1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 4 الى 5

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)


بعد أن ذكر سبحانه و تعالى بعض المحرّمات من الطعام و استثنى منها ما كان محلّلا على الإجمال، يذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات الشريفة بعض ما يحلّ أكله، و هي الطيبات بأجمعها، سواء أ كانت من اللحوم أم غيرها، و خصّ بالذكر منها ما اصطاده الإنسان بواسطة الحيوان المعلّم الّذي تعلّم على الصيد، و طعام أهل الكتاب، و أحلّ المحصنات من نسائهم للمؤمنين؛ دفعا لما قد يتوهّم من الحرمة في ذلك، فإنّ نفوس المؤمنين لا تطيب في طعامهم و لا في مناكحتهم بعد ما أمر عزّ و جلّ من الابتعاد عنهم و نهى عن ولايتهم و معاشرتهم و مخالطتهم، فتحدّد هذه الآية المباركة نوع العلاقة الّتي يجب على المؤمنين أن يتبعونها معهم، و تزيل الشكّ عن نفوسهم.
و تبيّن الآية الشريفة بأنّ دين الإسلام دين التآلف و الرحمة، و ينهى عن النفرة و المخادعة، و قد أوعد عزّ و جلّ كلّ من لم يتبع الإيمان و يكفر بما شرّعه اللّه تعالى.

قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ.
تفصيل بعد إجمال ما ذكره عزّ و جلّ في قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إثر بيان المحرّمات، إلّا أنّ السؤال مطلق يشمل كلّ المحللّات من الطعام و اللحوم. و الجملة حكاية عن قولهم، فالسؤال يتضمّن معنى القول، و ضمير الغائب (لهم) لأجل مراعاة ضمير الغائب في (يسألونك)، و يجوز في مثل ذلك مراعاة اللفظ و المعنى كليهما، فيقال مثلا: أقسم زيد لأفعلن كذا، أو ليفعلن كذا، فاندفع بذلك ما قيل إنّ السؤال ليس ممّا يعمل في الجمل.
قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
جواب عامّ يتضمّن الضابط الكلّي الّذي يميّز به الحلال من الحرام في المطاعم و المآكل.
و الطيبات: جمع الطيب، و هو ما تستلذّه النفس و الحواس، و يقابله الخبيث، قال تعالى: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ [سورة المائدة، الآية: 100]، و يستعمل في الأمور الماديّة و المعنويّة، و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: «مرحبا بالطيب المطيّب»، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، قال تعالى: وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور، الآية: ۲٦]، و قال تعالى: وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [سورة النساء، الآية: 3]، و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ [سورة إبراهيم، الآية: ۲٤]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: ۱٥].
و إطلاقه في المقام من غير تقييده بشي‏ء للإعلام بأنّ المعتبر في تشخيصه الأذواق المتعارفة المستقيمة، فما يستطيبه العرف العامّ السليم البعيد عمّا يصرفه عن الجادة المستقيمة، فهو طيب و يكون حلالا، كما عرفت في الآية الشريفة السابقة.
و يستفاد من ذلك أنّ حلّية الطيبات عقليّة لا شرعيّة، كما أنّ إطلاق الحلّية في المقام يشمل جميع ما يفهم العرف من هذه الكلمة.
ثمّ إنّ المنطوق يدلّ على حلّية جميع الطيبات، و أمّا المفهوم فهو يدلّ على حرمة الخبائث، فيكون ما ذكره عزّ و جلّ في الآية السابقة من الخبائث الّتي تعوفها الطبائع السليمة.
قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ.
عطف على الطيبات بتقدير مضاف، و تكون (ما) موصولة، أي احلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح بشروطه.
و يحتمل أن تكون (ما) شرطيّة و جوابها (فكلوا)، و الجملة عطف على جملة، فلا يحتاج الى تقدير.
و الجوارح: جمع جارحة، و الهاء فيها للمبالغة، و هي صفة غالبة لا يذكر معها الموصوف إلّا قليلا، و اشتقاقها إمّا من قولهم: جرح فلان أهله، إذا أكسبهم، و فلان جارحة أهله أي: كاسبهم، سمّيت بذلك لأنّ أربابها يكسبون بصيدها.
أو لأنّها تجرح الصيد غالبا، فإنّ الصوائد من السباع يجرحون صيدهم بمقتضى الطبيعة السبعيّة المخلوقة فيها.
و الجوارح: هي الكواسب من الطير، و البهائم، كالصقر، و البازي و الكلاب، و الفهود.
و (مكلّبين) بالتشديد اسم فاعل من التكليب، و هو تعليم الكلاب و تأديبها للصيد، و غلّب ليشمل جميع الجوارح، أو لأنّ كلّ سبع يسمّى كلبا، ففي الحديث: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» دعاء منه صلّى اللّه عليه و آله على لهب بن أبي لهب.
و قيل: إنّه مشتقّ من الكلب (بالتحريك)، بمعنى الضراوة و الحرص، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ تعليم الكلاب للصيد لا بدّ أن يكون بالتأديب و الإغراء بالصيد.
و كيف كان، فإنّ اشتقاق هذه الكلمة يدلّ على أنّ أصلها تعليم الكلاب‏ للصيد، فيختصّ الحكم بالكلاب المعلّمة دون غيرها إلّا بدليل خاصّ، و يشهد له اتّفاق أهل اللغة- على أنّ المكلّب هو صاحب الكلب و مؤدّبه- و التبادر أيضا، فيقيّد به عموم الجوارح، و تدلّ عليه بعض الروايات.
و الآية المباركة تدلّ على حلّية صيد الكلاب المعلّمة بشروط، أحدها أن يكون الصيد بالكلب المعلّم دون غيره من الجوارح و الكلاب غير المعلّمة.
قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ.
جملة حاليّة من ضمير (مكلبين) أو استئنافيّة، و هي تدلّ على أنّ التعليم له كيفية خاصّة و طرق معيّنة، ممّا ألهمهم اللّه تعالى أو تلقّوه من الشارع الأقدس، و قد ورد أنّه يشترط في الكلب المعلّم أن يسترسل إذا أرسله الصياد، و ينزجر إذا زجره، و أن يكون معلّما و لا يعرف منه ذلك إلّا أن تتكرّر منه الأمور المعتبرة في التعليم. و يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة، فهذه شروط اخرى في حلّية الصيد، و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.
بيان لشرط آخر من شروط حلّية صيد الكلاب المعلّمة، و هو أثر من آثار التعليم و نتيجته. و (من) تبعيضيّة، إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد، و العظم و غيرهما، و الضمير المؤنّث في (أمسكن) راجع الى الجوارح، و التقييد بقوله عَلَيْكُمُ للدلالة على أنّ الحلّ مقيّد بكون الإمساك لكم، فيخرج ما أمسكن لأنفسهن، و إنّما يعرف الإمساكان من القرائن الحافّة.
و المعنى: فكلوا من الصيد ما تمسكه الكلاب المعلّمة لأجلكم، لا ما تمسكه لنفسها لتأكل منه.
قوله تعالى: وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
شرط آخر، و الضمير في (عليه) يرجع الى (ما علّمتم)، فيكون المعنى:
و اذكروا اسم اللّه على الكلب المعلّم، و ذلك حين إرساله، و تدلّ عليه جملة من الأخبار.
و قيل: إنّ الضمير يرجع الى: ما (أمسكن) بأن يكون المعنى: إذا أدرك ما أمسكته الكلاب المعلّمة حيّا فإنّه يجب ذكر اسم اللّه تعالى حين تذكيته، على تفصيل مذكور في الفقه، و سيأتي في البحث الفقهي بعض ما يتعلّق بالمقام.
قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ.
حثّ على التقوى، لما في هذا الأمر من التهاون و الغفلة عن الأحكام الإلهيّة كما هو المشاهد في أصحاب الصيد.
و التقوى مطلوبة في جميع الحالات و كلّ الأمور بالايتمار بأوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه الاتّقاء عن أكل الصيد الّذي لم تتوفّر فيه الشروط المعتبرة، و الاتّقاء عن الصيد الّذي لم يكن للكسب و العيش، كما إذا كان إسرافا في القتل، أو كان عن تكبّر و تجبّر كما في صيد اللهو.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
بيان لمظهر من مظاهر علمه الأتمّ و قدرته الكاملة و إحاطته بمخلوقاته إحاطة تدبيريّة تامّة، فهو الّذي أحصى كلّ شي‏ء عددا، كما قال تعالى: وَ كَفى‏ بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: ٤۷]، و هو وحده جلّ شأنه قادر على أن يكون حسابه سريعا، فإنّ من سننه تعالى الجزاء على الأعمال، و إنّه لا يضيع عنده عمل عامل من عباده، فسوف يجازي المسي‏ء على إساءته في الدنيا قبل الآخرة، و لم يدع ظلم الإنسان على الحيوان بالعدوان عليه و اغتياله و الفتك به أن يذهب هدرا، فإنّه يعاقبه و يربّيه أثر عمله في الدنيا كما دلّت عليه التجربة.
و إنّما أظهر اسم الجلالة لبيان العلّة، و لترتب المهابة و العظمة، و يستلزم ذلك الوقار له جلّ شأنه.
قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
تأكيد لما سبق من حلّية الطيبات، و توطئة لما يأتي ذكره من المحلّلات، و الظاهر أنّ حلّية الطيبات عقليّة، لا أن تكون شرعيّة، فيحمل قوله تعالى على الإرشاد، و كذا حلّية طعام أهل الكتاب إن كان المراد منه الحبوب، فإنّ جميع ذلك‏ داخل في أصالة الإباحة، إلّا أن يقال بالحظر في الأشياء، فتكون الإباحة شرعيّة لا محالة. و سياق الآية الشريفة يفيد الامتنان كما يأتي في البحث العرفاني.
و إطلاق الطيبات يشمل جميع ما تستطيبه النفوس السليمة، و المتيقن منها ما ورد في الكتاب العزيز، على ما عرفت آنفا.
و سبق الكلام في (اليوم)، و إنّما ذكره عزّ و جلّ في المقام لمزيد المنّة على المؤمنين أن أحلّ لهم الطيّبات و أبعدهم عمّا يوجب الضرر عليهم.
قوله تعالى: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ.
بيان لأحد أفراد الطيّبات لبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين و رفع الشكّ عن نفوسهم بعد أن أمروا بالابتعاد عن الكافرين و نهوا عن موالاتهم و مخالطتهم و معاشرتهم، فاحتملوا شمول النهي لطعامهم أيضا، فأتى تحليل الطيبات بقول مطلق و لم يرفع الشكّ الّذي كان يساورهم بالنسبة الى طعام أهل الكتاب، ثمّ خصّه عزّ و جلّ بالذكر لإيجاد الطمأنينة و رفع الشكّ برفع الحرمة يقينا، و كذا الكلام في قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، و عرفت آنفا أنّ إحلال طعامهم لنا و إحلال طعامنا لهم إنّما هو حكم إرشادي؛ لا أن يكون شرعيّا. و حينئذ لا جدوى في القول بأنّ قوله تعالى كلام واحد ذو مفاد واحد، أو لم يكن كذلك؟ مع أنّ الظاهر أنّه واحد يتضمّن حكما عقليّا، كما عرفت.
و ما ذكره أولى ممّا قيل: من أن! الآية الشريفة ليست في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب و توجيه التكليف إليهم؛ لأنّ الكفّار غير مؤمنين باللّه و رسوله و بما اوحي إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يطيعوه في تشريعاته المقدّسة، فيكون الخطاب معهم لغوا و بلا فائدة، و ينزّه الحكيم عن مثل ذلك.
