بهم فأخرجهم عن استقامة العقيدة و سلوك الطريق السويّ، فلم يوقنوا بوعد اللّه تعالى و نصرته للمؤمنين، و لم يعتقدوا بصدق وعد اللّه تعالى، و لم يفكروا إلّا فيما يرجع إلى نفعهم الظاهريّ، فأخطأ ظنّهم و لم يجنوا من دعواهم هذه إلّا الدخول في مسلك الكافرين و الحلول معهم.
قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي ظهور الحقّ و غلبته على الباطل و زهوقه، و أنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل و توسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ، و قد ذكر سبحانه و تعالى آنفا أنّه: لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فيفضحهم و يظهر للملأ بطلان ذرائعهم و فساد عقيدتهم، و في المقام بيّن عزّ و جلّ وعده للمؤمنين بالفتح و الغلبة على الكافرين، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود و النصارى و أنّهم يخشون الدائرة عليهم، فقد تولّوا أعداء اللّه تعالى و خالفوا النهي الإلهيّ، فلا بدّ من إظهار كذبهم و كشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين ما ليس في قلوبهم، فكانوا في شكّ من قدرة اللّه تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزّ و جلّ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم، و من غيره ترج، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ من الوعد، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه و توكيد وعده.
و مادة (فتح) تدلّ على الفصل في الشي‏ء و القضاء فيه، قال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف، الآية: 89]، أي: افصل بيننا و بينهم. و منه فتح البلاد، قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ [سورة السجدة، الآية: 28]، و منه المفتاح و نحو ذلك.
و اللام في الفتح للجنس و ليس للعهد كما ذكره جمع من المفسّرين، فاختلفوا في تعيينه، فقيل: إنّه فتح مكّة الذي كان به ظهور الإسلام، و به أنجز اللّه تعالى وعده لرسوله.
و ردّ بأنّه غير صحيح إلّا إذا نزلت الآيات هذه قبل فتح مكّة، و هو أوّل الكلام، و ايّد هذا القول بأنّه المراد في أغلب موارد استعمال الفتح في القرآن الكريم، و لكن يشكل أنّه إذا كان المراد به ذلك فقد وصفه عزّ و جلّ بأنّه لا ينفع الكافرين إيمانهم بعد الفتح، و هو لا ينطبق على فتح مكّة و لا على غيره، قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [سورة السجدة، الآية: 28- 30]. و من المعلوم أنّه لا ينطبق هذا الوصف على فتح مكّة و لا على سائر الفتوحات التي أعزّ بها الإسلام، فإنّ الإيمان منهم يقبل، فلا بدّ أن يكون هذا الفتح الذي لا ينفع معه الإيمان إما ذلك الفتح الذي يتبدّل فيه الحياة إلى حياة اخرى، فيرتفع التكليف حينئذ، كما في تبدّل نشأة الدنيا و بالآخرة، أو لأجل تبدّل حالات الإنسان إلى حالة لا تفيد معها الإيمان بارتكابه المعاصي و الآثام، فقسى قلبه قسوة لا رجاء معها للرجوع و التوبة، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [سورة الانعام، الآية: ۱٥۸]. و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في مباحثنا السابقة.
و قيل: إنّ المراد به فتح بلاد اليهود كخيبر و غيرها، و قيل: إنّه فتح بلاد النصارى.
