1. الرئيسية
  2. /
  3. مکتبة
  4. /
  5. التألیفات
  6. /
  7. مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن
  8. /
  9. سورة المائدة
  10. /
  11. الآيات 20 الى 26

وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (۲۰) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (۲۱) قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (۲۲) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (۲۳) قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (۲٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (۲٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (۲٦)


الآيات الشريفة تذكّر بني إسرائيل بضروب من النّعم الجسام، و تعرّفهم باعتنائه عزّ و جلّ بهم، حيث فضّلهم على من عاصرهم و من تقدّمهم من امم الأنبياء، و شرّفهم بما منحهم من الآلاء و النعم العظيمة، فابتدأ جلّ شأنه على من عاصرهم معهم بنداء نبيّهم موسى بن عمران عليه السّلام لهم، ما يدلّ على مزيد القرب و المزية. ثمّ ذكرهم بجعل الأنبياء فيهم و جعلهم ملوكا و آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة الذي كان اختبارا عظيما لهم و امتحانا لنفسياتهم، التي تأثّرت كثيرا بما فرضه فرعون و المصريون عليهم من العبوديّة و أنواع الظلم عليهم، و كان من نتائج ذلك أنّهم أعرضوا عن ذلك و جابهوا نبيّهم بأسوإ مجابهة، فاعتذروا بضعف قوّتهم أمام قوّة الجبّارين الذين يحكمون الأرض المقدّسة، فخسروا أهمّ نعمة من النعم الإلهيّة التي أرادها اللّه تعالى لهم، فأوقعهم عزّ و جلّ في التيه، لتهذيب تلك النفوس المريضة و ترويضها على تحمّل التكاليف.
و في سرد هذه القصة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين العبرة و الموعظة و التذكير.
و بيان كيفيّة نقضهم للمواثيق التي أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، و قد ذكر جلّ شأنه جملة منها في ما سبق من الآيات الشريفة، و في آيات المقام ذكر تعالى جملة اخرى.

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
تذكير لليهود بالنعم الجسام، و توطئة لبيان شناعة فعلهم في نقض المواثيق و كفران نعم اللّه تعالى. و تفصيل لكيفيّة نقضهم المواثيق و تسجيل عليهم بما سلف منهم من الجنايات.
و الخطاب للرسول الكريم إعراضا عن خطابهم، و قد ذكر عزّ و جلّ نداء موسى عليه السّلام لليهود الدالّ على كمال القرب و المزيّة لهم بالاعتناء بهم، حيث أضافهم إلى نفسه ثمّ عقّبه بتذكيرهم بما خصّهم من الآلاء و النعم الجسام، استمالة بهم و نصحا لهم في تنفيذ مواثيقه عزّ و جلّ.
و تقدّم الكلام في معنى النعمة في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة، الآية: 3]، و هي إما مصدر أو اسم مصدر و نسبتها إلى اللّه تعالى تدلّ على شرفها و عظيم النعمة منه عليهم.
و المراد منها في المقام جنس النعمة و مجموع النعمة التي أنعم اللّه عليهم و خصّهم بها، و في ذكرها بالمقام التذكير باستزادتها، و استتمامها و طاعتهم للّه تعالى و رسوله شكرا منهم على تلك النعمة، و تنشيط همّهم لتنفيذ أحكامه عزّ و جلّ، و الوفاء بعهوده عموما، و الدخول في الأرض المقدّسة خصوصا، لأنّ دخولهم لها يحتاج إلى مزيد الهمّة و النشاط، فإنّ به تتمّ النعمة و تتّضح حقيقتهم بعد الجهد المرير و العمل الدؤب في إصلاحهم، كما أنّ به يتحقّق استقلالهم.
و كيف كان، فإنّ النعم التي اختصّت بها بنو إسرائيل كثيرة، و قد ذكر تعالى في المقام ثلاثة أنواع منها للتذكير، و الموعظة، و مزيد الاعتناء، و تذكيرهم بالوقت الذي وقعت فيه النعمة أبلغ من تذكيرهم بما وقعت فيه.
و ظاهر الآية الكريمة أنّ ما ورد فيها كان بعد خروجهم من مصر و إنجاء اللّه تعالى لهم من ظلم فرعون و المصريين، و أنّ قضية التيه كانت في الشطر الأخير من زمان مكث موسى عليه السّلام فيهم، و يؤكّد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه عليه السّلام مات في التيه.
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ.
تفصيل بعد إجمال، و قد قسّم سبحانه و تعالى النعم التي أنعمها على بني إسرائيل إلى نعم معنويّة- منها: جعل الأنبياء فيهم الذين هم واسطة الفيض و سبب الاستكمال و ظهور المعجزات الباهرات على أيديهم التي كانت السبب الوحيد في ظهور الحقّ و إنقاذ بني إسرائيل من الظلم و خروجهم من مملكة الجبابرة و العتاة- و إلى نعم ظاهريّة، و هي جعلهم ملوكا ذوي كيان مستقل بعد أنّ كانوا أذلاء مستعبدين في حكم الطغاة، كما حكى عزّ و جلّ حالهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، فكانت هذه الآية المباركة من أهمّ الآيات الشريفة التي تذكّرهم بضروب الآلاء و النعم، و تعرّفهم باعتنائه سبحانه و تعالى بهم و تفضيلهم على من عاصرهم و من تقدّمهم من الأمم، فقد خصّهم بأعظم النعم و أشرفها، و هي أنّه تعالى جعل كثيرا من الأنبياء فيهم، الذين هم من عمود نسبهم و من قومهم بالخصوص، و قد ذكر عزّ و جلّ أسماء جملة منهم في القرآن الكريم، مثل إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف و الأسباط، و موسى، و هارون، و غيرهم ممّن هم من المستعلنين، و أما المستخفون الذين لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم فهم كثيرون، و قد امتازت بنو إسرائيل بهذه النعمة العظيمة، فلم تكن امّة من الأمم في مرّ العصور أن يبعث منهم هذه الكثرة من الأنبياء، و لعلّ في قوله تعالى وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* [سورة البقرة، الآية: ٤۷]، إشارة إلى ذلك.
قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً.
بيان للنوع الثاني: من النعم التي أنعم اللّه تعالى على بني إسرائيل، و هي النعمة الظاهريّة. و تغيير الأسلوب فيها إنّما هو لبيان أنّ هذه النعمة قد شملتهم بأجمعهم من دون استثناء، بخلاف النعمة الاولى التي اختصّت ببعضهم، فقال تعالى:
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ، و إن كان أثرها يرجع إليهم جميعا، لأنّ النبوّة أمر إلهيّ يخصّ اللّه تعالى به من يشاء من عباده، بخلاف الملوكيّة، فإنّها قد تشمل الجميع.
و مادة (ملك) تدلّ على التسلّط و الاستيلاء، و هو يختلف باختلاف متعلّقه، و له مراتب متفاوتة جدا، أعظمها و أعلاها مرتبة هو ملكية اللّه تعالى لما سواه، فإنّ هذه الملكية هي الحقيقيّة، و غيرها ترجع إليه بنحو من الأنحاء، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يزيد عن مائة و ثلاثين موضعا، و تستعمل بالنسبة إلى جميع العوالم، قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، و قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر، الآية: ۱٦]، و قال تعالى: وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ* [سورة آل عمران، الآية: 189]، و قد تقدّم ما يتعلّق بها في سورة الفاتحة فراجع.
و المراد به في المقام هو الاستقلال بالنفس و التسلّط عليها و مالكيتهم لأمرهم بالحرية و التدبير و الملكية، بعد أن كانوا عبيدا أرقاء للقبط و الفراعنة، ليست لهم أيّة سلطة على أنفسهم و أموالهم و امور معاشهم، يسومونهم سوء العذاب كما ذكر عزّ و جلّ في عدّة مواضع من كتابه الشريف، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة إبراهيم، الآية: ٦].
و الفرق بين هذه الآية الشريفة و آية المقام أنّ الأخير في مقام تعظيم النعم‏ و التعريف باعتنائه عزّ و جلّ بهم و تفضيلهم على غيرهم، فناسب ذلك ذكر نداء موسى عليه السّلام إيّاهم بقوله: يا قَوْمِ، بالإضافة إلى ضميره، إيماء بالقرب و المزيّة، بخلاف آية النداء.
و كيف كان، فإنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على صيرورتهم ملوكا، إذ لم يذكر عزّ و جلّ: «و جعل فيكم ملوكا»، كما هو الشأن في النعمة الاولى، و هذا يؤكّد على أنّ المراد من الملوكيّة غير ما هو المعروف، بل هو التسلّط على أنفسهم و الاستيلاء على شؤونهم و أموالهم، و إن قدّر اللّه تعالى أن يكون فيهم ملوك كطالوت، و داود، و سليمان، و غيرهم، و لكن ذلك حصل بعد عصر موسى عليه السّلام بزمان كثير، و الآية الشريفة تدلّ على حصولها لهم في عصره عليه السّلام و تحقّقها فيهم في زمانه عليه السّلام.
و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المفسّرين في المقام، من أنّ المراد من جعلهم ملوكا هو ما قدّر اللّه تعالى فيهم من الملك، الذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فتكون الآية المباركة وعدا بالملك و إخبارا بالغيب، فإنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت.
و قال بعضهم: إنّ المراد به مجرّد ركوز الحكم فيهم، كما كانت عليه العرب قبل الإسلام. و يرد عليه ما أورد على سابقه.
و كيف كان، فالآية الكريمة تعظّم أمر هذه النعمة فيهم، فإنّها نعمة الحرية، و الاستقلال و الخروج عن التبعيّة و الاستذلال.
قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ و عناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات، من فلق البحر، و نجاتهم من بطش فرعون، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى، و انفجار الحجر، و غير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و التي اختصّوا بها من بين سائر الأمم، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه السّلام ما توفّرت و تواردت على بني إسرائيل، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية، و لعلّ في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى‏ الْعالَمِينَ* [سورة البقرة، الآية: 122] إشارة إلى ذلك، و اللام في العالمين للاستغراق، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم، و لا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة و جهات متعدّدة، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى، و حينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة و القول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.
قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
أمر بدخول الأرض المقدّسة، بعد استمالتهم و استنشاط هممهم بذكر نعم اللّه تعالى عليهم و استثارتهم بتذكيرهم آلائه العظيمة. و يستفاد من القرائن الحافّة بالكلام أنّهم كانوا يبغون التمرّد على الامتثال و النكوص عن الطاعة، و لذا كرّر النداء مع الإضافة التشريفيّة، حثّا على الامتثال و اهتماما بشأن الأمر، ثمّ أكّده بالنهي عن الارتداد و إلّا كان عاقبته الخسران.
و مادة (قدس) تدلّ على التنزّه و الطهر، يقال: تقدّس اللّه، أي: تنزّه. و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ روح القدس نفث في روعي»، يعني جبرئيل عليه السّلام، لأنّه خلق من طهارة، و الروح هو النفس و مركز القلب، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، و تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة، الآية: 30]، فراجع.
