1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 33 الى 34

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (۳۳) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۳٤)


الآيتان الشريفتان تبيّنان أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يقوم عليها النظام العامّ و ثبات الأمن و الأمان، و تحرّمان المحاربة و الإفساد المخلّين للنظام و الموجدين للخوف العامّ.
ففي الآية الشريفة الاولى يبيّن تعالى حدّ المحاربة، الذي هو شديد على قدر عظمة الجرم، الذي هو المحاربة مع اللّه العظيم و رسوله الكريم، و كان الحدّ مركّبا من الخزي في الدنيا بالقتل و الصلب و القطع من خلاف و النفي من الأرض، و العذاب العظيم في الآخرة.
و في الآية الثانية يبيّن عزّ و جلّ حكم من تاب قبل القبض و الاستيلاء عليه، و غفران اللّه تعالى له.
و لا يخلو ارتباط هاتين الآيتين بما سبق، كما تشمل المحاربة القتل الذي بيّنته الآيات السابقة في قصة قتل ابن آدم أخاه، و ما كتبه اللّه تعالى على بني إسرائيل من أجله، الذي لا يعدو أن يكون منعا للإفساد و المحاربة، إفساد للنظام، فكانت هذه الآيات المباركة بيانا لعقاب الإفساد الذي خلت الآيات السابقة منه.

قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.
مادة (حرب) تدلّ على التعدّي و ما يضادّ السلم و السلام من الأذى و القتل و الضرر على النفس و المال، و الحرب (بالتحريك) هو أن يسلب الرجل ماله، يقال: حربه يحربه- على وزن تعب- إذا أخذ ماله، فهو حريب و محروب. و المستفاد من اشتقاق هذه الكلمة أنّ الحرب أعمّ من القتل، فتشمل الاعتداء و السلب و إزالة الأمن و الإخلال بالنظام العامّ، و لا ريب أنّ ذلك يستلزم بحسب الطبع و العادة استعمال السلاح و التهديد، و ربّما القتل و أنحاء الأذى و الضرر. و قد ورد في السنّة الشريفة تفسير الآية المباركة بشهر السيف و نحوه ممّا ستعرف، فهو إنّما يكون من باب المثال.
و المحاربة مفاعلة، و قد ذكرنا في مواضع متعدّدة أنّ المفاعلة لا تتقوّم حقيقة معناها بطرفين كما يدعيه بعض، بل هذه الهيئة تدلّ على صدور الفعل من شخص و إنهائه إلى آخر، سواء صدر منه فعل أم لا.
و المحاربة مع اللّه تعالى بالمعنى الحقيقيّ مستحيلة، فلا بدّ أن يكون المراد منها مخالفة أحكامه المقدّسة و الاستهزاء بتعاليمه و تشريعاته و نقضها، كما أنّ محاربة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي إبطال ولايته في الأمور التي ثبتت من جانبه عزّ و جلّ، و يدخل فيه أذيّة أولياء اللّه تعالى الذين ثبتت ولايتهم من جانب الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأمر من اللّه تعالى، فتكون محاربة اللّه و رسوله معاداة اللّه تعالى و مخالفة أحكامه و نقضها و عدم تنفيذها و إبطال ولاية أولياء اللّه تعالى و إعلان مخالفتهم و معاداتهم.
و بعبارة اخرى: تكون المحاربة مع اللّه و رسوله هي عدم الإذعان لدينه بعدم حفظ الحقوق و عدم إقامة تشريعاته، و الاستهزاء بشعائر الدين و مقدّساته، فترجع المحاربة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المحاربة مع اللّه تعالى، فإنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مظاهر الحقّ، كما أنّ منها ولاية أولياء اللّه تعالى.
قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً.
بيان لبعض مصاديق محاربة اللّه و رسوله التي تقدّم معناها، و الفساد ضدّ الصلاح، و من عمل شيئا كان سببا للفساد يقال: إنّه أفسده، و السعي فسادا، أي الإفساد في الأرض، و هو ما كان سببا للإخلال بالنظام العامّ و إزالة الأمن و الأمان، فيدخل فيه قطع الطرق و قتل الناس ظلما و غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في المقام، و يرجع كلّ ذلك إلى عدم الإذعان بدين اللّه تعالى و تضييع الحقوق، فيتلازم الوصفان، و من ذلك يعرف أنّه لا يكفي مجرّد المحاربة مع المسلمين إذا لم نرجع إلى ما ذكر. و يدلّ عليه أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم ينفّذ في المحاربين من الكفّار بعد الظهور عليهم و الظفر بهم حدّ المحارب عليهم، و سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.