و كيف كان، فإنّ جنس الفتح ينطبق على كلّ فتح يظهر اللّه عزّ و جلّ به الإسلام و يعزّ الدين، و ينصر المؤمنين على الكافرين، و يفضح به أعداءهم و يكشف حقيقتهم و نواياهم. فتكون الآية الشريفة من الملاجم القرآنيّة التي ينبئ فيها تعالى إعلاء كلمة الإسلام و ظهوره على الكفر كلّه، بعد ما تستقبل الامّة من الحوادث ممّا تزعزع عقيدة كلّ فرد مؤمن إلّا من عصمه اللّه تعالى، فلا تختصّ الآية الشريفة بعصر النزول و لا بطائفة خاصّة، كما ذكره المفسّرون من أنّها نزلت في المنافقين، كعبد اللّه بن ابي و أصحابه الذين كانوا يشاركون المؤمنين في اجتماعاتهم و يظهرون إيمانهم و التودّد إليهم و هم يضمرون المحبّة و التولّي لليهود و النصارى، استدرارا للطائفتين، فإنّ حكم الآية عامّ يشملهم كما يشمل غيرهم ممّن فيه الصفات التي ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآيات، و من ذلك يعرف أنّه لا وجه للإشكال بأنّ مراد الآية غير هؤلاء المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم، إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاء مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف عدم وقوع ما كان يخاف وقوعه، فإنّ الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة التي لا تستتبع لوما و لا ذما.
و يردّ عليه: أنّ الاحتياط الذي لا يستتبع اللوم و الذمّ هو ما كان صحيحا و معتبرا عند العقلاء و قرّره الشرع، لا مثل المقام الذي يكون الاحتياط فيه بين الحقّ و الباطل، و قد نهى عزّ و جلّ عن مولاة الكافرين، فهم لم يطمئنوا بوعد اللّه‏ من الفتح و النصرة، و من هنا كان وجه الاشتراك بين من تضمّنته الآية الشريفة و سائر المنافقين، فإنّ للنفاق مظاهر مختلفة و سبلا متعدّدة هذه أحدها، فلا بأس بالقول بأنّهم منافقون أظهروا الإيمان و خالطوا المؤمنين طمعا بهم إن هم ظفروا بالكافرين، و والوا اليهود و النصارى طمعا بهم إن هم ظفروا بالمؤمنين و وقعت الدائرة عليهم.
و كيف كان، فالآية الشريفة من الملاحم القرآنيّة التي فيها إخبار عن حالات هذه الامّة، و وعد منه عزّ و جلّ في نصرة هذا الدين و الفصل بين المؤمنين و الكافرين و المنافقين- فقد وعدهم اللّه تعالى بالفتح المبين عليهم- و أمر فيه إعزاز هذا الدين و إظهار الإسلام و إذلال المشركين الكافرين.
و هي لا تختصّ بحكم خاصّ، بل تشمل كلّ ما فيه هذا المناط و لو كان من الأحكام الإلهيّة و التشريعات الربّانية التي فيها عزّة الإسلام و نصرته و غيرها.
قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.
أي: أنّهم أسروا في أنفسهم النفاق و تولّي اليهود و النصارى، و جدّوا في المسارعة فيه إرضاء للشهوات الدنيئة في نفوسهم، لينالوا به ملاذ الدنيا و إطفاء نور اللّه عزّ و جلّ، و هو الذي مراد اليهود و النصارى أيضا، و لكنّهم غفلوا عن عواقب الأمور و أنّ اللّه محيط بهم، فقد يفضحهم و يقطع أملهم فيصبحوا على ما أسروه نادمين. و قد ذكر عزّ و جلّ في الآية التالية سبب ندامتهم، و هو حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم. و الندامة إنّما تحصل من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه، و هم قد فعلوا كليهما، فقد تركوا حبّ دين اللّه و المؤمنين، ففعلوا العجائب في دينه تعالى، منها الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تولّي الكافرين، و يكفي الواحد منهما في الندامة و قطع كلّ أمل لهم في الدارين بعد ما أنزل اللّه تعالى من الفتح و الأمور من عنده، و سوف يخسرون كلّ شي‏ء و يبطل سعيهم بعد فتح اللّه الأكبر و ظهور الحقّ و محو الباطل و زهوقه.
قوله تعالى: وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ.
الجملة في مقام بيان التقريع لحالهم و تخييب رجائهم و انعكاس تقديرهم، لوقوع ضدّ ما كانوا يتوقّعونه و يترقّبونه ممّن تولّوهم.