و يرد عليه أنّ في التكاليف الإلهيّة حكم و مصالح لا تتوقّف على عمل المكلّفين و طاعتهم فحسب، إذ كم من حكم إلهي و تكليف ربّاني لم تعمل به الامة كما هو المشاهد المحسوس، فقد تكون المصلحة اختيار المكلّفين و امتحانهم و غير ذلك، و لعلّ النكتة في المقام هي دفع دخول طعام أهل الكتاب في المحرّمات من حيث كونها مصاحبا لمن حكم بكفره، و نجاسته، و خبثه، و قذارته.
أو لرفع التنافر و التباغض بين الطائفتين المؤمنة و الكافرة بعد بسط الإسلام، و مع أنّه يمكن أن يراد من قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ حلّية بذل الطعام لهم بالبيع و نحوه من المعاملات و غيرها.
ثمّ إنّ الطعام في الأصل يطلق على كلّ ما يذاق، و يؤكل، و يقتات، و قد وردت هذه المادّة مكرّرا في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [سورة الأحزاب، الآية: ٥۳]، أي: إذا أكلتم، و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: ۲٤۹]، أي: لم يذقه، و قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ [سورة آل عمران، الآية: 93]. و هو يشمل كلّ ما يقتاته الإنسان، فالعموم يشمل ذبائح أهل الكتاب كما يشمل غيرها من الأطعمة.
لكن ذكر أهل اللغة أنّ الطعام قد يطلق و يراد به البر خاصّة، بل لعلّه المتبادر إذا اطلق، و لهذا ورد في جملة من الروايات المروية عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد من الطعام في الآية المباركة هو البر و سائر الحبوب و الفاكهة، غير الذبائح الّتي يذبحونها، فإنّها إمّا غير قابلة للتذكية- كالخنزير- أو ما يقبلها و لكن لا تتوفّر فيها شروط التذكية الإسلاميّة، و هذا هو المخصّص لعموم الطعام لو كان له عموم يشمل غير الحبوب، فيكون وجه اختصاصها بالذكر مع دخولها في الطيبات هو دفع توهّم دخولها في المحرّمات؛ لأنّها مصحوبة لمن حكم بكفره و نجاسته و قذارته.
و من ذلك يظهر فساد ما ذكره جمع في الآية الشريفة من أنّ الحكمة إنّما تظهر في حلّية الذبائح دون غيرها؛ لأنّه لم يختلف أحد في حلّه، فإنّ هذه الحكمة خلاف الحكمة كما عرفت، و يشهد لذلك امور:
الأوّل: أنّ الكفّار وصفوا في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تدلّ على خبثهم و قذارتهم و رجسهم، و يكفي اتّصافهم بالكفر الّذي هو أم الرذائل و الخبائث، و ليس من الحكمة تحليل ذبائحهم الّتي تتّصف بالخبث أيضا، و قد ذكرنا في الآية الكريمة السابقة أنّ الطعام له الأثر الكبير في النفوس.
الثاني: أنّ اللّه تبارك و تعالى ذكر في آيات عديدة محرّمات الطعام و وصفها بأوصاف متعدّدة- كالرجس، و الفسق، و الإثم- و ليس من المعقول أن يحلّل سبحانه ما وصفه رجسا، و فسقا، و إثما و يدخلها في الطيبات.
إلّا أن يقال بالنسخ- و لم يعرف له وجه، فإنّ الآيات الشريفة في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.
الثالث: ما ورد في بعض الأخبار تعليل تحريم ذبائحهم بقولهم عليهم السّلام: «و اللّه ما استحلّوا ذبائحكم، فكيف تستحلون ذبائحهم؟!».
الرابع: أنّه لم يذكر اسم اللّه تعالى على ذبائحهم، و قد قال تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة الانعام، الآية: 121].
الخامس: أنّ حلّية ذبيحة الكتابي موضع النزاع و الخلاف حتّى عند العامّة أيضا، فلو كان للآية المباركة عموم يشمل ذبائحهم لما كان وجه للنزاع فيها.
و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما ذكره بعض المفسّرين في الردّ على من يقول بأنّ المراد من الطعام الحبوب. بأنّه لا دليل لتخصيص العامّ بالحبوب، مع أنّه موضوع للعموم، و استشهد بجملة من الآيات الشريفة. فإنّ أئمة اللغة ذكروا بأنّ الطعام خاصّة وضع للبر، دون سائر مشتقاته الّتي استدلّ بها لإثبات مراده. بل لعلّه المتبادر منه حيث اطلق، مضافا إلى أنّ الأخذ بالعموم في مورد لأجل قرائن خاصّة لا تصير دليلا في المقام كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ.
الحلّ: هو الحلال، و المراد من الضمير في (لهم) هم أهل الكتاب، أي: اليهود و النصارى و المجوس، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في تفسير هذه الآية الشريفة، فذهب جمع كثير الى أنّ الخطاب فيها للمؤمنين، أي: لا جناح عليكم أيّها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم.
و ردّ: بأنّه يستلزم استعمال الطعام بدل الإطعام، و هو باطل إلّا بضرب من التوسّع، و لا يمكن القول به هنا؛ لأنّه ورد الفصل بين المصدر و صلته بخبر المبتدأ و هو ممتنع.
و لكن، يمكن الجواب عنه بأنّه لا بأس به إذا كان فيه غرض صحيح أدبي.
و قيل: إنّ الآية المباركة بيان لنا لا لهم، أي: أنّ الّذي كان محرّما عليهم ممّا هو حلال لكم، قد أحلّ لكم أن تطعموهم.
و بعبارة اخرى: أنّ الطعام الّذي حلال لكم هو حلال لهم أيضا، فالآية الكريمة في مقام بيان حكم وضعي، لا حكم تكليفي.
و يرد عليه بأنّه مجرّد احتمال يحتاج الى دليل. و قيل: غير ذلك ممّا هو بعيد عن سياق الآية المباركة.
و الحقّ أن يقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لما أحلّ للمؤمنين طعام أهل الكتاب بعد أن نهاهم عن موالاتهم و معاشرتهم؛ لأنّهم كانوا على عداء شديد للإيمان و أهله، فكان المؤمنون يحترزون عن المعاملة مع الكفّار و مؤاكلتهم و معاشرتهم حتّى نزول هذا الحكم الامتناني التسهيلي، حيث أباح للمؤمنين طعام أهل الكتاب، فكان ذلك من ناحية المؤمنين، و قد أتمّ عزّ و جلّ النعمة و الامتنان بأن رفع الحظر عن طعام المؤمنين لأهل الكتاب، فأباح للأخير ما هو محلّل في الشريعة الإسلاميّة و إن كان محرّما في الشرائع الاخرى، فأجاز للمؤمنين بيع الطعام لهم.
و الآية الشريفة تشير الى معنى دقيق، و هو رفع الحصار الّذي كان مفروضا من الطرفين بالشروط الّتي قرّرتها الشريعة الإسلاميّة، فأباح عزّ و جلّ طعام كلّ طرف للطرف الآخر بعد أن كان محظورا لمصالح خاصّة. إلّا أنّ الحلّية لم تكن مطلقة بحيث تؤثّر على كيان المسلمين و تهدم شخصيتهم الإيمانية و تفسد قلوبهم‏ و نواياهم الصادقة، فقد وضع شروطا لهذا النوع من التعامل بأن لا يكون الطعام ممّا هو محرّم في الشرع الإسلامي، فخصّ الحكم بالحبوب و الفواكه و نحوهما، فلا يشمل الذبائح؛ لعدم توفّر تلك الشروط فيها، و لعلّه لأجل هذا ورد في جملة من الروايات المرويّة عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير الطعام بالحبوب- كما يأتي في البحث الروائي- و عدم شموله لذبائح أهل الكتاب كما عرفت، و إن اختلفت الروايات و الأقوال فيها.
و لكنّ المشهور المنصور حرمتها كما هو مذكور في الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ.
حكم امتناني آخر، و الجملة إمّا عطف على الطيّبات، و هي مبتدأ و الخبر محذوف لدلالة المقام عليه، أي: حلّ لكم. و المحصنات جمع المحصنة، و تقدّم الكلام في معنى هذه المادّة في قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [سورة النساء، الآية: ۲٤].
و المراد منها في المقام العفائف، و تخصيصها بالذكر للتحريض على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن؛ لأنّه لا مفهوم للوصف أصلا حتّى يحرم نكاح غير العفائف من المؤمنات و غير العفائف من الّذين أتوا الكتاب، و قد ورد في جملة من الأخبار جواز نكاح الزانية و إن كان يكره خصوصا في الدائمة.
و المعنى: يحلّ لكم نكاح العفائف من المؤمنات، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ هدف الإسلام من الزواج هو تحقيق الإحصان في الطرفين، و ليس مجرّد إطفاء سورة الغريزة فحسب، و لذا ورد التأكيد على هذه الناحية في جميع الآيات الكريمة المتعدّدة الواردة في مواضع مختلفة، و لعلّه لأجل ذلك خصّ عزّ و جلّ المحصنات بالذكر لبيان هذه الحيثيّة، فليس المراد حلّية التزويج بهن فقط و حرمته بالنسبة الى غيرهن.
و المراد من المؤمنات مطلق المسلمات إلّا ما ورد دليل خاصّ على تحريم زواج طائفة خاصّة منهن، كما هو مذكور في الفقه.
قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.
حكم امتناني مبنيّ على التخفيف و التسهيل في رفع حرمة نكاح المحصنات من نساء الّذين أتوا الكتاب.
و المراد من الّذين أوتوا الكتاب هم الطوائف غير المشركين و الوثنيّين الّذين أحلّ اللّه تعالى لنا طيّبات طعامهم، و إنّما وصفهم باوتوا الكتاب إيماء إلى أنّهم أهل كتاب كما أنّكم كذلك إلّا أنّهم قبلكم، فيفيد كمال القرب بين الطائفتين و المزج و التشريك بينهما.
و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من هذه الآية الشريفة، فقيل: إنّها تدلّ على حلّية نكاح الكتابيّات مطلقا و إن كنّ حربيّات، كما هو مقتضى الإطلاق.
و قيل: إنّها تختصّ بالذميّات؛ لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و النكاح مقتض للمودّة؛ لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [سورة الروم، الآية: 21].
و ردّ بأنّ ذلك يوجب الكراهة لا الحرمة؛ أخذا بالإطلاق مع قطع النظر عن طروّ عناوين اخرى.
و قال بعض أصحابنا: إنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة، الآية: 221]، و قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [سورة الممتحنة، الآية: 10]، فإنّ أهل الكتاب كفّار بلا خلاف، و قد سماّهم عزّ و جلّ بذلك في قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [سورة البينة، الآية: 1]. و تدلّ عليه بعض الروايات، ففي صحيح زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله تعالى: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال عليه السّلام: هي منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
و أشكل عليه: أوّلا: بأنّ آية المقام واردة مورد الامتنان و التخفيف، و مثل ذلك لا يقبل النسخ.
و ثانيا: أنّ الآيات الكريمة الّتي يدّعى نسخها لآية المقام، هي أسبق نزولا من هذه الآية الشريفة، فإنّ الاولى وردت في سورة البقرة الّتي هي أوّل سورة مفصّلة نزلت بالمدينة، و الثانية وردت في سورة الممتحنة و كلتاهما قد نزلتا قبل سورة المائدة، فإنّها آخر ما نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله كما تقدّم في أول سورة، فنسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‏ء.
و ثالثا: أنّ الآيات الشريفة الناسخة أجنبيّة عن المقام، فإنّ آية البقرة تدلّ على حرمة نكاح المشركات، و أهل الكتاب ليسوا مشركين، و على فرض دخولهم في عداد المشركين يجب أن تكون آية المائدة مخصّصة لآية البقرة، فيستثنى أهل الكتاب من عمومها.