بيان لحدّ المحاربة و جزائه. و الجملة خبر المبتدأ في قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ. و التقتيل و التصليب و التقطيع، تفعيل من القتل و الصلب و القطع، الدالّة على زيادة في المعنى المجرّد. و لعلّها إما لأجل الزيادة على القصاص، لأنّه حدّ شرعيّ و حقّ إلهيّ، لا يسقط بعفو الولي، أو لأجل التكثير و المبالغة في القتل باعتبار الأفراد، لأنّهم سعوا في الأرض فسادا، و الصلب قتلة مؤذية، و الكلمة مشتقّة من الصلب (بالتحريك). و الصليب بمعنى الودك (الدهن) أو الصديد الذي يخرج من بدن الميت. و الهيئة التي تشبه المصلوب تسمّى صليبا.
و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف، أي: تقطع مختلفة، بمعنى إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. و صيغة التفعيل في هذا النوع أظهر. و المراد بقطعها، قطع بعضها دون الجميع، أي: إحدى اليدين و إحدى الرجلين مع مراعاة الاختلاف في الجانب.
و أما النفي من الأرض، فهو بمعنى الطرد من البلد إلى بلد آخر، و هو مضافا إلى أنّه عقاب ظاهرا، هو عملية إصلاحية تأديبيّة. و قيل: إنّ المراد بالنفي هو الحبس، لكنّه لا دليل عليه، سيما بعد كونهما عقوبتين.
و لفظة «أو» إنّما تدلّ على التفصيل و الترديد، المقابل لمطلق الجمع، و أما الترتيب أو التخيير فلا بدّ أن يستفاد من القرائن الخارجيّة، لأنّ المحاربة و الفساد على مراتب متفاوتة جدا و وجوه شتّى، فقد شرّعت لكلّ مرتبة منها عقوبة معينة و حدّ خاصّ، و في الروايات المروية عن الأئمة الهداة عليهم السّلام الدلالة على أنّ الحدود الأربعة مترتّبة بحسب درجات المحاربة و الإفساد، و سيأتي نقل بعضها إن شاء اللّه تعالى.
و قيل: إنّ (أو) للتخيير، فللإمام أن يحكم على من يشاء من المحاربين، و يمكن إرجاعه إلى ما سبق، و إلّا فلا دليل عليه في المقام، كما عرفت آنفا.
قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا.
الخزي الفضيحة و الذلّ، أي: ذلك الجزاء من القتل، و الصلب، و القطع، و النفي ذلّ و هوان للمحاربين المفسدين في الدنيا، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين.
قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ.
لا يعلم قدره لعظم جنايتهم. و إنّما اقتصر في الدنيا على الخزي و في الآخرة على العذاب، لأنّ الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، و عذاب الآخرة أعظم من الخزي في الدنيا.
و الآية المباركة تدلّ على الجمع بين عقاب الدنيا و عذاب الآخرة، و هو يدلّ على عظم الجناية لما لها الأثر الكبير في النفوس و تدنيسها بارتكاب الفواحش و الآثام، و قلّما تكون جناية يجمع فيها بين الأمرين، فإنّه قد دلّت روايات متعدّدة على أنّ الحدّ في الدنيا و الجزاء الدنيويّ يرفع العقاب في الآخرة، إلّا في بعض الجنايات، منها هذه الجناية، كما تدلّ عليه الآية الشريفة، فلا يستفاد منها قاعدة كلّية.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.
الاستثناء من عقاب المحاربين المفسدين في الأرض، الذين حكم عليهم بالخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.
و حطّ العذاب عنهم بشرط التوبة قبل القبض عليهم، فإنّها ناشئة عن العلم بقبح عملهم و العزم على عدم العود، و هي التوبة النصوح.
و أما بعد القبض، فلا أثر للتوبة، فإنّ منشأها الخوف من عقاب الدنيا، و لذا لا يسقط الحدّ عنهم.
قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
لأنّه بالتوبة صار أهلا لمغفرته و رحمته. أي: فاعلموا أنّ اللّه يغفر لهم ذنوبهم، و يرحمهم برفع العقاب عنهم.
و قيل: إنّ الآية المباركة تدلّ على تعلّق المغفرة بغير الأمر الاخرويّ. و لكن يمكن القول بشمول المغفرة و الرحمة لكليهما، العقاب الدنيويّ و العذاب الاخرويّ.

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل‏:
يدلّ قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ، على أنّ محاربة اللّه و رسوله من الأمور المبغوضة عند الفطرة الإنسانيّة، حيث لم يذكر سبحانه و تعالى حكم المحاربة، و أوكله إلى الفطرة، و ذكر جزاءها الذي يدلّ على أنّها من المعاصي الكبيرة التي أوعد اللّه تعالى عليها النّار، و المحاربة مع اللّه تعالى و رسوله معلومة لكلّ إنسان تدعو فطرته إلى عبادة خالقه و الوفاء بعهوده، التي منها الالتزام بأداء التكاليف و مراعاة حقّ العبوديّة معه عزّ و جلّ، و لأجل ذلك أطلق الكلام في المقام و لم يذكر خصوصيات المحاربة، و إن بيّن في بعض الموارد و في مواضع من القرآن الكريم و السنّة الشريفة، قال تعالى في النهي عن الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة البقرة، الآية: 279].
و المستفاد من جميع ذلك أنّ المحاربة تتحقّق بمحاربة الشرع و مقاومة تنفيذه و الاستهزاء بالأحكام الإلهيّة و هتك حرمات اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك التعليل الوارد في بناء المنافقين لمسجد ضرار: وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى‏ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة التوبة، الآية: 107]، و عموم الآية الشريفة يشمل الجميع، فلا تختصّ المحاربة بالمسلمين فقط، بل يشمل الكفّار أيضا، فكلّ من انطبق عليه عنوان المحارب مع اللّه و رسوله، يشمله حكمه و ينفذ فيه جزاؤه في جميع الأعصار و بأي شكل كانت المحاربة.
الثاني‏:
يدلّ قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً، على أنّ مجرّد الفساد ليس كافيا في صدق عنوان المحارب على المفسد، بل لا بدّ أن يكون سعيا منه في الفساد و الإفساد. و لم يبيّن عزّ و جلّ خصوصيات الفساد في المقام، لمعلوميته لدى كلّ عاقل، و قد ذكر في القرآن الكريم من مصاديقه قتل النفس المحترمة، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ [سورة البقرة، الآية: 30].
و منها: قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، قال تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ* [سورة البقرة، الآية: 27].
و منها: إهلاك الحرث و النسل، قال تعالى: وَ إِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [سورة البقرة، الآية: ۲۰٥].
و منها: ترك بعض الأمور الاجتماعيّة الواجبة التي لها دخل في تنظيم المجتمع الإسلاميّ و إقامة أركان العدل الإلهيّ، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال، الآية: 73].
و منها: الطغيان في البلاد، قال تعالى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ [سورة الفجر، الآية: 11- 12].
و منها: ابتغاء العلو في الأرض، قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً [سورة القصص، الآية: 83]، و قد ورد في شأن فرعون: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [سورة القصص، الآية: ٤].
و منها: بخس النّاس أشياءهم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ‏ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* [سورة هود- ۸٥].
و من ذلك يعلم أنّ ما ورد في السنّة الشريفة إنّما هو من باب المثال، كقطع الطريق و إخافة الناس و إزاحة الأمن و الأمان و السلب و النهب و الإخلال بالنظام.
و الظاهر من الآيات الشريفة الواردة في مواضع متفرّقة أنّ الفساد في الأرض من مظاهر محاربة اللّه و رسوله، بل هما متلازمان، فإذا اطلق أحدهما يراد به الآخر أيضا.
الثالث‏:
يستفاد من قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، أنّ المحاربة على مراتب و درجات، لكلّ مرتبة منها حدّ خاصّ موكول إلى نظر الإمام العادل المخالف لهواه في تشخيصه، و يدلّ على ما ذكرناه بعض الروايات.