و اختلفوا في إعرابها، فقيل: إنّها معطوفة على ما قبلها عطف المحلّ، و (يقول) بالرفع على أنّه مبتدأ. و قيل: إنّها مرفوعة بغير واو على أنّها جواب سؤال محذوف تقديره: فماذا يقول المؤمنون حينئذ. و قرئ: (و يقول) بالنصب عطفا على (يأتي)، أي: فعسى اللّه أن يأتي بالفتح و أن يقول. و قيل: إنّها عطف على قوله: فَيُصْبِحُوا، فإنّ ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم، و قول المؤمنين: «أ هؤلاء» جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم و مسارعتهم فيه.
و كيف كان، فإنّ الجملة على كلّ حال تقريع و توبيخ لهم كما عرفت.
أي: و يقول المؤمنون للمنافقين تعجّبا من حالهم و تقريعا لهم بعاقبة أمرهم و تبجّحا بما منّ اللّه على المؤمنين من الإخلاص و النصرة، فالخطاب للمنافقين الذين في قلوبهم مرض، و اسم الإشارة لليهود و النصارى، أي: أنّ المؤمنين يخاطبون الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء اليهود و النصارى الذين أقسموا باللّه ببالغ الإيمان و أغلظها إنّهم لمعكم. و يمكن العكس. و قيل: إنّ المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض متعجّبين من عاقبة الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء الذين أقسموا باللّه أغلظ الإيمان و آكدها إنّهم منكم أيها المؤمنون و على دينكم، كما في قوله تعالى:
وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، أي: يخافون.
و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم، و كيفما كان فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و تكريم لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم، بل يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران، فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم، فالقول يمكن أن يكون لفظيّا صادرا من المؤمنين، و يمكن أن يكون حكاية عمّا يدور في نفوس المؤمنين لكشف حقيقة أعداء اللّه تعالى و المنافقين لهم في هذه الدار الفانية، و يرشد إلى ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة في المقام و مواضع اخرى في القرآن الكريم.
قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ.
جملة مستأنفة تبيّن حقيقة حالهم و ما عليه مآلهم، بلا فرق بين أن نقول هي حكاية المؤمنين، أو قول اللّه تعالى، فإنّ فيها التعجّب منهم من أنّه كيف آل أمرهم إلى الخسران و حبطت أعمالهم مع مسارعتهم في تولّي أعداء اللّه تعالى، و الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قد أعطوه الأيمان المغلّظة على أنّهم مع المؤمنين، فحبطت أعمالهم التي كانوا يتكلّفونها نفاقا، و خسروا ما كان يترتّب عليها من الأجر و الثواب لو كانوا في إيمانهم صادقين.
و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حبط الأعمال يختصّ ببعض الذنوب الكبيرة، و المقام منها، فإنّ النفاق و التلاعب بأحكام اللّه تعالى ممّا يوجب حبط الأعمال و الخسران.

جملة (بعضهم أولياء بعض) من مبتدأ و خبر في موضع النعت لأولياء، و هي جملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها و تأكيدا لإيجاب الاجتناب، و إنّما وضع المظهر موضع المضمر (هم) في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، تنبيها على أنّ تولّيهم ظلم. كما أنّ الإتيان بالموصول دون ضمير القوم للإشارة بما في حيز الصلة إلى أنّ ما ارتكبوه من التولّي بسبب ما كمن من المرض.
و جملة: (يسارعون فيهم) حال المفعول، و قيل: إنّها في موضع المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبيّة، و هو الأصحّ. و قد ذكرنا أنّ إيثار كلمة (في) للدلالة على الاستقرار و الثبات في المولاة. و ذكر الزمخشريّ أنّ المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله ب (في)، و لكن عدل عنه المفسّرين لأنّه تفسير بالأخفى.
و قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون.
و الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، و أصلها داورة، لأنّها من دار يدور.
و قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فيه البشارة و الوعد لرسوله و المؤمنين، و قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ في تأويل المصدر و هو خبر (عسى). و قيل: إنّه مفعول به لئلّا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، و هو سهل عند آخرين، و النزاع معروف في كتب النحو.