و الأرض المقدّسة هي الأرض المطهّرة من رجس الشرك، و التي يمكن إقامة الدين فيها، و لعلّ هذا هو معنى البركة التي وصف عزّ و جلّ الأرض التي وعدهم بها، قال تعالى: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، فإنّ البركة هي الخير الكثير، و أعلاه مرتبة هو إقامة الدين‏ و بسط الحقّ و العدل و رفع قذارة الشرك، و بذلك يمكن الجمع بين كلمات المفسّرين في المراد من المقدّسة في المقام.
و اختلفوا في تعيين الأرض المقدّسة، فقيل: هي الشام، و قيل: هي الطور و ما حوله، و قيل: اريحاء، و قال بعضهم: دمشق و فلسطين، و قال آخر: الأردن، و قيل غير ذلك.
و الحقّ أن يقال: إنّه لم يرد في القرآن الكريم و لا في السنّة الشريفة تحديد هذه الأرض الموعودة، إلّا أنّ توصيفها بالبركة كما قال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1] يقرب أنّه المسجد الأقصى و ما حوله، فيستفاد أنّ هذه الأرض المقدّسة هي هذه المنطقة بالخصوص، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من أنّها الشام، هو أقرب الاحتمالات، فإنّ أرض الشام موصوفة بالبركة عبر العصور و مرّ التاريخ، و هي تشمل المسجد الأقصى و ما حوله.
و مادة [كتب‏] تدلّ على الثبوت و اللزوم، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا، و كلاهما ورد في القرآن الكريم و تقدّم البحث عنها في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183]، و المراد به قضاؤه عزّ و جلّ في توطّنهم في الأرض المقدّسة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [سورة القصص، الآية: ٦]، و هذه الكتابة و إن كانت مجملة من حيث الوقت و الأفراد الذين يسكنون تلك الأرض، إلّا أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد و الأشخاص و أحوالهم، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة، كما أنّ هذه الكتابة و إن كانت مطلقة في المقام، إلّا أنّها مشروطة بالاستعانة باللّه و الصبر على الطاعة و تحمّل المشاق، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السّلام: قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ‏ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 128- 129]، و إطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية، و الصبر في الحوادث و تحمّلها، و اكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة، و عند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ، كما دلّت عليه الآية الشريفة: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137].
و المستفاد من مجموع الآيات الشريفة أنّ استيلائهم على الأرض المقدّسة و توطّنهم فيها، إنّما كان كلمة إلهيّة و قضاء ربانيّا مشروطا بالاستعانة باللّه عزّ و جلّ و الصبر بجميع أقسامه و اكتساب التقوى، فإذا تحقّقت منهم يتنجّز الوعد، و عند انتفائها تشتدّ التكاليف الإلهيّة الشاقّة عليهم، كما تدلّ عليه آيات كثيرة تبيّن أحوالهم و أخبارهم، مذكورة في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.
و من هنا حرم عليهم دخول الأرض المقدّسة، لما أنكروا ذلك و أعرضوا عن الطاعة، كما أخبر سبحانه و تعالى في قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: ۲٦]، و هذا أيضا يؤكّد على أنّ دخول الأرض المقدّسة كان مكتوبا عليهم، مشروطا غير قابل للتغيير و التبديل، و إن لم يكن الوقت معلوما في الآيات الشريفة، و لذا قيل: إنّ المشافهين بخطاب الدخول إلى الأرض المقدّسة ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدّسة إلّا أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون. و قد ورد ذكر الوعد مع الشرط في كتاب العهد القديم، راجع سفر التكوين ۲٦: ٥، و سفر تثنية الاشتراع 1: ٦ و غير ذلك.
قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
تأكيد في أنّ الأمر بالدخول مشروط و لا يمكن أن ينال ذلك إلّا بالعمل بالشرط، و بيان في أنّ النكوص عن الطاعة يرجعهم إلى الأدبار، فينالوا الأمرّين من العذاب، فيكون انقلاب خسران بجميع النعم التي أرادها اللّه تعالى لهم، و منها الدخول إلى الأرض المقدّسة و الكرّة على أعداء اللّه تعالى و إقامة دين الحقّ و بسط العدل، فالمراد من الخسران خسران الدارين.
و يستفاد من الآية الشريفة أهميّة هذا الحكم الإلهيّ في تكوينهم و تحقيق سعادتهم، و عظيم أثره في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، لأنّ الجزاء المترتّب على النكوص و الإعراض كان عظيما.
قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ.
بيان لكيفيّة إعراضهم عن الطاعة، و نقضهم للميثاق.
و مادة (جبر) تدلّ على إصلاح الشي‏ء بضرب من القهر، و في حديث علي عليه السّلام: «و جبّار القلوب على فطرتها»، أي: إصلاحها و تثبيتها على ما فطرها من معرفته جلّت عظمته و الإقرار به، شقيّها و سعيدها، و منه الجبّار من الآدميين الذي له السطوة و القوّة، فيجبر غيره على ما يريد ظنّا منه الإصلاح و على نحو العلو، و منه الجبر، و هو الإكراه، و في الحديث المعروف: «لا جبر و لا تفويض»، كما أنّ منه جبر العظم، و هو إصلاحه، كما مرّ في الحديث، و في الدعاء المأثور عن علي عليه السّلام: «يا جابر كلّ كسير، و يا مسهّل كلّ عسير»، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، كلّها تدلّ على الذمّ، إلّا ما اطلق عليه تبارك و تعالى، قال عزّ و جلّ: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر، الآية: 23]، و معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر أو نهي، أو يقهر خلقه على الموت و النشور.
و قيل: هو العالي فوق خلقه، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى، فإنّ الجبّار من الناس هو الذي يجبر نفسه بنقيصته بادّعاء منزلة من التعالي الذي لا يستحقّها، أو يجبر غيره على ما يريد على نحو العلو و التكبّر و القهر، و لأجل هذا قيل: نخلة جبّارة و ناقة جبّارة، يتصوّر القهر بالعلو على الأقران، فهي صفة مذمومة، قال تعالى: وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [سورة إبراهيم، الآية: ۱٥]، و قال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم: وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 32]، و قال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ‏ مِنَ الْمُصْلِحِينَ [سورة القصص، الآية: 19].
و إذا أطلقت عليه عزّ اسمه كان حقيقة و صفة كمال، لأنّه استحقّ كلّ علو و كبرياء، فيجبر خلقه بضروب من التدبير و الحكمة المتعالية، فهي صفة ذمّ و مدح- كالمتكبّر و المتعال- فإنّها مدح للخالق و ذمّ للمخلوق، لأنّها تنبئ عن نقص فيه، بخلاف الخالق جلّت عظمته.
و الجبّار صفة مبالغة، و قال الفرّاء: «لم اسمع فعالا من أفعل إلّا في موضعين:
جبار من أجبر، و دراك من أدرك»، و قد اختلفوا في المراد من هؤلاء الجبّارين، و ذكروا أمورا فيهم لا تنطبق على القواعد و السنن الطبيعيّة، فتكون أقرب إلى الخرافات منها إلى الحقيقة و الواقع.
و كيف كان، فإنّ المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّهم أناس أولوا بطش و قوّة قد سكنوا الأرض المقدّسة.
قوله تعالى: وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها.
اشتراط منهم في تنفيذ هذا الحكم و دخول الأرض بخروج القوم الجبّارين، و هذا الشرط يكشف عن ضعف كامن في نفوسهم و شعور بالذلّ حتّى أثّر على قواهم الجسديّة، فصار الخور و الجبن ملازمين لهم، فتمنّوا خروج الجبابرة بطرق اخرى غير القتال، لتكون تلك الأرض غنيمة باردة لهم، و نظير ذلك واقع في مرّ التاريخ، و يعاني منها الشعوب المستضعفة الذين قهرت إرادتهم و سلبت حريتهم الولاة العتاة الجبابرة، و نقل لنا التاريخ أنّ بعض العبيد كانوا يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم أثناء الحملة على تحريرهم في القرن الماضي، فلا بدّ حينئذ للقائد لمثل هؤلاء أن يتصرّف بسرعة لإصلاح نفوسهم، و تنشيط هممهم، و جلب النفع لهم، و لا يقتصر على التخيل و الأمور الوهميّة.
و قد تضمّنت هذه الآيات الشريفة على امور تربويّة دقيقة في إصلاح تلك النفوس المريضة، فقد بدأت بتذكيرهم نعم اللّه تعالى و ايتائهم من الأمور العظام التي لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ أمرهم بالدخول في الأرض المقدّسة، ليتحقّق أهمّ‏ عامل من عوامل التكوين السياسيّ لهم، و أعظم دعامة من دعامات التحرير و الاستقلال فيهم. و بعد ظهور حقيقتهم في رفضهم الدخول بالقتال جبنا، و لانهيار معنوياتهم بسبب العبوديّة المقيتة الطويلة، ثمّ يأتي الوعظ و الإرشاد، فإذا لم ينفع ذلك يأتي دور الإصلاح النفسيّ و البدنيّ في ترويضهما على الطاعة و بعث روح المقاومة و الشجاعة في نفوسهم و تحمّل المشاق في سبيل تكوين سيادتهم، و هذا ما تحقّق في التيه الذي كتب اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين عاما، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ.
وعد منهم بالدخول و إن كان حقيقته هو الردّ للحكم الإلهيّ و النكوص عن طاعة موسى عليه السّلام، و إنّما ذكروا ذلك تصريحا مع أنّه مفهوم ممّا سبق، تأكيدا و تنصيصا على أنّ امتناعهم من الدخول إنّما هو لأجل وجود الجبابرة فيها، فلا بدّ أن يخرجوا منها بأي سبب كان من غير قتال، فإنّه لا طاقة بهم، و يؤكّد ذلك إتيان الجملة الاسميّة المصدرة ب (ان) في الجزاء، للدلالة على تحقّق الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و هذا القول منهم يثبت ما ذكرناه آنفا من تأثّر نفوسهم من العبوديّة الطويلة، فلم يتقبّلوا بسهولة حريتهم و رجوع استقلالهم، فقد أحبّوا خروج الجبابرة بسبب من الأسباب التي لم يكن لهم أي ارتباط به.
قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ.
بيان لمنهج آخر من مناهج التربية الإلهيّة في إصلاح النفوس، و هو الوعظ و الإرشاد و التذكير بعواقب الأمور.
و في الآية المباركة التعريض لهم بأنّ الخوف لا بدّ أن يكون ممّن يخاف سطوته التامّة و قدرته الكاملة، فلا يخاف من مخلوق يدّعي القوّة و السطوة و هو مقهور تحت إرادة خالقه، فيدلّ السياق على أنّ المراد بالمخافة هي مخافة اللّه عز و جل، بالتحرّز عن عصيانه و الإعراض عن طاعته.
و قد حذف اسم الجلالة لتربيب المهابة و تنشيط هممهم، و الإرشاد بأنّ الذين‏ يخاف منهم ليسوا كذلك، و أنّ الخوف حقيقة إنّما ينبغي أن يكون من اللّه تعالى.