و أمّا آية الممتحنة، فهي أجنبية عن المقام بالكلّية، فإنّها تدلّ على حرمة نكاح النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن على شركهن، و على فرض التنزيل فيأتي فيها ما ذكرناه في آية البقرة أيضا، فتكون آية المائدة ناسخة لها لا العكس؛ لأنّ النسخ شأن المتأخّر.
و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ من حمل ما ورد في بعض الروايات من النسخ على ضرب من التأويل ان أمكن، و إلّا فيردّ علمها الى أهله.
و يمكن المناقشة في ذلك، أمّا الأوّل: فلأنّ ورود حكم مورد الامتنان و التخفيف لا يصير موجبا للقول بعدم النسخ، فكم من حكم ورد في الشرع مورد التخفيف و الامتنان و قد نسخ بحكم آخر غيره كما هو واضح.
و أمّا الثاني: فقد تقدّم في بحث النسخ أنّه لا يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخّرا و المنسوخ متقدّما في النزول، فقد يتّحدان في النزول و قد يكونان بالعكس، فإنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على حكم و مصالح متعدّدة، و ما ورد من أنّ سورة المائدة آخر ما نزلت فهي ناسخة غير منسوخة- فعلى فرض صحّته- معارض بالأخبار الّتي تدلّ على النسخ.
و أمّا ما ذكر من آية الممتحنة، فواردة في النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن، فإنّ ذلك سبب للنزول، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا يقيّد به إطلاق الحكم و عمومه، و أنّ عمومها يشمل الكتابيات أيضا.
و الحقّ أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال، لاختلاف الأقوال تبعا لاختلاف الروايات الواردة في نكاح الكتابيّات، فالمشهور بين فقهائنا (قدس اللّه أسرارهم) الحرمة ابتداء لا استدامة، و قال بعضهم بالحرمة في النكاح الدائم مطلقا دون المتعة؛ عملا ببعض الروايات.
و ذهب جمع آخر الى الجواز على كراهة؛ لما رواه في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة و اليهوديّة، قال عليه السّلام: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة و النصرانيّة؟! فقيل: يكون له الهوى، فقال عليه السّلام: إن فعل فيمنعها من شرب الخمر، و أكل الخنزير، و اعلم أنّ عليه في دينه غضاضة».
و بعض الفقهاء خصّ الجواز بحال الضرورة؛ جمعا بين الأخبار، و لما ورد عن الباقر عليه السّلام: «لا ينبغي للمسلم أن يتزوّج يهوديّة و لا نصرانيّة و هو يجد مسلمة حرّة أو أمة»، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).
و لكنّ الأمر الّذي لا يمكن إنكاره هو أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ حلّية نساء أهل الكتاب للمؤمنين إنّما يكون عن طريق النكاح الشرعي بالشروط المقرّرة، و منها الأجر و المهر من غير فرق بين النكاح الدائم و النكاح المنقطع؛ لأنّه نكاح شرعا كما عرفت في بحث المتعة فراجع. و أمّا السفاح فهو محرّم على كلّ حال.
قوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
الإيتاء الإعطاء، و قد يطلق و يراد به التعهّد و الالتزام، و لعلّه أولى بالمقام كما هو معلوم، و المراد من الأجور المهور، و تقييد الحلّ بإتيانهن لتأكيد لزوم ذكرها في‏ العقد، لا للاحتراز، فإنّ إيتاء الأجور واجب في نكاح الإماء أيضا كما تقدّم في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء، الآية: ۲٥]، إلّا أنّ الفرق بين نكاح الحرائر و الإماء أنّ في الأوّل يعطي المهر لنفس المرأة، و في الثاني يعطي لمولاها.
و كيف كان، فالقول باختصاص الحكم في الآية الشريفة بالمحصنات العفيفات الحرائر من أهل الكتاب من غير شمول لملك اليمين خلاف ظاهرها.
قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ.
بيان لوجه من وجوه الحكمة في تشريع هذا الحكم، و هو تحصين النفس بإعفافها بالنكاح و جعلها في حصن منيع يمنعها من الوقوع في السفاح و ارتكاب الفاحشة جهرا أو خفاء، و تقدّم الكلام في ذلك فراجع.
قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ.
الخدن: الصديق يقع على الذكر و الأنثى على حدّ سواء، و تقدّم الكلام فيه في سورة النساء. و ذكرنا أنّ المراد به نفي جميع ما يوجب الوقوع في الفاحشة و الحرام، فإنّ الغرض من هذا التشريع هو الحدّ من الوقوع في مزالق الهوى و الحشر مع النساء و الاسترسال في حبّهن و الغرام بهنّ، فإنّ في ذلك تفكيك للقواعد المحكمة الّتي بني عليها الاجتماع و قدح نار الشهوة و غلبة فساد المحصنات اللاتي من أهل الكتاب على صلاح المؤمنين و تميع أخلاقهم الكريمة، و الوقوع في الفتنة الّتي اهتمّ الإسلام بسدّ الذرائع إليها؛ لأنّها من أهمّ ما يفسد الأخلاق و الاجتماع، فإنّ الوقوع في تلك المهلكات خلاف المنّة الّتي امتن بها على المؤمنين في هذا التشريع، الّذي كان الهدف منه التسهيل و التخفيف على المؤمنين، و ليكون سببا في انتشار معارف الإسلام، و تثبيت كلمة التقوى، و بثّ الأخلاق الفاضلة الّتي أمر بها الإسلام‏ و تكميلها بالكمال اللائق بهن ليلحقن بالمحصنات المؤمنات، فيكون هذا الحكم الإلهي من أهمّ دواعي العمل الصالح و العلم النافع.
قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ.
تحذير شديد لمن أعرض عن طاعة اللّه تعالى و خالف أحكامه المقدّسة، و الكفر هو الستر، و ذكرنا ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة، و قد يراد منه المعنى المصدري، و هو موجبات الإيمان، أي: الاعتقاد و الهدف الصالح، كما إذا استعمل بالنسبة إلى من أنكر الألوهيّة و الرسالة.
و قد يطلق و يراد منه معنى اسم المصدر، و هو الأثر الحاصل و الصفة القائمة في القلب، أي: الاعتقادات الّتي تدعو الى العمل الصالح، فيكون معنى الكفر حينئذ ترك العمل بما اعتقده و علم به أنّه حقّ، و هذا هو المراد منه في المقام، أي: الكفر العملي، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ الكفر يختلف باختلاف متعلّقه، فقد يكون عن جحود، و إنّما يكون كذلك إذا علم بالحقّ و داوم على إنكاره و ترك العمل به، و إلّا فإنّ مجرّد ترك العمل من دون أحدهما لا يكون كفرا بل فسقا، فيكون المراد من الكفر بالإيمان هو ترك العمل بما حقّ عنده و ثبت أنّه من الدين و ممّا شرّعه اللّه تعالى، فيكون كافرا بالإيمان منكرا للآخرة حابطا للعمل، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: ۱٤٦- ۱٤۷]، فإنّ هذه الآية الشريفة تبيّن أنّ التكذيب بأحكام اللّه تعالى إنّما كان بعد الإيمان و اتّخاذ سبيل الغي و ترك سبيل الرشد بعد العلم بهما، و لا ريب أنّ التكذيب كذلك يكون تكذيبا للآخرة، و هو يستلزم ترك الحقّ و جحده، و هذا يقتضي حبط العمل، و نظير ذلك في القرآن الكريم كثير.
قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها من قبيل ترتّب المسبّب على السبب، فإنّ من ترك اتّباع الحقّ الثابت عنده يكون كفرا بالإيمان، فيكون العمل الصادر عنه لا عن عقيدة و إيمان، و لا وزن لمثل هذا العمل و لا قيمة له، و هذا هو حبط العمل، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [سورة الكهف، الآية: 103- ۱۰٥].
ثمّ إنّ إطلاق الحبط كما يصحّ على الكفر بعد الإيمان- كما تقدّم- كذلك يصحّ على بطلان أعمال الكفّار أيضا، حيث أنّ لهم عبادة حسب شريعتهم الّتي يتمسّكون بها- أو أعمالا حسنة يأتون بها- فإذا جحدوا بالحقّ بعد العلم به، و لم يتبعوا الإسلام فقد حبط عملهم، و سيأتي الكلام في الحبط مفصّلا في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
لأنّه أعرض عن أحكام اللّه تعالى، و أنكر الشرائع، و كذّب الآخرة فحبط عمله، فلم يقم اللّه تعالى له وزنا يوم القيامة، فكان عاقبة أمره خسران السعي في الآخرة.

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل: تتضمّن الآيتان الشريفتان أهمّ الأسس الّتي يعتمد عليها المجتمع الإنساني، و هما الطعام و الزواج، فإنّ في الأوّل حياة الأفراد و صلاح أبدانهم و أنفسهم، و في الثاني بقاء النوع بالتناسل، و لا ريب أنّ الإسلام اهتمّ بهما اهتماما بليغا و شرّع فيهما أحكاما، و ذكر إرشادات و توجيهات محكمة مبنيّة على الصلاح و الأخلاق الفاضلة الكريمة؛ لأنّ صلاح هاتين الركيزتين يؤثّر على صلاح الفرد و الاجتماع و النوع الإنساني و سعادتهم، و قد ذكر عزّ و جلّ ما يتعلّق بهما في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.
و في المقام ذكر عزّ و جلّ قاعدة هامّة في الطعام مبنيّة على الصلاح العامّ فأحلّ الطيّبات، و أحكم هذا التشريع إحكاما دقيقا، فذكره في أسلوب لطيف يحبّب الطيّبات من الطعام الى النفوس، و تجعلها تأنف من الخبائث و تشمئز منها تلك النفوس الّتي تهذّبت بالتوجيهات الربوبيّة و الإرشادات الحكيمة، فكان ذلك أساسا في طعام الإنسان بجميع أنواعه و أصنافه، و قد ذكر عزّ و جلّ له مصاديق و أفرادا متعدّدة في مواضع متفرّقة، تقدّم بعضها في الآيات السابقة.
و في الآيات المباركة في المقام يذكر جلّ شأنه فردين آخرين، أحدهما لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم بالشروط المقرّرة. و الثاني طعام أهل الكتاب، و أرشد الى أنّ حلّيته إنّما تتوقّف على توفّر الشروط المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة، فإنّ حلّية طعامنا لهم إنّما كان في ظرف توفّر تلك الشروط فيها، و كذلك لا بدّ أن تكون حلّية طعامهم لنا و إلا صار خبيثا و خلاف المنّة الّتي سيقت الآية المباركة إليها، فينحصر طعامهم في بعض الأمور و لا تشمل جميع أطعمتهم.
و في هذا الحكم من وجوه الحكمة ما لا يخفى و يكفى فيها الإشعار بأنّ الإسلام دين التسامح و التعاطف، و ذكر تعالى في الآية الشريفة الثانية ما يتعلّق بالركيزة الثانية، و هي الزواج الّذي اعتنى به الشرع المبين، و لأهمّيّته ذكره عزّ و جلّ في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و بيّن جميع جوانبه المادّية و المعنويّة، و قد قارن عزّ و جلّ في المقام نساء المسلمات مع نساء أهل الكتاب الّذي طالما أراد أعداء الإسلام أن يتّخذوه ثغرة لينقضوا منها عليه، و يتّخذوه ذريعة في نشر الفاحشة في المؤمنين و افتتان المؤمنات، و بعث الدعارة فيهن، و بالأخرة تشويه هوية هذا الدين العظيم، و قد أحلّ عزّ و جلّ التزويج بالكتابيات ليسدّ الذرائع الى الدخول في الفتنة و الحرام، و أحكم هذا التشريع بوجوه عديدة فبيّن تعالى:
أولا: أنهن من أهل الكتاب كما أنّكم منه؛ لرفع الحزازة من الاختلاط بهنّ، ثمّ اشترط الالتزام بإعطاء المهر لهنّ، ليكتمل الزواج من الناحية الشرعيّة.