و الفاء في فَيُصْبِحُوا للسببيّة، و هو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر (عسى)، و هما جملتان في عداد جملة واحدة، فلذا استغنى عن الضمير العائد على الاسم. و (نادمين) خبر (يصبحوا).
و قوله تعالى: وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا … كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة. و قرئ: (و يقول)، بالنصب عطفا على فَيُصْبِحُوا. و قيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى، كأنّه قيل: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الذين … إلخ.
و فيه كلام طويل، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في التفسير أيضا فراجع.
و قوله تعالى: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا اسم الإشارة مبتدأ و ما بعده خبر، و الهمزة للإنكار و لها الصدارة في الكلام.
و جملة (إنّهم لمعكم) لا محلّ لها من الإعراب، لأنّها تفسير و حكاية لما أقسموا به. و جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنّه مصدر ل (أقسموا) من معناه، أي: أقسموا اقساما مجتهدا فيها، و قيل: إنّه حال بتأويل مجتهدين، و أصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال هي الجملة في الحقيقة. و قال غير واحد: إنّه لا ضير في تعريف الحال هنا، لأنّها في التأويل نكرة.
و كيف كان، فهو متعارض جهد نفسه إذا بلغ وسعها.
و جملة: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ إما جملة مستأنفة مسوقة لبيان مآل أمرهم و عاقبة فعلهم من ادّعاء الولاية و القسم على المعيّة في كلّ حال، و يكون الاستفهام للإنكار.
و يمكن أن تكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل هو الخبر، و الموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فيكون الاستفهام حينئذ للتقرير، و فيه معنى التعجّب، و قيل غير ذلك، و قد عرفت في التفسير بعض الكلام. و أغلظها أنّهم لمعكم، و قيل: إنّ اسم الإشارة لليهود و النصارى، و قوله: (معكم) خطاب للذين في قلوبهم مرض، و يمكن العكس، و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم.
و كيفما كان، فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و كرامة لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة أيضا بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم. بل‏ يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران، فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم.

الأوّل‏:
يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ، على أحد أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يحفظ بها المسلمون استقلالهم و وحدتهم و مشاعرهم اتّجاه بعضهم البعض، فيكونوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص أمام أعدائهم الذين يتربّصون بهم الدوائر، و لأهمّيّة هذا الحكم الإلهيّ فقد ذكره القرآن الكريم في مواضع متفرّقة، و تعرّض إلى بعض الأسباب التي تدعو إلى اتّخاذهم أولياء، و المخاطر التي تترتّب عليه. و حذّر عزّ و جلّ المؤمنين من اتّخاذ أعدائهم أولياء، و بيّن الآثار الظاهرة المترتّبة عليه في عدّة مواضع من القرآن الكريم.
أما الأسباب التي دعت المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إلى اتّخاذهم أولياء، فهي كثيرة، منها: ما ورد في الآية التي تقدّم تفسيرها، قال عزّ و جلّ حكاية عنهم: يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ.
و منها: ما ذكره تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: ۱٤٤]. فإنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ممّا يوجب تعرّض المتولّي لسخط اللّه، و يجعل اللّه على نفسه الحجّة فيضلّه و يخدعه.
منها: الغفلة عن اللّه تعالى و قدرته و سلطانه و مكره، قال عزّ و جلّ: وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 3]، و غير ذلك ممّا ذكره عزّ و جلّ في هذا الموضوع. و يمكن إرجاع ذلك إلى الغفلة عن اللّه و الشكّ في قدرته و سلطانه، كما أشارت إليه الآية المتقدّمة. و أما الآثار التي تترتّب على هذا الظلم الفرديّ و الجمعيّ، فهي كثيرة، و يكفي في شدّتها و هولها و فظاعة هذا الأمر أنّ اللّه تعالى يسلب الهداية عمّن اتّخذ أعداءه أولياء، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. و من نتائج سلب الهداية عنهم أنّهم خسروا الدنيا و الآخرة و في العذاب هم خالدون، و أنّ ولاية أعداء اللّه توجب الدخول فيهم و أن يكون من زمرتهم، و سيحشره اللّه تعالى معهم، قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، و سيحرمه اللّه تعالى ممّا تمنّاه في ولايتهم، قال تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فإنّه عزّ و جلّ يرفع عنهم العزّة بعد ما اتّخذوهم أولياء لابتغاء العزّة عندهم. و قال عزّ من قائل: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ، و تأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.