كما أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ في القوم رجالا كانوا يخافون اللّه جلّت عظمته و يتّقونه في أحكامه المقدّسة، و منهم هذان الرجلان، و قد اختلفوا في اسم هذين الرجلين، فقيل- و هو المعروف و به وردت بعض الروايات-: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا (يفنه)، و ذكر بعضهم أنّهما وردا في التوراة أيضا، و قيل غير ذلك.
و كيف كان، فقد قال بعضهم: إنّ ضمير الجمع في (يخافون) عائد إلى بني إسرائيل، و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، فمعنى ذلك: و قال الرجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم اللّه عليهما بالإسلام، و ذكروا وجوها في تثبيت هذا القول.
منها: ما رووه عن سعيد بن جبير، كما يأتي في البحث الروائي.
و منها: ما قرأه بعضهم (يخافون) بضمّ الياء، و جعلها الزمخشري شاهدة على هذا القول، أي: من الذين يخافوهم بنو إسرائيل، و لكنّ ظاهر الآية الكريمة و سياقها يدلان على ما ذكرناه، و غيره ممّا تكلّفوا يحتاج إلى دليل، لا سيما أنّ ما استدلّوا به لم تثبت حجيّته.
و منها: ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الخوف من العدو أقرب إلى الذهن من غيره.
و فيه: أنّ ذلك أبعد، و الأقرب هو الخوف منه جلّ شأنه.
قوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا.
بالاطمينان و التثبيت و الوقوف على الحقّ و الثقة بوعده جلّ و علا، و هو صفة ثانية من صفات الرجلين اللذين يخافان اللّه تعالى. و لا شكّ أنّ هذه النعمة عظيمة، حيث أوصلتهم إلى مقام الخوف من اللّه تعالى، الذي لم يصل إليه إلّا من خصّه اللّه تعالى بالكرامة و حباه بالنعمة العظيمة، و هو من صفات الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام.
و لا ريب أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ مخافتهما لم تكن من أولئك‏ القوم الجبّارين، و إلّا لما اختصّا بهذه النعمة و لم يكد يتحقّق فيهم الاهتداء من الخروج من هذا المأزق، فيرشدوا قومهم بالدخول عليهم الباب كما سيذكره عزّ و جلّ، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ هذه النعمة هي نعمة الولاية التي اختصّ بها المؤمنون المخلصون، و من أهمّ درجات الإخلاص الحقيقيّ هو الخوف من اللّه جلّ شأنه، بل هو حقيقته و قوامه، و أولياؤهم الذين لا يخشون غيره تعالى، قال جلّ شأنه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس، الآية: ٦۲].
و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين أن يقال: إنّ متعلّق (أنعم) هو الولاية، أو يكون الخوف، فإنّه بالآخرة يرجع إلى الأوّل، كما عرفت.
قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ.
أي: باغتوهم و لا تمهلوهم ليجدوا للحرب مجالا، و على هذا فلا يختصّ بباب البلدة كما قيل، بل يشمل أوّل بلدة من بلاد الجبابرة تلي بني إسرائيل، فإنّ عنصر المباغتة لا يختصّ بأمر معيّن، فإنّ الظروف المتاحة تعيّن ذلك، فلعلّ المراد بالباب ما له شأن في ضعف قواهم و يمهّد الطريق للاستيلاء عليهم، فإنّ ذلك استعمال شائع، لا سيما في مثل هذه الظروف.
قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ.
وعد منهما بالنصر و الغلبة على العدو، و تأكيد منهما لهم بذلك، و إنّما حصل لهما هذا الجزاء و التأكيد إما اعتمادا على وعد منه عزّ و جلّ لموسى بن عمران عليه السّلام بتوريث الأرض لبني إسرائيل كما أخبر به موسى عليه السّلام لهما، أو أنّهما عرفا ذلك بإلهام منه عزّ و جلّ لهما، لأنّهما كانا من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر، أو أنّهما عرفا ذلك من القرائن الحافّة و حالات الجبّارين، فإنّهم أجسام لا قلوب فيها، فلا يحتاجون إلى قتال إذا باغتوهم و عملوا بما اقترحه هذان الرجلان.
قوله تعالى: وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تشجيع لهم و تطييب لنفوسهم، و حثّ لهم بالاعتماد على اللّه تعالى و التوكّل‏ عليه، و ترك التواني و التواكل، فإنّه يلزم عليهم أن يعملوا بما عندهم من الطاقة، فإنّ التوكّل إنّما يكون بعد بذل الوسع و مراعاة قانون الأسباب و المسبّبات في عالم الإمكان، كما عرفت ذلك في بحث التوكّل، فراجع سورة آل عمران الآية- ۱٦۰.
و إنّ الشرط في إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ محقّق لموضوع التوكّل، فإنّ الإيمان به عزّ و جلّ حقّ الإيمان، و التصديق بوعده ممّا يوجب التوكّل عليه حتما، فيجب عليهم القيام بما يقتضيه إيمانهم، و يستفاد منه التهييج و الإلهاب.
قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها.
عناد الرجلين منهم و إصرار على التمرّد و العصيان، و إعراض عن مخاطبة الرجلين الذين دعوا بما دعى إليه موسى عليه السّلام، ازدراء بهما، و الجملة تتضمّن العناد عن الدخول في الأرض المقدّسة و إياسا من النصر، و اشتملت على وجوه من الإهانة و التهكّم بمقام موسى عليه السّلام، فقد صرّحوا بالمخالفة و أصرّوا على الاستكبار و نقض الميثاق، و لذا أوجزوا في الكلام مع موسى عليه السّلام بعد ما أطنبوا فيه في بادي الكلام، و من المعلوم أنّ الإيجاز بعد الإطناب في مقام الجدال و المخاصمة لا يخلو عن الإهانة و كراهة استماع الحديث، ثمّ التأكيد على الإعراض باستعمال أداة النفي الدالّة على التأبيد، و تأكيده بقولهم أَبَداً، و مجابهته بجواب تنبئهم بكلام خارج عن حدود الأدب.
قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا.
بيان لجهلهم لصفات الربّ عزّ و جلّ، و فساد فطرتهم و جفاء طبائعهم، فإنّ كلامهم هذا يدلّ على كونهم مشبّهين وثنين، إذ وصفوه تعالى بالذهاب و الانتقال، و هما من صفات الأجسام، و قد أخبر عزّ و جلّ أنّهم نكصوا عن التوحيد و عبدوا العجل، فقال حكاية عنهم: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138]، و من هنا تعرف أنّ هذه الجملة على معناها الحقيقي، فلا نحتاج إلى التكلّف في إخراجها عنه و حملها على المعنى المجازي‏ كما فعله بعض المفسّرين، فإنّهم قصدوا ذهابهما حقيقة، كما يستفاد من ظاهر العطف أَنْتَ وَ رَبُّكَ، و قوله تعالى: فَقاتِلا، و يدلّ عليه ذيل الآية الكريمة: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
و هذه العبارة تدلّ على جفائهم، و بعدهم عن الأدب الرفيع و منتهى التمرّد، و المبالغة في العصيان، و الاستهانة و الاستهزاء به عزّ و جلّ و برسوله، و عدم المبالاة بهم.
قوله تعالى: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
أي: لا نبرح عن مكاننا و لا نقاتل، و قد قالوا ذلك استهانة باللّه تعالى و برسوله موسى عليه السّلام.
قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي.
استنصار من موسى عليه السّلام في إجراء الأمر الإلهيّ، و شكوى منه عليه السّلام إلى ربّه لحال نفسه و أخيه، و الاعتذار إليه تعالى، و التنصّل من فعل قومه و فسقهم، فإنّه عليه السّلام لم يتعرّض لحال غيرهما من المؤمنين، فإنّ المقام يقتضي التعرّض لحال أنفسهما، لا حال من خرج عن الطاعة و فسق عن أمره.
و العبارة تدلّ على غاية الانقطاع إليه عزّ و جلّ، فقد توجّه إلى ربّه جلّ شأنه بقلب ملي‏ء بالحزن مشفق خائف و جل، و بمثله تستجلب الرحمة و تستنزل النصرة، و ذكرنا أنّ اسم «الربّ» له أهميّة خاصّة في الدعاء و أثر عظيم في استجابته، و هذا القول يدلّ على عظم هذا الأمر و أهميّته في حياة بني إسرائيل، فإنّه عليه السّلام لم يتركهم على حالهم و لم ينصرف عنهم بمجرّد إعراضهم و استهانتهم له، فإنّ هذا الأمر له الأثر الكبير في تثبيت دعوته و استمرارها، و إنّه أساس كلّ أمر و نهي فيهم، و في الإعراض عن هذا الأمر تشتّت كلمتهم، و إهدار وحدتهم، و لهذا فقد بثّ شكواه إلى ربّه جلّت عظمته، و طلب منه عزّ و جلّ إصلاح الأمر بعد ما بلّغ هذا الحكم و دعاهم إليه بأبلغ وجه فأعذر فيه، فلو لم يكن الموضوع بمثابة من الأهميّة كما عرفت، لكان مقتضى الحال أن يرجع إلى ربّه و يطلب الفصل بينه و بين قومه‏ الفاسقين الذين واجهوه بأشدّ الامتناع، و يستمد منه العون في إحلال هذه العقدة، كما صنعه الأنبياء الذين سبقوه و الذين لحقوه عند ما كان أقوامهم يعارضونهم بالردّ و الامتناع، و هو شأن التبليغ و الدعوة، فيقول: إنّي بلّغت و أعذرت و لا أملك لهم أمرا إلّا نفسي و أخي و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف، بل رجع إلى ربّه و اشتكى إليه و بثّ حزنه ممّا فعله قومه، و استنصره في إجراء الأمر الإلهيّ مع بذل نفسه و نفس أخيه في سبيل تطبيقه، فإنّ كلّ واحد منهما يملك من نفسه السمع الطاعة و الامتثال، كما يملك من نفس هارون فإنّه خليفته و وصيّه و وزيره، و هذا لا ينافي أنّه عليه السّلام كان يملك من غيره ممّن أخلص للّه تعالى و له من المؤمنين السمع و الطاعة، كما حكي عنهم في ما سلف من الآيات المباركة.
و من ذلك يعرف فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ هذه العبارة تدلّ على أنّه لم يكن يوقن بثبات الذين أخبر اللّه تعالى عنهما آنفا، فإنّها لا تدلّ على ذلك بشي‏ء من الدلالات، فهو عليه السّلام إنّما اقتصر على نفسه و أخيه، لأنّهما واسطتا الفيض و المبلّغان عن اللّه تعالى- فقد بالغا في الدعوة و ناضلا أشدّ النضال في سبيل تنفيذ هذا الحكم، و لكنّهما جوبها بأشدّ الامتناع و الاستهانة من قومهما، كما حكي عزّ و جلّ.
و كيف كان، فلا يستفاد من قوله عليه السّلام الردّ لما أمر به ربّه، و لا الاعتذار منه عن عدم الدخول، بل كان مصرا على تنفيذه طالبا منه النصرة و العون، فإنّ فيه حياتهم الماديّة و المعنويّة، و فيه تثمر جهوده.