و ثانيا: بيّن عزّ و جلّ أنّه لا بدّ أن يكون القصد هو إحصان النفس و التعفّف عن الحرام، لا مجرّد التسلّط عليهن و الابتزاز من حقوقهن و الظلم عليهن و الإهانة بحبسهن في البيوت من دون الوصول إليهن، و لا إطلاق زمامهن ليسرحن مع الرجال في كلّ مكان فيمارسن كلّ أنواع المحرم و يتّخذ الرجال الصويحبات في السرّ و العلن.
ثمّ ختم الكلام بتهديد شديد؛ للإعلام بأنّ تلك الأحكام و إن كانت أحكاما امتنانيّة تسهيليّة ترخيصيّة إلّا أنّه لا بدّ من حفظ حدود اللّه تعالى فيها، و عدم التجاوز و التعدّي عنها، فإنّه يعتبر كفرا بالإيمان الّذي التزم المؤمن أن يعمل بأركانه، فمن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و يكون عاقبة أمره الخسران؛ لأنّه انقطع عن كلّ ما يوجب الزلفى و القرب لديه تعالى.
و كان لهذين التشريعين الأثر الكبير في نفوس أهل الإيمان، حيث رفع الحظر المفروض عليهم من الاختلاط مع أهل الكتاب و التعامل معهم، فكان ذلك وسيلة لنشر تعاليم الإسلام و معارفه الحقّة، و إظهار مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام. و لأجل أنّ الهدف كان عظيما قد أحكم عزّ و جلّ تلك الأحكام و أكّد على مراعاتها و حثّ على إتيانها بأتمّ وجه، فحذّر تحذيرا شديدا بسرعة حساب من خالف تلك التوجيهات الربوبيّة و إرشاداته القيمة، و أمر بالتقوى و مراقبة اللّه تعالى في جميع الحالات، و يكفي في الدلالة على أهميّة تلك الأحكام و لزوم مراعاتها بدقّة و أمان اعتبار الإعراض عنها كفرا بالإيمان و حبطا للأعمال.
الثاني: يدلّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ على قاعدة كلّية في الأطعمة و الأشربة الّتي يميّز بها الحلال عن الحرام، فكلّ ما كان طيبا حلّ أكله و شربه، بلا فرق بين أصنافهما، و كلّ ما كان خبيثا حرم شربه و أكله كذلك.
و الآية المباركة و إن كانت مطلقة إلّا أنّه لا بدّ من تقييدها بما ورد في الكتاب الكريم و السنّة الشريفة من الشروط و الحدود.
و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية المباركة على أصالة الحلّية و الإباحة، الّتي تمسّك بها الفقهاء في باب الأطعمة و الأشربة.
الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ جواز اقتناء الكلاب لأجل الصيد، كما يستفاد منه أنّ في بعض الحيوانات قابلية التعلّم، و لكن لا بدّ أن يكون التعليم في ما له نفع للإنسان بالطريق الّذي علّمه اللّه تعالى، فما يفعله بعض في تعليم الحيوانات مستخدما أساليب معيّنة تلحق الأذى و الضرر بالحيوان ليس ممّا علّمه اللّه تعالى؛ لأنّه ظلم، و هو قبيح عقلا و محرّم شرعا.
الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللَّهَ على وجوب مراعاة التقوى في جميع التشريعات و تطبيقها تطبيقا كاملا، مع مراعاة جميع الشروط و التوجيهات و الإرشادات الربوبيّة، و أنّ مخالفة التقوى فيها توجب المسألة يوم القيامة، و سرعة الحساب في الدنيا.
الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أنّ التشريعات و الأحكام الّتي أنزلها اللّه تعالى في هذه الآيات الشريفة لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان في العوالم الّتي ترد عليه، حيث أنّ مخالفتها تستلزم سرعة الحساب، و لم يذكر سبحانه و تعالى هذا الوعيد إلّا في مواضع معيّنة في القرآن الكريم، تكون لها أهميّة خاصّة.
و إطلاق هذه الآية المباركة يدلّ على سرعة الحساب في الدارين، فقد يكون عاجلا لم يمهله اللّه تعالى لعظمة الذنب، و قد يمهله لمصلحة لا يعلم بها إلّا هو.
السادس: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أنّ الحبط إنّما يتحقّق في ما إذا كان حقّ، و علم به، و التزم بالعمل به ثمّ إنكاره و جحده و ترك العمل به، فيكون كفرا بالإيمان، و كلّ كفر كذلك يكون حبطا للعمل، فلا ينفع حينئذ معه الأعمال السابقة، فإنّه سقط جزائها كما لا ينفع عمل حين كفره، فيكون عاقبة أمره الخسران إلّا إذا تاب و عمل عملا صالحا.

في الكافي بإسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «في كتاب علي عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال هي: الكلاب».
أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:
الأوّل: لا فرق في الكلب بين السلوقي و غيره و بين الكرديّة، سواء كان أسود أم غيره؛ لإطلاق الآية الشريفة و الرواية المتقدّمة.
الثاني: لا يحلّ من صيد الحيوان و مقتوله إلّا ما كان بالكلب المعلّم، فلا يحلّ صيد غير الكلب من جوارح السباع، كالفهد و النمر و غيرهما، و جوارح الطير كالباز و العقاب و الباشق و غيرهما، و إن كانت معلّمة؛ لأصالة عدم التذكية المقرّرة شرعا و المعتمد عليها لدى الفقهاء- كما تقدّم- إلّا ما خرج بالدليل، و نصوص‏ مستفيضة منها ما عن أبي عبد اللّه في المعتبرة قال: «سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب، فقال عليه السّلام: لا تأكل صيد شي‏ء من هذه إلّا ما ذكيتموه إلّا كلب المكلب»، و قريب منها صحيح الحلبي و غيره.
نعم، هناك رويات تدلّ على الجواز و خلاف ما تقدّم.
ففي رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ، فلا بأس بأكله»، و قريب منها غيرها.
و لكنّها موافقة للتقيّة و معارضة بما هو أقوى منها، فلا بدّ إمّا من حملها على الإمساك حيّا و وقوع التذكية على الصيد، و إطلاق الجرح الكثير على القتل مجاز شائع، أو ردّ علمها إلى أهله و اللّه العالم.
الثالث: أن يكون الكلب معلّما، فلو لم يكن كذلك لا يحلّ صيده لنصّ الآية المباركة، و ما يستفاد من الروايات الكثيرة، منها ما تقدّم.
و في الكافي أيضا بإسناده عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرسل الكلب على الصيد، فيأخذه و لا يكون معه سكين أ فيدعه حتّى يقتله و يأكل منه؟ قال عليه السّلام: لا بأس قال اللّه عزّ و جلّ: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و لا ينبغي أن يأكل ممّا قتله الفهد».
أقول: يأتي في البحث الفقهي أنّه لو لم يدرك صاحب الكلب الصيد حيّا، أو أدركه كذلك لكن لم يسع الزمان لذبحه، ففي الصورتين كان الصيد ذكيا و حلّ أكله.
و أمّا إذا اتّسع الزمان لذبحه لا يحلّ إلّا بالذبح، فلو تركه حتّى مات كان ميتة- و تقدّم المراد بأدنى ما يدرك ذكاته- و أمّا لو كان حيّا و اتّسع الزمان لذبح الصيد و لكن لم توجد آلة الذبح كالسكين و مات، نسب الى المشهور عدم الحلّية؛ لأصالة عدم التذكية؛ لأنّه حينئذ حيوان غير ممتنع، و كلّ حيوان كذلك لا يحلّ لحمه إلّا بالتذكية.
و لكن، نسب الى جمع منهم الشيخ و الصدوق الحلّية؛ تمسّكا بمعتبرة جميل بن‏ دراج المتقدّمة، و لكن أوهنها إعراض المشهور، و مخالفتها لما تقدّم من القاعدة «كلّ حيوان غير ممتنع لا يحلّ إلّا بالتذكية»، فلا بدّ من ردّ علمها الى أهلها. و اللّه العالم.
و في الكافي بإسناده عن الحلبي قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يفتي و كان ينفي و نحن نخاف في صيد البزاة و الصقور، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف و لا يحلّ صيدها إلّا أن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب علي عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ قال: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ في الكلاب».
أقول: هذه الرواية شارحة لجميع الروايات الدالّة على حلّية الصيد بجوارح السباع من أنّها صدرت عن تقيّة، و لمانع لم يتمكّن الإمام عليه السّلام بيان الحكم الواقعي فيها.
و في تفسير العياشي عن حريز عن الصادق عليه السّلام قال: «سئل عن كلب المجوس يكلّبه المسلم و يسمّي و يرسله؟ قال: نعم إنّه مكلّب، إذا ذكر اسم اللّه عليه فلا بأس».
أقول: مقتضى الأصل و الإطلاقات الواردة في الكتاب و السنّة عدم اعتبار إسلام صاحب المكلّب. نعم يعتبر أن يكون مرسل الكلب مسلما أو بحكمه، كالصبي الملحق به، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالخوارج و غيرهم، لم يحل أكل ما يقتله؛ لأنّ الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها.
و في السنن الكبرى للبيهقي بإسناده عن أبي رافع قال: «جاء جبرئيل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستأذن عليه، فأذن له فابطأ فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أذنا لك! قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة ففعلت، و جاء الناس فقالوا: يا رسول اللّه، ماذا يحلّ لنا من هذه الامة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أرسل الرجل كلبه و ذكر اسم اللّه فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل».
أقول: هذه الرواية- مع قطع النظر عن السند- يستفاد منها امور:
الأوّل: أدب الدخول، فإنّ جبرائيل رسول مباشر من اللّه تعالى و من الملائكة المقرّبين استأذن في الدخول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف بغير جبرائيل، لأنّ صاحب البيت حبيب اللّه، و أشرف الأنبياء، و فخر الكائنات، فإذنه صلّى اللّه عليه و آله شرف للتشرّف برؤيته.
الثاني: بعد ما أذن صلّى اللّه عليه و آله لجبرائيل فما معنى بطء جبرائيل بالدخول عليه صلّى اللّه عليه و آله؟! و لعلّه كان ذلك استحياء من مكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه كان مأمورا من اللّه جلّت عظمته أن لا يدخل بيتا فيه مظهر الشيطان و هو الكلب، و ذلك شأن جميع الملائكة بتمام أصنافها و رتبها.
و أمّا عتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفعله و قوله لجبرائيل مع علمه صلّى اللّه عليه و آله بالواقع من أنّه لا يمكن اجتماع مظهر الرحمن و رسوله مع مظهر الشيطان و أعوانه؛ لأجل الإعلام العملي للمسلمين بالاجتناب عن مظهر الشيطان، فإنّ جبرائيل مع ما لديه من المنزلة عند الربّ الجليل- بل الملائكة كلّهم- لا يدخل و لا يدخلن بيت أشرف الأنبياء، فكيف ببيت سائر الناس لو كان فيه كلب أو صورة على ما يأتي من الحكمة فيها.
الثالث: الوجه في أخذه صلّى اللّه عليه و آله رداءه و خروجه كناية عن اضطرابه لبطء روح القدس عليه، و كنّى بالرداء عن العون و النصر؛ لأنّ الرداء يقع على الظهر و يحفظ العاتقين و المنكبين عن الحوادث، فيكون عونا للإنسان.
الرابع: أنّ وجود جر و في بعض بيوتهم لم يكن عن عمد، و إنّما دخل الحيوان بنفسه بلا التفات من صاحب البيت.