الثاني‏:
تدلّ الآيات الشريفة على ملحمة قرآنيّة، و هي ما يؤول إليه أمر هذه الامّة إذا تحقّق منهم الموالاة لأعداء اللّه تعالى، و أنّها توجب انهدام بنية هذا الدين، و أنّها تقطع أواصر الترابط بين أفراده و لا يعود إلى عزّته و نشاطه و تأثيره، إلّا أن يبعث اللّه من يقوم بالأمر و يعيد مجد هذا الدين و يحيى تراثه و معالمه إن شاء اللّه تعالى.
الثالث‏:
يدلّ سياق الآيات الشريفة على أنّ الولاية المنهيّ عنها إنّما هي الولاية التي يترتّب عليها الأثر من المخالطة و التشبّه بأعمالهم و أفعالهم و الدخول في زمرتهم، دون ولاية المحبّة فقط، و إن كانت مبغوضة أيضا. كما تدلّ عليه جملة من الروايات، و سيأتي في البحث العرفانيّ ما يتعلّق بالمقام.
الرابع‏:
يدلّ قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، على أنّ أعداء اللّه تعالى على تفرّقهم و تشتّتهم طرائق و مذاهب، إلّا أنّهم أولياء بعض في مقابل الحقّ و المؤمنين، و لا تختص هذه الحقيقة بعصر النزول، بل هم كذلك ما دام الصراع بين الحقّ و الباطل قائما، و يكفي تصوّر هذه الحقيقة في الابتعاد عنهم و عدم اتّخاذهم أولياء.
الخامس‏:
يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، على أنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ظلم عظيم يوجب دخول المتولّي في زمرة الكافرين، لأنّ المحبّة و المودّة تجمع المتفرّقات و توحّد النفوس المختلفة، و تؤثّر على الأحاسيس و الإدراكات، فتتأثّر الأخلاق و تتشابه الأفعال، فيحذوا المتولّي حذو من تولاه في شؤون الحياة و مستوى العشرة، و لذا أوجبت الولاية البعد عن اللّه تعالى، و المتولّي لا يكون منه من شي‏ء، فكلّما اشتدّت المحبّة و المودّة لأعداء اللّه، كلّما ابتعد عن اللّه تعالى و اقترب منهم حتّى يصير واحدا منهم و يلتحق بهم، و لذا قيل: من أحبّ قوما فهو منهم.
السادس‏:
يستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ الولاية المنهيّة التي توجب لحوق قوم بقوم و كونهم منهم، هي ولاية المحبّة و المودّة، دون ولاية الحلف التي تنعقد لمصالح خاصّة، و قد عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع المشركين و الكافرين في ظروف خاصّة. و يدلّ على ذلك ما ورد نظيرها عنه تعالى ناهيا عن ولاية المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ- إلى أن قال عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة، الآية: 1- 9]، فإنّ الولايتين من باب واحد، فتكون الولاية التي تقتضي لحوق من تولّى بمن تولاه هي ولاية المحبّة، و هذا ما يقتضيه الاعتبار أيضا، فإنّ التولّي و التودّد لا يكون إلّا بين اثنين بينهما السنخيّة التي تقتضي الدخول في الأسناخ و الأشباه. و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير فراجع.
السابع‏:
يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، على أنّ تولّي الكافر ظلم، لأنّه تعريض النفس للعذاب و ابعاد لها عن مواضع الرحمة و قطع لمسيرة الكمال الذي ينشده الإنسان في الحياة الدنيا، و اللّه لا يهدي من كان ظالما و مانعا عن سبل الهداية و الكمال، بل يخلّيه و شأنه و يكله إلى نفسه، و هو ممّا تعوّذ منه الأنبياء و الرسل، فإنّه فيه هدم للكيان الإنسانيّ خلقيّا و عقائديّا.