و الظاهر من العبارة أنّ قوله: وَ أَخِي، معطوف على الياء في قوله: إِنِّي. و المعنى: أنّي لا أملك إلّا نفسي و أخي مثلي لا يملك إلّا نفسه، فهما اللذان يملكان نفسيهما على الطاعة و الامتثال و يعرفان حقّ المعرفة ما لهذا الأمر الإلهيّ من عظيم الأثر.
و قيل: إنّه معطوف على قوله: نَفْسِي، أي: أنّي لا أملك إلّا نفسي و أملك أخي، فليس لي غيرهما، فلا ناصر لي و لا معين، فإنّ القوم أعرضوا عن الطاعة و امتنعوا عن الامتثال، و لا بأس به أيضا، فإنّه يرجع إلى الأوّل، فإنّ كلّ واحد منهما يملك نفسه على الطاعة و الامتثال، فكان يملك موسى أخاه هارون على السمع و الطاعة له، فإنّ طاعته من طاعة اللّه، كما يملك الخلّص من المؤمنين به على قلّتهم.
قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
دعاء منه عليه السّلام في القضاء الفصل و بيان الحكم العدل من دون طلب للعذاب الإلهيّ عليهم، فإنّه عليه السّلام كان الشفيق عليهم من السخط الربوبيّ و حريصا عليهم من نزول النقمة، و لكنّه كان يعلم أنّ بقاءهم كذلك يفوّت الغرض الذي بعث لأجله إليهم، فلا بدّ من معالجة الموضوع و إصلاحهم و تهذيب نفوسهم، فاختار عزّ و جلّ التيه و كتبه عليهم، و هو أمر تربويّ إصلاحيّ، و إن تضمّن المشقّة و العذاب عليهم، فإنّه لا بدّ منه، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، فإنّه وعد منه عزّ و جلّ على عدم نزول العذاب عليهم و إنّما هو تربية و إصلاح.
و الآية المباركة تدلّ على أنّهم بإعراضهم عن الطاعة و الامتثال و مجابهة رسولهم بأسوأ كلامهم، قد خرجوا عن خالص الإيمان و التوحيد و دخلوا في التشبيه و ارتكبوا إثما كبيرا.
و مادة (فرق) تدلّ على الفصل و التمييز. و منه فرق الشعر إذا فصله و ميّز بينه، و منه القضاء و فصل الخصومات، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان، الآية: ٤]، و قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: ۱۰٥]، و قال تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران، الآية: 103]، و هذا هو المراد به هنا، أي: الفصل بينه و أخيه عليهما السّلام و بين قومه الذين عاندوه و أعرضوا عن طاعته بالحكم العدل، و هو يدلّ على حصول البينونة و المباعدة بين الطائفتين بسبب فسقهم، فقد صارا خصمين.
و الفرق هو الفصل بين شيئين، و قال بعضهم: فرقت- بالتخفيف- في المعاني، و فرّقت- بالتشديد- في الأعيان، كما يقال: فرقت في الكلام، بالتخفيف، و فرّقت بين العبدين، بالتشديد.
قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ.
بيان حكم العدل و القضاء الفصل، و منه يستفاد أنّه عليه السّلام لم يطلب منه عزّ و جلّ نزول العذاب و السخط الإلهيّ، بل طلب ما هو صلاحهم فيه، فإنّهم عانوا ما عانوا من شدّة العذاب الدنيويّ، من فرعون و آله، كما حكى عزّ و جلّ في كتابه الكريم، فكان موسى عليه السّلام شفيقا عليهم فاستجاب عزّ و جلّ دعاء نبيّه فحرم عليهم دخول الأرض المقدّسة حتّى طهرت نفوسهم و تزكّت بتحمّل المشاق.
و الحرمة هنا حرمة منع، أي: التحريم التكوينيّ، و هو القضاء، لا التحريم التعبديّ التشريعيّ، فإنّهم كانوا مأمورين بدخولها من دون نسخ، كما يقال: حرّم اللّه وجهك على النار، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [سورة القصص، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ حَرامٌ عَلى‏ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: ۹٥].
و مادة [تيه‏] تدلّ على التحيّر، يقال: تاه، يتيه، تيها، و توها، إذا تحيّر، و في حديث معرفة اللّه تعالى: «فتاهت به سفينته»، أي: إذا ضلّ و تحيّر، و الأرض التيهاء هي التي لا يهتدى فيها، و قد استعملت بالياء و الواو، أي: تيهته أو توهته، و الياء أكثر، و اللام في الأرض للعهد.
و المعنى: أنّهم ممنوعون من الأرض المقدّسة، فلا يدخلونها و لا يملكونها مدّة أربعين سنة، يسيرون في الأرض تائهين متحيّرين لا يرون طريقا و لا يدرون إلى أين ينتهي مسيرهم، فلا هم أهل مقام في البلد، و لا هم أهل بدو يعيشون كعيشة القبائل.
و التحريم في هذه المدّة له من الحكم الكثيرة و المصالح المتعدّدة، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين ميزة خاصّة و أثارا مهمّة في إصلاح النفس و تهذيبها، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.
الأسى هو الحزن، و قال الراغب: «و حقيقته اتّباع الفائت الغم، يقال: آسيت‏ عليه أسى، و أسيت له»، أي: فلا تحزن على القوم الفاسقين، و الخطاب لموسى عليه السّلام، و فيه تقرير منه تعالى لوصفه عليه السّلام إيّاهم بالفاسقين في دعائه، و هو يدلّ على أنّ سبب نزول النقمة هو أنّهم فاسقون استحقّوا وبال عصيانهم، فلا ينبغي أن يحزن على مثل هؤلاء.
و قال بعضهم: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد بالقوم الفاسقين معاصروه صلّى اللّه عليه و آله من بني إسرائيل لما عاندوه. و هذا صحيح، لكنّ ظاهر الآية الشريفة يأباه، و إن أمكن القول بأنّ الغرض من نقل قصص بني إسرائيل هو العبرة و الموعظة و الإرشاد و تطييب نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا لاقاه منهم.

ذكرنا غير مرة أنّ (إذ) في مثل قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ، مفعول لفعل محذوف خوطب به سيّد الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، بطريق تلوين الخطاب و صرفه عن أهل الكتاب.
و قوله تعالى: يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ في غاية الفصاحة و البلاغة، فإنّ توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت إِذْ قالَ، أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه و إن كان هو المقصود بالذات. و عَلَيْكُمْ إما متعلّق بالنعمة إن جعلت مصدرا، أو بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما، أي: اذكروا أنعامه عليكم.
و ذكرنا أنّ تغيير الأسلوب في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً يدلّ على أنّهم تغيّرت أحوالهم عمّا كانت عليه سابقا، فصاروا كلّهم ملوكا، و هو يدلّ على أنّ المراد بالملك غير ما هو المصطلح عليه في علم السياسة و التدبير.
و اللام في قوله تعالى: مِنَ الْعالَمِينَ للعهد، أي: عالمي زمانهم و ما سبقهم، أو للاستغراق لجميع من سبقهم، كما عرفت في التفسير.
و قوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف، و هو الظاهر، أو منصوب في جواب النهي من قبيل: لا تكفر فتدخل النار، و ناقش فيه جمع.
و الجملة الاسميّة: «فإنّا داخلون» المصدّرة ب (ان) فيها الدلالة على تقرير الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و فيه التأكيد على عدم دخولهم ما داموا فيها.
و القراءة المعروفة في قوله تعالى: (يخافون) بفتح الياء، و قرأ بعضهم بضمّها.
و جعلها الزمخشريّ شاهدة على أنّهما من الجبّارين، و قد عرفت ما يتعلّق بذلك في التفسير، و فيه احتمالان آخران مذكوران في الكتب المفصّلة، فراجع.
و جملة: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفة ثانية لرجلين، أو اعتراض. و قيل غير ذلك.
و (أبدا) في قوله تعالى: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها، معنى الدهر الطويل، و «ما داموا فيها» بدل من «أبدا»، إما بدل البعض، أو بدل الكلّ من الكلّ، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين.
و يجوز في أخي رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي وجوه من الإعراب، منها: إنّه منصوب بالعطف على اسم «ان»، أو أنّه مرفوع بالعطف على فاعل (املك) للفصل، أو أنّه مبتدأ خبره محذوف، أو أنّه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي بعض النحويين. و أشكل على بعض الوجوه بأمور مذكورة في محلّها فراجع.
و أما قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فالمعروف أنّ الأربعين ظرف منصوب ب (محرمة)، فيكون التحريم مؤقتا بهذه المدّة، فلا تنافي بينه و بين قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، لأنّ الكتابة غير مؤقتة و التحريم مؤقت، و هو الظاهر من الآية المباركة كما عرفت آنفا، و يأتي في البحث الدلالي مزيد بيان.
و قيل: إنّ الأربعين ظرف لقوله تعالى: يَتِيهُونَ مقدّما عليه، فيكون التحريم مؤبدا، إذ التقدير: فإنّها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
و الظاهر هو الوجه الأوّل، و يؤيّده أنّ الغالب في الاستعمال تقديم الفعل على الظرف، لا تأخّره عنه. و على فرض القول بالوجه الثاني، فإنّ التحريم لا يكون مؤبّدا، لقوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.
و قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ إما بيانيّة لكيفيّة حرمانهم، أو حال من ضمير (عليهم).

تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول‏:
يدلّ قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ على فضل بني إسرائيل و عظيم ما أنعم عليهم، لجملة من النعم الماديّة و المعنويّة، و لم تكن في القرآن الكريم مثل هذه الآية الشريفة التي تعدّ على بني إسرائيل أنواع النعم، و تدلّ على تفضيلهم على غيرهم و ما حباهم اللّه تعالى من الكرامة و الفضل العظيم، فلم تسبقهم امّة من الأمم بمثل هذه النعم، و لكنّهم كفروا بها و أعرضوا عمّا أمرهم به اللّه تعالى، و مع ذلك فإنّه عزّ و جلّ لم يتركهم سدى، فقد ابتلاهم بأنواع المحن و البلاء، فقد ابتلوا على قدر الكفر، و لعلّ كتابة التيه عليهم لأجل ازدرائهم بالنعم، و وقوعهم في اضطراب فكري و نفسي، فكان لا بدّ من تيه ماديّ لتصلح به نفوسهم و ترجع أفكارهم إلى السداد و تهتدي قلوبهم إلى الرشاد، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
الثاني‏:
يستفاد من سياق الآيات الشريفة في المقام النظام الإلهيّ في تنظيم شؤون الناس، و هو يمرّ بمراحل متعدّدة.
منها: التهذيب بالتزكية و التعليم بإرسال الرسل و الأنبياء، و هذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ.
و منها: النضج الفكريّ و جعل الإنسان حرّا، مالكا لنفسه، حرّا في تصرفاته، لا تؤثّر عليه الأفكار الدخيلة و لا يقبل الابتزاز و الظلم و العدوان، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً.
ثمّ مرحلة الاختصاص و التمييز بما يمنحهم ربّهم من أنواع النعم الماديّة و المعنويّة التي لها الدخل الكبير في تكوين هويتهم و شخصيتهم، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.
و لأجله تميّز بنو إسرائيل عن غيرهم من سائر الأمم.