الخامس: أنّ قتل الكلاب بأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما كان في خصوص الكلاب الهارشة الّتي كانت تؤذي سكان المدينة و تسلب راحتهم؛ و لم تكن قابلة للحفظ و التربية، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ الثابتة شرعا و عقلا، و ذلك بقرينة روايات كثيرة اخرى. إذا الرواية لا تنافي ما حدث في هذه الأعصار من عنوان‏ سمّوه «جمعية حفظ حقوق الحيوان» في زمان سلبت فيه حقوق الإنسان كلّها و دمرت الإنسانيّة، فلم يبق للبشريّة وزن؛ لأنّهم بعدوا عن القوانين الإلهيّة الّتي تحفظ الإنسان و تكرم حقوقه، و لم يخضعوا للركائز الّتي وهبتها السماء للبشريّة جمعاء بواسطة الرسل و الأنبياء، فبها تهنأ الحياة و يحسن العيش، و توفّر راحة النفس في ما يمرّ عليها من العوالم، و انفصلوا عن النظم الّتي أنزلها اللّه تعالى الّذي هو خالق الإنسان مبدع الكائنات، عالم الغيب، يعلم المصالح و المفاسد و الحكم و العلل، فضلّوا من السعادة الراقية و لم يصلوا الى الكمالات العالية، فتمسّكوا بعناوين واهية، فإلى اللّه المشتكى و عليه التوكّل في الشدّة و الرخاء.
و في الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس: «في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلّم، أو بازه، أو صقره، ممّا علّمه المجوسي فيرسله فيأخذه، قال: لا يأكله و إن سمّيت؛ لأنّه من تعليم المجوسي، و إنّما قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ».
أقول: تقدّم أنّ المناط إرسال المسلم الكلب للصيد، و أمّا تعليمه فأعمّ من أن يكون بمباشرة المسلم أو غيرها، و لا عبرة بصيد الباز و الصقر، و لعلّ الرواية تتضمّن نظر ابن عباس القابل للتغيير، و لم تكن مستندة الى المعصوم.
ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث بعض الأصحاب لقتل الكلاب، فقتل منها حتّى سأل بعضهم النبي صلّى اللّه عليه و آله: ماذا أحل لنا من هذه الامة؟
فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ، و لا شكّ أنّ هذه الرواية من باب ذكر بعض المصاديق، و إلّا فالآية المباركة مطلقة، بل إطلاق الطيّبات على بقاء الكلاب لاستعمالهم في المآرب المختلفة ممّا لا يقبله الذوق السليم إلّا على سبيل المجاز البعيد، فالأولى ردّ هذه الرواية الى أهلها.
على أنّ متونها مضطربة جدا، و لم يرد شي‏ء منها في مجامع الشيعة، بل هي مرويّة في الدرّ المنثور و غيره.
و في الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه‏ عزّ و جلّ: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فقال عليه السّلام: الحبوب و البقول».
أقول: الروايات الدالّة على أنّ المراد من قوله تعالى: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هو الحبوب و البقول كثيرة جدا و قد بلغت حدّ التواتر، و تقدّم أنّ الطعام هو الحبوب، و قد ورد في زكاة الفطرة: «صاعا من طعام»، أي: البر أو الشعير أو غيرهما، و قال الخليل: «إنّ العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البر خاصّة»، فلا مجال للقول بأنّ المراد من الطعام مطلق ما يطعم من اللحوم و غيرها كما تقدّم في التفسير. و إنّ الروايات الواردة في حلّية ذبائح أهل الكتاب المستدلّة بالآية الشريفة كلّها غير نقيّة السند و عن طرق العامّة، كما أنّ ما ورد عن طرقنا الدالّة على حلّية ذبائح أهل الكتاب محمولة على التقيّة، و الشاهد على ذلك ما رواه الشيخ بإسناده عن بشير بن أبي غيلان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذبائح اليهود و النصارى و النصاب؟ قال عليه السّلام: فلوى شدقه و قال: كلبا الى يوم ما»، فإنّ التقيّة فيها ظاهرة.
و من العجب أنّ السيوطي سرد جملة من الروايات في تفسيره (الدرّ المنثور) تدلّ على أنّ المراد من الطعام من الآية الشريفة هو ذبائح أهل الكتاب، و لكنّها لم تستند الى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو خلفائه المعصومين، فمن الممكن أن تكون مجرّد نظريات في ظروف خاصّة بتحويل المعنى، و الشاهد على ذلك أنّه لم يذكر رواية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الحبوب، مع أنّها المتبادر منه عند الإطلاق.
على أنّه يمكن أن يراد من الروايات- الّتي تفسّر طعام أهل الكتاب بالذبائح كما وردت عن طريق السنّة- الذبائح الّتي ذبحت على طريق الشرع، بحيث يكون المباشر للذبح المسلم و كان جامعا للشرائط و كانت الذبيحة ملكا للكتابي.
إن قلت: بناء على ما تقدّم لا تختصّ الحلّية بذبيحة الكتابي بل تعمّ المشرك أيضا، فلو ذبح المسلم كذلك ذبيحة المشرك حلّ أكلها.
قلت: نلتزم بذلك و لا محذور فيه شرعا، و تقييد الآية المباركة بأهل الكتاب‏ يكون حينئذ من باب الغالب، أو من باب ذكر بعض مصاديق الكفر، بقرينة الروايات و الإطلاقات الواردة في الصيد و الذباحة، فتأمّل.
و في تفسير العياشي بإسناده عن قتيبة الأعشي قال: «سأل الحسن بن المنذر أبا عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الرجل يبعث في غنمه رجلا أمينا يكون فيها نصرانيّا أو يهوديّا، فتقع العارضة فيذبحها و يبيعها؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تأكلها و لا تدخلها في مالك، فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلّا المسلم، فقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا اسمع: فأين قول اللّه: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يقول: إنّما ذلك الحبوب و أشباهها».
أقول: يحتمل في جملة: «فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلّا المسلم» معنيان:
الأوّل: الأمن من جهة مجرّد صدور اسم اللّه تعالى.
الثاني: الأمن من جهة الاعتقاد، و هذا هو المناط في هذه الروايات.
و كيف كان، فهذه الرواية- و غيرها الّتي هي قريبة منها- تدلّ على ما ذكرناه سابقا، كما تكشف عن الحكم بالحلّية في ذبائح أهل الكتاب لم يكن واقعيّا، و أنّ المراد من الطعام في الآية الشريفة خصوص الحبوب و أشباهها.
و في الكافي بإسناده عن زرارة بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟ فقال: منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ».
أقول: و قريب منه غيره، و المراد من النسخ هنا غير معناه المصطلح، و المقصود منه التقييد، و تقدّم ما يرتبط به في التفسير فراجع.
و في تفسير العياشي بإسناده عن العبد الصالح قال: «سألناه عن قوله تعالى:
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ما هن؟ و ما معنى إحصانهن؟
قال عليه السّلام: هنّ العفائف من نسائهم».
أقول: يستفاد من الرواية جواز نكاح الكتابيّة و العفائف من نسائهم من باب الأفضليّة، حرّة كانت أو أمة، و في بعض الأخبار: «إنّما يحلّ منهنّ نكاح البله»، أي: الغافلة عن الشرّ و المطبوعة على الخير، و قد ورد في بعض الروايات جواز نكاح غير العفائف من نسائهن و لكن يمنعهن من الفجور، كما تقدّم في التفسير.
و في تفسير العياشي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ قال: هنّ المسلمات».
أقول: لأنهنّ غالبا يلازمن العفّة، بلا فرق بين جميع مذاهبهن.
و في تفسير القمّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و إنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الّذين يؤدّون الجزية و غيرهم لم تحل مناكحتهم».
أقول: عدم إعطائهم الجزية فيما إذا عرضت عليهم و لم يؤدوها، فيصيرون من الكفّار المحاربين، و أمّا إذا لم تعرض عليهم كما في زماننا هذا، فيشكل دخولهم في الحربي، و تفصيل الكلام يطلب من الفقه.
و في الكافي بإسناده عن الحسن بن الجهم قال لي أبو الحسن الرضا عليه السّلام:
«يا أبا محمد! ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على مسلمة؟ قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك؟! قال عليه السّلام: لتقولن، فإنّ ذلك تعلم به قولي؟ قلت: لا يجوز تزويج نصرانيّة على مسلمة و لا غير مسلمة، قال: لم؟ قلت: لقول اللّه عزّ و جلّ: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، قال عليه السّلام: فما تقول في الآية: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟ قلت: فقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نسخت هذه الآية، فتبسّم ثمّ سكت».
أقول: تقدّم سابقا أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، و على فرض التنازل و غضّ النظر عن ذلك، فالمقام لا يكون من باب النسخ المصطلح كما مرّ، و أنّ الآيتين باقيتان على حجّيتهما، و آية المائدة تقيّد إطلاق آية المشركات أو تخصّصها، و لعلّ تبسّم الإمام عليه السّلام إشارة الى ذلك. و اللّه العالم.
و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ؟ قال: ترك العمل الّذي أقرّ به، أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل».
أقول: ذهب جمع كثير من العلماء الى أنّ استحقاق الثواب مشروط بالموافاة، و استدلّوا بأدلّة كثيرة من الآيات الشريفة و السنن المعصوميّة، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر، الآية: ٦٥]، أي: ثواب عمله و جزائه الحسن. و هناك قول آخر و هو التكفير الّذي هو أقرب الى التفضّل منه سبحانه و تعالى و تقتضيه ظواهر الأدلّة، و سيأتي في الآيات المناسبة البحث عنهما مفصّلا.
و كيف كان، فأسباب الحبط على القول به كثيرة:
منها: الشرك باللّه العظيم، إن لم يتداركه بالندم و التوبة، كما مرّ.
و منها: ما ورد في هذه الرواية من عموم ترك العمل الّذي أقرّ به في اصول الدين.
و هناك أسباب اخرى يأتي التعرّض لها. و الرواية من باب ذكر بعض المصاديق.
و في المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي حمزة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ قال: تفسيرها في القرآن و من يكفر بولاية علي عليه السّلام، و علي هو الإيمان».
أقول: إنّ الميزان في الحبط هو إنكار ما هو ضروري الدين، سواء كان من أصوله أم فروعه؛ لأنّ إنكار الفروع يرجع بالآخرة الى إنكار الأصول أيضا كما ثبت في علم الكلام، فيكون إنكار الولاية كإنكار المعاد موجبا للحبط، و قد سمّي عليّا بالإيمان في كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله عند ما برز الى عمرو بن عبد ود، قال صلّى اللّه عليه و آله: «برز الإيمان كلّه الى الكفر كلّه»، كما سمّي الصلاة بالإيمان كذلك، و الرواية من باب بيان بطن القرآن كما ورد في روايات كثيرة من أنّ له بطنا، و لا منافاة حينئذ أن يكون ذلك من باب بيان أجلى المصاديق أيضا.
و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن‏ قول اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ؟ فقال: ترك العمل الّذي أقرّ به، قلت: فما وضع ترك العمل حتّى يدعه أجمع؟ قال: الّذي يدع الصلاة متعمّدا لا من سكر و لا من علّة».
أقول: المراد من السكر النوم كما في صحيح محمد بن مسلم، و هذا الحبط إمّا لأجل ترك الواجب العبادي بعد الإذعان بوجوبه، فحبط به ثواب التزامه و عقيدته، كما إذا ترك الصوم عن علم و عمد، أو الصلاة كذلك، فحبط بذلك ثواب تلك الأصول المحقّقة للإيمان، و هذا مرتبة من الكفر كما تقدّم مكرّرا.
و أمّا جعل الإيمان نفس الفروع، أي: أنّ الإيمان نفس الصلاة الّتي هي عمود الدين فتركها بغير عذر يكون كفرا بالإيمان، خلاف سياق الآية الشريفة، و لا يوافقه ظاهر الروايات المتقدّمة، فهو أجنبي عن الحبط إلّا إذا رجع الى ما تقدّم.