الثامن‏:
يدلّ قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، على أنّ القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، فلا بدّ أن تكون لها صحّة و سلامة، إذ هما من المتضايفان لا يتّصف الموضوع بأحدهما إلّا إذا أمكن اتّصافه بالآخر، و لا ريب أنّ مرض القلب الذي يخبر عنه القرآن الكريم أسوأ من سائر الأمراض، فإنّه يميت القلب عن كسب الكمال و يخرجه عن استقامة الفطرة و يوجب انحرافه عن الصراط السوي الذي يوصله إلى الكمال المنشود. و المستفاد من الموارد التي وردت فيها هذه الكلمة أنّ مرض القلب يوجب الإرباك في العقيدة و الشكّ و الارتياب في الإيمان باللّه تعالى و عدم الطمأنينة بآياته و أحكامه و تشريعاته، و بالآخرة يؤثّر ذلك على الأعمال و الأفعال التي تصدر ممّن مرض قلبه، فتكون أقرب إلى الفسق و الكفر منها إلى الطاعة و الإيمان. و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
التاسع‏:
يدلّ قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ، على أنّ اللّه تعالى يظهر المنويّات في الدار الدنيا من القلوب قبل الآخرة، فإذا كانت حسنة ظهرت على الأقوال و الأعمال، و إن كانت سيئة ظهرت كذلك لا محالة، فترى الذين في قلوبهم مرض و استبطنوا النفاق و الشكّ و الارتياب يسارعون في الكفر و موالاة أعداء اللّه تعالى، و يعرضون عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و اتّباع أحكامه و تشريعاته، فسيظهر اللّه تعالى أعمالهم و يصبحوا خاسرين لا تنفعهم أمانيهم و لا أعمالهم في دفع ما استحقّوه من العذاب.

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أخرج ابن إسحاق و ابن جرير، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر عن عبادة بن الوليد: «انّ عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تشبّث بأمرهم عبد اللّه بن سلول و قام دونهم، و مشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبرّأ إلى اللّه و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله من حلفهم، و كان أحد بني عوف ابن الخزرج و له من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد اللّه بن ابي، فخلعهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، و أبرأ إلى اللّه و رسوله من حلف هؤلاء الكفّار و ولايتهم».
و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول إنّ لي موالي من يهود كثير عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولاية يهود، و أتولى اللّه و رسوله، فقال عبد اللّه بن ابي: إنّي رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعبد اللّه بن ابي: يا ابن الحباب! أ رأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه؟ قال: إذن أقبل، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ- إلى ان بلغ قوله- وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
و فيه- أيضا-: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «إنّ عبد اللّه بن ابي بن سلول. قال: إنّ بيني و بين بني قريظة و النضير حلفا، و إنّي أخاف الدوائر، فارتد كافرا، و قال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى اللّه من حلف قريظة و النضير، و أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ- إلى قوله- فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ، يعني: عبد اللّه بن ابي- الحديث».
أقول: الروايات في شأن نزول الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها كثيرة رويت بطرق مختلفة، و تقدّم مكرّرا أنّ ذلك لا يكون سببا لتقيّد إطلاق الآية أو تخصيصها، فالآية الكريمة عامّة تشمل ولاية المحبّة و المودّة و نحوها، و لا تختصّ بمنافقي عصر النزول و لا الكافرين فيه، يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة كغيرها قد ذكر فيها النصارى و الروايات تختصّ باليهود و لم يكن فيها للنصارى نصيب.
على أنّ الرواية الأخيرة تذكر الآيات من ٥۱ إلى 67، و هي لا ترتبط بالقصة البتة و لا اتّصال بين تلك الآيات، و فيها ما نزلت في موضوع معين و فرد خاصّ بالاتّفاق.
و بالجملة: فإنّ جميع ذلك ممّا يوجب و هن تلك الروايات، لا سيما الأخيرة منها.