ثمّ المرحلة الأخيرة، و هي الاستقلال في الأرض التي تعتبر المرحلة الأشدّ صعوبة من تلك المراحل الأخيرة، فإنّها تحتاج إلى جهاد و كفاح مستمر، فإنّ على الأرض تطبيق واقع النظام الإلهيّ التي تبقى مهدا للأجيال القادمة و مدرسة للتهذيب و الإصلاح، و يدلّ عليه قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، و يمكن أن يكون قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ إشارة إلى جميع تلك المراحل، فإنّها ممّا كتبه اللّه تعالى على كلّ امّة تريد السعادة و الصلاح لها، فإنّها بدون هذا النظام الدقيق لا يمكن الوصول إليهما.
و هذه المراحل هي متكاملة مترابطة ترابطا دقيقا، و لكلّ واحدة منها أسسا و قواعد متقنة، قد شرحها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و بيّنتها السنّة الشريفة بيانا شافيا، و لا يمكن نيل الغرض المحمود منها إلّا بتطبيقها تطبيقا كاملا، فإنّ الإعراض عن هذا النظام الربانيّ يوصل الإنسان إلى طريق مسدود، لا يوقعه إلّا في متاعب تسلب راحته، و لا يهدأ له البال و تزدحم عليه المشكلات التي ليست لها علاج صحيح إلّا بالرجوع إلى الطاعة و تطبيق نظام الشريعة الغرّاء.
و في أحوال بني إسرائيل- من ابتداء حياتهم في مصر حتّى خروجهم منها و الدخول في التيه، و ما لاقوه من المتاعب- العظة و العبرة لمن أراد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا، و أسوة لمن أراد الخير و الصلاح و السعادة للمجتمع و إيصاله إلى سمو الرقي.
الثالث‏:
يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ، أنّ الإعراض عن طاعة اللّه تعالى و اتّباع أنبيائه الكرام يوجب سلب السعادة و الوقوع في الخسران، و إطلاقه يشمل جميع أنواع الخسران المادّي و المعنويّ.
الرابع‏:
يدلّ قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها، على غاية الإحباط و الشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل و تذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: ۹٦]، و في الحديث: «انّ الظلم يذر الديار بلاقع من أهلها»، و قد دلّت عليه التجربة.
الخامس‏:
يدلّ قوله تعالى: يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، أنّ الخوف من اللّه تعالى يوصل الإنسان إلى المقامات السامية و المنازل العالية، و أنّه ممّا يوجب أن ينعم اللّه تعالى عليه بأنواع النعم الإلهيّة.
السادس‏:
يمكن أن يستفاد من حذف المتعلّق في قوله تعالى: يَخافُونَ العموم، أي: الخوف من اللّه العظيم و العمالقة، و خوفهم من اللّه تعالى؛ لأنّهما كانا على درجة من الإيمان، و الخوف من العمالقة؛ لأنّهم كانوا ذوي سطوة و قوّة و لا يمكنهم الغلبة عليهم إلّا بالحيطة و الحذر و اتخاذ الأسباب الظاهريّة، ثمّ التوكّل على اللّه تعالى، و لذا اقترحا على قومهم من بني إسرائيل بالدخول عليهم الباب، و الخوف من أبناء قومهم في إظهار الحقيقة و بيان الواقع لهم لضعف إيمانهم، و لوجود الذلّ الكامن في نفوسهم، و لذا دأبوا على إنكار الحقّ و مجابهة المحقّ بأسوأ إنكار.
و على هذا تكون الآية الشريفة من الأدلة على تشريع التقيّة و جوازها- بل وجوبها- في مورد الخوف و الضرر حسب اختلاف الموارد.
السابع‏:
يدلّ قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي، على غاية رقي الإنسان في مدارج الكمال، بحيث يملك نفسه و يقدر في التسيطر على مشاعره و توجيهها إلى الصراط المستقيم و جعلها تحت إرادته عزّ و جلّ و اتّباع شرائعه و توجيهاته و إرشاداته، و لا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة الراقية من الكمال إلّا بالمجاهدات الكبيرة و التزام الطاعة و التقوى و اجتياز المراحل الصعبة التي تكون في هذا الطريق، و لم يصل إلى هذه المرتبة إلّا المخلصون من عباد اللّه تعالى الذين استثناهم إبليس من غوايته، كما حكي تعالى عنه بقوله: وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: 39- ٤۰].
و الآية الشريفة تدلّ أيضا على عظمة هارون أخي موسى عليهما السّلام، فقد كان‏ الوفي لأخيه و المطيع لأوامره و تعليماته و المنفذ لتشريعاته، حتّى انتهى به الأمر إلى جعل نفسه بين يديه، فصار موسى عليه السّلام مالكا لها كما ملك نفسه، و هذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الطاعة للّه تعالى و لنبيّه عليه السّلام، و لم يصل إلى هذه المرحلة إلّا إذا ملك نفسه بالمجاهدة.
و من هنا تعرف أنّه لا فرق بين أن نقول: إنّ كلمة (أخي) عطف على (نفسي)، أو على الضمير في (لا املك) فإنّ أحدهما يلازم الآخر كما هو معلوم.
الثامن‏:
يدلّ قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، على أنّ الفسق و الخروج عن الطاعة يوجب البينونة بينه و بين اللّه تعالى و أنبيائه العظام، فإنّ بني إسرائيل أعرضوا عن الطاعة و فسقوا عن أمر ربّهم و تعليماته، و لذا طلب موسى عليه السّلام أن يفرّق بينه و بين قومه بحكم يكون فيه الفصل و الحدّ عن فسقهم و طغيانهم، و ذكرنا أنّ هذا الدعاء منه عليه السّلام لم يكن طلبا لنزول العقاب عليهم، فإنّه عليه السّلام جاهد جهادا مريرا معهم حتّى أوصلهم إلى هذه المرحلة من حياتهم، فلا بدّ من علاج ذلك حتّى لو استلزم المشقّة الشديدة، فكتب اللّه تعالى لهم التيه، و قد كان موسى و أخوه عليهما السّلام في غنى عنه، و لكنه جعل نفسه و نفس أخيه تحت إرادته و مشيئته تعالى. و من هنا يظهر السرّ في تقديم رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي على دعائه.
التاسع‏:
يستفاد من قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، مناسبة العقاب مع العصيان، فإنّهم أعرضوا عن طاعة اللّه و رسوله و لم ينفذوا ما أمرهم تعالى بدخول الأرض المقدّسة الذي أراد عزّ و جلّ منه استقلالهم و تطبيق شريعته فيها، و قد جابهوا نبيّهم أسوء مجابهة، و أظهروا ما هو كامن في نفوسهم من التردد و الحيرة و الاضطراب و لم يبدوا العزيمة، فكان ذلك سببا في الدخول في التيه الذي هو الحيرة و الاضطراب أيضا، و لكن فعل بهم هذا في الأرض لتمرين نفوسهم على تحمّل المشاقّ و قبول المتاعب و الصعاب، فتستقر على أمر واحد، بخلاف ما كانوا عليه قبل التيه من اضطراب فكري، و ضعف في الإرادة و الصعوبة في قبول الخير و الصلاح، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.
العاشر:
يستفاد من قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أنّ حرمة الدخول إلى تلك الأرض المقدّسة مغياة إلى أربعين سنة، فإنّ هذه المدّة كافية لتصفية النفوس و تزكيتها و تهذيب القلوب من الفساد و تربية الأبدان على تحمّل المشاقّ، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين الأثر الكبير في ذلك.
و ذكر بعضهم أنّ الحرمة أبديّة، جزاء أعمالهم السيئة و هتكهم لحرمات اللّه تعالى و جرأتهم على نبيّه الكليم و مجابهته بأسوإ مجابهة، و لكنّ هذا القول ينافي ظاهر الآية الشريفة، فإنّ الحرمة فيها لم تكن تشريعيّة بحتة، بل للحرمة التكوينيّة فيها مجال واسع، فإنّه بعد ظهور نواياهم الفاسدة و سريرتهم المريضة لا يبقى موضوع للدخول إليها، فإنّه مشروط بأمور أغلبها إن لم تكن كلّها منتفية عندهم آنذاك، فلا بدّ من علاج ذلك ليتسنّى لهم الدخول، فإنّهم امّة تميّزت عن غيرها بأن أنعم اللّه تعالى عليها بعد العذاب المرير الذي قاسوه مدّة مكثهم في مصر، على أنّ أرض اللّه تعالى لم تكن ملكا لأحد من عباده، فإنها يرثها عباد اللّه الصالحون، فكانت فترة التيه كافية لتربيتهم على الصلاح، فإن كانوا كذلك، فهم الوارثون و إلّا فسيرثها غيرهم من الصالحين، و للبحث تتمّة يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً، يعني: في بني إسرائيل لم يجمع اللّه لهم النبوّة و الملك في بيت واحد، ثمّ جمع اللّه ذلك لنبيّه».
أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله على موسى عليه السّلام،
فجعل في بيته صلّى اللّه عليه و آله النبوّة، و الملك، أي: الولاية كما يأتي، و أما في بيت موسى عليه السّلام لم يكن كذلك، و إنّما كان في بني إسرائيل.
و عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً؟ قال عليه السّلام: الأنبياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إبراهيم و إسماعيل و ذريّته و الملوك الأئمة، قلت: و أي الملك أفضل؟
قال: ملك الجنّة و النّار».
أقول: الرواية- مع قطع النظر عن السند- مضطربة المتن. و لعلّ الإمام عليه السّلام أراد ذكر أجل المصاديق لمطلق الأنبياء- لا تفسير الآية المباركة- لأنّ ما ورد فيها من ذكر الأنبياء عليهم السّلام لم يكونوا من بني إسرائيل، كما هو واضح، و كذا بالنسبة إلى الأئمة للملوك، و المراد من الذيل الملك (بالفتح) و الأولى ردّ علمها إلى أهله.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال:
«كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة و الخادم و الدار، يسمّى ملكا».
أقول: سياق الآية الشريفة الامتنان على بني إسرائيل، كما تقدّم في التفسير، و ما ورد في الرواية سار في جميع الأمم و لا يستحقّ ذلك الامتنان من اللّه جلّت عظمته، و لعلّ المراد التفوّق النسبي، و من كان كذلك عدّ في بني إسرائيل ملكا، لأنّهم كانوا عبيدا للفراعنة. و كيف كان، فقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فلا بدّ من صناعة التأويل فيها حتّى تلائم سياق الآية المباركة.
و عن الشيخ المفيد في آماله بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لما انتهى بهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لكم و لا ترتدوا على إدباركم فتنقلبوا خاسرين، و قد كتبها اللّه لهم، قالوا: يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين، و إنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللّه عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون و على اللّه فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، قال: ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين، فلما أبوا أن يدخلوها حرمها اللّه عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة، يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم استتموا الرحيل فيرتحلون بالحدّ أو الزجر، حتّى إذا أسحروا أمر اللّه الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه، فيقولون: قد أخطأتم الطريق، فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المن و السلوى حتّى هلكوا جميعا، إلّا رجلين يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناءهم، و كانوا يتيهون في نحو من أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم، قال: و كان معهم حجرا إذا نزلوا ضربه موسى عليه السّلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكلّ سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابة، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ موسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لهم، ثمّ بدا له فدخلها أبناء الأبناء».