و الحبط تارة: من قبيل إبطال المقتضي للثواب من أوّل الأمر، كمن نشأ منكرا للولاية مع العلم بأنّها أحد الأثافي في الإسلام.
و اخرى: من قبيل الإهدار، مثل ما يهدر ثواب عمله الثابت في صحيفته لما صدر عنه من بعض الأعمال السيئة بالعمد و الاختيار.
و في تفسير العياشي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر اللّه به و لا يرضى به».
أقول: الخروج عن الإسلام له مراتب، و إنّ بعض مراتبه يوجب القتل، كالارتداد، و بعضه الآخر ليس كذلك، و إنّما يوجب الفسق في الدنيا و دخول النار في الآخرة، و من ذلك ما ورد في الرواية. و كذا الكلام في الكفر من أنّ له مراتب.
ثمّ إنّ الحبط على أقسام ثلاثة:
الأوّل: أن تكون الأعمال دنيويّة يقصد بها الدنيا، فلا تغني في القيامة أصلا، قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23]، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و الدليل العقلي يدلّ على ذلك أيضا؛ لأنّ العمل لم يضف إليه عزّ و جلّ، و كان قصد العامل منه طلب الماديّة و الأجر الدنيوي، فلا معنى للجزاء الاخروي، إذا المقتضي للثواب لم يكن موجودا.
الثاني: أن تكون الأعمال اخرويّة، كالصلاة و الصوم و الحجّ، و لكن لم يقصد عاملها وجه اللّه تعالى، كما في الأعمال الريائيّة- نستجير باللّه عزّ و جلّ منها- فحكمه حكم القسم الأوّل بعين ما تقدّم من الأدلّة، ففي الحديث: «انّه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بم كان اشتغالك؟ يقول: بقراءة القرآن، فيقال له: قد كنت تقرأ ليقال لك قارئ و قد قيل ذلك، فما لك منّا أجر».
الثالث: أن تكون أعمالا صالحة و بإزائها سيئات، فهذا القسم هو محلّ البحث، فعن جمع بالحبط و عن آخرين بالتكفير، قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: ۱۱٤]، و قال تعالى في وصف التائبين من الأعمال السيئة: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [سورة الفرقان، الآية: 70]، و الثاني هو الأقرب الى رحمته و غفرانه، كما ذهبت الإماميّة الى ذلك.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ بعض المعاصي المتوغّلة في البعد عنه جلّت عظمته- كالشرك و جحود الإيمان- يوجب الحبط إن لم تتعقّبه التوبة و يتدارك بالأعمال الصالحة.
و في تفسير علي بن إبراهيم في قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال: «من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك، فقد حبط عمله و كفر بالإيمان».
أقول: لا بدّ و أن تكون الإطاعة عن عقيدة، و إلّا فلا توجب الحبط كالإطاعة عن كره و تقيّة.
و في تفسير العياشي عن هارون بن خارجة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ؟ قال فقال: من ذلك ما اشتقّ فيه».
أقول: لعلّ المراد أنّ المكلّف باختياره أحبط عمله و أوقع نفسه في المشقّة، و اللّه العالم بالحقائق.

يستفاد من الآيات المباركة قواعد فقهيّة بيّنتها السنّة الشريفة، كما يستفاد منها أحكام خاصّة نقدّم بعضها في البحث الروائي، أمّا القواعد فهي:
القاعدة الاولى: «حلّية الطيّبات مطلقا إلّا ما خرج بالدليل»، سواء أ كانت من الأطعمة أم من الأشربة أم من النكاح أم غيرها ممّا يشمّ أو يستنشق حتّى القول الطيب، قال تعالى: وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [سورة الحج، الآية: ۲٤]. و إن شئت عبّرت: «كلّ طيب حلال إلّا ما أخرجه الشارع بالدليل»، و البحث عنها من جهات:
الاولى: في فقه القاعدة و معنى الطيّبات فيها، فنقول: المراد من الطيب مقابل الخبيث، و هو في اللغة: كلّ ما تستلذّ به النفس مطلقا و لم يكن فيه أذى لها أو للبدن. و إن شئت عبّرت: «كلّ ما ترغب إليها النفوس المستقيمة»، فيمكن أن يقال: إنّ ما حرّمه الشارع لا تستلذّ به النفس للتأنيب المستتر في الضمير البشري عند ارتكاب المحارم، أو به أذى لنفس أو للبدن؛ لأنّ المحرّمات تابعة للمفاسد و تترتّب العقوبات عليها مطلقا، فلا ترغب إليها النفوس، فتكون خبيثة من هذه الجهة.
و دعوى: أنّ النهي، و وعيد العذاب من الشرع، و العلم كلّ منهما كيف يوجب الاتّصاف بالخباثة؛ لأنّ الموضوع مؤخّر عن حكمه بمراتب ثلاثة.
غير صحيحة؛ لأنّ ما ذكرنا لا ينافي ذلك، و أنّه من قبيل الكشف، و أنّ الخباثة الشرعيّة تجتمع مع الخباثة الفطريّة، و الاولى توجب التأنيب، و الثانية توجب الضرر. فتأمّل.
إن قلت: إنّ في ارتكاب كثير من المعاصي تستلذّ النفس، و تخمد فوران الشهوة الكامنة و لا أقلّ تستجاب الغرائز الجنسيّة، و هذا المقدار من الزمان و لو كان قليلا يكفي في أن يكون العمل طيّبا و إن كان قد حرّمه الشارع.
قلت: ارتكاب المعاصي الّتي تستلذّ بها النفس على قسمين:
الأوّل: أنّ النفس تعلم بما يترتّب عليه من المفاسد في المستقبل، و مع ذلك أنّها تقدّم على اللذّة الوقتيّة، ففي الحقيقة أنّها لا تستلذّ حتّى حين ارتكاب المعصية لو تفطن و تذكر العواقب السيئة، كمن يقتل شخصا لإخماد غضبه و يعلم بالعواقب الّتي ترد عليه من التأنيب في الضمير و القوانين الشرعيّة أو الوضعيّة، فحينئذ لم تستلذ النفس و على فرضه لم تكن مستقيمة.
الثاني: لا يعلم بالعواقب، فتارة معذور شرعا في جهله، و اخرى ليس بمعذور، و الأوّل يكون الاستلذاذ مؤقتا و شخصيّا مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من الأحكام الوضعيّة و حرمان النيل الى بعض المقامات، و الثاني مضافا الى أنّها ليست مستقيمة لا يكون ذلك في الواقع استلذاذ مع ما يرد عليها من العواقب السيئة.
الثانية: في الأدلّة الّتي استدلّوا بها على القاعدة، فمن الكتاب: قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و إطلاقه يشمل جميع أنواع الطيّبات و أقسامها- كما تقدّم- و إن كان الغالب فيها الأكل و الشرب و النكاح.
و قال تعالى في أوصاف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [سورة الأعراف، الآية: ۱٥۷]، فمقتضى الآية الشريفة حلّية كلّ ما ترغب إليها النفوس السليمة مطلقا، إلّا ما خرج بالدليل المعتبر الشرعي، كما في شرب بعض المتنجّسات مثلا.
و قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة، الآية: ۱٦۸]، و الأمر فيه للإباحة و الأكل من باب الغالب كما مرّ.
و من السنّة: روايات كثيرة مختلفة التعابير، كقول الصادق عليه السّلام في الصحيح: «كلّ شي‏ء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و في الحديث: «اتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بغراب فسمّاه فاسقا، فقال: و اللّه ما هو من الطيّبات»، و قد ورد: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أتاه رجل من الأعراب يفتيه ما الّذي يحلّ له و الّذي يحرم عليه في ماله و نسكه و ماشيته و عنزه و فرعه من نتاج إبله و غنمه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: احلّ لك الطيّبات و حرّم عليك الخبائث»، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة من الفقه.
و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد من أساطين الفقه، بل عدّ ذلك من ضروريات الدين.
و من العقل: حكمه البتّي بأنّ اللّه تبارك و تعالى العالم بالمصالح و الخفيّات إذا حرّم شيئا كان فيه مفسدة، فلا يكون من الطيّب، و ما سوى المحرمات تستلذّه النفس و ترغب إليه، فيكون حلالا طيّبا.
الثالث: في مدى شمول القاعدة، فإن قلنا: إنّ الخبائث هي المحرّمات الشرعيّة فقط، فالقاعدة باقية على عمومها و لم ينلها يد التخصيص إلّا بطرو عناوين خارجيّة الّتي تغيّر الحكم.
و أمّا إن قلنا: إنّ الخبائث أعمّ من المحرّمات الشرعيّة، فالخبيث و الطيّب يكونان من الأمور النسبيّة الإضافيّة، يختلفان باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، كما هو مفصّل في الفقه، و من شاء فليراجع كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).
الرابعة: أنّه تبارك و تعالى ذكر مصداقا للطيّبات، و هو لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم إذا استجمع فيه الشروط الآتية، كما ذكر سبحانه و تعالى مصاديق للخبائث من الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما اهلّ لغير اللّه به، و المنخنقة، و الموقوذة، و المتردية، و النطيحة، و ما أكل السبع، بل كلّ ما يضرّ الإنسان ضررا معتدا به، فهو من الخبائث و محرّم كما ذكر مفصّلا في الفقه.
القاعدة الثانية: قاعدة: «كلّ صيد قتله جوارح الطير و السباع يحرم أكله إلّا ما خرج بالدليل»، و لم يخرج عنها إلّا قسم خاصّ من الكلب فقط، و هو المعلّم من الكلاب مع شروط خاصّة فيه كما ياتي.
بل يمكن أن يقال: إنّ تعليم الحيوان- بحيث يكون تحت اختيار الإنسان و إرادته- يخرجه عن السبعيّة نوعا ما، و يكون الاستثناء فيه موضوعيّا لا حكميّا، و على أي حال أنّ عنوان السبعيّة المأخوذة في القاعدة من باب الغالب- لا التخصيص- و إلّا فلو فرضنا أنّ حيوانا مألوفا أو مأنوسا أخذ صيدا و قتله يحرم أيضا لعدم توفّر شروط التذكية فيه، مثل ما لو صادت القطة حيوانا و قتلته أو الشاة أو البقرة كذلك.
و البحث فيها من جهات:
الاولى: في الأدلّة الّتي استندت القاعدة عليها.
فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فهذه الشروط احترازيّة للحكم الّذي هو الحلّية كما هو الظاهر من الآية الشريفة، و تدلّ عليها روايات كثيرة، فإذا لم تكن أحد هذه الشروط انتفى الحكم، لقاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه المسلّمة عند العقلاء، فإذا لم يكن كلبا لا يجوز أكل صيده، أو كان كلبا و لكن لم يكن معلّما فكذلك، و كذا إذا لم يمسكه الحيوان، أو لم يذكر اسم اللّه تعالى عليه عند إرساله، كلّ ذلك يحرم أكل صيده و لا يحلّ.
و من السنّة: روايات مستفيضة، منها ما عن الصادق عليه السّلام في معتبرة الحضرمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب؟
فقال: لا تأكل صيد شي‏ء من هذه إلّا ما ذكيتموه، إلّا الكلب المكلّب»، و في صحيح زرارة عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا خلاف الكلب ممّا تصيد الفهود و الصقور و أشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلّا ما أدركت ذكاته؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ قال: مُكَلِّبِينَ، فما كان خلاف الكلاب فليس صيده بالّذي يؤكل إلّا أن تدرك ذكاته».
و أمّا رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب‏ و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ، فلا بأس بأكله»، و مثلها غيرها محمولة على ما إذا أدرك حياته فذكي، و إلّا فيردّ علمها إلى أهله، لمعارضتها بما هو أقوى، و موافقتها للتقيّة.