و في الدرّ المنثور: «أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ نزل في بني قريظة إذ غدروا و نقضوا العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم و قريشا ليدخلوهم حصونهم، فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، و كان طلحة و الزبير يكاتبان النصارى و أهل الشام، و بلغني أنّ رجالا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا يخافون العوز و الفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة و النضير، فيدسّون إليهم الخبر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، يلتمسون عندهم القرض و المنفع فنهوا عن ذلك».
أقول: الرواية تؤيّد ما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة من أنّ المراد من الولاية هي ولاية المحبّة و المودّة، و لكنّها لا توجب تخصيص الآية أو تقييدها، فإنّها تبيّن بعض المصاديق، و يدلّ على ذلك ما ورد في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام من تطبيق الآية على بعض الأفراد الذين أضلّوا الناس، و أنّهم ممّن قال اللّه تعالى فيهم: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [سورة المائدة، الآية: ٥۳].

قد عرفت أنّ الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، تدلّ على أنّ للقلوب مرضا كما أنّ للأبدان مرضا، بل لا يخلو من ارتباط المرضين بعضهما مع البعض‏ لشدّة ارتباط القلوب بالأبدان، و من المعلوم أنّ المرض إذا أحلّ في مكان، فلا بدّ أن لا تكون هناك صحّة، إذ المرض و الصحّة متقابلان، تقابل العدم و الملكة، لا يتحقّق أحدهما في محلّ إلّا بعد إمكان تلبّسه بالآخر، فإنّه لا يتّصف الجدار بالمرض لعدم شأنيّته للصحّة، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع، قال تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [سورة الأنفال، الآية: ٤۹]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [سورة الأحزاب، الآية: 12]. و المستفاد من مواضع استعماله أنّ مرض القلب يخرج صاحبه عن الاستقامة و يوجب انحراف الشخص عن سواء الطريق و يجعل صاحبه في معرض الشكّ و الارتياب، كما قال عزّ و جلّ عنهم في الآية السالفة: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، فيكدر صفو الإيمان باللّه و رسوله، و يسلب الطمأنينة إلى آياته و تشريعاته، و يوجب خلط الإيمان بالشرك، فلا يقدر صاحبه على التمييز بين ما هو نافع له أو ضار. و لذلك ترى أنّه يصدر عن صاحب هذا القلب في مقام العمل ما يناسب الشرك و الكفر باللّه تعالى و آياته، حتّى يصل إلى حدّ الكفر.
و يختلف هذا المرض كسائر الأمراض الجسمانيّة شدّة و ضعفا و كثرة و قلّة، كما تدلّ عليه الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [سورة البقرة، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: ۱۲٥].
و يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذا المرض ربّما يزيد و يستقرّ في القلب حتّى يطبع المريض في مرضه، ثمّ ينجرّ به إلى الهلاك و الموت على الكفر، لكثرة معاصيه و موبقاته، قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الروم، الآية: 10].