و المستفاد من الآية المباركة أنّ المناط في إجراء الحدّ ليس مجرّد القتل و الصلب و غيرهما، بل الغرض هو تطهير الامّة منهم و تهذيب نفوس الأشرار، فيحتاج إلى مزيد عناية في القتل و الصلب و القطع بأن يكون كلّ واحد من الأربعة عملية إصلاحية تربويّة، فيكون تقتيلا مع شدّة ليكون ردعا للغير و إصلاحا للامة، و كذا الصلب و القطع.
الرابع‏:
يدلّ قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ، على أنّ الحدّ و الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة إنّما يكون خاصّا بهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، الذين قد يتّفق أن يكون عملهم عمل المحارب، ما لم ينطبق عليهم عنوان المحاربين، كما يدلّ على أنّ العذاب في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير فسادهم و إفسادهم، و ذلك قد يلازم الخلود كما فصّلناه سابقا.
الخامس‏:
يدلّ قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على عدم المطالبة بشي‏ء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه، و التصدير بجملة: «فاعلموا»، للدلالة على تحقّق الغفران و ثبوته فوق كلّ شي‏ء من العواطف و الأهواء و النزعات، و تقدّم الكلام في نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة فراجع.

في التهذيب للشيخ بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقيموا عندي، فإذا برأتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبو الها و يأكلون من ألبانها، فلما برأوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبعث إليهم عليّا عليه السّلام، و إذا هم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن، فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللّه، فنزلت الآية: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ.
أقول: و قريب منه ما في الكافي. و أكل اللبن محمول على أكل الأقط المتّخذ من اللبن.
و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات تدلّ على أنّ القوم من بني عرينة أو عكل، و سمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعينهم لأنّهم سملوا أعين الرعاة، و في بعضها نهي عن سمل الأعين بعد ذلك، و لم يرد في رواياتنا سمل الأعين على ما تفحّصت عاجلا، لأنّ ذلك من المثلة، و قد نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها.
و كيف كان يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أمور:
الأوّل: أنّ الخيانة و الغدر و الإفساد مرفوضة في الشرع بجميع وجوهها، و لا بدّ من التصدّي لمنعها بكلّ السبل.
الثاني: أنّ جزاء الخيانة لا بدّ أن لا يتعدّاها، لقاعدة المثليّة في العقوبات، و قد تكون الخيانة عظيمة و الغدر كبيرا، فجزاؤهما يكون كذلك.
الثالث: أنّ الجزاء المترتّب على الخيانة المعبّر عنه في الشرع بالحدّ أو التعزير أو القصاص و النفي، لا بدّ أن يكون تحت إشراف ولي الأمر، سواء كان نبيّا أو نائبا عنه، كالفقيه الجامع للشرائط، و لا يستلزم إراقة الدماء و هدرها بلا مبرر، لأنّه‏ يوجب الفوضى في المجتمع.
و الرواية من باب التطبيق، و إنّ نزول الآية في واقعة لا يصير مخصّصا لها، كما هو واضح.
و في الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد اللّه المدائني، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال: إذا حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال، نفي من الأرض، قلت: كيف ينفى في الأرض، و ما حدّ نفيه؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه، فيفعل ذلك به سنة، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره، كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة، قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها».
أقول: ظاهر الرواية الترتيب في إجراء الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد، و لكن ذكرنا في الفقه أنّ ذلك يدور مدار نظر الحاكم الشرعيّ و ما يترتّب من المصالح و المفاسد، حسب اختلاف الظروف و الأشخاص، فيصنع بهم على قدر جنايتهم، كما تدلّ على ذلك رواية جميل بن دراج عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية المباركة، «قلت له: أيّ شي‏ء عليهم من هذه الحدود التي سمّاها اللّه عزّ و جلّ؟
قال عليه السّلام: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل. قلت: النفي إلى أين؟ قال عليه السّلام: ينفى من مصر إلى آخر، و قال: إن عليّا عليه السّلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة».
على أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرنا من التخيير للإمام الذي يراعى المصالح، و ما دلّ على الترتيب يحمل على الأولويّة و الأفضليّة، و تقدّم البحث‏ في كتاب الحدود من (مهذب الأحكام)، من شاء فليرجع إليه.