و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد، بل عدّ ذلك من ضروريات المذهب.
و لأصالة عدم التذكية المعتمد عليها في اللحوم، و قد ثبت حجّيتها في الفقه و الأصول، و تقدّم البحث عنها هنا موجزا.
الثانية: لا فرق فيما قتله جوارح الطير و السباع بين أن تكون معلّمة أو غير معلّمة، فيحرم مطلقا إلّا أن يدرك حياته فيذكى، كما لا فرق بين أن يكون معها كلب معلّم أو لم يكن؛ لأصالة عدم التذكية؛ و لمعتبرة أبي عبيدة الحذاء عن الصادق عليه السّلام: «و إن وجد معه كلبا غير معلّم فلا يأكل منه»، هذا إذا لم تكن قرينة خارجية توجب الاطمئنان على أنّ كلب المعلّم قتله، و إلّا فهي المتّبعة كما تقدّم.
الثالثة: يعتبر في الكلب للصيد الخارج عن القاعدة المتقدّمة امور:
الأوّل: أن يكون معلّما للاصطياد لما تقدّم من الكتاب و السنّة و الإجماع، و لأصالة عدم التذكية، و عن الصادق عليه السّلام: «و إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته»، و قريب منه غيره.
و علامة اتّصاف الكلب به أن يكون الحيوان منقادا في الإرسال و الزجر و ضبط الصيد لو أرسله صاحبه و أغراه- إلّا إذا كان مانع في البين- و أن ينزجر و يقف عن الذهاب و الهياج إذا زجره صاحبه، فيكون تحت اختيار الإنسان لو لم يكن مانع و لا يتخلّف إلّا نادرا؛ لجملة من الأخبار المذكورة في الفقه، و للإجماع بين المسلمين.
الثاني: أن يمسك الصيد لصاحبه و لا يأكل منه شيئا؛ لقوله تعالى فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، و لكنّ الظاهر أنّ الإمساك أعمّ من ذلك، فلا يصير دليلا للمقام، و بقول الصادق عليه السّلام في موثق سماعة: «فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه»، و قريب منه غيره.
و هناك: روايات اخرى دالّة على الجواز- تعارض الروايات المتقدّمة- و لذا كان هذا الشرط موضع الخلاف بين الفقهاء. و لا يبعد الترجيح للطائفة الثانية من الأخبار، كقول الصادق عليه السّلام في صحيح الحلبي: «و أمّا ما قتله الكلب و قد ذكرت اسم اللّه عليه، فكل منه و إن أكل منه»، و في بعض الروايات: «و إن أكل منه ثلثيه»، و طريق الجمع بين الطائفتين حمل الطائفة الاولى على التنزيه و الكراهة بقرينة الطائفة الثانية، و هذا هو الحمل الشائع في الفقه، أو حمل الطائفة الاولى على عدم تحقّق التعليم، إلّا أنّ ما ذهب إليه المشهور من اعتبار عدم أكله هو الأحوط كما هو محرّر في الفقه.
الثالث: أن يرسل للاصطياد مطلقا على سبيل الجنس، فلو استرسل بنفسه من دون إرسال لم يحل مقتوله، و يمكن استفادة اعتبار هذا الشرط من قوله تعالى:
مُكَلِّبِينَ، و قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ، و في الحديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كلب أفلت و لم يرسله صاحبه فصاد، فأدركه صاحبه و قد قتله، أ يأكل منه؟ فقال عليه السّلام: لا».
ثمّ إنّه يشترط في حلّية صيد الكلب امور:
الأوّل: أن يكون المرسل مسلما أو بحكمه كالصبي، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه، أو من كان بحكمه كالنواصب لم يحل أكل ما قلته بالضرورة المذهبيّة، و إن الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها إلّا ما خرج بالدليل على الخروج.
الثاني: أن يسمّي عند الإرسال، فلو ترك التسمية عمدا لا يحلّ مقتوله؛ للآية المباركة: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ و لقول الصادق عليه السّلام: «من أرسل كلبه و لم يسم فلا يأكله»، و لا يضرّ لو ترك التسمية نسيانا أو شكّ فيها؛ لقول الصادق عليه السّلام: «فإن كنت ناسيا فكل منه»، و كذا رواية أبان بن عثمان: «لا أدري سمّيت أم لم أسم، فقال عليه السّلام: كل لا بأس».
و ظاهر الآية الشريفة أنّه لا يشترط أن تكون التسمية حين الإرسال، بل تكفي و لو حصلت بعده الى حين عضّة الكلب، و تدلّ عليه بعض الروايات أيضا.
و هنا فروع اخرى تعرّضنا لها في الفقه من شاء فليراجع كتاب الصيد من (مهذب الأحكام).
الثالث: أن يكون موت الحيوان مستندا الى جرح الكلب المعلّم و عقره، فلو كان بسبب صدمة أو خنقة أو اتعابه في العدو أو ذهاب مرارته من جهة شدّة خوفه، لم يحل لظاهر النصوص؛ و للإجماع؛ و للأصل، و لو شكّ في أنّ الموت مستند الى الكلب أو غيره و لم تكن في البين قرينة معتبرة تدلّ على أنّه مستند الى الكلب، لا يحلّ أكله؛ لأصالة عدم التذكية بعد عدم إحراز سببها.
الرابع: عدم إدراك صاحب الكلب الصيد حيّا مع تمكّنه من تذكيته، فلو أدركه حيّا و جبت التذكية، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، كما تدلّ عليه روايات منها قول الصادق عليه السّلام في المعتبر: «فإن أدركه قبل قتله ذكّاه»، و المناط إدراك صاحب الكلب الصيد، فلو أدركه شخص آخر فإن أخذه من الكلب حيّا يجب عليه الذبح الشرعي، فلو لم يذبح حتّى مات ضمن لصاحبه؛ لأنّه أتلف مال الغير، و إن لم يأخذه منه و كان في إمساكه حتّى مات ثمّ وصل صاحبه تحقّقت التذكية، و هناك فروع اخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع الفقه.
و ذهب بعض الفقهاء الى طهارة موضع العضّة من الكلب؛ لقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، الدالّ على حلّية الأكل مطلقا.
و لكنه مردود: لعدم كون الآية المباركة في مقام البيان من هذه الجهة، فالعمومات الدالّة على أنّ وضع ملاقاة العضّة مع نجس العين نجس محكمة.
القاعدة الثالثة: «الطعام كلّه حلّ إلّا ما خرج بالدليل»، و المراد من الطعام الأعمّ من الحبوب و الفواكه و الألبان و المعادن- كالملح و غيره- بلا فرق بين أن يكون الطعام من صنائع أهل الكتاب كبعض الحلويات مثلا، أو لم يكن كذلك كالتمر و الجوز و اللوز و غيرها، سواء أ كان من الكفّار أم من غيرهم، و المراد من الحلّ الأكل و غيره من الاستعمالات.
و مستند هذه القاعدة الأدلّة التالية، فمن الكتاب قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و غيره كما يأتي.
و من السنّة روايات كثيرة تقدّم بعضها، و في معتبرة هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك، يعني أهل الكتاب».
و من الإجماع ما هو متسالم عند المسلمين إلّا في الذبائح، فقد ذهبت الإماميّة الى الحرمة لأدلّة وردت عن أهل البيت عليهم السّلام.
و يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك بأنّ ذلك يوجب المودّة بين أصناف الناس، و رفع الحزازة، و تقريب الواقع، و إظهار الحقّ و إراءته كما هو.
و المراد من الحلّية نفي الحرج و اليأس و متعلّقها الأعمّ من الأكل و البيع و الشراء و غيرهما من المعاملات؛ للأصل بعد عدم ورود نهي أو دليل على التحديد من الشرع.
ثمّ إنّه قد خرج عن هذه القاعدة موارد:
الأوّل: ما إذا طرأ على ذلك عنوان خارجي آخر، كالإعانة على الإثم، و تقوية الباطل، و إهانة المؤمن أو تحقيره، أو ظنّ السوء بالدين، أو الضرر و ما الى غير ذلك، فحينئذ لا تجري القاعدة، و في جميع ذلك محكوم بالحرمة؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة مقدّمة عليها، كما ثبت ذلك في الأصول، كما أنّها لا تجري فيما لو وجب بطرو عناوين اخرى كإنقاذ حقّ، و حفظ مؤمن، أو استلزم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غيرها، ففي جميع ذلك يجب؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة محكمة على القاعدة.
الثاني: اللحوم و الشحوم و الجلود و جميع أجزاء الحيوان لو ذبحه كافر- مشركا كان أو كتابيّا- و من بحكمه كالنواصب و الغلاة؛ للأدلّة الدالّة على عدم حلّية ذبائحهم، كقول الصادق عليه السّلام الوارد في ذبيحة اليهودي: «لا تأكل من ذبيحته و لا تشتر منه»، و معتبرة إسماعيل بن جابر: «لا تأكل من ذبائح اليهود و النصارى‏ و لا تأكل من آنيتهم»؛ و لأصالة عدم التذكية، و ما دلّ على الخلاف إمّا محمول على التقية، أو قاصر سندا و معارض بما هو أرجح منه، فلا بدّ من ردّ علمه الى أهله كما ذكرنا في الذباحة من كتاب (مهذب الأحكام).
نعم، لا يعتبر في تذكية السمك عند إخراجه من الماء الإسلام، فلو أخرجه كافر أو أخذه فمات بعد أخذه حلّ، سواء كان كتابيّا أم غيره؛ لإطلاق قوله عليه السّلام: «إنّما صيد الحيتان أخذها»، و لكن لو وجده في يد الكافر ميتا لم يحل أكله لأصالة عدم التذكية، إلّا إذا علم أنّه قد مات خارج الماء أو أخذه بعد موته في خارج الماء، و لا يحرز ذلك بكونه في يده، و لا بقوله لو أخبر به، بخلاف يد المسلم، فإنّه يحكم بحلّيته حتّى يعلم الخلاف.
الثالث: ما ثبت حرمة أكله أو شربه عندنا كالحشيش، و الخمر، و الدم و الميتة، و المتنجّسات مطلقا، أو ما يستثني من الذبيحة كالنخاع و حدقة العين على ما سبق مفصّلا، ففي هذه الموارد لا مجرى للقاعدة أصلا.
ثمّ إنّه في الأطعمة المصنوعة إن كان الطعام مائعا و لاقى يد الكافر يتنجّس و يدخل في المتنجّسات، فلا يجوز شربه أو أكله، و لكن يجوز بيعه و سائر استعمالاته، إلّا أن يشترط فيه الطهارة، و إن لم يكن مائعا فقاعدة: «كلّ يابس ذكي» جارية، فيحلّ شربه و سائر استعمالاته حتّى في الصلاة و اللّه العالم بالحقائق.
القاعدة الرابعة: «كلّ أيم يجوز نكاحها إلّا ما خرج بالدليل»، و تفصيل هذه القاعدة يأتي في قوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى‏ مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النور، الآية: 32]، إلّا أنّه نقول هنا: لا فرق في النكاح بين الدائم و المنقطع، و إنّ الآية الشريفة في المقام ظاهرة في النكاح المنقطع؛ لقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، فاستعمال الأجور في المتمتّعات أكثر و أشهر من غيرها، و من هنا ذهب الفقهاء الى جواز التمتع بالكتابيّة دون غيرها؛ لظاهر الآية المباركة؛ و النصوص المعصوميّة، و يعتبر فيها جميع ما يعتبر في المسلمة، كما ذكر في الفقه، و إن كانت تجري «قاعد الإلزام» في بعض الموارد إلّا أنّها لا تمنع ممّا ذكرناه. هذا و اللّه العالم بالحقائق.