ثمّ إنّ ظاهر قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ* [سورة الأنفال، الآية: ٤۹] أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين، و إن كانا يشتركان في كثير من الأفعال و الآثار، إلّا أنّ النفاق لا يكون إلّا في موت القلب و الكفر الخالص، و لكنّ مرض القلب يجتمع مع ضعف الإيمان و الشكّ و التردّد، فيميل مع كلّ ريح و يتبع كلّ ناعق. و أما المنافق فهو يبطن الكفر و يظهر الإيمان ليستميل المؤمنين و يكون معهم ظاهرا، لتنفيذ مآربه كما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع من القرآن الكريم، و ربما يشتركان في عدم استقرار الإيمان و عدم اشتمال باطنهم منه، كما يتّفقان في بعض الأفعال. و قد يكون مبدأ النفاق هو مرض القلب، فإذا لم يعالجه صاحبه ينتهي به إلى الكفر و النفاق، كما قال عزّ و جلّ: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ- إلى أن قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً … وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ … [سورة البقرة، الآية: 7- 20] فإنّ المستفاد منها أنّ القوم كانوا في ابتداء أمرهم مرتابين فزادهم اللّه مرضا حتّى هلكوا بإنكارهم الحقّ و استهزائهم له. ثمّ إنّ مرض القلب تقابله سلامته التي هي الاستقامة مع الإيمان و الطاعة للّه عزّ و جلّ و الرسول و اتّباع أحكامه و عدم اتّباع الهوى و الإعراض عمّا سوى اللّه تعالى، قال عزّ من قائل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، فإنّه يدلّ على أنّ سلامة القلب إنّما تكون في الانقطاع إليه عزّ و جلّ و الخلوص و الإخلاص له و الإعراض عمّا سواه تعالى. و على اختلاف درجات الانقطاع إليه و الخلوص له تختلف درجات السلامة، و بذلك يمكن أن يعالج مرض القلب، فإنّه يتحقّق بالإيمان به عزّ و جلّ و الاعتصام بحبله و إصلاح النفس و الإسراع بالتوبة إليه عمّا فعل من الموبقات، و ترويض القلب على الطاعة و حسن النيّة و العمل الصالح، و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم، و قد تقدّم في قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ– الآية- [سورة البقرة، الآية: 177]، الذي جمع الكمالات الواقعيّة المعنويّة و الظاهريّة و طرق معالجة الأمراض النفسيّة التي تؤثّر على حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة.
و في خصوص مرض القلب الذي أوجب محبّة أعداء اللّه تعالى فقد ذكر عزّ و جلّ كيفيّة معالجته في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: ۱٤٦].

قد عرفت أنّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، يدلّ على النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء، و ذكرنا أنّه حكم اجتماعيّ يحفظ به كيان الإسلام و هويّة المسلمين. و أنّ من أهم آثار هذا الفعل- أي: التودّد إليهم بالمحبّة و النصرة- أنّه يعتبر منهم و يكون حكمه حكمهم في الآثار الوخيمة المترتّبة على الكفر، لأنّه من ما يبغضه ربّ العباد و يوجب الابتعاد عن الحقّ، و لا يمكن اجتماع محبّة اللّه تعالى و محبّة أعدائه في قلب واحد، و كلّما ضعفت إحداهما تشتدّ الاخرى، فإذا استولت إحداهما على المشاعر لا يصدر من صاحبها إلّا ما يناسبها من الخير و العمل الصالح و التوجّه إلى اللّه عزّ و جلّ و الإخلاص له إن كانت المحبّة للّه تعالى، أو الشرّ و العمل الطالح إن كانت المحبّة لأعدائه الذين لا مناسبة بينهم و بين الحقّ، و من المعلوم أنّ النوايا و خفايا القلوب لها الأثر الكبير في حياة الإنسان العمليّة. و قد ورد التأكيد على الإعراض عمّا يبعد الإنسان عن اللّه تعالى، و الابتعاد عن أعدائه عزّ و جلّ، و في بعض الأحاديث: «لا تلبسوا ملابس أعدائي، و لا تسكنوا مساكنهم، لأنّها من مظاهر العدوان، و هي مبغوضة عند اللّه تعالى، و المحبّ لا بدّ أن يبتعد عمّا هو مبغوض لدى جنابه، فإنّ لها الأثر في سلوك المحبّ، فمن يريد التقرّب إلى اللّه تعالى و مظاهر صفاته و أسمائه العليا، لا بدّ أوّلا أن يبتعد عمّا يكدر القلوب و يزيل صفاءها، فإنّها مجبولة على حبّ اللّه و الاقتراب إلى الحقّ و العمل به، و من أعظم ما يكون سببا في ذلك تولّي أعداء اللّه تعالى و محاكاتهم في الأقوال و الأعمال، فإذا تحقّق ذلك يميل الإنسان إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ بتنفيذ أحكامه و شرائعه، فإنّ ذلك كمال الإنسان و لا كمال فوقه، و أنّ فيه سعادة الدراين.
و الحمد للّه أوّلا و آخرا

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"