أقول: الظاهر التصحيف و الاشتباه من النساخ، و الصحيح قال: قال أبو جعفر عليه السّلام، فتكون رواية واحدة كما يقتضي السياق، و إلّا فالرواية متعدّدة.
و كيف كان، فالروايات في كيفيّة التيه و ما جرى عليهم فيه كثيرة منقولة عن طرق الشيعة و السنّة، كما أنّ التيه في نفسه خارق للعادة، و كان لأجل مصالح و حكم كذلك، و ما جرى على بني إسرائيل فيه من خوارق الطبيعة، و أنّ الروايات الواردة في حياة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السّلام تدلّ على أنّ ذلّ الرقيّة كان فاشيا في مجتمعهم، و لم تكن لهم أيّة نفسيّة توجب اندفاعهم للخروج عنها إلّا بتغيير جذري لطبائعهم، و هو قد حصل في التيه، و لعلّ خوارق العادة أو انثلام الطبيعة فيه لم تكن إلّا لأجل إرشادهم إلى الخالق الرحيم، و إنّه قادر على تغيير ما ارتكز في نفوسهم من الذل و الانكسار كما تقدّم في التفسير، و لا بد أن يكون كذلك بحكم العقل و الفطرة.
ثمّ إنّ اختلاف الروايات في ما جرى عليهم في التيه لا يضرّ، لأنّها قريبة المعاني نوعا ما، و لا شي‏ء فيها ما يخالف الكتاب، و لذلك لا جدوى في سردها و الجمع بينها، و سيأتي ما يتعلّق بالبداء إن شاء اللّه تعالى.
و في رواية حريز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتّى لا تخطون طريقهم و لا يخطئكم سنّة بني إسرائيل، ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: قال موسى عليه السّلام لقومه: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، فردّوا عليه و كانوا ستمائة ألف: قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (۲۲) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أحدهما يوشع بن نون و الآخر كالب بن يوفنا هما ابنا عمّه فقالا: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ إلى قوله تعالى: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، قال: فعصى أربعون ألفا و سلم هارون و ابناه و يوشع بن نون و كالب بن يوفنا، فسمّاهم اللّه فاسقين، فقال: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا، فكانوا حذو النعل بالنعل، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما قبض- الحديث».
أقول: أما قاعدة ركوب السنن الماضية حذو النعل بالنعل في هذه الامّة، فقد وردت فيها روايات كثيرة مروية عن طرق الشيعة و السنّة، و دلّت التواريخ المعتبرة على ذلك، و لا مجال لنقل الوقائع بعد كثرة الشواهد.
و أما ذكر العدد في الرواية، فهو تقريبيّ لا دقّي، و لا يضرّ الاختلاف في الأقل و الأكثر، كما مرّ.
و تطبيق الآية الشريفة على ما حصل من الحوادث بعد ارتحال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إلى الملأ الأعلى من باب التطبيق، و القاعدة المتقدّمة تشهد على ذلك.
و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «خلق لهم ثياب لا تخلق و لا تذوب».
أقول: يمكن أن يكون ذلك من متانة الصنع و المادة بحيث يعمر الثوب‏ أربعين سنة و أكثر. و أما الكيفية من الطول و القصر و غيرهما، فكانوا يغيّرونها باختيارهم، لأنّ أكثر ما يطرأ على الثياب من الفساد من كثافات البدن الحاصلة من الغذاء، و كان غذائهم المن و السلوى، و لم يكن فيهما الكثافة كما في غيرهما من الأغذية.
كما يمكن أن يكون ذلك من الإعجاز و خوارق العادة، كانفجار الماء من الصخرة، و يدلّ على ذلك ما ورد في الدرّ المنثور، قال: «ظلّل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة، كلما أصبحوا ساروا غادين، فإذا امسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، فكانوا كذلك أربعين سنة و هم في ذلك ينزل عليهم المن و السلوى و لا تبلى ثيابهم، و معهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا»، و في رواية اخرى فيه أيضا: «كانت بنو إسرائيل إذا كانوا في تيههم تشبّ معهم ثيابهم إذا شبّوا»، و ذكرنا مرارا أنّ خوارق العادة تعمّ الجمادات و غيرها.
و في تفسير علي بن إبراهيم قال في قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، قال: فإنّ ذلك نزل لما قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى‏ طَعامٍ واحِدٍ، فقال لهم موسى عليه السّلام: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ف إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها، فقال لهم موسى عليه السّلام: لا بدّ أن تدخلوها، فقالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، فأخذ موسى بيد هارون و قال كما حكي اللّه: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي- يعني هارون- فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ، فقال اللّه: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يعني مصر لن يدخلوها أربعين سنة يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، فلما أراد موسى أن يفارقهم فزعوا و قالوا: إن خرج موسى من بيننا انزل علينا العذاب، ففزعوا إليه و سألوه أن يقيم معهم و يسأل اللّه أن يتوب عليهم، فأوحى اللّه إليه: إنّي قد تبت عليهم على أن يدخلوا مصر و حرّمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا، فدخلوا كلّهم في قرية و التيه إلّا قارون، فكانوا يقومون في أول الليل و يأخذون في قراءة التوراة فإذا أصبحوا على باب مصر دارت بهم الأرض فتردّهم إلى مكانهم، فكان بينهم و بين مصر أربعة فراسخ، فبقوا على ذلك أربعين سنة، فمات هارون و موسى في التيه و دخلها أبناؤهم و أبناء أبنائهم، فروي أنّ الذي حفر قبر موسى ملك الموت، تمثّل في صورة البشر، و لذلك لا يعرف بنو إسرائيل قبر موسى، و سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن قبره؟ فقال: عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر، قال: و كان بين موسى و بين داود خمسمائة سنة، و بين داود و عيسى ألف و مائة سنة».
أقول: المستفاد منها و من الروايات الواردة في ضمن جميع الآيات الشريفة المتعلّقة بقصة التيه المذكورة- بعضها في سورة البقرة، الآية: ٦۱ و بعضها في المقام- امور:
الأوّل: أنّ الأرض المقدّسة هي الصحراء الممتدة من الشام إلى مصر، أي: صحراء سيناء، و حدّدت جوانبها كما يأتي في البحث التأريخي.
الثاني: أنّ بني إسرائيل بعد ما خرجوا من مصر و خلّصوا أنفسهم من عذاب فرعون، لم يخضعوا لموسى عليه السّلام مع ماله من الفضل عليهم، و لذلك وقعوا في الشدّة و العذاب الإصلاحيّ و التربويّ، فأصابهم ظمأ و مجاعة في صحراء قفر- كما تقدّم في موجز حياتهم في سورة البقرة، الآية: ٦۱ و سيأتي مزيد بيان- فأمرهم موسى عليه السّلام بالهبوط إلى مصر لشدّ عزائمهم و ليجدوا مآربهم، فأبوا دخولها لما لاقوه سابقا من العذاب المرير و الذلّة القاسية، فعاندوا موسى عليه السّلام و أساؤا الأدب بربّهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، فوقع عليهم العذاب التربويّ، أي: حرم عليهم دخول مصر أربعين سنة، و الحكمة في ذلك كثيرة كما تقدّم.
الثالث: أنّ السير في التيه إما أنّه معجزة خارقة للعادة كما في الرواية، «درأت بهم الأرض».
أو سلب اللّه مشاعرهم التي تدلّهم على الطرق، فجهلوها و وقعوا في متاهاتها، فكانوا يسيرون السير الدائريّ مثلا و هم لا يشعرون.
أو أنّهم لا يتمكّنون من السير المحدود، فسلب اللّه تعالى قدرتهم من السير أكثر، لمرض أو غيره من حوادث الجو أو الأرض.
أو ضيّق عليهم زمان السير، فكانوا ينامون أكثر اليوم ثمّ يسيرون في متاهات الأرض في زمان محدود خاصّ.
و يمكن أن يقال: إنّ جميع هذه الاحتمالات موجودة فيهم حسب الإيمان به عزّ و جلّ و التقرّب لديه تعالى، فدارت الأرض على بعضهم و تاه آخرون فيها، و أنهك بعضهم المرض من السير، أو ضيّق عليهم الزمان، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تحتمل فيهم.
و أمر بني إسرائيل في زمان حياة موسى عليه السّلام لم يكن عاديا، بل إنّ المعجزات و خوارق العادة كانت حافة بحياتهم و سارية في مجتمعاتهم.
و في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّه سئل عن قول اللّه ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، قال عليه السّلام: كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، و اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب».
أقول: ظاهر الرواية البداء في حقّهم، فكتب لهم الدخول ثمّ حرّمه تعالى عليهم. و لكنّ سياق الآية المباركة لا يدلّ على ذلك، لأنّ حرمة دخولهم فيها أربعين سنة كانت من الآثار الوضعيّة لأعمالهم، و لذلك دخلها أحفادهم بعد ما تركوا تلك الأعمال و أصلحوا أنفسهم، إلّا أن يراد من البداء غير معناها المصطلح.
و في تفسير العياشي بإسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قال عليه السّلام: «كتبها لهم ثمّ محاها».
أقول: إنّ المحو كان نتيجة أعمالهم و من آثارها، و كان مؤقتا.
و عن الصادق عليه السّلام في رواية أبي بصير: «انّ بني إسرائيل قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة، فلم يدخلوها حتّى حرّمها عليهم و على أبنائهم، و إنّما دخلها أبناء الأبناء».
أقول: الرواية ظاهرة في ما تقدّم، إلّا أن يقال: إنّ جميعهم امّة واحدة، و إنّ الخطاب متوجّه إلى الامّة، فحينئذ يتحقّق البداء بملاحظة الأفراد، و يدلّ على ذلك رواية إسماعيل الجعفي عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: أصلحك اللّه ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، أ كان كتبها لهم؟ قال: أي و اللّه لقد كتبها لهم، ثمّ بدا له لا يدخلونها- الحديث».
و عن ابن سنان، عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قال: «كان في علمه أنّهم سيعصون و يتيهون أربعين سنة ثمّ يدخلونها بعد تحريمه إيّاها عليهم».
أقول: تقدّم أنّ من دخل الأرض المقدّسة كانوا أحفادهم، لا نفس المخاطبين، فلا يكون من البداء إلّا بالوجه الذي تقدّم.
و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كان هارون أخا موسى لأبيه و امه؟ قال: نعم، أما تسمع اللّه يقول:
يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي؟! فقلت: أيّهما أكبر سنّا؟ قال: هارون، قلت: كان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: الوحي ينزل على موسى عليه السّلام و موسى يوحيه إلى هارون، فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي، كان ذلك إليهما؟ قال عليه السّلام: كان موسى عليه السّلام الذي يناجي ربّه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل، و هارون يخلفه إذا غاب عن قومه للمناجاة. قلت: فأيّهما مات قبل صاحبه؟ قال عليه السّلام: هارون قبل موسى، و ماتا جميعا في التيه، قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرّية له».