و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآيات الشريفة، فهي كما يلي:
الأول: لا فرق في تعليم الكلاب بين أن يكون التعليم تكوينيّا للحيوان- أي: وراثيا، كما يقال في شأن بعضها- أو تحصيليّا بالتدريب، سواء أ كان بواسطة معلّم بشري- أي مكلّب بصيغة اسم الفاعل، و هو المعلّم للكلب و مشتقّ منه- أم بواسطة حيوان آخر كالباز أو كلب آخر، و يكفي الصدق العرفي للتعليم عند أهله، كلّ ذلك لإطلاق الآية المباركة و غيرها.
و لو صاد في أثناء التعليم، فإن كان واجدا للشرائط يحلّ أكله، للإطلاقات و العمومات، و لا يكون التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح.
الثاني: لا يجب الترتيب في الإرسال و ذكر اسم اللّه تعالى، فلو قدّم الذكر على الإرسال- على نحو لا تخل بالموالاة- أو العكس كذلك أو قارنه صحّ، لإطلاق قوله تعالى: مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بعد اتّفاق المفسّرين على أنّ الواو ليس للترتيب. نعم يستفاد من جملة من الروايات المقارنة مع الإرسال، و هي غير الترتيب كما هو معلوم.
الثالث: لا يستفاد من الآية المباركة وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ طهارة الكتابي؛ لأنّ الطعام أعمّ من المصنوع و غيره، كما تقدّم، و في المصنوع أيضا يمكن أن لا يلاقي الطعام بدن الكتابي بناء على نجاسته. و الأخبار في طهارة الكتابي و نجاسته مختلفة، و بعضها ظاهر في أنّ نجاستهم عرضيّة لعدم اجتنابهم عن الخمر، و الخنزير، و الدم و غيرها من النجاسات، إلّا أنّ المشهور خلاف ذلك، و من أراد التفصيل فليراجع المفصّلات.
الرابع: يستفاد من الآية الشريفة: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ و الروايات الواردة في تفسيرها أنّ المانع عن النكاح مطلقا هو الارتداد، و الشرك، و كونها حربيّة، و أمّا غيرها كالكتابيّات فيجوز نكاحهن؛ تمسّكا بإطلاق الآية الشريفة، و لكن على كراهة خصوصا في الدائمة؛ للجمع بين الروايات.
و أمّا المسلمة، فلا يجوز لها أن تنكح الكافر مطلقا- دواما أو انقطاعا كتابيّا أو حربيّا مرتدّا أو غيره- و كذا من بحكمه كالنواصب، و اللّه العالم بالحقائق.

يمكن أن تتضمّن الآيات الشريفة إشارات لأصحاب السير و أرباب السلوك؛ لأنّهم حرّموا على أنفسهم الدنيا و زخارفها، بل الموقنين منهم العاشقين الى اللقاء و المشتاقين للحق حرّموا على أنفسهم نعيم الآخرة أيضا، كما عن علي أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة و السلام) في كثير من دعواته الشريفة و كلماته الحكيمة، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الدنيا حرام على أهل الآخرة و الآخرة حرام على أهل الدنيا، و هما حرامان على أهل اللّه تبارك و تعالى»، فسألوا بلسان الحال أو الاستعداد من الطيب الطيّبات، و في الحديث: «انّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب»، فأوحى الى حبيبه و نبيّه: قُلْ للسالكين و المشتاقين و المؤمنين من عبادي الطالبين للحقّ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من طرق الوصول إلى ساحة كبريائه، مطيّبا بجذبات الحقّ و نفحات الشهود، لا من كلّ مأكول- و مشروب أو ملبوس أو مقول أو معقول- فإنّها لا تليق بمقامهم و إن كانت لوجه اللّه تعالى، إذ لو لم تكن كذلك فقد لوّثت و خبثت، و مع ذلك أنّ المشتاقين للحقيقة و الموقنين باللقاء و العارفين بالحقّ لا يهتمّون بالمظاهر، بل هي محرّمة عليهم؛ لأنّها من شؤون الدنيا الّتي لا تحلّ لهم إلّا بمقدار الاضطرار، كما تقدّم عن الصادق عليه السّلام، فلا حظّ لهم فيها و إنّما حظوظهم في الكمالات الّتي أهمّها أخلاق اللّه تعالى المنزّهة عن النقائص و الشبهات، فإنّ أهل العرفان و السير و السلوك لا يتفكّرون إلّا في عظمة الذات، و لا يسيرون إلّا في ميادين الأنوار، فالدلائل عندهم مدلولات، و الغيب شهادات، فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة و أرواحهم عنها مخلوعة، و هي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسيّة و الملائكة البررة)، و هي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات و الفعل، و تهلّلت عن إخلاص بعد ما ظهرت الحقيقة، و سبّحت بعد ما رأت العجائب في الخلق و في النفس، و حمدت بعد ما أفاض اللّه تعالى عليها من النّعم، فهم للحقّ واجدون و للخلق مشاهدون، فبارك اللّه تعالى في عمرهم، و تجلّى على قلوبهم، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلّى اللّه عليه و آله و اقتدوا بخلفائه المعصومين عليهم السّلام، و نبذوا الدنيا لأهلها، و توكّلوا على خالقهم في الأشياء كلّها، و في الآنات جميعها؛ و تواضعوا للعلم و الحقيقة، فاكتسبوا أيضا من الخلائق الّتي خضعت لخالقها و أشرقت بكلمة كُنْ فَيَكُونُ* أسمى صفاتها، و أعرضوا عن ذمامها و علّموا غيرهم بمختلف درجاتهم و طبقاتهم، و تحمّلوا عناء التعلّم من الّذين لم ينالوا شرف العزّ و العرفان إلّا لأجل سعادتهم، تقرّبا لوجهه الكريم و بثّا لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه؛ و لذا عطف عزّ و جلّ على الطيّبات وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ، أي: كاسبة لها لياقة الكسب و الخروج عن ظلمات الجهل، مُكَلِّبِينَ مسلّطين على مخالفة الهوى، مشدّدين على هداية الناس تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ترشدون الفئة الضالّة الى طرق التوحيد، و تأدبونهن بآداب الشريعة الّتي فيها السعادة و ارتياح النفس ممّا ألهمكم اللّه تعالى؛ لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي، فهما منحة منه جلّ شأنه فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ بالتوجّه و استيعاب الضمير بأخذ العبرة و الدلالة في عجائب خليقته، و بما منح اللّه من الألطاف المنتشرة على ما سواه، وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فتوجّهوا إليه لأنّه أخرجكم من ظلمات الجهل الى نور العلم، و رزقكم من أنواع الطيّبات، و باسمه أشرقت الكائنات و تجلّت، فلا اسم أشرف و أعزّ و أكرم من اسمه، فهو السموّ الواقعي المنحصر به، و هو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره، و به تنكشف المهمات، و تقضي الحاجات، و به يدخل المؤمن الجنّة، و بنسيانه يدخل المنافق النار، وَ اتَّقُوا اللَّهَ في جميع الشؤون و تمام الحالات؛ لأنّها السبيل الوحيد لنيل السعادة و كسب الفضائل، و بها يبتعد الشيطان و يرغم أنفه، و هي البذرة للوصول الى المعالي إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ في أقرب ما يمكن من الزمان و المكان؛ لأحاطته التامّة على كلّ ما جلّ ودق، فيحاسبكم على نواياكم، فكيف أعمالكم و أفعالكم الْيَوْمَ تقييد إحلال الطيّبات- بعد ذكرها مطلقا، و بمعناها الوسيع كما مرّ- باليوم لأجل بيان أمر واقعي و حقيقة منوطة به، و هي أنّ حلّية الطيّبات موقوفة على الولاية، و لو لاها لما طابت و إن كانت طيّبة من كسب اليد، و الوجه الحلال إلّا أنّها بحسب الظاهر لأجل حفظ النظام لا للكمّل من الإيمان، فالمراد من اليوم الزمان الخاصّ الّذي تجلّى فيه سبحانه و تعالى بإكمال دينه و تنفيذ ولايته على لسان حبيبه صلّى اللّه عليه و آله، و أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من الأخلاق الجميلة و الصفات الحميدة، و الأفعال الحسنة، و العلوم النبيلة و السبل المستقيمة، فإنّ جميعها حلّ للمؤمن الملتزم بما أنزله اللّه تعالى؛ لأنّه مثال للطيّبات لما اقتبسه من الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و لذا قال تعالى: وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ بتنوير قلوبكم بنور العلم و المعرفة بالعروج من حضيض البهيمة إلى أوج العظمة من الكمال، بالاقتداء بالأنبياء و الأولياء، وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لأنّ المعارف الإلهيّة النازلة على قلب أشرف من في الورى لا اختصاص لها بأحد، فللجميع الفوز من هذا المنبع، و النيل من هذا المشرب بعد عناء كسب الأهليّة. نعم للنبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله لاختصاص بالمقام المحمود و بالمشرب المحبوب: «أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني لا يشاركه فيه ملك مقرّب و لا نبي مرسل»، فعلّهم يهتدون الى الحقّ و يميزون الخبيث من الطيب بطعامكم و علومكم، وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي: اللاتي أحصنّ أنفسهن عمّا لا ينبغي، و إنّها الخواص من هذه الامة، و هي طائفة أدركت حقائق الدين، و كشفت أسرار القرآن المبين، و وصلت الى قمّة الإيمان و أعلى مراتب اليقين، حلّ لكم أن تقتبسوا منهن و تركنوا إليهن، سواء كانوا من المؤمنين أم المؤمنات لما حصنت نفوسهم بإطاعة اللّه تعالى و مخالفة الشيطان، وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هي الحقائق في الكتب المنزّلة على السالفة الّتي أحصنت من كلّ سوء، فإنّها كلّها لكم، بها تبلغون الكمال المنشود، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ببذل الوجود بعد مخالفة الهوى، فإنّها مهور هذه الأبكار و الحقائق، غَيْرَ مُسافِحِينَ بتصرّف الهوى و التعدّي بالانحراف عن الشرع، وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ بأن لا يلتفت إلى غير اللّه تعالى و لا يتّخذ الدنيا مأربا و من فيها صاحبا، بل يكون هو جلّ شأنه الصاحب، و الناصر، و المعين، و الحافظ و لا غيره وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ و بهذه الكمالات و يحرم نفسه من النيل الى المقامات، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لأنّه انحرف عن الصراط المستقيم، و بعد عن الحقّ القويم، وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ لأنّه غبن نفسه بالميل عن الطيّبات الى الخبائث و النزول الى الهاوية بمتابعة الهوى و الشيطان الّذي هو على جانب النقيض من المؤمنين المخلصين، و العرفاء الموقنين، و السالكين إلى اللّه تعالى الّذين ليس في قلوبهم سواه عزّ و جلّ و لم تتّجه نفوسهم لغيره جلّ شأنه، و تفانوا في اللّه جلّت عظمته، فأفاض سبحانه و تعالى عليهم ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر كما في القدسيات.
و للبحث تتمّة و إن لم أر لهذه البحوث العرفانيّة إقبالا عمليّا إلّا من أخصّ الخواص؛ لأنّ غيرهم توجّهوا للمظاهر و تركوا الحقائق، و أخذوا بالقشور و رفضوا اللباب، فإليه جلّت عظمته المشتكى من مكائد الشيطان، و قال شاعرهم:
تركت هوى سعدى و ليلى بمعزل و صرت الى علياء أول منزل‏
فنادتني الأكوان من كلّ جانب ألا أيّها الساعي رويدك فأمهل‏
غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي‏

و يأتي في الموضع المناسب ما يتعلّق بالبحث مفصّلا، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و له الشكر على ما أنعم، و الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيّبين و الطاهرين.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"