ثمّ إنّ المستفاد من الآية المباركة و السنّة الشريفة أنّ حدّ المحارب هو ما تقدّم بلا طرو موجب آخر، فمن شهر سيفا أو سعى في الأرض فسادا و قتل نفسا تؤخذ منه الدية لو رضي أولياء المقتول بها ثمّ يقتل، لأنّه محارب و مفسد، أو ينفى من الأرض حسب ما يراه الحاكم الشرعي، كما ورد في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أصلحك اللّه، أ رأيت إن عفى عنه أولياء المقتول؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله، لأنّه قد حارب و قتل و سرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية و يدعونه، ألهم ذلك؟ قال: لا، عليه القتل» و تمام الكلام موكول إلى الفقه.
و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من حارب اللّه و أخذ المال و قتل، كان عليه أن يقتل و يصلب، و من حارب و قتل و لم يأخذ المال، كان عليه أن يقتل و لا يصلب، و من حارب و أخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن يقطع يده و رجله من خلاف، و من حارب و لم يأخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن ينفى، ثمّ استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، يعني يتوبوا من قبل أن يأخذهم الإمام».
أقول: تقدّم ما يتعلّق بصدر الرواية، و أما ذيلها فإنّ مقتضى سعة رحمته و بسط فضله و حبّه لخلقه أن يكون الأمر كذلك، و اللّه العالم.
و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات توافق مضمونها مع ما تقدّم، فلا حاجة إلى سردها و المناقشة في الأمور البسيطة فيها.
و في الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟ قال: أيّ شي‏ء يقول فيه من قبلكم؟ قلت: يقولون هذه دغارة معلنة، و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك؟ قلت: دار الإسلام، فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ‏ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- إلى آخر الآية».
أقول: ما ذكره الراوي من أنّ المحارب يختصّ بالمشركين، وردت بذلك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور، و إنّ مقتضاها تفوق أهل الشرك على المسلمين في هذا الحكم، و هذا ممّا لا يرضاه العقل و النقل، كما أشار إليه الإمام عليه السّلام، و لا يخفى أنّ الرواية من باب التطبيق لا التخصيص، و اللّه العالم.

تقدّم سابقا أنّ الأسباب في تطهير النفوس المنحرفة عن فطرتها المستقيمة و تزكيتها كثيرة جدا، بل عن بعض أنّها معسورة الحصر، و عدّوا منها الحدود و التعزيرات، كما ورد في بعض الروايات التصريح بذلك.
و التعبير بأنّ الحدود و التعزيرات فيوضات إلهيّة و مكارم ربانيّة لأجل صلاح المجتمع و إصلاحها في عالم الشهادة و الفوز بالمقامات السامية في عالم الآخرة، كان مطابقا للواقع. هذا كلّه إذا لم تكن الجريمة ممّا يوجب غضبه تعالى و سخطه، و إلّا لا يطهّره الحدّ و التعزير في عالم الشهادة، لأنّ الظرف غير قابل لذلك، فينتقم اللّه منه في عالم الآخرة، و لعلّ ما ورد في بعض العقوبات أنّه لم يجعل الشارع له حدّا خاصّا في الدنيا لأجل ذلك و أنّه يوجب سخطه.
إن قلت: إنّ الصفات السيئة و الأفعال القبيحة كلّها توجب غضبه و سخطه، و إنّ الحدود جزاء شرعيّ، و إنّ العقاب تابع لسخطه و غضبه.
قلت: أوّلا: أنّ غضبه و سخطه لهما مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا- بل متابينة- و أنّ الحدود توجب رفعهما و إزالة الجريمة و الخبث الباطنيّ، فيرضى اللّه عنه.
و ثانيا: أنّ الحدود توجب محو الذنوب، و إنّها كالتوبة، و بعد ذلك لا وجه لأنّ يكون العبد مورد غضبه و سخطه.
و الحاصل: أنّ الغضب الإلهيّ و السخط الربانيّ يرتفعان بما قرّره الشارع‏ لرفعهما، سواء كان حدّا أو تعزيرا أو توبة نصوحا. نعم جعل العبد نفسه مورد تعلّق غضبه تعالى ينافي العبوديّة و يضاد الانقياد، و لا يناسب السير و السلوك، و عن بعض أعلام العرفاء: التخلية بترك المساوئ و هجرها أولى من التحلية بفعل الحسنات. و إنّ بعض الآيات المباركة تشير إلى ذلك أيضا، و اللّه العالم، و للبحث ذيل يأتي في الموارد المناسبة للآيات الشريفة.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"