أقول: الرواية تدلّ على أنّ موسى عليه السّلام و هارون كليهما قادا بني إسرائيل، و لكن كان لموسى عليه السّلام الفضل و الشرف على هارون، و الأخبار مختلفة في موضع قبر موسى عليه السّلام، و لكنّ أكثرها تدلّ على أنّه في التيه، لأنّه توفى فيه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر»، كما مرّ.
و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مات داود النبي يوم السبت مفجّوا، فأظلّته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم اللّه في التيه، فصاح صائح من السماء: مات موسى و أيّ نفس لا تموت».
أقول: لعلّ الوجه في تظليل الطير بأجنحتها كان احتراما و إكراما لداود، و كان الصياح في السماء نعيا على موسى، لأجل أهميّة الحادثة و تجليلا لشأنه عليه السّلام.
و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ، قال: «أبدا»، و في قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ قال: أربعين سنة».
أقول: ما ذكره خلاف ظاهر الآية الشريفة و أنّهم دخلوا الأرض المقدّسة كما في الآية الشريفة، و تقدّم أنّ الحرمة وضعيّة لا تكليفيّة.

ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حياة بني إسرائيل كانت مليئة بخوارق العادات، حافلة بالقصص العجيبة و الحكايات الغريبة، قلما تكون امّة غيرها بهذه المثابة، فقد تميّزت بأنّها كانت مورد لطفه عزّ و جلّ و عنايته و إحسانه، فأنعم عليها بما لم ينعم على غيرها من الأمم قبلها، قال تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* [سورة البقرة، الآية 122].
و قال تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [سورة المائدة، الآية: 20]، و قد حكى القرآن الكريم جملة منها فصارت هذه الامة مثالا للكرامة الإلهيّة، نستلهم ممّا أفاض عزّ و جلّ عليها من التشريعات و الإرشادات و التوجيهات في تكوين الفرد تكوينا صالحا، و بناء مجتمع سعيد وفق قواعد حكيمة متقنة.
و الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه و تعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل، و هي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ و المجتمع السعيد، فقال عزّ و جلّ: وَ إِذْ قالَ‏ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، و تقدّم في بحثي الدلاليّ و الروائيّ بعض الكلام فراجع.
إلّا أنّ هذه الامّة مع عظم فضلها و كبير ما أنعم عليها، كان الواجب عليها شكر تلك النعم بإطاعة من أنعم عليها و خصّها بها، فتفي بعهودها التي أخذت منها، و لكنّها نكصت عن إيمانها و أعرضت عن طاعة ربّها، و نقضت عهودها، و لقد حذّرهم اللّه تعالى مكرّرا و علّق استدامة تلك النعم على الوفاء بالعهد، فقال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة، الآية: ٤۰]، و وعظهم نبيّهم موسى بن عمران عليه السّلام و حذّرهم من وبال أفعالهم و عاقبة أمرهم، فأصروا على العناد و اللجاج استكبارا، حتّى استحكم فيهم العصيان و نقض المواثيق، فلم تنفعهم الزواجر، فعاقبهم اللّه تعالى بأنواع العذاب، فصاروا مثلا للعبرة و الموعظة بعد ما كانوا مثالا للكرامة الإلهيّة، و قد انغرس فيهم بعض الصفات السيئة و العادات الباطلة، فظلّت أجيال بني إسرائيل تتوارثها على مرّ العصور، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في القرآن الكريم، و لقد عانى الأنبياء و المصلحون في سبيل إصلاحهم و تهذيبهم، و تحمّلوا أنواع الشدائد و المشاقّ، فلم ينالوا ما يريدونه لتماديهم في الغي و شدّتهم في التمسّك بعاداتهم الباطلة و صفاتهم السيئة و قسوتهم على أنبيائهم، حتّى قتلوا منهم جمعا كبيرا.
و لعلّ من أحد أسباب كثرة إرسال الأنبياء فيهم أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت بتهذيبهم و إرجاعهم إلى رشدهم و إصلاحهم و تزكيتهم، و قد اقتضت حكمته تعالى أن ينزل من التشريعات الشديدة و الأحكام القاسية في الوصول إلى الهدف الذي أرسل الرسل إليه، بسبب عنادهم و غيّهم.
و نحن نذكر في هذا البحث من تلك الأحكام قضية التيه التي ذكرت في جميع الكتب الإلهيّة المعروفة، و التي كتبها اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين سنة، و هي قضية مهمّة في حياة بني إسرائيل، و تعدّ هذه القضية منعطفا تاريخيا في حياة بني‏ إسرائيل، و تعتبر من أعظم الأحداث في التأريخ الإنساني، لما وقع فيه من خوارق العادات و غرائب الأمور، فصار التيه بحدّ نفسه مدرسة تربويّة إصلاحيّة، و قد طال زمانه حتّى مات فيه جمع كبير ممّن خرج مع موسى بن عمران عليه السّلام، و مات هو و أخوه في التيه، فلم يبق منهم إلّا اثنان، أحدهما يوشع بن نون الذي تولّى قيادة بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، و كان من أحد أصفيائه، فاستطاع هو و من معه من أحفاد بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة بعد عناء شديد.
و نذكر في هذا البحث حقيقة التيه، و أسبابه، و مدّته، و مكانه، و الحكمة فيه، و الحوادث الواقعية فيه.
حقيقة التيه‏:
لمعرفة حقيقة التيه يجدر بنا أن نتعرّف على حياة بني إسرائيل في مصر قبل الخروج منها و لو على سبيل الإيجاز، فقد تقدّم في سورة البقرة بعض الكلام أيضا، فنقول: اتّفق المؤرخون على اختلاف مذاهبهم على أنّ بني إسرائيل كانوا في مصر شعبا مستضعفا ذليلا، فقد استعبدهم المصريون، و أذلّهم الفراعنة و ساموهم سوء العذاب، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، و كان من نتائج ذلك أن تأثّرت نفوسهم بسبب الظلم المستمر عليهم، فضعفت فيهم روح الثأر و الانتقام و خسروا ملكة الشجاعة و الإقدام، فأنسوا بالذلّ و العبوديّة، و ألفوا الظلم و الاستعباد، فلم تكن الحرية عندهم شيئا ذا أهميّة و لم يعيروا لها أيّ اهتمام، فأحبّوا القعود و رضوا النكد من العيش، و رفضوا التحلّي بمكارم الأخلاق، فكاد أن تنطفئ فيهم ملكة الاستكمال، حتّى تعلّقت إرادته عزّ و جلّ أن يبعث فيهم من يخلّصهم من العذاب و يهديهم إلى سواء السبيل، فالتفوا حول موسى بن عمران عليه السّلام و هم بمصر، لا كرسول و نبي همام، بل كقائد مقدام يرجى على يده الخلاص من ظلم المصريين و استعبادهم، و لذلك لم يكادوا يتحقّقون من نجاتهم من فرعون حتّى شغبوا على موسى نبيّهم العظيم عليه السّلام و أعرضوا عن طاعته بعد ما أخذ منهم المواثيق، فصاحوا به و بأخيه هارون: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا [سورة الأعراف، الآية: 129]، و قد نقلت لنا التوراة صورا متعدّدة من ذلك التمرّد، و ورد في إحداها أنّهم قالوا: «ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع» ۱٦۰ سفر الخروج: 2- 3، و السرّ في ذلك واضح، فإنّ الحرية لم تكن عندهم شيئا يذكر، و لم تبعثهم الكرامة الإنسانيّة و لم ينهض بهم طلب الفضائل، فقد تربّوا على الذلّة، و الصغار، و نقض العهد و الميثاق، و الخروج عن الطاعة، فصار العناد و اللجاج من سماتهم المعروفة. و من هنا كان الأمر بدخول الأرض المقدّسة عليهم عظيما، لأنّه يستلزم الحرب بينهم و بين السكان الذين يقطنون فيها، و هم يخافون الحرب، و قد بذلت محاولات عديدة لإرضائهم بالدخول، و وعدهم عزّ و جلّ بالنصر، و لكنّهم أصروا على موقفهم، كما حكى عنهم القرآن الكريم فقالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، و مقالتهم هذه تكشف عن كبير عصيانهم و عظيم جبنهم، فأحبّوا أن يكون الدخول إلى الأرض المقدّسة عن طريق المعجزة الإلهيّة، لأنّهم كانوا يدركون أنّهم شعب احتفت بهم الكرامة الإلهيّة و كثرت فيهم المعاجز و خوارق العادات، حتّى عرفوا بها و لم يتنبهوا أنّ تلك المعاجز إنّما كانت لأجل ايقاظهم عن سباتهم و بعث روح الاستكمال فيهم، و تربيتهم بالتربية الإلهيّة الصالحة، تدفع عن نفوسهم تلك الذلّة و الصغار التي تربّوا عليها.
و من هنا نعرف أنّ التيه الذي كتبه اللّه تعالى عليهم إنّما كان الغرض منه هو إعدادهم إعدادا ماديا و معنويّا، لتحمّل المسؤولية الإلهيّة، و تربيتهم تربية صالحة، التي لا بدّ من توفّرها في كلّ شعب يريد السعادة في الحياة، فكانوا في تيه فكريّ لا يمكنهم معرفة تلك الحقائق و ما تتطلبه الحياة من الوسائل التي لا يمكن أن تنال إلّا بإصلاح نفسيّ و بدني وفق منهج تربويّ دقيق، و هذا هو الذي أراده موسى عليه السّلام حين طلب من ربّه أن يفرق بينه و بين القوم الفاسقين، فإنّه لم يطلب‏ العذاب لامّة لا تعرف الحياة الكريمة و هي في عمى و جهالة.
و من جميع ذلك نعلم أنّ حقيقة التيه تبتني على إصلاح الفكر و النفس عن طريق ترويضها على تحمّل المشاق و تربيتها على حرية البداوة، وفق منهج إصلاح تربويّ، لطرد ما يكمن في النفس من مفاسد الأخلاق و غرس مكارمها، و هذا يحتاج إلى وقت طويل تبعا لشدّة تلك المفاسد و قوّتها و مقدار رسوخها في النفس و كميتها، فكانت مدّة التيه أربعين سنة، و هي ليست بكثيرة بعد ما عرفت من مفاسد أخلاقهم و شدّة عنادهم و لجاجهم.
أسباب التيه‏:
لا شكّ أنّ ما يجري في هذا العالم إنّما يكون وفق قانون الأسباب و المسبّبات، لكن قد يكون بعض الأسباب معروفة، و ربما يكون بعضها الآخر قد خفي علينا، و لا بدّ حينئذ لمعرفتها من علم إلهيّ، إما عن طريق الوحي أو الإلهام.
و التيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يخرج عن هذا القانون، فإنّ له أسبابا متعدّدة.
منها: ما يرجع إلى ضعف الروح المعنويّة عندهم بسبب الظلم المستمر عليهم و تربيهم على الذلّ و الصغار، فخارت قواهم و احتقروا أنفسهم، و يستفاد هذا من قوله تعالى حاكيا عنهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
و منها: الاضطراب الفكريّ الذي حصل لهم نتيجة العبوديّة المفروضة عليهم أثناء وجودهم في مصر، فإنّ شعور الفرد بأنّه مسلوب الإرادة ممنوع من كثير ممّا خلقه اللّه تعالى لعباده في الأرض، لهو كاف في فقدان الأمل و إخماد غريزة الاستكمال فيه و إيقاعه في حيرة و اضطراب فكريّ.
و منها: فساد الأخلاق، لأنّ الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد و التي تستأنس بالظلم و الاضطهاد، تفسد أخلاقها و يذهب بأسها و تذلّ نفوسها و تشعر بالذلّ و المسكنة و تألف الخضوع، و إذا طال زمان الظلم تترسّخ هذه الأخلاق في النفوس و تصير مغروسة حتّى تكون كالغرائز و الطبائع.
و منها: عدم رسوخ الإيمان المطلوب في قلوبهم، و لم تتهذّب نفوسهم بالتعليمات و التوجيهات التي أتى بها موسى بن عمران عليه السّلام، و لذا تراهم يتمرّدون عليه و يعصون أوامره مرّة بعد اخرى، بل رجعوا إلى عبادة العجل، لأنّ الوثنيّة التي عاشوا فيها في مصر كانت عالقة في أذهانهم، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138].
و منها: الجهل بكثير من الحقائق التي تقوم عليها هذه الحياة، و إعراضهم عن قبول ما يكون سببا في صلاحهم و سعادتهم.
و لأجل هذه الأسباب و غيرها ممّا حكى لنا القرآن الكريم صورا متعدّدة منها، فشلوا في تنفيذ الأمر الإلهيّ بدخول الأرض المقدّسة التي أراد عزّ و جلّ منها إصلاحهم و تكوينهم امّة واحدة لها كيانها، و قائدها، و شريعة، و دستورا و حاكما يتولّى أمرها و شؤونها، وفق نظام إلهيّ، بعد أن كانوا اسرة صغيرة متفرّقة في أرض مصر، عرضة للعبوديّة و السخرية و الإهانة و الاستبداد، فأعرضوا عمّا أراده اللّه تعالى لهم و عصوا أمر ربّهم، فابتلاهم اللّه تعالى بالتيه أربعين سنة لإصلاحهم و تهذيبهم فيه، و كان لا بدّ من ذلك بحسب قانون الأسباب و المسبّبات التي تقوم عليه الحياة، و يظهر للمتتبع كثير ممّا ذكرناه و غيرها إذا رجع إلى التوراة سفر العدد، الذي هو السفر الرابع من أسفارها، الفصلين الثالث عشر و الرابع عشر، فإنّ فيهما تفصيلا لقصة التيه.
مكان التيه‏:
المعروف أنّ التيه هي الصحراء التي تقع بين الشام و مصر، أي أرض سيناء، و بالتحديد قلب شبه جزيرة سيناء، التي تقع في الطرف الجنوبيّ الأقصى لفلسطين، على مقربة من أيلة، بينهما عقبة لا يصعدها راكب لصعوبتها، و التي لا بدّ من‏ اجتيازها للوصول إلى الأرض المقدّسة من بلاد الشام، و كان طولها أربعين فرسخا.
و ينتهي أحد حدودها إلى بحر فاران الذي غرق فيه فرعون، و فاران مدينة على تل بين جبلين. و حدّها الآخر شرقا أرض بيت المقدس و جنوبيّ فلسطين، و هي صحراء رمليّة، و فيها مواضع صلبة قفر لا نبات بها إلّا في بعض المواضع.
و من مدن التيه و مواضعه حويرك، الخلصة (الوسا) و الخلوص (لسا) السبأ (بيرسبه) المدرة، و جبل هور الذي دفن فيه هارون عليه السّلام، و الكثيب الأحمر الذي دفن فيه موسى بن عمران عليه السّلام، حيث كان يرى أرض فلسطين دون أن يدخلها، و قد ورد بعض هذه الأسماء في الدعاء المعتبر المشهور بدعاء السمات.
و في هذه الصحراء هام بنو إسرائيل و لم يدخلوا مدينة و لا آووا إلى بيت.
و جاء في التوراة: «و في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ … فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، و بنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، و يحملون فجوركم حتّى يفتن جثثكم في القفر، تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي- أنا الربّ قد تكلّمت لأفعلن هذا بكلّ هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ. في هذا القفر يفنون و فيه يموتون» (سفر العدد الفصل الرابع عشر الآيات 22- ۳٥)، و قد ضرب موسى و هارون خيمة الاجتماع، و هي المسماة في بعض الدعوات المعتبرة قبّة الرمّان- أو قبّة الزمان- و فيها البقعة المباركة من جانب الطور الذي هو جبل كان يذهب إليه موسى عليه السّلام لتلقي التوراة أو للمناجاة، كما في بعض الروايات.
مدة التيه‏:
اختلف المؤرخون غير المسلمين في مدّة التيه التي كتبت على بني إسرائيل، و لكن ليس لكلّ طائفة منهم دليل صحيح تستدلّ على مدّعاها، بحيث تقنع النفس به، و الذي صرّح به الكتاب العزيز و السنّة الشريفة أنّها أربعون سنة، و هذه المدّة كافية لإصلاح النفس و تهذيبها من الصفات الرذيلة.
و في هذه المدّة لا هم مدنيّون يعيشون عيش السعة، و لا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل، و كانوا في العذاب الاصطلاحي و الدوران التربويّ و المجتمع الفاقد للنظام، فتمزّقوا و تفكّكوا و لم يبق منهم إلّا أقلّ القليل، فدخلوا الأرض المقدّسة.
الحوادث في التيه‏:
ينقل المؤرخون كثيرا من الحوادث التي وقعت في التيه، و لكنّ تلك تحتاج إلى دليل يعتمد عليه، و المهم هو أنّ التيه- كما عرفت- عملية تأديبيّة تهذيبيّة إصلاحية أرادها اللّه تعالى لهم.
و لا ريب في أنّ مثل هذه العملية تحتاج إلى ظروف و أحكام خاصّة تتلائم مع وظيفة التأديب و الطبيعة التي وقع فيها التيه، و الهدف الذي كتب لأجله على بني إسرائيل، و لم يخلو من بعض المعاجز و الكرامات، إتماما للحجّة عليهم، و نذكر في المقام بعض ما ذكره المؤرخون و وردت به بعض الروايات.
منها: أنّهم هاموا في الأرض و تاهوا فيها، فكانوا يمشون في الأرض طول اليوم، فإذا حلّ بهم الليل قطنوا في مكان و ناموا فيه، ثمّ إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ابتدءوا السير منه، و قد ذكر العلماء في تفسير ذلك وجوها ذكرنا بعضها في البحث الروائي.
و يمكن أن يكون ذلك عقوبة إلهيّة جرّاء شنيع أفعالهم، أو لأنّهم لم يعرفوا حدود تلك الأرض التي وقع فيها التيه و لا مسارها و سائر خصوصياتها، فكانوا يهيمون في الأرض تائهين، فإذا تعبوا حلّوا في مكان لم يعرفوا أنّهم في نفس المكان الذي ابتدءوا منه السير.
و منها: موت أكثرهم، بل جميع الذين خرجوا مع موسى عليه السّلام من مصر، إلّا يوشع و كالب، لعصيانهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و رسوله بعد ما أرآهم عزّ و جلّ عجائب الآيات، فأخذهم اللّه بذنوبهم و أهلكهم و أنشأ من بعدهم جيلا هم أقرب إلى تقبّل الأحكام، و عدل الشريعة من آبائهم، و جعلهم الوارثين للأرض المقدّسة.
و منها: موت موسى بن عمران الذي تحمّل من العناء و التعب الشديدين في سبيل هدايتهم و إصلاح قومه، و كذا مات هارون أخو موسى عليه السّلام و وزيره و وصيّه، و قد كان موتهما بلا شكّ خسارة عظيمة لقومهما، لا سيما أنّهم كانوا يجتازون أصعب الاختبار و الامتحان.
و منها: إنشاء أماكن محترمة و معدّة للعبادة أصبحت من شعائر اللّه تعالى، كقبّة الرمّان التي كانت خيمة لموسى بن عمران و أخيه هارون، و طور سيناء و غيرها ممّا ورد ذكره في التوراة.
و منها: ظهور الآيات العظيمة، كنزول المن و السلوى، و الحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عينا، كما حكى اللّه تعالى في القرآن الكريم.
الحكمة من التيه‏:
ظهر ممّا ذكرنا الحكمة في التيه، و أهمّها كما مرّ تهذيب الامّة و إصلاح المجتمع الذي ذاق طعم عذاب الذلّة و القسوة، بحيث انهارت جميع ركائزها. و لو لا التيه لما تمكّنت بنو إسرائيل من إصلاح أنفسهم ممّا فرض عليهم في مصر، و صارت كطبيعة ثانويّة لهم، لا يمكن إزالتها إلّا بالدور الذي كتبه اللّه تعالى لهم. و قد تقدّم في التفسير بعض حكم اخرى فراجع.

المستفاد من الآيات المباركة و السنّة الشريفة أنّ العذاب النوعيّ- أو الشخصيّ- الواقع على الأمم أو الأفراد لم يكن مجرّد نقمة من اللّه تعالى، فإنّه خير محض و إليه ينتهي الخير و منه يصدر كلّ خير، و لا يمكن نسبة الشرّ إليه جلّت عظمته، كما يأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى، فالامم التي حلّت بهم النكبات و وقع عليهم العذاب، هي المسؤولة عن ذلك، و هي التي‏ باختيارها أنزلت البلايا، فإنّ العذاب و النكبات مسببات لا بدّ لها من أسباب- سواء كانت ظاهريّة أو معنويّة، طبيعيّة كانت أو شرعيّة- و قد يكون العذاب يؤثّر تأثيرا معاكسا، بحيث تصلح النفس و يتهذّب المجتمع و ينشطه للقيام بإصلاح أسسه و ركائزه، و أكثر الأمم التي حلّ بهم العذاب كما يحكيه القرآن الكريم كان من قبيل ذلك. و من هنا لا وقع للإشكال الذي ذكره بعض الفلاسفة من أنّ العذاب الإلهيّ ينافي محبّته لخلقه و علاقته تعالى بهم، لأنّ ذلك إما من الآثار الوضعيّة، أو للإصلاح، أو الكفّارة لبعض الأعمال السيئة، أو للقرب إليه جلّ شأنه. و لذلك قال بعضهم: إنّ العذاب إن تعلّق به رضاه جلّت عظمته و إن كان دخول النار، كان عذبا لأهله لا عذابا، كما عن سيّد العرفاء أمير المؤمنين عليه السّلام في دعواته الشريفة، و دعاء كميل أكبر دليل على ذلك.
بل عن بعض أكابر الصوفيّة إنكار العذاب من أصله، و لكن لا يمكن الالتزام بذلك بالأدلّة العقليّة و النقليّة، خصوصا بالنسبة إلى الكافرين و المنافقين. و للبحث تتمّة نتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى.

الرئیسیة
السیرة
المکتبة
القائمة
بحث
× Add a menu in "WP Dashboard->Appearance->Menus" and select Display location "WP Bottom Menu"